"الجهد الفكري والعمومي، الذي يبذله الفيلسوف في المدينة عند مواجهته للشر في مختلف أشكاله، يعطيه قيمة كونية ودائمة"
يبدو أن المدينة ليست مدنية بما فيه الكفاية واجتماعها غير اجتماعي وتحضرها أقرب إلى التأخر منه إلى التقدم فهي غارقة في الظلام وينخرها الفساد وتعاني من الأزمات المتعاقبة ومحاصرة بالرمال العدمية وعقائد التوحش والارتدادات الهمجية بينما يظل الفيلسوف مغيبا باستمرار على الرغم من حرصه على الحضور وفلسفته متروكة ومهجورة وبضاعتها كاسدة والعلاقة بينهما تتراوح بين طلب النجدة ومحاولة الاحتماء من جهة عندما يضطر الفيلسوف إلى خدمة السلطة القائمة والانتماء إلى المؤسسات القانونية التي تضمن له الأمان والحماية ومن جهة ثانية يدخل في صراع مع السلطة المشرفة على تنظيم الشؤون العامة لمواجهة الآراء الضالة ويؤثر الهجرة والمغادرة والانزواء والتوحد ويعلن الثورة في داخله ومن الخارج.
المدينة تعاني من الاستبداد والشمولية والظلم وتفيض بسكانها وتتقلص مواردها باستمرار وتتضاءل إمكانيات السكان على الصمود وتتراجع المواطنة أمام ضربات المتاجرة والتحيل والتهريب والتهرب وفي المقابل تتكور الفلسفة على تاريخها وتستهلك ما تبقى من نفسها وتجتر مقولاتها المجردة وتختص في عمومياتها وتحجب نفسها عن الواقع وترتمي بين أحضان دفاترها وتغطس نصوصها في أرشيف المكتبة.
قدر الكائن المتفلسف أن يخرج من صخب المدينة ونمطيتها وبرجمتها الآلية إلى هدوء العالم وتنوعه وحقوله الخصبة ومصير المدينة أن تتخطى الحدود القصوى التي رسمتها لنفسها وتستولي على جوانبها وأحوازها وأن تنمو في اتجاه الأعلى والعمق وأن تربح معركة البقاء بالتغلب على هشاشة وفناء ساكنيها. ينتمى الفلاسفة والكتاب والفنانون إلى مدينة المهمشين والمدينة الحالمة والمدينة الموعودة والمنتظرة ويطلب منهم إصدار الحكم المعرفي والجمالي حول وضعهم ويتم تحميلهم مسؤولية تدبير الأوضاع على الرغم من وضع الهشاشة الذي يعانون منه وقلة حيلتهم وافتقارهم للاقتدار الذي به يغلبون ويغنمون. فكيف نحمل الفيلسوف مسؤولية تغيير الأوضاع وهو يعيش في هشاشة مستمرة ومحاصر بالأزمات الشديدة؟
ما بين الفيلسوف والمدينة قصة علاقة تتراوح بين الانتماء والوفاء والاعتراف من جهة وتقتضي المواجهة والثورة والمطالبة بالإصلاح والتغيير وإعادة البناء في جهة أخرى وقد تتحول هذه السردية إلى ملحمة وتراجيديا توكل فيها مهمة هدم المقام القديم وكنس معالمه المهترئة وتشييد المقام الجديد وتركيز حصونه للفيلسوف. من هذا المنطلق يمكن اعتبار الفلسفة سلاح ثوري ضد العدمية وكل المخاطر التي تهدد المدينة والتي تحاصر الحضارة، وغني عن البيان أن الفيلسوف هو الجدار الأول والأخير الذي يعلق عليه السكان آمالهم في ظل تخلي الاخرين عن مسؤولياتهم تجاه مدائنهم. هكذا يستمر الفيلسوف في بحثه عن مقامه بالسعي إلى مدينته المنشودة وفي المقابل تظل المدينة تنتظر قدوم فيلسوفها لينطق بلسانها ويقيس مدى قربها أو بعدها عن المدنية ويشخص أسقامها ويعالج أمراضها. فمتى تتحول الفلسفة من هروب من الواقع البائس إلى مواجهة ثورية معه؟ وكيف تصير مدينة الفيلسوف مجال تحقق الإنسانية؟ وأليست الثورة ولا الاحتماء هو المقام الجديد بالنسبة للفيلسوف ضمن المدينة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق