الإضاءة الأولى:
وصلني مؤخرا من الأردن كتاب الصديق هاني أبو انعيم "كفاف البوح" الصادر عن دار فضاءات للنشر بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنية، وصنف الكتاب على أنه "قصص قصيرة جداً"، ومنذ أن تعارفنا يحرص الكاتب أبو انعيم على أن يوصلني كتبه مع أقاربه الذين يزورون فلسطين من حينٍ لآخر.
يعتبر أبو انعيم رائدا من رواد كتّاب القصة القصيرة جدا في الأردن، وتناولت دراسات ومقالات متعددة تجربته الإبداعية، وكنت قد تحدثت عن كتابين من كتبه في كتابيّ "ملامح من السرد المعاصر" بجزأيه الثاني والثالث. فتناولت في التحليل روايته "واحة اليقين" في كتاب "قراءات في الرواية"، تحت عنوان "استعارية الرواية وتفكيك المقولات الفكرية"، ومجموعته القصصية القصيرة جدا "أرواح شاحبة" في "قراءات في متنوع السرد" تحت عنوان "نسق العلامات النصية واللغوية".
يقع الكتاب الجديد للكاتب هاني أبو انعيم في (203) صفحات من القطع المتوسط، ويتألف من (100) قصة قصيرة جدا، يحتل كل منها الصفحة اليسار من الكتاب، وبقيت الصفحة المقابلة فارغة، ويتخذ كل نص رقما وعنوانا، والملاحظ على العنوان التزام الكاتب بكلمة واحدة، تنوعت بين الاسم المفرد والجمع. وغلب المصدر على هذه العناوين.
تذكّر هذه الإستراتيجية بالإستراتيجية التي اتبعها المؤلف في كتابه "أرواح شاحبة"، ليس في صياغة العناوين فقط، وإنما في حجم القصص، فتكاد تكون القصص متساوية في بنيتها اللغوية، كأن الكاتب يتابع إستراتيجياته في بناء القصة القصيرة جدا، تلك الإستراتبجبات التي وظفها في كتابه السابق المشار إليه أعلاه "أروح شاحبة"، وشمل ذلك الموضوعات أيضا، وبناء القصة الداخلي، والضمائر المستخدمة، والخاتمة.
في رصيد أبو انعيم الإبداعي ثلاث روايات، ومجموعة قصصية واحدة، ومجموعتان أخريان غير "كفاف البوح" قصص قصيرة جدا، أطلق على واحدة منهما تجنيس "ومضات قصصية"، وبهذه الخريطة السردية يكون الكاتب هاني أبو انعيم قد كتب في الفنون السردية الشائعة عدا المسرحية.
أتمنى للصديق هاني أبو انعيم مزيدا من الإبداع، وشكرا جزيلا على هذه الهدية القيمة التي رفدت مكتبتي الخاصة بكتاب جدير أن يُقرأ ويُستمتع به. منتظرا كتبا أخرى للكاتب برؤى جديدة، تنقل هذا الفن القصصي الذي ما زال يحيا على هامش الأعمال الإبداعية وخاصة الرواية، هذا الأخطبوط الذي يتمدد في عقل الكتّاب وأقلامهم كأنه مرض ينتشر بشراسة في جسد السرد العربي والعالمي على حد سواء، وكان من نتائجه الكارثية تجارب غير ناضجة بل وعقيمة أيضا من السرد الذي يُخجل الناقد والقارئ، فلماذا لا يشعر هؤلاء الكتبة بالبؤس من سوء ما اقترفت أيديهم من رديء الكتابة؟
الإضاءة الثانية:
على هامش مناقشة كتاب "شرائط ملونة" للكاتبة فاطمة عبد الله، دار حديث بيني وبين الصديق سامي مروح، وهو من أعضاء لجنة الفاروق الثقافية، حول قضايا كثيرة، هذا الصديق في كل قراءة له لكتاب ما يقدم ملحوظات ذكية حول تلك الكتب محل المناقشة. مع أنه يستمتع بوصفه بالبلّيط، ويذكر هذا الوصف بشيء من الطرفة المزوجة بالفخر الخفي، وما فتئ أبو رأفت الروائي محمد عبد الله البيتاوي يذكر بما صنعته اللجنة الثقافية بأحد كتب شاعر من نابلس يعد نفسه كبيرا، وعندما أحرجوه بملحوظاتهم بمن فيهم سامي مروح، يستفسر عن تخصصاتهم، ليعرف أن من بينهم البليط والقصّير والعامل. فيشتاط غضبا ويقول: هل هؤلاء هم من يناقشون كتابي؟ وبالطبع سيمارس هذا الكاتب عادة الحرد الثقافي ككثير مثله لم تعجبهم الملحوظات السلبية التي قدمها أعضاء اللجنة.
من المناسب أن أقول إن عادة الحرد الثقافي ظاهرة متفشية في الوسط الثقافي، وهي تشبه الزكام الذي لا يسلم منه كاتب أو مثقف إلا في حالات نادرة، بعد أن يكون قد استقبل هذا الزكام بمصل التحمل للقضاء على هذا الفيروس اللئيم.
أنا كنت أحد الكتاب الذين نالوا نصيبا لا بأس به من ملحوظات اللجنة، ولكنني لم أمارس عادة الحرد الثقافي ولم أجرّح أحدا، كما فعلت إحداهنّ في منشور لها على الفيسبوك بعد أن سقط كتابها في الرداءة. بل استمررتُ في إرسال كتبي لمناقشتها، وصرت حريصا على حضور اللقاء والاستماع لما يقوله الأعضاء، حتى لو لم تسرّني الجلسة وما يدور فيها من حديث أحياناً. لكن عليّ الخضوع بكل ثقة وحب واحترام لقوانين القوم وأعرافهم ومنطق تناولهم للكتب، والاستفادة من آرائهم، ففي داخل كل قارئ ناقد يتربّص بك أيها الكاتب عليك أن تستمع له وتحترم ما يقول، وإلا عليك اختصار التعب والمكابدة، وتختار الأسهل، ولتخلد إلى الراحة والكسل والخمول.
على هامش هذا اللقاء أطلب من الكاتب البيتاوي نسخة من كتابه "مرسوم لإصدار هوية" الذي تمت مناقشته قبل هذه الجلسة، يبحثون لي عن نسخة، وأخيرا يعثرون على نسخة مركونة على هامش أحد الرفوف. الكتاب مجموعة قصصية، منشورة عام 1994، ويشتمل على قصص قصيرة مكتوب بعضها في السبعينيات كأبعد تاريخ مكتوب لاحظته في المجموعة.
المجموعة القصصية هذه أثارت شجوني، فأخذت أحدث الصديق سامي عن المأزق الإبداعي للقصة القصيرة في فلسطين والعالم العربي، إذ أصبحت في تراجع كبير وخفوت واضح، وكنت قد تحدثت عن ذلك غير مرة، ولكنني ذكّرت الأخ سامي كيف أن مؤلفي المقررات الفلسطينية في اللغة العربية لم يكن عندهم معرفة بالقصة القصيرة ولا كتّابها، وعندما رشحت بعض الأسماء والنصوص لمن اتصل بي من أجل هذا الغرض، كان المسؤول الذي يحلل ويحرّم، و"يقطع السرّة" يقيس القصة بالشبر، وبما أنه لا قصة جاءت على مقدار شبره المتقلص فقد رفضت كل الاقتراحات، وكنت قد اتصلت شخصيا بالكتّاب والكاتبات وحصلت على قصصهم مطبوعة على برنامج (Word) لتسهل عليهم عملية التحرير. يحل محل تلك الاقتراحات نماذج قصصية باهتة أو تقليدية لأسماء مكررة، وتم تجاهل جيل كبير ومهم من كتاب القصة القصيرة، حرموا من أن تدرس قصصهم والتعريف بهم، فقط لأنهم ذهبوا ضحية مسؤول يجهل الأدب وأجناسه وأهم كتابه وتطوره، والجيل الجديد. إنه الجهل الذي بسببه يفقد كثير من المبدعين حقهم، فأنا متأكد أنه لا يعرف أن من كتاب القصة القصيرة في فلسطين المتميزين عبد الغني سلامة، وعبلة الفاري ومشهور البطران ومحمد عبد الله البيتاوي وعادل الأسطة وخليل السواحري، وغيرهم.
الهامش الثالث:
كتبت مقالة بدت مهمة نوعا ما، حول كتاب "دنان" للكاتبة الفلسطينية لينة صفدي. هذه المقالة نشرت على نطاق واسع، بعد أن وعد مسؤول أحد المواقع الأدبية الفلسطينية أن ينشرها (حصريا) في موقعه، يماطل ليومين، وكان قد أبلغني أنه سينشرها في اليوم التالي الذي بعثته فيها. يمر يومان بعدها ولم ينشرها، حررت المادة من احتكاره لها، وأبلغته أنني بعثتها للنشر، لم يرد على الرسالة بطبيعة الحال، وحسنا فعل أنه لم ينشرها عنده، لأنها تكون قد ماتت في موقعه، ومهما كان عدد القراء المحتملين للمادة في موقعه، لن يكون أكثر من نشرها في ما يزيد عن عشرة مواقع وصحف ورقية في العراق والجزائر ولبنان وفلسطين وأمريكا ولندن. ورب ضارة نافعة.
كنت أرغب في أن أخصه بمادة جيدة، ولكن لسوء حظه، وحسن حظي وحظ الكاتبة أن المقالة انتشرت هذا الانتشار الكبير، ما أدخل السرور والبهجة إلى نفسي ونفس الكاتبة، فكم هو جميل أن ترى كتابك محتفى فيه ومذكور في مواقع شتى، لتنعم المقالة بآلاف القراء.
على هامش توقيع كتاب "دنان" وكتاب "ضاحية قرطاج وقصص أخرى"، لم يتقبل صاحب الضاحية النقد الذي قدمه فيه الصديق رائد حواري، فيسأله كما سأل شاعر نابلس الفحل عن عمله، فأجابه دون خجل أنني "جابي كهربا". هل يعني أنك لو كنت جابيا لا تستطيع تفكيك النصوص والحكم عليها؟ صديقي رائد، سعيد بنفسه دون غرور، وبصمتُه واضحة في الكتابة ومتابعة الكتّاب الشباب وعمل إضاءات نقدية لكثيرين ممن يعرف وممن لا يعرف، إن ما يقوم به هذا "الطليعي" لا يقدر بثمن، ولكن وزارة الثقافة بجلالة قدرها، تلك "الدكانة" المتكورة على نفسها، وعلى شلة من منتجي الهذر من أتباعها والمطبلين لمن يعمل فيها، رفضت طباعة كتاب نقدي لهذا "الطليعي المتنوّر". أيّ جنون وغباء يمارسونه في حق الكتاب؟ إن ما يقوم به هذا الكاتب الطليعي رائد محمد الحواري ليترفع عنه الموصوفون بأنهم "نقاد كبار" على الرغم من أنهم لا يقدمون شيئا للأدب ولا للثقافة، فقط يدورون في حلقة مفرغة، ويكتبون "دراسات محكمة" طلسمية لا يقرأها سوى من ابتلي بمساق نقدي جامعي أو رسالة جامعية، ثم تركن إلى أقصى نقطة في الهامش.
صديقي رائد يكتب النقد على منهج الكتاب النقاد الأوائل الذين يضعون في اعتبارهم إفادة الكتّاب وإحداث تفاعل معهم، ليدفعهم نحو التطور، ويكفيه احتراما أن كتابا كثرا يبعثون له نصوصهم وكتبهم المطبوعة ليقول فيها رأيه، وأنا واحد منهم، فعدا أنني أعرض عليه مسودات كتبي إلا أنه أول شخص يتسلم نسخة مطبوعة من كل كتاب يصدر لي، بل كنت حريصا على أن يقول رأيه في كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية" المعد للطباعة، وسيصدر قريبا عن دار نشر مصرية، وأن يكون جزء من رأيه ذاك على الغلاف الأخير للكتاب.
أعتز بصداقة الكتّاب والكاتبات المحترمين والمحترمات فقط، إذ ليسوا كلهم وكلهن على شاكلة واحدة، وأحرص على أن يشاركوني أفكاري كما أحرص على أن أشاركهم أفكارهم واقتناء كتبهم وقراءتها، من هاني أبو انعيم في الأردن إلى العزيزة حنان باكير في النرويج، إلى الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر، وإلى من هم في فلسطين: رائد الحواري والبيتاوي وفاطمة عبد الله ولينة صفدي ومشهور البطران والصديق الجديد الكاتب منجد صالح الذي يشاركني عبر البريد الإلكتروني قراءة مقالاته التي يواظب على نشرها في المواقع الإلكترونية، والكاتب إبراهيم جوهر الذي ينعتني بحب بالكاتب المشاكس، ويتابعني باستمرار دون ملل، ويصوّب أخطائي النحوية بلطف الصديق المحب، وعبد الغني سلامة الذي يحرص دوما على أن أشاركه كتبه بدءا من قراءة المسودة وانتهاء بإهدائي نسخا مطبوعة ممهورة بتوقيعه المحمّل بعبق الحب دوما، ومحرري الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية الذين يحملون أفكاري لما لا يحصى عددا من القراء، فيشاركونني فيها قراءة وكتابة واتفاقا واختلافا. كما أنني لا أنسى البعض الآخر الذي يتذكرني عند الحاجة، فربما كنت بدرهم الذي يحتاجون إليه في عتمة نصوصهم، لعلني أساعدهم فأضيء لهم بعض جوانبها المعتمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق