ريحٌ وأوتارُ/ صالح أحمد

غدًا يا سائقَ الأحزانِ تَنعاني وتَنعاكَ
رياحٌ زمجرَت وعدًا بما تجنيهِ كفّاكَ
***
نجومي لم تزلْ تلقي على أمسي تَحيّتَها
وأهدابي تتابعُ صمتَها المسكونِ بالرّعشة
على قلبي تَمُرُّ جحافلُ الأوهامِ 
تعزِفُ لحنَها صَمتًا على وَتَري
وتمضي... تصخَبُ الأبعادُ في وعيي 
وتَنهَضُ رحلَةُ الخَدَرِ.
بلا زادٍ، تراوِدُني على وَجَعي
وكم تقتاتُ مِن ضَجَري
يهيِّجُني خَيالٌ طارَ، 
قلبُ الريحِ لم يُبصِرهُ،
راحَ يسائلُ الظلماءَ عن أفقٍ؛
وكانَ البردُ أغلقَ شُرفَةَ الحِسِّ!
وباتت رعشَتي يا سائقَ الأحزانِ تُحصي أدمُعَ العَتمِ.
وحشرَجَةُ الزّمانِ تضِجُّ في آثارِ مَن عَبَروا
أمُدُّ يَدي بِأَضلاعي، وأرجوها لَهُم سَقفا
وأعلَمُ: سَطوةُ الأوهامِ ليسَ لَهيبُها يُطفا
غريبٌ؛ والمدى جلدي، وهذا الليلُ صحرائي...
تَعَرَّت، لا سماءَ لها، ولا أفقا
وصوتُ الحبِّ فيها طاعِنُ الحلمِ 
تَلوذُ بِلَيلِها الآمالُ خائِرَةَ القوى، وَجلى
أعانِقُها، وما ملَكَت سوى الإشفاقِ مِن تَشتاتِ أفكاري
وساوِسَ زحفةِ الصحراءِ ... والأوتارُ مشدودَة
وليلي غيّبَ الزفَراتِ، فالأحلامُ مرصودَة.
وكلُّ معالمِ الإحساسِ تحتَ العتمِ زمجَرَةٌ
وغيمُ الليلِ أحجارُ..
وذاكِرَةُ السدى موتٌ..
غدًا يا سائِقَ الأحزانِ بي تنعاكَ أقدارُ
رياحي زمجَرَت حُبًا... 
وعمرُ الحبِّ إصرارُ.
::: صالح أحمد (كناعنة) :::


الشمس والغربال/ بن يونس ماجن

عندما يكف الذهب الاسود 
عن السيلان
وتجف الابار في الفيافي الغادرة
ويلعب الخمر 
بروؤس الصهاينة العرب
ويلبس الفلسطينيون
ثياب الحداد
ثم يمشون وراء جنازة
وطن مسلوب
ويحملون جذوة النار
في ليل بهيم

على مدار سبعين عاما
فلسطين تضمد جراحها بنفسها
تتثاءب الشمس وتسأل الغربال
ما جدوى رتق الفجوات
في مهب الرياح
مع كل طلعة
 ينزعج عباد الشمس
من الدوران
الشمس تطوي الظل 
تحت القيظ المستجد

حتى اكياس القمامة
صارت ترقص 
على  نعيق الغربان
منفضة سجائر
منتهية الصلاحة
تحتضرفي دوامة الدخان
وموتى بدون دفن
خارج الاكفان

في زقاق عتيق
تجاعيد شاحبة
تحفرها خيوط الشمس
في راحة  الغرباء المضطهدين

حتى الشمس والغربال 
يستغيثان
انقذونا من المتلهفين 
على التطبيع وتقسيم الارض
هذا الوحش  الجديد
الذي صار بين ظهرانينا 
كالطوفان

بين شجرة وشجرة
ينمو فرع لقيط
الطيور تعرف ذلك
فهي ترفض ان تحط فوقه
ولا تحبذ بناء اعشاشها حواليه
أليس ذلك الفقيه المنافق
كالسيجارة المحتضرة
تنفث رمادا في أعين مريديه

التطبيع مثل الموت البطيئ
كما الاختناق
والدوس على الاعناق
فلا تضعوا ركوبكم
على عنق فلسطين
انها لا تستطيع التنفس

في زمن كورونا
كل شيء جائز
على حافة الارصفة
تهوي تماثيل تجار الرقيق
وحياة السود مهمة
وشرارة الانتفاضة التي لا تهدأ
ومحاولات الضم قد لا تصل
وثمة احصنة خشبية
لا تزال تصر على الركض
في سباق مع الطواحين الهوائية

أمِيرُ الْبَيَانِ/ شَاكِر فَرِيد حَسَن

( مَرْثِيَّة أُخْرَى لِلْصديقِ الْشَاعِر الْمُتَمَاوِت برًوفِيسُور فَارُوُق مَوَاسٍي )

بًاغَتَنَا مَوْتكَ يَا أبَا الْسَيِّد

يَا سَيَّد الْكَلَامِ

أيُّهَا الْخِلّ الْوَفِي

يًا سَادِن الْثَقَافَةِ

وَعَاشِق الأدَبِ

حَارِسُ اللُغَةِ

فَارِسُ الشِعْرِ

وَأميرُ الْبَيَانِ

يَا نَجْم الْقَصِيدَةِ

وَ" نَبْض الْمَحَارَةِ "

وَشَحْرُوُر الْمُثَلّثِ الْغِرِّيدِ

أيُّهَا الْسَامِق الْمُتَوَاضِع

هَلْ أَرْثِيكَ أمْ أَبْكِيكَ ؟!

 أَرْثِيكَ بِالكَلَامِ

أَمْ أبْكِيكَ بِدِمُوعِ المآقِي

وعَبَرَات الْعُيُونِ !!

فَهُمَا سَيَّان

ونّزَفَهُمَا مِنْ

شِدَّةِ الْأَلَمِ

وَوَجَع الْفَقْدِ

وَحِرْقَة الْغِيَابِ

فَبِأيِّ كَلِمَاتٍ أُرْثِيكَ ؟

وَأيِّ حُرُوفٍ وَمُفْرَدَاتٍ

تَلِيقُ بِكَ يًا شاعِر النَبْض

وَالْوِجَدَانِ وَالْإِحْسَاسِ ؟!

فَلَطَالَما رَثَيْتَ كُلَّ

الْمُجَايِلِين وَالْشُعَرَاءِ

وَالْمُثَقَفِين

وَأتيتَنِي مُعَزِيًا يَوْمَ رَحِيلِ

شَرِيكَة حَيَّاتِي وَرَفِيقَة دَرْبِي

وَأنْتَ مَنْ رَثَى أخِي " نَوَّاف "

صَدِيقُ دَرْبَكَ

وَصُنْوَك فِي الْأَدَبِ

فَقُلْتَ فِيهِ :

" تَلاَقَينَا، فَمَا تَدْرِي ضُلُوعِي

           فُؤادِي أمْ فُؤادِكَ فِي الْكُرُوبِ

تَمَازَجْنَا، وَصِرْنَا نَبْضَ فَوْحٍ

         وَظَلَّ شَذاَكُم – نَوَافُ – طِيبِي

مَعَارِضَ كَمْ شَهِدْنَاهَا لِكُتُبٍ

         جَنَيْنَا الْطِيبَ مِنْ نَشْرِ الأدِيبِ

تَنَازَعْنَا هَوَاهَا فِي تَلاَفٍ

           كَمَثَلِ التَسَمِ للْتَسَمٍ  الْشبوُب ِ

فَإنْ وَدَّعْتُ أنكَ فِي حَيَاتَي  

             بِذكْرٍ لَيْسَ يَفْنَى فِي لَهِيبِي "

فَيَا أَبَا الْسَيِّد

يَا مُحَمَّد فَارُوُق مَوَاسِي

الْبَاقَاوِي الأَصِيلِ

الْكِنْعَانِي العَتِيقِ

الْفَلَسْطِينِي الْهَوَى

الْمُعْتَّز بِهَوِيَتِهِ وَانْتِمَاِئه

كَيْفَ لَنَّا أنْ نَتَصَوَّرَ

الْمَشْهَدَ الأَدَبِي وَالْثَقَافِي

دُونَكَ !!

مَنْ سَيُصَحِحُ أخْطَاءَنَا

 اللَغَوَيِّةَ وَالْنَحَوِيَّةِ ؟!

وَمَنْ سَيُغَنِّي لَنَّا سَمْفُوُنِيّاتِ

الْحُبِّ، ويَحْكِي لَنَّا عَنْ

" عَزْمِ سِيزِيف "

وَ " عِنَاقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ "

يَا شَاعِر الْحَيَاةِ

وَمَنْ سَيَهْتِف لِلْشَعبِّ

فِي يَوْمِ الْأَرْضِ

يًا عَاشِق الْأَرْضَ

وَاْلْتُرَابِ

أهَكَذّا تَتْرُكَنَا بِلَا وَدَاعٍ

وَدُونَ كَلَامٍ !!

لَمَاذَا فَعَلْتَهَا بِهَذِهِ الْسُرْعَةِ

وَتَرَكْتَنَا عَلَى عَجَلٍ ؟!

لَمَاذَا تَرَكْتَ الْثَقَافَةَ حَزِينَةً

وَالْشِعْر نَائِحًا

وَالْقَلَم يَتِيمًا ؟ّ!

لِمَاذَا، وَلِمَاذَا، وَلِمَاذًا ؟

فَوَدَاعًا يَا مُبْدِعنَا الْجَمِيل

يَا مَنْ تَوَارَيْتَ فِي مَرَافِئِ الْغَيّمِ

وَكُنْتَ تَرْشُق حَرْفَ الْقَصِيدِ

كَجَوّادٍ جَامِحٍ

وَسَيَبْقَى إرْثَكَ الْشِعْرِي

والْنَقْدِي الْإبْدَاعِي الْعَظِيمِ

زَادًا وَزِوَّادةً لِلْجِيلِ الْقَادِمِ

فَقَصَائِدُكَ عَالَمٌ مَنْقُوشٌ

عَلَى جُدْرَانِ الْفُؤَادِ

وَجَبِين الْوَطَنِ

وَوَجَع الْسِنِينِ ..!

سنواتُ السبعينات الحُلوة المُرّة والذكرى 21 لرحيلِ الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي/ فاضل البياتي

هكذا قررتُ إذن... 
سأمضي في رحلةٍ ليس بوسعي أن أُحددَ مسافاتها ألآن، ولا أدري ماهي المناطق والمحطات التي سأختارُ التوقف عندها مع جيل السبعينيات ومع حياة الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، أو ملامح من حياة هذا الشاعر الذي عرفتهُ عن قرب لحينٍ من الزمن، والذي تَمرُ في الثالث من شهر أيلول/أغسطس القادم الذكرى الحادية والعشرين لرحيله.
وليس هنالك مايسعفني في زوادةِ رحلتي هذه سوى ذاكرتي الوَهّاجة وبعضِ لقاءات وصور تنشر لأولِ مرة مع الشاعر المرحوم  البياتي، عاشق العراق وعاشق عائشة والفقراء. 
ذاكرتي هذهِ التي أجدها دائماً بعيدة عن هموم حياة الإغتراب اليومية، هذه الهموم المتوثبة التي تحاول أن تستهلكني، خاصةً عندما تتوقد وتشتعل وبشدة ذاكرتي الجميلة الرائعة، لتضيف بحلاوتها شعوراً أكثر قسوة لسنين مرارة الغربة، فكأن ذاكرتي الحنينة الطيبة الحلوة للزمن العراقي الجميل، تستيقظ بأقوى نشاط لتنوي تعذيبي. 
صافيةٌ وبهيةٌ هذهِ الأيامُ ذاكرتي كصفاءٍ عين الديك، كما يقال.. ومن عين الديك الذاكرة، ومن حوارت وصور، يستمدُ هذا ألإسترجاع تَشييد نفسه، ليُحي من جديد مواقفاً إنسانية وفكرية وأبداعية، محاولاً من جهتي ومن عيني، عين الديك أن لا أقمعُ هذا ألإسترجاع في خرائط كي يتحرك وفقها، حتى لا أقمع بالتالي حرية الإفضاء التلقائي.
كانت سنواتٌ ليست ككلِ السنوات..
وأيام ليست ككلِ الأيام..
تلكَ السنوات التي أعنيها هي المحصورة مابين 1970-1975. ست سنوات، حقبة تاريخية لازال الكثير من شموعها المطفأة تنتظر من يوقدها، حتى يمكن رؤية وتلمس بعض زوايا معتمة تحت فيض نورها. تِلْكَ الأعوام أعتبرها مثلت حلقة تاريخية إنتقالية مهمة في المناخ الثقاقي العراقي، وكانت من أخصب مراحل الإستقرار الثقافي بعدما تبلورت بعض الإشراقات في إنتظار مستقبل أجمل بعد مرارات الإقتتال والصراع بأشكاله العديدة. ست سنوات تنفست فيها رئة العراق الثقافية حرية نسبية ـ ليبرالية ـ وقد كان هذا طموحاً ليس سهلاً للمبدع والمثقف العراقي. خلال تلك السنوات عاد للعراق أغلب المهاجرين من المبدعين خاصة من كانوا بحوزتهم شهادات وكفاءات علمية، حتى سُنَّ قانوناً خاصاً لهم، قانون عودة الكفاءات. وهدأت حينها كل الفعاليات الحربية في شمال العراق.. ومارست الصحافة شيئاً من حريتها وكل جهة تعبر عن نفسها بطريقة شبه مستقلة، وصار الهاجس الذي يجمع الجميع هو الوطن. خلال تلك الأعوام وصل سعر الدينار العراقي إلى أعلى معدلات إنتعاشه، حتى صبح الدينار الواحد يساوي ثلاثة دولارات و125 سنتاً، ومايعادل أكثر من 16 فرنكاً فرنسياً. ولعمري إن ذلك ألإنتعاش الإقتصادي لم يكن إلا دليلاً أكيداً لإنتعاش مفاصل وجوانب أخرى في الحياة في العراق حينذاك.

في السبعينات الجواهري وعبد الوهاب البياتي يعودان للعراق

في تلكم السنوات عاد للعراق من الهجرة شعراء ومبدعون.. كان الشاعران محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي هما من أوائل وأشهر المبدعين والسياسين الذين رجعوا للوطن بعد أن أعيدت لهما جنسيتهما العراقية، وقد كتب الشاعران قصائدا صورا فيها ملامح لعودة الأمل للحياة في العراق، واحدةٌ من تلك  القصائد وهي للجواهري صارت إنشودة معروفة كانت تبث بين وقتٍ وأخر من إذاعة بغداد
في تلكَ الأعوام بات بألإمكان أن تجدَ مبدعين ومثقفين كانوا بالأمسِ أنداداً يلتقون من جديد بترحابٍ في جلساتٍ إجتماعية وتجمعاتٍ أدبية وفكرية حتى تنتج إنجازات ثقافية مشتركة..
فهذا هو الشاعر المرحوم شفيق الكمالي ـ كان وزيراً للثقافة ـ تجمعهُ لقاءات مع الشاعر الكبيرأبو فرات، محمد مهدي الجواهري، أو مع الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، أو سعدي يوسف .. لقاءات وتجمعات لشعراء ومبدعين من أجيال مختلفة  يقترب أو لايقترب الواحد عن الآخر بالسن والتجربة الشعرية والإتجاه الفكري والدرجة والموقع الوظيفي، بيد إنهم فتحوا صفحةً  للحوار.
وهذا الحال بات ينطبق أيضاً مع المبدعين الآخرين، كالمسرحيين والموسيقيين والتشكيليين. ولم يقتصر الأمر عند جيل الرواد  بل مع الجيل الجديد حينذاك، وهو جيل السبعينيات الذي كان له دوراً فاعلاً في الحركة الثقافية والإبداعية ليس في بغداد وحسب وإنما في عموم العراق، ومع جيل السبعينيات  منذ عام 1970 - 1979 سأتوقف كثيراً، إذ أعتبر واحداً من هذا الجيل، مع تفهمي التام بأننا لانستطيع أن نفصل جيلاً إبداعياً عن آخر بطريقة أليّة وتحديدية مطلقة مثلما نفعل عندما نقسم قطعة حلوى. فكما الزمن مستمر والسنين تتوالى فالمسيرة الثقافية مستمرة ومتماسة ومتواصلة وتتوالى.
نحن جيل المبدعين السبعيني يكاد يعرف بعضه ألآخر بكلِ دقةٍ ووضوح رُؤية، وذلكَ ناجمٌ لتنفس جيلنا لبعضٍ من الهواء الطلق والحر لينابيع ثقافته قد يحسدنا عليها شباب من أجيال جاءت من بعدنا لم تكسب إلا المزيد من الحروب والمحن.. لذلك فجيل السبعينيات  كان يَرنُو للأجيالِ التي سبقته بكل إحترام وقدسية، وبتَقْديرٍ لتجاربهم الإبداعية والحياتية، ويندر أن قام أحدٌ ممن هم من الجيل السبعيني بتصرف ثقافي "مراهق أو طائش" ليحاول أن يقلل من قيمة الثمار والمحصلات الإبداعية التي حققتها الأجيال السابقة. وأظن أن ذلك هو الذي عزز لعلائق وشيجة وطيبة بين السبعينين والرواد أنذاك، وإذا كان ثمة تنافس أو موقف رصين وجاد، فهو يعبر عن نفسه على صفحات بيضاء مشرعة لكل العقول والأفكار والإضاءات، فكانت أوراق الإبداع  من أي جيل تأتي، تتلقاها وتتأملها كل الأجيال بنقاء سريرة وإعتزاز بالتجربة.
وما إزدهار حديقة الإبداع والثقافة في تلك السنين إلا دليلاً واضحاً وأكيداً لذلك. فكانت المهرجانات والنشاطات الثقافية المحلية والعربية والعالمية تزهو ببغداد والبصرة والموصل، فعند عام 1971 بدأ مهرجان  المربد الشعري في البصرة وبالعام نفسه كان مهرجان أبي تمام في الموصل، حيث كان الشاعر عبد الوهاب البياتي حاضراً فيه عام 1971 بعد عودته للعراق. وكان هناك مبدعون عرب وعالميون كرروا زيارتهم لبغداد وصاروا يطلقون حمائم أعمالهم الإبداعية والفكرية من العراق..
أجل.. جميعهم كانوا هناك في تلك السنوات، كالشاعر والرئيس السنغالي ليبولد سنغور، والمفكر جاك بيرك، والمفكر روميش شاندرا والفنانة الإنكليزية فانيسا رديغريف والمغني اليوناني ديميس روسوس والشاعر نزار قباني ومحمود درويش ومحمد الفيتوري وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم كثير.. بل أن العديد من المثقفين العرب في تلك الفترة من الزمن إنتقلوا إلى العراق وجعلوا من بغداد مقاماً دائماً لهم، أمثال الشاعر السوري خليل الخوري، الذي صار المترجم الشفهي الشخصي لصدام حسين في اللغة الفرنسية.. وكان يقيم ويعمل في بغداد الأديب المصري محمود السعدني، والشاعرالمصري عبد الرحمن الخميسي، والأديب الأردني غالب هلسا، والفنانة دلال شمالي، والفنان المصري كرم مطاوع وزوجته الفنانة سهير المرشدي، والمخرج التلفزيوني المصري إبراهيم عبد الجليل والذي تزوج من الفنانة العراقية شميم رسام، والفنان المصري عبد العني قمر، والأديب السوري شريف الرأس.. والقائمة تطول وتطول...

سنواتُ السبعينات الحلوة المُرة

خلال تلكم السنين إلتقيت ولأول مرة وعن طريق الصدفة بالبياتي وفي قاعة اتحاد الأدباء، كنت وقتذاك معجباً بقصيدته التي بعنوان "أولد وأحترق" أخبرته بذلك وشكرني بتواضع. في تلك القصيدة وجدتُ المعاناة التي فيها مع إمرأةٍ تدعى "لارا" هي ذات المعاناة التي كنت أكابدها في تلك الفترة مع عشقي القوي والعميق لإمراءة رائعة، حتى أنني يوماً دخلت استوديو قسم التمثيليات ومعي نص القصيدة وسجلتها بصوتي بإسلوب ثمثيلي درامي، ثم قمت بعمل مونتاج لها وإضافة مؤثرات طبيعية وفواصل موسيقية وكورولات سيمفونية، حتى غَدت القصيدة بصوتي لوحة سمعيّة فنية شعرية أعجبت كل من سمعها وقد بثت مرات في بعض البرامج الإذاعية، وهذا مقطع البداية من هذه القصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي
تستيقظ (لارا) في ذاكرتي”
 قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
"يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم 
في السبعينات وخلال تلك السنين الست وعند فاصلةٍ، فرصةٍ، صدفةٍ تاريخيةٍ من الزمن لن تنسى، أحتضن العراق ولأول مرةٍ كل وأروع شعرائه في العصر الحديث، حيث تواجدوا جميعاً في العراق في تلك الأعوام قبل أن تشردهم بعد ذلك ومن جديد موجات الغربة والهجرة، إذ لم تتواصل سنين أخرى من الإِطْمِئْنانِ والإسْتِقْرَار للأسف..
وهذه باقةٌ وأمثلةٌ لأسماءِ شعراءٍ عراقيين عايشوا التجربة وجمعت بينهم الأُلفةِ والمودةِ وكانوا معاً تحت سماءٍ عراقيةٍ واحدةٍ في زمنٍ واحدٍ رغم إختلاف الرؤى آنذاك.
وتسلسل الإسماء هنا جاء تلقائياً ودون قصد، ومعذرة إن فاتتني أسماء أخرى.
محمد مهدي الجواهري، أحمد الصافي النجفي، محمد صالح بحر العلوم، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، شاذل طاقة، علي الحلي، لميعة عباس عمارة، شفيق الكمالي، عاتكة الخزرجي، سامي مهدي، عبد الرزاق عبد الواحد، ذو النون الأطرقجي، مظفر النواب، محمد جميل شلش، ذو النون يونس الشهاب، حسين مردان، سعدي يوسف، زهور دكسن، بلند الحيدري، حميد سعيد، خالد الشواف، يوسف الصائغ، إبراهيم الزبيدي، ارشد توفيق، عبد الأمير الحصيري، حسب الشيخ جعفر، ساجدة الموسوي، عبد الجبار داود البصري ، مي مظفر، كمال الحديثي، علي الياسري، معد الجبوري، صاحب خليل إبراهيم، عبدالإله الصائغ، والشاعر محمد علي الخفاجي الذي أخرجتُ له في السبعينيات مسلسلاً إذاعياً بثلاثين حلقة بعنوان "الإعتبار"، وهو مُعد عن كتاب الإعتبار لأسامة بن منقذ. أول سيرة ذاتية في التاريخ العربي. وأسامة بن منقذ هو فارس ومؤرخ وشاعر، وأحد قادة صلاح الدين الأيوبي، وقد مثل أدوار هذا المسلسل نخبة من الممثلين العراقيين والعرب، والموسيقى التصويرية وضعها الفنان طالب القره غولي.    
 أعود للحديث عن جيلي، السبعينيات... إنه جيل ذاق حلاوة وفرات الإبداع وجمال الحياة بِضْعَ سِنين غير أنه مالبثَ أن هَضَمَ العلقم. إنه جيلٌ طموحٌ مسالمٌ وحالم، مثل أسماك جميلة ملونة كانت إنها تعيش وتسبح في مياهٍ عذبة، سرعانما أفزعتها وعلى حين فجأة الصدمات من كل حدب صوب فأختلطت لديها الرؤيا... فسبح البعض بعيداً ومسرعاً لرتطم بالجرف أوفي القاع، أو بقى يتخبط.. أو بعضعه مات، أو من إستطاع أن يواصل. صورة مأساوية كان أصلها لوحة جميلة لجيل جديد شاب وواعد، لوحة من الأمل لإبداع وحياة أجمل للعراق وللعراقيين، يوم كنت  ترى شباب هذا الجيل ذو العطاء الخصِب  يتجمعون في كلِ مساءٍ صيفيٍ أوشتويٍ مع جنائن وضفاف دجلة، عشاقاً لكلمة الحق واللحن الأصيل واللون المُعبِّر بصدق. كنتَ تراهم منتشين بحبهم لإبداعهم ولحدِ البكاء. كانت لوحة سبعينية متفردة.. وكان يشارك في تللك اللقاءات مبدعون من أجيال سابقة، أمثال الشاعر العراقي الستيني فوزي كريم الذي كان قد عاد في ذلك الوقت الى بغداد وتحديداً عام 1972 عندما كان يعيش في بيروت.

حضور الشعراء والأدباء واضح جداُ في إذاعة بغداد

في منتصف ذلك العام 1972 بدأت العمل كمساعد مخرج وممثل في إذاعة بغداد بقسم التمثيليات. حينها كان الفنان الكبير كريم عواد رئيساً للقسم والفنان الكبير الراحل حسن الجنابي معاوناً لرئاسة القسم، في مبنى إذاعة بغداد والمشترك مع إذاعة صوت الجماهير أنذاك، كان حضور الشعراء والأدباء واضح جداُ في إذاعة بغداد، في عام  1973 وأثناء حرب 6 أكتوبر/ تشرين الثاني نُقلت للعمل كمخرج ومُعد برامج في القسم السياسي في الإذاعة وكان يرأس القسم الشاعر الفلسطيني الكبير أديب ناصر، ومعاونه في إدارة القسم الإعلامي الناجح عبد الجبار يوسف "أبو يعرب"، بعد ذلك بدأت المل لأشهر في القسم الثقافي  في الإذاعة الذي كان يرأسه الزميل القاص والإعلامي القَدِيرسعد البزاز ثم تواصلتُ في عملي بقسم التمثيليات، وهناك كان الزميل الأديب الفلسطيني نصر محمد راغب، والأديب حسام الساموك، والقاص أحمد خلف، ومن الطريف أن الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر عمل لسنوات كثيرة كمصحح لغوي للنصوص في قسم التشكيل اللغوي وليس كثيراً في القسم الثقافي. في عام  1972كان يومها الشاعر حسين مردان معاونا لمدير إذاعة بغداد، وفي شهر تشرين الثاني من ذالك العام توفي حسين مردان الذي كان لفوزي كريم صداقة قويةً معه، وتم تعيين المذيع والشاعر إبراهيم الزبيدي مديراً لإذاعةِ بغداد. وجاء من بعده  الأديب عبد الجبار الشطب ثم الشاعر أرشد توفيق عام 1974 ومن ثم الأستاذ جواد العلي ومن بعد ذلك عاد الفنان مهند الأنصاري للعراق بعد أحداث الكويت ليصبح مديراً للإذاعة عام 1991.  
 حزنَ فوزي كريم حزناً شديداً لفقدانه حسين مردان،  وقد كان قد كتب له قصيدة أسمعه أياها قبل أن يتوفي، هذا هو جزء من بداية القصيدة التي كان فوزي يرنمها ويغنيها لنا في لقاءات أماسي أتحاد الأدباء في ساحة الأندلس ببغداد.
ياحسين مردان
كيف تركت الباب مفتوحا
والليل لم يهدأ، وكان السر مفضوحاً
وانت قد تجهل ان الخمر في الندمان
مازال يستحلف كل ظلمة
في ساحة الميدان
ان تستريح الان،
وان يظل القلب مجروحاً.
وينتقل ليشدو بلَوْعَةٍ من فمٍ وفكين تكسوهما لحية كثة، مقاطع غائية عراقية قديمة موجِعة للمطربة زكية جورج أو صديقه الملاية أو زهور حسين، وقد يترنم بأبياتٍ من قصائد لعبد الوهاب البياتي أو لسعدي يوسف أو لبلند الحيدري. يغني بكل شجو وبإحتراق ونشوة فنتفاعل جميعنا مع صدق الأحساس الذي كان يفيض بشجن مع صوت فوزي كريم، وذلك كان يحدث أحياناً بعد جلسة كانت حافلة بالنقاشات في قضايا أبداعية مهمة في الثقافة والفنون وكذلك في السياسة.
"من غير امل حبيت انا..
وأصبح دليلي بكيف
ادري الوصل بعده هجر
وابقى بكدر ياحيف
حكم الغرام ما يظل دوام
بعد الصفا لابد جفا
وتكون أنواره ظلام"
ولم تكن تلك الجلسات تضم شباب السبعينيات وحدهم، وإنما يشاركهم أحياناً إياها شخصيات مهمة ورائدة في حركة الإبداع عموماً فمقر ومبنى إتحاد الأدباء كان حافلاً بإستمرار بالنشاطات الثقافية، وكان يتجمع ويلتقي فيه كل من يهتم ويعمل في مجالات الإبداع المعرفي والفني، لذلك فإن زيارة شاعر كبير ومهم للإتحاد إنما كان أمراً مألوفاً.
كانت تتجمع الأتعاب والهموم فيها كل أمسيةٍ لتَصبَّ أنينها.. وبوهيميتها.. وتمردها الواعي.. كانت تتشاحن الصراعات الثقافية والسياسية على ضفاف المحبة. بطريقةٍ شبيهةٍ بأساليبِ وأخلاقِ الفرسان المتهادنين من أجل غايةٍ أسمى مشتركة بينهم.. حُب الوطن، ورِفْعَة العراق وعِزّتِه.
ولعل تلك اللقاءات والحوارات والزيارات لهذا المبدع أوذاك من الرواد، إنما كانت تعبيراً عن مدى الشعور والحرص على التواصل بين الأجيال، رغم التباين في السن والتجربة وأحياناُ المواقف والرؤى الفكرية. والشاعر عبد الوهاب البياتي هو واحدٌ من الشعراء الكبار الذين كانوا يحرصون على إكثشاف نبض الحياة الثقافية بأنفسهم، لا أن تكون منقولة من أحد. وبما أن البياتي عاش بتواضعٍ رائع قَلَّ نظيره، وبصدرٍ رحبٍ لتلقي سهام من يكيدون له، وقدرةٍ لاتنازع بمواجهة أصعب المآزِق التي قد ينوي أحدهم إيقاعه بها، لذلك فهو لم يكن يتردد في الحوار مع أجيال الشباب أو الذين بدأوا آنذاك يخطون أولى الخطوات، وهذا لعمري أبلغ دليل لمكانته كأنسان وكشاعر لاينظم شعراً فحسب وإنما يحترم جميع من ينتمون إلى الشعر والعمل الإبداعي الفكري أينما كانوا،.لذلك فقد كان البياتي يحلُ ضيفاً ويستمع ويتناقش في تواضع مع إيٍ كان من جيل الشباب.
 كانت حلقات اللقاءات والنقاشات في الليالي الصيفية بحدائق إتحاد الأدباء العراقيين أو في صالته الشتوية الداخلية، او في نادي التشكيليين وجمعية الموسيقين، أو في جلسات حوارات خاصة، هي بمثابة مَرَايا عاكسة لِما كان يجري تحت شمس النهار، خاصة فيما يهم الحركة الثقافية والإبداعية، ليس في بغداد والعراق فقط وإنما في الوطن العربي والعالم كله.
أجل كانت أياماً ليست ككلِ الأيام.. عاشت وتمتعت فيها حوارتنا الثقافية بروح مكابرة وألقٍ إنسانيٍ بهيج..  ولم تكن تخلو أحياناً من رفضٍ حبيس يطفو على سطح النقاشات.  كان جيلنا في السبعينيات يختزن في آنٍ واحد قوة الرفض وقوة الموافقة، ولكن لم نكن أتباع أوبقايا وإنما كنا الكل، كنا فقراء ونحن في منتهى الغنى والثراء بإعتدادنا بأنفسنا وبأفكارنا وتطلعاتنا ومشاريعنا.  شباب عراقي سبعيني مبدع يؤمن بالحياة، يوم لم تكن هنالك حروب أو حصار أو هجرات جماعية ولاإحتلالات ولا فايروس كورونا..
في آخر جلسات النقاش المسائية الصيفية في حدائق إتحاد الأدباء نتوادع بمحبة، توزعنا أحياناً وعلى مناطق قريبة سيارة الجيب المكشوفة العتيقة التي يمتلكها ويقودها رائد التصوير الفوتوغرافي المصور الفنان "جاسم الزبيدي"  نتكدس في سيارة الجيب ومازال أحدنا متشبتاُ برأيه ويواصل حوار ما.

ألأب الروحي لجيل من المبدعين الشباب

قبل أن أقول إنه شاعر كبير، أقول عنهُ وأوصفهُ بألأخ الكبير أو ألأب الروحي لجيل من المبدعين الشباب كان متواضعاً مع الأجيال المبدعة الجديدة ومسانداً لها، حتى أنه يوما أصدر وعلى نفقته أحد دواوين الشعراء الشباب، بَيدَ أنه كان حاداً مع شعراء جيله.
شاعرٌ مثل عبد الوهاب البياتي لن يكون أبداً في تصالحٍ مع الوظيفة، فالسأم هو الرابط الدائم بينهما، لذلك فلم تستقر نفسه معها لهذا السبب أو ذاك، فكان آخر مطاف يجمعه مع الوظيفة حينما شغل في سنة 1982 منصب مدير المركز الثقافي العراقي في مدريد، لكنه في عام1991 ترك هذه الوظيفة وأستقال منها وأختار أن ينتقل ويقيم في العاصمة الأردنية عمان، ليرحل مع ماتبقى له من العمر برفقة مشاريعه الشعرية كشاعر وإنسان، مثل نهر دائم الجريان يمتدُ مع الزمن ولايلتفت إلى الوراء، وهو القائل في إحدى قصائده:
"ألنهرُ للمنبعِ لايعود
ألنهرُ في غربتهِ
يكتسحُ السُدود"
ومن مثل الوظيفة الروتينية التقليدية تمسك بتلابيب المبدع! كي لايمضي قُدماً إلى أقصى مايتمنى من إنجازات إبداعية في رحيلٍ دون سدود أو حدود...من؟
لذلك فالبياتي وغيره من الشعراء العراقيين الكبار في تلك المرحلة، عاشوا حياتهم مثلما أرادوها هم لا مثلما كان يُراد لها أن تُبرمج وتعاش.
منذ عقد السبعينات، أنا الذي أردتُ وأخترتُ إن أكون مستقلاً، فكان لي ومازال علاقات طيبة مع أخوة وأصدقاء رائعون من كل الأحزاب، وكان ومازال حبي لبلدي ولعملي الإبداعي هو إنتمائي.
ومنذ السبعينات انا الذي خدمتُ في الجيش كثيراً.. كثيرا.. مع أني لستُ بعسكريٍ على الأطلاق.. وليس لي مع هذا الجانب أية صلة.. أكثر من إثني عشر عاماً تحنّطت من حياتي وأُتلفت في الجيش، وقابلتُ الموث مرات..
في الشهر الرابع من عام 1991 تم تسريحي من الجيش وعدتُ لعملي في ألإذاعة، والتي رغم ظروفي القاسية في الجيش كنت أعود وأواصل عملي فيها من خلال كتابة المسلسلات أو إخراجها عندما أمنح إجازات من وحداتي العسكرية. تسلمتُ رئاسة قسم الثمثيليات في إذاعة بغداد بعد تسريحي بأشهر، ولكني كنت قد قررت الهجرة وإحالة نفسي للتقاعد. وخلال فترة إنتظاري لذلك بين عامي 1991 و 1992 وريثما أحصل على الموافقة على تقاعدي ومن ثم إكمال كل الأوراق فيما يتعلق بهذا الشأن في دائرة التقاعد ببغداد، قمت خلال هذين العامين بزيارات  للعاصمة الأردنية عمان من أجل مشروع  إذاعي مع مجموعة من الفنانين والزملاء في الإذاعة الأردنية. وكنتُ التقي بالأستاذ عبد الوهاب البياتي في كل مرة أعود فيها من بغداد إلى عمان..
في العاصمةٍ عمان حيث كان يقيم مع السيدة زوجته وإبنته الرسامة أسماء، إختار "أبوعلي" ركناً أثيراً له في مقى ال "هورس شوز" في حي الشميساني. ولم يأت إختياره لهذا المقهى لشيء مميز فيه، وإنما لقربهِ من مقرِ مؤسسة "شومان" الثقافية التي كانت تشهدُ على مدارِ العام نشاطات فنية وفكرية، حيث كان يزورها نخبٌ من المهتمين بذلك.
في أحد الأيام من شتاء 1991 كنتُ ومجموعة من الزملاء المثقفين ومعنا الشاعر البياتي قد غادرنا قاعة "الشومان" التي كان يديرها الفنان شاكر حسن آل سعيد، وإستقر بنا الحال في مقهى "الهورس شوز" حيث كنا قد حضرنا ندوة عن الفنان الرسام العراقي الرائد فائق حسن. شاركتً فيها بطرح بعض الثساؤلات عن هذا الفنان الأصيل المتميّز.
كانت المجموعة تضم الشاعر والصحفي والقاص الأردني أحمد المصلح، والقاص محمود الريماوي، وبعض النقاد والفنانين العراقين، كالفنان التشكيلي علي رضا وعلي شلاه والناقد محسن أطيمش الذي كان يومها مبتهجاً بصدور ديوانه  «محمد عفيفي مطر.. الأناشيد" وكان يستعد للرحيل إلى اليمن للعمل هناك.
وفي المقهى إستذكر البياتي الفنان فائق حسن الذي يعرفه عن قرب، وتحدث عنه بإعتزاز ومحبة؛ حيث تطرق بحديثه عن تاثيرات رسومه على ماكان يرسمه طلابه، وكان الفنان علي رضا الحاضر في الجلسة واحداً من طلابه. لقد أثيرت قضية في منتهى الأهمية، إنها "التأثير والتأثر" التي قال كل منا رأيهُ فيها.. ولكن خلال ماكان يطرح كنتُ أفكر وأتأمل بالتأثير والتأثر بين أعمال البياتي الشعرية وشعراء آخرون عرفهم البياتي عن قرب، إذ كما أرى تأثروا بتجربة البياتي الشعرية، أمثال الشاعر التركي ناظم حكمت والإسباني رافائيل ألبرتي. في تلك الجلسة أهداني البياتي مجموعته الشعرية "بستان عائشة" التي كانت قد صدرت عام 1989، وكتب لي عليها بخط يده الأنيق سطور إهداءٍ لطيفة، أخذتُ "بستان عائشة" معي عندما عدتُ إلى بغداد، وبقيت "بستان عائشة" هناك في العراق.
في صيفِ عام 1992 وفي عمان تعرض البياتي لوعكةٍ صحيةٍ نجمت عنها ألآم في إحدى ساقيه، ولم يكن يتمكن من السير إلا بعصا لازمتهُ أشهراً، وحينما تلاشى الوجع من ساقه وإستطاع أن يستغني تدريجياً عن عصاه التي رافقته أشهراً، إقترح عليه الشاعر أحمد المصلح وبطريقته الفكهة أن يهديه تلك العصا حينما يفرغ حاجته منها تماما، إلا أن البياتي إجابه وبسرعة...
ـ لا.. إنها ليست للإهداء، وستبقى معي ذكرى فلقد ساعدتني في وقت الشدة ولابد أن أكون أميناً على رفقتها لي.
علق حينها القاص محمود الريماوي وبلطف..
ـتكون أحياناً خيالي رومانتيكي النزعة يا أبا علي.
ـ لا، إنه الوفاء وليس الخيال ياصديقي.
هكذا أجابهُ البياتي، وبلطفٍ كذلك
في نهايات شهر تشرين الأول/أكتوبر 1992 وقبل أن أسافر بيومٍ واحدٍ راحلٌ ومهاجرٌ إلى ليبيا، جئتُ في المساء إلى المقهى لإودع البياتي والأصدقاء الذين كنت التقيهم تلك الأيام. كانت حينها تلازمني مشاعر قوية مختلطة، الحزن لهجرتي من العراق والتفائل بحياةٍ وعملٍ في ليبيا.. لقد كنتُ متعبا ذلك المساء. حينما رأني البياتي بادر هو بالتحية.
ـ أهلاً ياولدي يازين الشباب..
أخذت مكاني في الجلسة وأنا أقول له..
ـ سأسافر غداً صباحاً وأتيتُ لأودعك.. وأودعكم، ربما لن أراكُم إلا بعد سنوات..
أجابني لائماً..
ـ ولكن أنتبه لتذكرة الطائرة.. فقد تسقط من جيب قميصك وأنت تضعها فيه بهذه الطريقة، فلن تسافر غداً.
ـ أريدُ أن أراها دائماً أمام ناظري يا أبا علي..
وجه كلامه لي وللحاضرين.
ـ لقد أخذ مكافأة تقاعده وباع مكتبته ليشتري هذه التذكرة ونفقات رحلته، لقد جمع المبلغ بدمع العين وماجرى.
نهضتً وحييت البياتي والأصدقاء مودعاً، وقبل أن أبتعد ناداني قائلاً..
ـ حينما تصل ليبيا أكتب لي رسالة.
كانت رحلةٌ مُضنيةٌ ومُرهقة بحق، حيث كان الحصار على أشده علينا نحن العراقيين بعد حرب الخليج، وكان من الصعب وصول العراقيين إلى ليبيا في ذلك العام، فلا طيران مباشر الى ليبيا ولا تونس ولا مصر المجاورتان لليبيا كانتا تسمحان بدخول العراقيين أراضيهما، لذلك كانت رحلتي بالطائرة الى السودان، ثم من العاصمة الخرطوم وبعد أيام رحلة شاقة بحافلة متعبة الى مدينة الفاشر الواقعة شرق السودان ومن بعد ذلك واجهتُ غمار أقسى رحلة عبور لجزء من الصحراء الكبرى مع مجموعة مسافرين عرب، حيث إستغرقت  الرحلة أياما بلياليها وبسيارة نقل مكشوفة من مدينة الفاشر نحو الشمال وصولا إلحدود الليبية، وما أن عرف موظفو الحدود الليبية أنني عراقي حتى بادروا بالترحاب الطيب
ـ أهلاً بكَ في بلدك.
عبارة ٌرائعةٌ جميلة لن أنساها قالها لي حينها أحد موظفي الحدود الليبيين.
ومن الحدود تواصلت الرحلة الصعبة بسيارة النقل المكشوفة وعبر الصحراء وصولاً إلى مدينة الكفرة
الليبية، وأخيراً وبعد أيام ومن هذه المدينة التي في جنوب ليبيا سافرت بحفلة برحلة طويلة إلى العاصمة طرابلس الجميلة بأهلها الطيبين والتي عشتُ وعملتُ فيها بالتدريس والصحافة وبشكل متواصل حتى عام 1998.

وقف الشعر ببابي حارساً

عام 1999 عملتُ وعشتُ في القاهرة وفي شباط/فبراير من ذلك العام حَل البياتي ضيفاُ عزيزاُ وبدعوة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، قابلته بعد سبع سنوات من آخر لقاء معه في عمان عام 1992 كنت أراه سعيداً وهو يلتقي بمعارفه وأصدقائه من مصريين أو جنسيات أخرى.. يومها قرأتُ له بعضاً من قصائدي فأستحسن ماسمعه مني وأثنى على قصائدي، لم يكن أحد يعلم أن زيارته تلك للقاهرة هي زيارة وداع أخيرة، فبعد ستة أشهر توفي في سوريا التي كانت مكان إقامته، ودفن وحسب وصيته قريباً من ضريح الشيخ محي الدين بن عربي الذي في دمشق. وعودة إلى مصر الحبيبة التي وبهذا الصدد أروي حكاية تصف مدى قوة وتأثير الشعر والشاعرعند الناس، فحينما عاش البياتي وأسرته عدة سنوات في القاهرة، منذ عم 1964إلى عام 1970 أقدم مجهولون على إختطاف إبنته أسماء، وهم لايعرفون آن هذه الصَبية هي إبنة البياتي، فأصيب الشاعر بنكسةٍ وشحنةٍ عاليةٍ من الحزن، ولكن بعد أن علمَ الخاطفون بعد إيامٍ قليلة أن أسماء هي إبنة الشاعر عبد الوهاب البياتي، أطلقوا سراحها فوراُ.
هكذا إذن.. لقد دافع الشعر عن أسماء، مثلما أنقذ الشعر أباها زمناً في عدةِ مواقفٍ صعبة، وهو القائل في أحدى قصائده التي أهداها إلى إبنته نادية التي كانت قد توفيت في أمريكا.
"وقف الشعر ببابي
حارساً يدفع عني القتلة
فلماذا اخطأ الموت
وأودى بك
يا نجمة صبح الغابة المحترقة"

ذلك هو المتواضع النبيل والعراقي لحَدِ العظم والنخاع، شاعرٌ أَبِيّ عانى وقاوم أكثر من نصفِ قرن، يسأل عن بغداد التي ولد وعاش فيها، يسأل عن عائشة وبستان عائشة وقتلة عائشة، يرثيها ويغازلها، يهجرها ويعود إليها، حارَت معه وحار معها..
إنني أسألك اليوم وأنتَ هناك في الغياب.. هل سننتظر أكثر لمجيء المستقبل الجميل السعيد لكلِ أهلنا الرائعين في العراق وللوطن! أم أننا سنبقى في إنتظار "الذي يأتي ولايأتي" ؟
هل تَودُّ سماع أخبار عائشة التي نحن جميعاُ مسكونون بحبها وبضوئها؟
أعلمُ أنكَ ستجيبني الآن وتقول وأنتَ تبتسم..
ـ عائشة... مازالت عائشة. إنها هناك مازالت في العراق.
ثم تودعنا مرةً أخرى وتغيب ثانية يا أبا علي.

أهمية الموقف الأوروبي الداعم لدولة فلسطين/ سري القدوة

 ان مواقف دول الاتحاد الاوروبي الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني باتت تشكل قاعدة مهمة للعمل الدبلوماسي والعلاقات الثنائية الداعمة للنضال الوطني الفلسطيني وما شهدته هذه العلاقات من تطور وخاصة في البرلمانات الاوروبية وما شهدته برلمانات السويد وفرنسا سابقا وما تم اتخاذه من مواقف ايجابية داعمة لنضال الشعب الفلسطيني عبر موقف البرلمان البلجيكي الصديق الذي يقف موقف مهم لدعم الحقوق الوطنية العادلة للشعب الفلسطيني ودعم مبدأ السلام القائم على حل الدوليتين ورفض مخططات صفقة القرن الامريكية وسياسة الضم ومشاريع التصفية الاسرائيلية حيث اتخذ البرلمان البلجيكي قرارا مهما بأغلبية ساحقة وينص على تبني إجراءات مناهضة لضم حكومة الاحتلال لأراض فلسطينية محتلة في إشارة واضحة لإمكانية اتخاذ اجراءات عقابية ضد حكومة الاحتلال ويأتي هذا القرار في سياق تصاعد الرد الدولي ضد مخططات الضم الإسرائيلية ويدل على تشكل جبهة دولية عريضة رافضة له كما تجلى في الموقف الدولي الداعم للنضال الفلسطيني.

ولعل تزايد الدعوات للاعتراف الدولي والأوروبي بدولة فلسطين وفرض العقوبات على الاحتلال من قبل الحكومات الأوروبية والدولية بشكل عام من اجل حماية القانون والشرعية الدولية ووضع حد لنهج الاحتلال وممارساته العدوانية التي لم تعد مقبولة على المستوي الاوروبي ومن اجل تطبيق مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص بين الشعوب ووضع حد لكل السياسات العنصرية والحفاظ على الجهود الدولية التي بذلت على مدار الثلاثين عاما الاخيرة من اجل صناعة السلام ووضع حد لأطول احتلال في العالم.

إن النهج العنصري وتحدي حكومة الاحتلال للقانون الدولي ومواقف الدول الرافضة لمشروعها الاستعماري العنصري سيضع الحقائق امام المجتمع الدولي مما سيؤدي الى تزايد العزل الدولي للاحتلال ومحاصرته واتخاذ خطوات لاستبعاده عن اي شراكة دولية او تعاون دولي وإسقاط كل اوراق التوت عن عورة الاحتلال فلم يعد لسياسة الكذب والخداع والتضليل مكانتها بمجريات العمل الدولي ولا مجال لاستمرار خداع العالم بالشعارات الرنانة والمشاريع الوهمية العنصرية التي يحاول التكتل العنصري الامريكي الاسرائيلي تسوقيها كصفقة سلام بالمنطقة.

لتتحد كل القوى الفلسطينية خلف القيادة الفلسطينية وتدعم الموقف الفلسطيني الوطني في تحقيق الانتصارات الفلسطينية الدبلوماسية وخاصة في الساحة الاوروبية وصياغة عمل هادف الي تحقيق الدولة الفلسطينية وإقامة العلاقات بين فلسطين ودول اوروبا والعمل علي تأسيس مرحلة جديدة في مفهوم العمل الدبلوماسي طالما سعت وعملت منظمة التحرير الفلسطينية للوصول لهذه الخطوات وتسجيل هذا الاختراق المهم وخاصة علي الساحة الأوروبية.

ان تلك المواقف الدولية تحمل العديد من المؤشرات الايجابية المهمة الداعمة للشعب الفلسطيني والتي تحاصر الاحتلال وتفقده الحصانة وتعري مواقفه امام المجتمع الدولي الذي يرفض الممارسات والانتهاكات التي تمارسها حكومة وتكتل نتيناهو العنصري وان العالم لن ولم يبقى صامتا ولن تسكت تلك الاصوات المتصاعدة الرافضة لكل محاولات الضم الإسرائيلية والتي تهدف لفرض نظام ابرتهايد في فلسطين.

 إن هذه الخطوة تدل على مواقف مهمة للبرلمانات الاوروبية السياسية والأخلاقية والدبلوماسية المبدئية والمتوازنة والعادلة والتي تنتصر للسلام ولمبدأ حل الدوليتين وتدعم حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وكلنا أمل بأن تعترف حكومات الدول الأوروبية بناءً على توصيات برلماناتها بدولة فلسطين وان تحذو موقف مملكة السويد التي اعترفت بدولة فلسطين وان يكون هذا الاختراق في الموقف السياسي بالساحة الاوروبية له مدلولاته على مجمل العمل السياسي الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والقدس عاصمتها.

العربي والبحث عن المستقبل بالماضي!/ د. رائف حسين

حالنا في العالم العربي، فرد ومؤسسة، مواطن ومسؤول، عامل واكاديمي، رجل وامراة، شاب وعجوز هو كحال الانسان الجالس وراء مقود السياره ويريد ان ينطلق الى سفرته الطويله لكنه 90% من وقته يقضيها في النظر بمرأة السيارة الخلفيه… في هذه الحالة يكون الاحتمال كبير جدا ان يتسبب في حادث جسيم هدام او لا ينتبه الى المخارج والمداخل او ان ينحرف عن الطريق الصحيح… وهكذا تكون النتيجة الحتمية والبديهية ؛ بان الشخص لن يصل الى الهدف! 

نظرتنا الاجتماعيه والسياسيه والثقافيه معظمها تتوجه الى الماضي. الشرقي العربي يحلم بالماضي ويقضي وقته في التمني ان يعود هذا الماضي … يحلم ان تدور عقارب الساعة الى الوراء. 
نحن بالشرق نواجه التحديات بالتمني ؛ الفلسطيني يتمنى زمن عرفات وصلاح الدين والعراقي زمن صدام وهارون الرشيد والليبي زمن القذافي وعمر المختار والمصري زمن عبد الناصر والفراعنة والمسلم زمن الرسول والخلفاء والمثقف زمن المتنبي وابن سينا… بالتمني وحده لا تبنى اوطان ولا ثقافات ولا حضارة.
الاسباب لبحث العربي عن مستقبله بماضيه متنوعه منها ما يلي :
1. ثقافتنا ما زالت شبه منحصرة بالشعر والنثر وكأننا ما زلنا في سوق عكاظ. منذ ذاك الزمان والعلم والمعرفه سلع نستوردها باكثريتها الساحقه من الخارج. مدارسنا وجامعاتنا وتحصيلنا العلمي يحط مكانه منذ قرون. التلقين ما زال عنوان الوصول  الى المعرفه وليس البحث.
2. استثمارنا بالعلم والمعرفه يأتي في مرتبه اخيره في اولويات دولنا وحكامنا… النتيجه هي هجرة العقول بحثا عن امكانيات التطور والتطوير بالغرب "الملحد". وان عادت هذه العقول لاوطانها فانها تُقَزَّم بقفص المحسوبيه والولاء الاعمى.
3. مجتمعاتنا ذكورية بطريركية وما زالت تعتمد الوراثه بالسياسه والاقتصاد. منذ الخلافه الاموية وحتى يومنا هذا لم نخلص من قاعدة " كلب الشيخ شيخ".
4. نتغنى بالماضي لاننا اجتماعيا لم نحافظ على ارثنا الحضاري من التزوير الداخلي والخارجي ولم نطور عاداتنا وتقاليدنا لتتمشى مع العصر. ما زلنا سياسيا نبايع الرئيس والقائد كاننا في عصر الخلافة. وعلاقاتنا الاجتماعيه ترتكز على مفهومها العشائري الضيق وكأننا في القرن السابع واقتصادنا استهلاكي بامتياز وعلمنا حدث ولا حرج! نعيش يومنا وكأننا في القرن الثاني والعشرون لكن عقولنا ما زالت اسيرة عصر الرسول والخلفاء. 
5. نخشى التغيير والتجديد بالمفاصل المركزية لاننا نعيش التقليد ونرسخه في معظم مجالات حياتنا… لا نجدد حكمنا ولا قيادتنا الا اذا طلبها الله الى جانبه. لم نجدد علاقتنا بالدين ولم نطورها وما زلنا اسرى فقهاء العصر العباسي… ونسينا ان المعرفة اسيرة ادواتها.
6. دحرنا الاستعمار منذ عقود، لكن حافظنا على ارثه ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وجغرافيا واصبحنا ندافع عنه . بنينا دولا مدججة بالسلاح ونسينا ان نبني اوطانا.
7. لا نملك استراتيجية تقدم واستقلال واكتفاء… القيادات بمعظمها تعمل في تكتيك المحافظة على العرش وتوريثه… والمواطن يركض وراء لقمة العيش. نخشى المواطنه والديمقراطيه كونهما "بدع غربيه". لكن نربط مصيرنا بمصالح هذا الغرب. 
باختصار نحن نبحث عن مستقبلنا بماضينا لاننا نخاف مواجهه واقعنا. تمنينا بالنجاة بقارب من الماضي لنصل الى شاطىء الحضارة المستقبلي ليس مبني على فهم هذا الماضي وتمحيصه. نحن في الشرق القينا عباءة القداسه على الماضي وقمنا بتحنيطه... مما ادى بنا الى عدم دراسة ماضينا بنظرة مراجعه نقدية علميه بل بنظرة اعجاب ساذجة صبيانيه ترى ما نريد ان نراه فقط… الشرق يعيش  في نوستالغيا "السلف الصالح".
التحضير للمستقبل والتخطيط لبناءه يتطلب امران: اولا مراجعة نقدية علمية للماضي واخذ العبر من تجارب السلف الايجابيه وتحديد العطب والخلل بها وثانيا تمحيص الواقع الذي نعيشه وتحديد امكانياتنا لنستطيع وضع استراتيجيه لبناء وتطوير مستقبلنا.
المعادله اذا هي: من اراد البقاء عليه ان يتجدد ويتطور .

الكافر من حَسْپين/ ترجمة حسيب شحادة

The Infidel from Ḥaspin
بقلم مكسيموس بن تيانوس

جامعة هلسنكي

هذه ترجمة عربية للقصة التالية بالعبرية التي نُشرت في الدورية أ. ب. أخبار السامرة ع. ١٢٥٠، ١٥ أيلول ٢٠١٧، ص. ٣٥-٤١. 

”في سجن في حَسّپين في مرتفعات الجولان

كيف وصلت صُدفة إلى هذا المكان اللعين، سِجن حسپين الضيّق والرطب في مرتفعات الجولان؟ كيف لم أتمكّن من السيطرة على غريزتي؟  كيف لم أقدِر على العمل ضدّ إرادتي؟ أنا الذي رأيت كلّ العالَم، كيف وصلت إلى هذا المكان النائي، منتظرًا بخشوع وخوف، ما سيحدُث لي في صباح اليوم التالي من قِبَل مبغضيّ، الذين عزموا على قطع لساني من فمي؟ وبخاصّة تحت نظَر عيون أخويّ الشابّين المغرورقة بالدموع وبحُضور أُختي الجميلة كالقمر.

كيف وصلتُ إلى هنا؟  أنا الذي كانتِ الناس تسجُد لي عند مروري، وتمسِك بأطراف عباءتي ويُتمتمون همسًا ينضح تبجيلًا: ”أيّها القدّيس مكسيموس باركنا، أرِنا النور، هو الأب العظيم!“. وأنا كنت أضع راحة يدي بشفقة كبيرة على رؤوسهم، وأنطِق بكلمات العزاء.

وهكذا ذهب وولّى مجد هذه الدنيا؛ إنّه لساني الذي لا يعرف الراحة، قد جلب عليّ كلّ هذه المصيبة. غدًا ستحِلّ نهاية هذا اللسان المرّ، الذي ما زال يُلعلع في فمي، وذلك أمامَ الجمهور الغفير الذي سيحضُر المعرِض الأسبوعي في حسپين في ميدان القرية. سِكّين الجلّاد في الكتيبة الرومانية الحادّةُ والطويلة، ستُغرس داخل فمي وتقطع لساني. حُكم عليّ أن أكون أبكمَ من الآن وإلى الأبد.

يا حسپين ويا قرية صِباي ومنطقته في الجولان؛ المكان الذي قضيت فيه أيّام صباي في بيت أبي في فِناء الكنيسة.  ما أقلّ تلك الأيّام، ولكن ما أحلاها. وُلدت عام ٥٨٠ م. ولكن قبل أن أتجاوز جيل الصبا، وبينما كنت ابنَ ثمانية أعوام تيتّمت من أبي العزيز تياونوس. وبعد ذلك بسنة رحلت ماري أمّي عن هذا العالم مكتئبةً على فقدان بعلها المحبوب. وهكذا قد تيتّمت من أبي وأمّي قبل أن أبلُغ عشر سنين من العمر.

ولولا إشفاقُك علينا، عليّ وعلى شقيقيّ وشقيقتي الطفلة، أيّها الأب الطيّب الكاهن مرطيريوس، لحُكم علينا أن نُلقى في بئر النفايات. أنت ضممْتنا إلى حِضنك وكنت أبًا لنا.

مصير مُرّ

يُوجعني قلبي حينما أتذكّر ما ينتظرني غدًا صباحًا، وما مرّ عليّ منذ أن فتحت عينيّ، وميّزت بين الخير والشرّ. إنّهم جنود في الجيش الروماني، يتطلّعون إلى الفرصة المؤاتية لقطع لساني، واعتادوا تسميتي بـ”الكافر“، إلّا أنّني لست أنا الكافرَ بل هم، لأنّ دم النبلاء تجري في عروقي، دم يُكسبُني الحقّ في رفع رأسي بافتخار مقابل عيني المضايق المضطهد. 
وبالطبع يسأل السائل، كيف حدث ذلك لـ ”مكسيموس الكافر من  حِسْپين“  كما يُسمّونني وبسبب هذه الكُنية حلّت عليّ كلّ هذه المصيبة التي ستنفّذ في الصباح. إنّ أشواقي الشديدة لرؤية شقيقيّ وشقيقتي في حِسپين وعدم تقديري لمدى كراهية خصومي لهم، أدّيا إلى إلقائي في البئر الرطبة هذه، أجلِس في مكان ملوّث ونتِن وأُعاني من عضّات الجراذين، وانتظر تنفيذ فِعلة المسيئين إليّ.

كلّ هذه الأمور حصلت لي لخضوعي لغريزتي. نعم، سيّدي الطيّب، الأب مرطيريوس، الجالس بجانب باب سِجني يسجّل أقوالي. وأنت تعلم أنّ والديّ أيضا المحبّين، مَرمرا حياتهما لأنّهما ٱنصاعا لغريزتيهما. 

إنّك تعلم أيّها الأب مرطيريوس بأنّك ربّيتنا، أنا وشقيقيّ وشقيقتي برحماتك الوفيرة، كم كانت صعبةً حياة والديّ اللذين رحلا عن هذا العالم قبل أوانهما. لسوء حظّهما لم يحظيا برؤيتي بالغًا وبنعم الخالق مُنعا من مشاهدة مصيري المرّ، بهذا العار الكبير وأنا أنتظر تنفيذ الحكم  عليّ.

سجِّل، سجِّل أيّها الأب مرطيريوس الطيّب، ودوّنه في كتاب كي يعلم الجميع تاريخ حياة تلميذك ذي الحظّ التعيس، مكسيموس المقدّس، كيف وصل إلى العظمة وكيف سقط إلى بئر سفلية في السجن.

سامريّون ومسيحيون في قرية عسكر

يبدو أن أوائل الأمور تنمّ على أواخرها. كنت حقًّا ابنَ ثماني سنين عندما مات أبي. كنت لبيبًا منذ صباي لدرجة أن أبي الطيّب تياونوس اعتبرني بالغًا بما فيه الكفاية لسماع شرحه، كيف وفي أيّة ظروف جئت إلى هذا العالَم. وما لم أحظَ بسماعه من أبي عوّضتْه أمّي، التي ما فتئت تتحدّث عن أبي خلال السنة الواحدة التي عاشتها بعد وفاته.

أبي في الأصل لم يكن مسيحيًا بل سامريا، كان ابنَ عائلة نبيلة من قرية عَسْكَر بجِوار نابلس، مركز السمرة. اسمه الأصلي كان اڤنه. لم يرغب أبي في التحدّث عن الفترة التي سبقت تنصّره، ولم يذكر لي اسمه الأصلي قطّ، ولكن بناءً على تفاصيلَ جمعتها من هنا ومن هنا، عرفت أن أبي الطيّب ينتمي لأسرة نبيلة جدّا.

وعليك أيّها الأب الطيّب مرطيريوس، أن تعرف أنّ قرية عسكر، اشتهرت في ذلك الزمان نتيجة لميزتين: مركز سامري لتعليم الدين، وكانت فيه دور كثيرة للدراسة. لا أدري في ما إذا كان الوضع هكذا اليوم أو دُمّر كليًّا في أحد التمردات الكبيرة، التي قام بها السامريون ضدّ البيزنطيين، الذي حصل قريبًا من سنة ولادتي.

الخاصّة الثانية التي ٱشتهرت بها قرية عسكر، ربّما أكثر من جميع قرى السامريين ومدنهم في الأراضي المقدّسة، هي كرهها للمسيحيين. من الممكن فهم هذه الكراهية على خلفية الأحكام القاسية، وقمع التمرّد الكبير الذي قاموا به عام ٥٢٩، حيث سقط منهم عشرات آلاف الجنود، ومثلها بيعوا عبيدا. ولكن لم يكن من الممكن فهم عِظم كراهية السمرة للمسيحيين ودرجة التطرّف التي وصلت إليها.

أقول لك يا أبي الطيّب إنّ كراهية سكّان هذه القرية، الواقعة بجانب سُفوح جبل عيبال الشرقية، كانت شديدة لحدّ كبير. كان سكّان القرية يسيرون بمشاعل قشّ مشتعلة، ويحرقون أماكن داستها أرجل المسيحيين لتطهير أرض القرية. 
والسامريون يكنّون كراهية شديدة ليسوعَ الناصري، ولكلّ ما يتعلّق به، لدرجة أنّه حينما كان المسيحي يخاطبهم حوّلوا الوجه جانبًا كيلا يصل زفيره النجسُ في اعتقادهم إلى وجههم. ولذلك هم يدأبون على عدم الردّ على أسئلة المسيحي؛ فسُرعان ما ييأس ذلك المسيحي ويتركهم لحالهم.
وأقُصّ عليك هذا الشيء، كما قصّ عليّ أبي الذي اعتاد آنذاك مثلهم، لكونه واحدًا من هذه القرية. هكذا تصرّف هو وأصدقاؤه في القرية إزاءَ وفد من المسافرين المسيحيين، الذين زاروا القرية لدرجة أنّهم لم يحترموا أنطونيوس فلقنطينوس، رئيس الوفد، ليعلمَ الجميع مدى عِظم كراهيتهم للمسيحيين.

إنّ انفصالَ السامريين عن المسيحيين، وعلاقة الكراهية لهم يتجلّيان بنحو خاصّ في شؤون الشراء والبيع. إذا جاء مسيحيّ ليبتاع منهم شيئًا ما فيحرّم عليه لمسُ أيّ شيء قبل دفع ثمنه لهم. وإذا لمسه المسيحي شعروا للحال بالإهانة، لأنّه كما يقولون دنّس المسيحي الشيءَ في لمسه بيده وجعله غيرَ صالح للاستخدام.

وإعطاء المال تُظهر ازدرائهم للمسيحي؛ ففي كلّ حانوت زُبدية كبيرة مملوءة بالماء؛ وعند شراء المسيحي لبضاعة من عندهم، عليه إلقاء الثمن في الزبدية لتطهير النقود من لمسه. وبغية درء أيّ ريب في الأمر، كان السامريون يُطلعون كلَّ مسيحي يدخل  قرية أو مدينة لهم على طريقة الدفع.

ولذلك تفهم أيّها الأب الطيّب مرطيريوس، وأنت مرافقي في ساعاتي العصيبة، كما في الساعات الحلوة، الخلفية والبيئة اللتين عاش أبي فيهما، ولم يختلف في سلوكه وأنماط حياته عن أبناء قريته. جلس على مقاعد المدرسة كباقي أبناء قريته، واسْتدعي مثلهم للالتحاق بالتمرّد الكبير ضد البيزنطيين. 

وقد تمكّن من الرجوع إلى قريته سالمًا بعد انتهاء التمرّد. وفي ذلك الحين، شاخ والداه واضطرّ لمغادرة قريته بحثًا عن الرزق، إذ تدهور الوضع الاقتصادي في منطقتهم من جرّاء التمرّدات. 

أبي تاجر القُماش

إختار أبي مزاولة تجارة القُماش. دأب على التنقّل من قرية لأُخرى لعرض بضاعته. وفي القرى، لم تتوفّرِ النقود ممّا أرغم أبي على الذهاب بعيدًا حتّى المدن الكبيرة في شمالي البلاد، صفد وطبريا. امتازت بضاعته بالجودة في أوساط كلّ سكّان طبريا الذين أكثروا من خياطة البذلات لهم، وعُرف عن النابلسيين أنّهم أفضل حاكة الأراضي المقدّسة. 


كانتِ المنافسة بين التجّار والباعة المتجوّلين شديدة، إلّا أنّ أبي عرف كيف يَرشي چناديوس، حاكم طبريا، بالهدايا من القُماش وبنعومة اللسان، فحصل منه على موطىء قدم واسع في شوارع طبريا وفي بيوت نبلائها اليهود والمسيحيين على حدّ سواء.

كان نجاح أبي في التجارة باهرًا، وسُرعان ما أقام له هناك متجرًا، اشترى نَوْلًا للحياكة وأنتج بضاعته بنفسه فابتهجت كلّ نساء طبريا. وشاع اسم أبي الطيّبُِ أڤنه في كلّ المنطقة؛ وكان أحد زبائنه الكبار جارَه تسدوك الطبراوي اليهودي، ففي كل شهر دأبت نساء بيته على المجيء إلى المتجر، لشراء أقمشة جديدة حاكها والدي. وكانت شنده أمَته الفارسية أكثرَهن زيارة لمتجر أبي. دأبت زوجة تسدوك على إرسالها أسبوعيًا للاطّلاع على ما استجدّ من أنسجة أو قماش مطرّز، كان أبي يجلبه من صور وصيدا؛ وفي بعض الأحيان كانت تبعث معها ملابس للتصليح.

أمّي شندة الفاتنة

كان زائرو متجر أبي في طبريا كثيرين، ومع هذا لم تستصعب شنده على جذب انتباه أبي، مع أنّها لم تنو ذلك في البداية. تلك التي غدت لاحقًا أمّي كانت أجملَ نساء المنطقة؛ أبوها فارسي وأمّها يونانية، وهذا الخليط منحها جمالًا نافس القمر عند الهلال. وشعرها الأشقر مسترسل بنعومة على كتفيها، عظام وجنتيها كانت عالية، أنفها صغير مستقيم، شفتاها ممتلئتان. وكانت عيناها الواسعتان الزرقاوان السماويتان كزرقة بحيرة طبريا، أكثر شيء جذب انتباه الناظر. تمتّعت بصوت عذب ناعم وأكثرت من الغناء.

تعوّد أبي أڤنه الطيّب على إيداع متجره في أيدي المخلصين له، سكّان مدينة  طبريا لمُدَد طويلة، كان يقضيها في منزله في كفر عسكر بمعية والديه ولإعالة أفراد أسرته، لا سيّما في فترة الأعياد والحجّ إلى جبل جريزيم. كان جدّي يُسهب في التحدّث معه أنّه آن أوان العمل، من أجل بيته هو، ولكن في نهاية كل محادثة كهذه، كان أبي الطيّب يُنهيها بقوله لجدّي: ”العمل وافر وأوقاتي ليست بيدي، ربّما في مجيئي القادم للقرية “.

كانت الفترات القصيرة، التي مكث فيها في متجره في طبريا، كافيةً لشنده الفارسية الفاتنة لجذب قلبه. وسُرعان ما لاحظت هي أنّ التاجر الثريّ قد ”حطّ عينه عليها“. ومن هنا كانت الطريق لوقوع الاثنين في شِباك الغرام والحبّ قصيرة. لم تمض أيّام معدودة، ولم تطُل محادثات المحبّين الصامتة، وفي عليّة متجر أبي كان يبات عند تواجده في طبريا وثمة جرت أفعال ممنوعة منعًا باتًّا بموجب توراة موسى، نبيّ بني إسرائيل.

لن أُطيل الكلام أيّها الكاهن الطيّب پرطيريوس ولكنّي أذكر فقط شيئًا ممّا سمعته من أمّي، أفضل الأمّهات، أنّه بالرغم من عدم تواجد شهود على عمل العشيقين، إلّا أنّها حبلت شنده الفاتنة مثل نساء الورى، أخذ يكبُر الجنين فيها  إلى أنّّ تعذّر إخفاؤه. أمّي شنده، التي لم تكن في عداد البلهاوات، أخبرت أبي المحتار أنّه لم يتبق لهما سوى واحدة من اثنتين: إمّا أن يشتريها من تسدوك اليهودي وعندها تصبح أمته، وإمّا لا مناص من إبلاغ سيّدها تسدوك بالأمر.

انكشف السرّ

استجاب أڤنه أبي لطلبها فورًا فافتداها من سيّدها اليهودي. ولكن إذا ظنّ أنّه بذلك ستنتهي مصائبه فقد أخطأ، لإنّها في الواقع قد بدأت. ولأجل إخفاء سبب الشراء، أخذ أبي شنده أُمّي وأحضرها إلى قريته. أقاربه في القرية،  الذين استغربوا شراء أبي لأُمّ حامل من جهة، ووهنه الروحي من ناحية أُخرى، بدأوا يشكّون في إمكانية حدوث أمور غير شرعية. وكان أبي الذي، على كلّ حال، قدِ ٱستصعب كتم سرّه، قد كشفه في إحدى حفلات التسلية مع الأصدقاء في القرية، وفيها أكثر من احتساء المشروبات الروحية.

بعد ٱنكشف السرّ، أصبحت القرية كالمِرْجل: كيف يحتفظ ابن القرية أڤنه بامرأة زانية نجسة؟ غضب كلّ أهل القرية جدّا. اشتدّ الهيجان لدرجة جعلت كلّ أبناء القرية تتجمّع في مدخل بيت والدَي أبي، وطالبوه بإخراج شنده لحرقها لأنّها حامل بالزنا. اشترطوا عليه: ”إمّا تسليمها للوأد وإمّا مغادرة طائفتنا وقريتنا عسكر ولا ترجع إليها أبدا“. 

حاصر متهوّرو قرية عسكر بيت أجدادي، وطلبوا قتل أڤنه وشنده، ولكن أبي سبقهم؛ صرّ صرّة النقود بيده، رزم بعض الحاجيات، أخذ شنده وأسرع هاربًا من الفتحة الخلفية نحو طريق جبل عيبال متوجّهًا إلى شمال البلاد.

أسرع أبي الطيّب وشنده طَوال الليلة إلى قرية حسپين، وهي طلبت أن تبات الليلة في بيته. وفي مدخل القرية اتّفق أن كنت سيّدي الكاهن مرطيريوس، وأخبرتنا عن وفاة ذلك الصديق الشهير. تفرّست بعينيك المفعمة بالحكمة في اثنينا، وبدون أن نقول شيئًا، كنت قد علمتَ بتشخيصك الذي لا يُضاهى نصفَ مغامراتنا.
التنصّر

كان أبي تحت رحمة الكهنة في نابلس طالما بقي سامريًا، وهم قد أصدروا حكمهم بإعدامه مع وأمّي. وعلى ضوء نصيحتك أنت يا سيّدي الكاهن مرطيريوس، ولكونك مُقربًا من الحاكم چناديوس، صديق أبي، قبل أبي وأمّي التنصّر ليحظيا بحماية الحاكم وليكونا في كنف أبناء قرية حسپين.

أعفى الحاكم چناديوس الفارّين من العقاب. وبتنصّرهما انتفت قدرة السامريين على إدراكهما، إذ تواترت عليهم الأحكام التي منعتهم من إلحاق أيّ أذى بالمسيحيين. وعند معموديّتهما تقبّل أبي وأُمّي أسماء جديدة؛ سُمّي أبي أڤنه بالاسم تياوناس وأمي شنده أجمل النساء دُعيت ماري.

وبعد وصولهما إلى هناك في مستهلّ العام ٥٨٠ ولدت أنا، وفي مراسم المعمودية أُطلق  عليّ الاسم موسكايون وبعد ذلك ولد شقيقاي وشقيقتي.

بعد وفاة والديّ قبل أوانهما، في البيت الذي منحتَنا إيّاه في قسيمة بجوار بيتك، عّيّنت ولي أمر العائلة اليتيمة. وبعد مدّة قصيرة، بعثتَني للدراسة في دير ناءٍ لدى المعلّم فنطلوان، وتفوّقي الفائق في الدراسة غيّر اسمي من موسكايون إلى مكسيموس.

الفهم وتنفيذ الحُكْم

ومن هذا الدير، رحلتُ بعيدًا إلى قبرص، شمال إفريقيا وروما. عدتُ إلى الأراضي المقدّسة بعد بضع سنوات من دراسة الكتاب المقدّس، وكتابة كتب دينية مسيحية ذات مستوىً عالٍ في الجدال لدرجة أن كرّستني الكنيسة مرشدًا للتائهين الذين لما يكتشفوا النور المخفيّ. 

وفي العام ٥٧٢ كنتُ في الأراضي المقدّسة، وعارضتُ الموارنة وعقيدتهم التي تناقض أُسُس عقيدتي. وقد أدّى نشاطي الكبير ضد الموارنة، الذين سمّوا باسم قدّيسهم مارون، جعلهم ألدّ أعدائي؛ لم يعتبرني الجميع مكيسموس المقدّس. أكثرَ الموارنة من وصفي معارضًا وكافرًا ولا بُدَّ قطع لسانه بسبب أقواله اللاذعة ضدّ الكنيسة المارونية.

لم يطرأ على بالي في غُضون السنوات الجمّة التي قضيتها خارجَ الأراضي المقدّسة، بأنّ قرية صباي كانت مقرّ الموارنة وحصنهم. وقد نزلت من السفينة التي أوصلتني إلى قيساريا، توجّهت نحوَ حسپين لتفقّد أقاربي في القرية،  هل أقاموا عائلات، ولا سيّما ما جرى لشقيقتي. وفي مدخل القرية قبض عليّ جدعانان (أباضيان) وصوّبا سيفيهما إلى رأسي وصاحا ”ها هو مكسيموس الكافر، ها ألقينا القبض عليه“.

هذه هي المصيبة التي حلّت بي؛ يا أيّها الكاهن سجِّل هذا الكلام، يا أيّها الكاهن الطيّب والشيخ موطيريوس، انقله لأبنائك ولأحفادك. ألا أسمعُ استعراضَ الجنود المارونيين الآتين لأخذي إلى ميدان القرية؟ أتسمع أنت أيضًا وقعَ أرجُلهم، صديقي الطيّب مرطيريوس؟

القاصّ: مكسيموس بن تيانوس.

وأضاف المحرّر بنياميم صدقة يقول : إنّ وصف علاقة الكراهية المتبادلة بين السامريين والمسيحيين، هو واقع لا ريبَ فيه، ويرد في شهادة الرحالة أنطونيوس من فلقنطيه من العام ٥٧٩م. وعقاب قطع اللسان كان أمرًا عاديًا آنذاك، أفضل من الموت“.

الحَفيدَةُ الغَاليةُ/ حاتم جوعيه

(قصيدة نظمتهاعلى لسان الجدة تخاطب حفيدتها.. لقد طلبت مني  الجدة الطيبة والحنونة أن  أكتب لها هذه القصيدة لحفيدتها الغالية").

 حفيدتي  حبيبتي  الغالية التي لأجلها يطيبُ العيشُ  والبقاءْ
أنتِ  لنا  الإكسيرُ والترياقُ  والبلسمُ  والشفاءُ
يا  مُنية  القلبِ  ويا  كلَّ الأماني  الرَّجاءْ
يا  منبعَ  الحبور أنتِ  والطُّهارةِ  والنقاءْ
وصبحَنا المطلَّ من بعد دُجًى  فيهِ  لكم  طالَ  الدُّعاءْ
يا  ملاكًا  يُعانقُهُ   الحسنُ  والبهاءْ
يا  نغمةً    سحريَّةً 
وبسمةً         هنيَّةً
وَوَردةً         نديَّةً
تفوحُ       بالشَّذاءْ

وجودُكِ  الزّادُ   لنا  في  سَغبِ  المسيرْ
يجلو  الأوامَ    كلما   طالَ   الهجيرْ
يبتسمُ    القلبُ    المُعنّى    والأسيرْ
آمالنا  الجذلى  اشرأبَّتْ  وعلتْ  أغراسُنا  بينَ  الصُّخورْ
نهرُ  الحياةِ   قد  جرى   عذبًا   نميرْ
أيَّامُنا ..أعراسُنا  مزدانةٌ  بالسَعدِ  دومًا  والسُّرورْ

حفيدتي يا بهجة الروحِ  ويا  أنشودتي الأحلى  وياحُبِّي الأثيرْ
أتيتِ  فاحلوَّتْ  لنا  كلُّ  الدُّنى  وابتسمَ  الوُجودْ
ترنَّمتْ  في  دوحها  الأطيارُ  في  أبهَى   نشيدْ 
وازدَهتِ الوهادُ  والعُمرُ انتشى وابتهجَ  المدى .. وكم  تاهَ  الصَّدى
في رعشةِ الدّهرُ الكنودْ
واخْضَوْضَرَتْ كلُّ الصَّحاري والفيافي  والنُّجُودْ
قدُومُكِ   اليُمنُ   هُنا   والسَّعدُ   والعيشُ  الرَّغيدْ
أنتِ   الهنا .. أنت  المُنى   يا   فجرَنا   المنشودْ 
أحييتِ ما قد ماتَ  فينا من سنينٍ وأعدتِ حُلمنا  الموءُودْ

يبتسمُ الفلُّ  لمرآكِ وتزدهي  الطبيعةُ والفصولْ
تشعُّ  أنغامُ السلامِ .. والورودُ عطرها كم يبهجُ الأجواءَ ..والأطيارُ والأقمارُ تشدو لمحيَّاكِ الجميلْ
والأقحوانُ..إنّهُ دومًا يغنِّي لك ثمَّ  الياسمينُ والخمائلُ.. للمدى ..والبيلسانْ
يا حلمنَا الورديَّ والشهد  المُصَفَّى  والسُّلافهْ 
يا   أملًا  مُزدهيًا  يبقى على  مرِّ  الزمانْ
بيتُنا    يشعُ    بالحُبِّ   والنورِ   والضياءْ
أجواؤُنا   دافئةٌ   وادعةٌ    تموجُ   بالهناءْ
أنتِ  أيا   شدوَ  الكنارِ  وَعَندلة   البلابلِ   في  الحقولْ
تبقينَ  سيمفونيّةً  خالدةً  تحيينَ  مهجةَ المُعَنّى  والعليلْ  
حفيدتي    حبيبتي    الغالية     الصَّغيرَهْ 
للقلبِ.. للنفسِ وللروحِ العزيزةُ  والأثيرَهْ
يا  منبعَ  الطُّهرِ وعنوانَ  البراءةِ   والوداعةِ  والسَّناءْ 
دُمتِ  لنا  يا   قرَّةَ  العينِ  ويا  كلَّ  الأماني  والرَّجاءْ

جان ميلييه ينحاز إلى الإنسانيّة/ مادونا عسكر

الإنسان عقل يفكر ويرتقي وقلب يحبّ، يدفع العقل للسّلوك بضمير حيّ وإرادة حرّة بمعزلٍ عن أيّ ضغوطات فكريّة أو عقائديّة أو أيديولوجيّة. إنّه الإنسان كما هو وكما يجب أن يكون بجوهره العاقل والمحبّ. قد نختلف على تحديد الأساليب المنطقيّة المؤدّية إلى نتائج سليمة، وقد نختلف على تعريف المحبّة وكيفيّة السّلوك فيها، وما إذا كانت مطلقة أو خاضعة إلى أصول محدّدة. إلّا أنّ الإنسان الحقّ هو الجامع في جوهره العقل والقلب اللّذين يكوّنان الضّمير. وما هو الضّمير غير عقل متّزن يتحرّك بدافع المحبة؟ وما هو الضّمير غير صوت المحبّة الموجّه للعقل؟
الأب جان ميلييه Jean Meslier، كاهن كاثوليكيّ عاش في أواخر القرن السّابع عشر وبداية القرن الثّامن عشر. إرضاء لوالديه واصل دراسته الدّينيّة على الرّغم  من عدم تحمّسه للفكرة، وما لبث أن عيّن كاهناً على رعيّة إتريبنييه Étrépigny الفرنسيّة وخدم رعيّته طيلة أربعين عاماً بهدوء ومحبّة مبتعداً عن الأضواء في عصر كانت فيه الكنيسة مسيطرة بالكامل على عقول النّاس وحياتهم ومصائرهم. ناهيك عن أنّ أي خلاف صريح لمسلّمات الكاثوليكيّة يمكن أن يجعل المخالف وقوداً لعذابات محاكم التّفتيش. 
كان الأب جان ميلييه محبوباً من أبناء رعيّته خاصّة الفلّاحين والفقراء والمستضعفين. عرف بلطفه ومحبّته وأخلاقه الحميدة ولم يتوانَ عن الأخذ بأيدي أبناء رعيّته ومساعدتهم ومساندتهم. إلّا أنّ جان ميلييه صدم الجميع بما فيه السّلطة الكنسيّة بوصيّة اكتُشفت بعد مماته تبيّن أنّه احترم العقيدة والإيمان المسيحيّ ظاهريّاً، وأمّا في السّر وطيلة أربعة عقود تبيّن الوصيّة أو الرّسالة الفلسفيّة المتضمّنة ما يقارب الخمسمائة صفحة ونشرها رودولف شارل سنة 1864 تحت عنوان "Le testament Jean Meslier"، والموجّهة إلى سكان القرى والمدن والسّلطة الكنسيّة إلحاده ورفضه للأديان وآراءه السّلبيّة فيها. ما كان سببّاً لعدم دفنه في مقابر الكنيسة وعدم تسجيله في سجلّ الموتى، ولا نعرف إلى اليوم أين دفن الكاهن الكاثوليكي الملحد. 
قد يتساءل البعض عن قدرة الأب ميلييه على كتمان سرّه أربعين عاماً. ويمكن الرّد على هذا التّساؤل ببساطة إذ إنّ الخوف من السّلطة الكنسيّة المسيطرة كان سببّاً منطقيّاً لعدم إعلانه عن إلحاده. فلا ريب أن ميلييه لم يرغب في المثول أمام محكمة التّفتيش أو الموت حرقاً أو ذبحاً أو  شنقاً. وقد يحتار البعض الآخر في سلوك الأب ميلييه تجاه رعيّته وأمانته وتفانيه في الخدمة. وفي هذا كلام آخر، واستشفاف للحالة الإنسانيّة الواحدة في كلّ زمان ومكان. فعلى الرّغم من الضّغط النّفسيّ الّذي عاشه ميلييه كونه غير قادر على إعلان إلحاده ومناقشة أفكاره المعتمدة على النظريّة العقليّة فقط. وعلى الرّغم من رفضه للعقيدة المسيحيّة ورفضه للأديان بشكل عام، وعلى الرّغم من الواقع المعيش المعاين لفظائع كثيرة ارتكبت بحقّ أبرياء إلّا أنّ الأب جان ميلييه تصرّف كإنسان. وأمّا أفكاره وقناعاته الإلحاديّة وآراؤه الدّاعية للاشتراكية الّتي تأثّر بها الكثير من مفكّري عصر التّنوير، فلم تقف حاجزاً أمام إنسانيّته الجامعة للعقل المفكر والقلب المحبّ. 
تصرّف جان ميلييه بضمير حيّ ومحبّة حقيقيّة تجاه الفقراء والمستضعفين وذوي الاحتياج، مع أنّه كان بإمكانه أن يستفيد من كهنوته آنذاك ويسلك سلوك السّلطة الكنسيّة وينزع طبيعيّاً إلى الانتقام أو الظّلم. كما كان بإمكانه أن ينتقد السّلطة الكنسيّة ويتحدّاها وينتهي به الأمر إلى الموت. أو أن يتصرّف كملحد في زيّ كاهن أو يمارس كهنوته كوظيفة. إلّا أنّ ميلييه تصرّف إنسانيّاً وضميريّاً وبإرادة حرّة بمعزل عن أيّ منهج عقائدي أو إيمانيّ. ولا ريب أنّ الدّافع هو المحبّة. فلئن قيل إنّ الأب ميلييه كان محبوباً من رعيّته فذاك يعني أنّه تصرّف عمليّاً بما يتوافق وهذا التّفاعل المحبّ. إذ لا يمكن للإنسان أن يشعر بضعف الآخر وحاجته أيّاً كانت الحاجة، سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، إلّا إذا حمل في عمقه المحبّة. ولا يمكن للإنسان أن يحمل رؤية للمستقبل داعياً من خلالها إلى توحيد الصّفوف وإلغاء الطّبقيّة الاجتماعيّة إلّا إذا تمتّع بعقل مثقّف ومتّزن يدفعه إلى احترام  الحرّيّة والحقوق الإنسانيّة. ولا يمنع الإنسان عن الظّلم والانتقام إلّا الضّمير الحيّ ونبذ السّلطويّة. فيسعى إلى الاهتمام بشأن الآخر ومساندته وتشجيعه إلى المضي قدماً. 
القيمة الإنسانيّة واحدة، أكان الإنسان ملحداً أو مؤمناً أو علمانيّاً. وغالب الظّنّ أنّ هذه التّصنيفات تخلق حواجز بين البشر وتقيّد إنسانيّة الإنسان وتحجب عنه الرّؤية العميقة لأخيه الإنسان فيتعالى ويتكبّر وينغمس في الإعلاء الوهميّ للذّات. فإمّا يشعر أنّه ملاحق أبداً وإمّا يشعر أنّه محور الكون. قد تكون هذه التّصنيفات أسهل للعقل إلّا أنّها غير موجودة في حقيقة القيمة الإنسانيّة. فالإنسان هو الإنسان، وإذا ما تكاسل في السّعي إلى تنمية العقل وتطويره وتثقيفه، وتوانى عن اكتشاف عمق المحبّة المتأصّلة في داخله، وتراخى في تدريب ذاته على مناقشة الآخر واحترام عقله وإرادته وخبراته وتجاربه، بقي مشروع إنسان ملقىً على حافّة هذا الوجود.      

إليها .. ناديني/ د. عدنان الظاهر

أولاًّ ـ
مَنْ يرفعُ أوزارَ التوقيتِ الزاري ؟
الكونُ منازلُ طَقْسِ الأبراجِ الحُسنى
عالي شوقي سهمُ النارِ
يمضي بَرْقاً خطْفا
سمّوها ما شئتمْ وَعداً خُلّبَ صِرْفا
تأتي تسحبُ ثوباً تَرْفا
تمشي والمسعى بوّابةُ عِشتارِ
تنضحُ من خُضرةِ عينيها عِطرا
ناموسَ أريجٍ أَزَليّا
شيلي أطرافَ الزينةِ بالطَرْفِ الواطي
حتّى تتأرجحَ دِلاّ
غَصّتْ أو غضّتْ طَرْفا
قدّمتُ شهادةَ ميلادي طوعا
خشيةَ أنْ تنسى عَهْدا
أنهكني شمألُ وُدِّ الوردِ الدافي
أغراني ونهاني
إزوّرَ وقدّمَ جَمْرةَ نارالإنذارِ 
قِسمةَ إنكارٍ ضيزى
ثانياً ـ
ناديني ..
راويني جُندَ شياطينِ التكوينِ
ماذا يجري لو لمْ تأخذْ شَكْلاً فَذْا
هذا يعني أنّي مُستثنى
برّرتُ التصعيدَ الجاري آليّا
وقّعتُ التوكيلَ الصُوريَّ وجفّفتُ منابعَ أخباري
ناديني ..
عَدّلتُ خُلاصةَ ميزاني لَهْوا ـ جِدّا
هذي أوراقي تتساقطُ حَرْفا سطرا
ماذا لو دقّقتُ وأسرفتُ كثيرا
أفما كان الأَولى رأبَ الصَدْعِ المُتكاثرِ فِطريّا
ناديني لا تُخفي عنّي شيئا
شأني ما فيكِ من شأني
رُدّي إحسانَ الرافعِ للأعلى غُصنا
أغصانُ هوى اللقيا مَدّتْ ظلاّ
دارُكِ أفضلُ من داري شمّاً ضمّا
راعي أغصاني
فيها نفحٌ يتقحّمُ جُدراني خَرقا
أرعى ما فيكِ وأنسى قَدَراً شقَّ طريقا
ناديني .. إني ألهو .. إني أهوى
طوقٌ يستقطبُ قُطْبا
لا كانَ الآسُ قريباً لا كانَ الماسُ
أكتبُ شِعْراً أقربَ للجَرْسِ الخافي
أقربَ للخمرةِ من أنفِ الحاسي.

صفقة بيع أم خطوة على طريق التصفية الكبرى/ جواد بولس

تمنى البعض أن تتحول قضية صفقة بيع مئات الدونمات من أراضي الكنيسة اللاتينية في مدينة الناصرة الى ملف يشغل الرأي العام العربي المحلي، وإلى شاغل يستقطب اهتمامًا جماهيريًا واسعًا، أو على الأقل نخبويًا وقياديًا لافتًا، إلا أن ذلك لم يحدث على الاطلاق؛ فباستثناء فورة احتجاجية عارضة وضامرة أثارها بضع عشرات من رعايا هذه الكنيسة العرب، لم يقترب منها أحد ولم تسترع تفاصيلها غيرة الناس، لا سيما المسيحيون منهم، ولا حتى فضولهم.

تاريخ صفقات بيع أوقاف الكنائس، على اختلاف تسمياتها، في بلادنا طويل ومستفز؛ وسيبقى نزف هذه "الأرض المقدسة" فوّارًا ومرهقًا، خاصة وجميعنا يعرف من كانوا المتورطين في هذه التسريبات وهذا التفريط المذهل، سواء من رجالات اكليروس أو من منتفعين وسماسرة مدنيين ورجالات إدارة تنفذوا في ظلام أروقة تلك الكنائس؛ ونعرف كذلك من كان المستفيد من هذه البيوعات وفي حسابات من أودعت ريوعها.

لقد حاولت، في الماضي، بعض الجهات والمؤسسات والشخصيات الغيورة، من رعايا معظم الكنائس الكبيرة في البلاد، التصدّي لأولئك العابثين برقبات الأوقاف وفضح فسادهم وكشف معاصيهم؛ لكنهم، رغم ما نشروه، من حقائق مثبتة وبيّنات دامغة بحق من كانوا شركاء في تلك الصفقات، فشلوا، مرة تلو الأخرى، بإقناع أولي المكانة والقدرة بملاحقة الجناة وبمحاكمتهم. فشلوا وبقوا، مع ملفاتهم، أسرى لليأس وللحسرة وشهودًا على كيف تولد في مطارحنا الهزائم وكيف يبقر أمام أعينهم الحق ويتسيّد الباطل.

لا أستدعي هذه الغصة إلا لأستنفر مرة أخرى ذلك السؤال الذي يؤرق كل متابع لتفاصيل هذه الملحمة، فلماذا وكيف نجح الجناة ومعاونوهم بالبقاء في مناصبهم وبالنجاة من المحاسبة ومن العقاب؟

لقد تطرقنا في الماضي لجملة من المسببات التي أفضت إلى تلك الخيبات والكوارث ؛ فمن يتحكم في أملاك معظم هذه الكنائس هم على الغالب أكليروسات غريبة عن البلاد وعن أهلها، ومعظمهم يتصرفون باستعلاء استعماري قبيح تجاه الكهنة العرب أنفسهم وتجاه أبناء الكنائس "المحليين".  يفدون إلينا من دولهم خدّامًا لمشاريعها ولا تربطهم مع تراب بلادنا وشرقنا أي مشاعر انتماء حقيقية، فلا يعنيهم كونه وطنًا لنا بل هو عندهم مجرد مكان يؤسسون عليه رواياتهم الدينية الضيقة وحسب.

بعضهم يستغل مشاعر المؤمنين البسطاء الصادقين الذين يرفضون تصديق أي تهمة توجه لرسل الكنيسة "الأطهار"، ويعارضون مساءلتهم باصرار؛ وآخرون يتحالفون مع عملاء محليين فيشترون ذممهم بالمال أو باقتسام المنافع.

لقد أدّت هذه العلاقة المرضيّة إلى ولادة حالة من التنافر والاغتراب المزمنين بين الكنائس ومن يحميها وبين اتباعها، خاصة بعد أن عزّزها عاملان محليان لم يكونا أقل خطورة منها؛ فاعتبار قضية الأوقاف المسيحية، من قبل حكومات الدول العربية، مسألة كنسية خالصة، سوّغ، عن جهل أو عن قصد، لأرباب تلك الكنائس إمكانية التصرف المطلق بها، وأجاز لهم فرص تسريبها المعلن حتى لو تعارضت تلك البيوعات مع مصالح الدول الحقيقية أو مع مصالح المؤمنين العرب ومشاعرهم الوطنية؛ ثم تضافرت في العقود الأخيرة تداعيات هذه الحالة مع تزايد مشاعر الخوف بين السكان المسيحيين العرب خاصة عندما اعتبرتهم بعض الحركات الإسلامية السياسية المتزمتة الناشئة مثلهم مثل "أعداء الأمة الصليبيين" ، فعُدّ كل المسيحيين في الشرق والغرب همّاً، وجميعهم ،عند هؤلاء ،أبناء جزية صاغرون وللاسلام أعداء.

خوف العرب المسيحيين، المبرر أحيانا وغير المبرر أو المصنّع في أحايين أخرى، دفع الكثيرين منهم أما إلى الهجرة أو إلى اللجوء لتلك الكنائس وللاحتماء باثواب كهنتها الذين انبروا بدورهم يغذّون هذه الظواهر بخبث وبنهج متعمد ومدروس، وفي كلتا الحالتين، الهجرة أو التذلل، لم تعد املاك الكنائس وأوقافها تعنيهم، ولا الدفاع عنها واجبهم.

 لقد قرأنا بيان البطريركية اللاتينية حول ما دفعها لبيع ثلاثمائة دونم من أراضي مدينة الناصرة لمستثمر عربي من الجليل، وكان تبريرها المعلن يشبه إلى حد بعيد ما ورد في بيانات معظم الكنائس الأخرى حين استعان رؤساؤها بذريعة وجود ديون كبيرة على كنائسهم تضطرها لبيع بعض ممتلكاتها لسداد تلك الديون.

إنها أعذار تفوق بقبحها ذنوبهم؛ لكنني، رغم ذلك، تساءلت من كان مفترضًا  وقادرًا أن يلاحق رجالات الكنيسة اللاتينية، كهنة أو موظفين إداريين، ومن هم المعنيون بالكشف عن خلفيات هذه الصفقة أو غيرها، ولأجل أي هدف؟  

لم يقف في العقود الماضية سوى قلة ضد بيوعات أملاك الكنائس في مواقع أهم من موقع هذه الصفقة، ولن يقفوا اليوم ولا غدًا؛ فقيادات أحزابنا السياسية والمؤسسات المدنية والحركات الدينية تخلت تاريخيًا عن دورها في هذه القضية الحارقة ولم تتحرك حين ضاعت الأملاك في مواقع إستراتيجية في القدس ويافا وعكا وقيساريا وحيفا وطبريا والناصرة وغيرها. لقد شجعت مواقف هؤلاء القادة رؤساء تلك الكنائس وعملاءهم المحليين على الاستمرار في تسريب العقارات وبيعها، كما نشر مرارا وتكرارا.

 بالمقابل لم يستطع العرب المسيحيون، ولن يستطيعوا لوحدهم، أن يمنعوا التفريط بالاوقاف والتصدي للتآمر الخطير عليها؛ فاذا ما حيّدنا أسباب خوفهم وخيبتهم ودوافع عزوفهم عن الانخراط في مقاومة هذه البيوعات، سنجد أنهم غير قادرين موضوعيًا للقيام بهذه المهمة، وذلك بسبب قلة أعدادهم وتشتت انتماءاتهم الكنسية، فعددهم في إسرائيل لا يتعدى المائة وثلاثين ألف نسمة (وفي فلسطين الخمسين ألف نسمة)؛ وهم موزعون على حوالي خمس عشرة كنيسة، ويسكنون في حوالي عشرين مدينة وقرية، يقع معظمها في شمال إسرائيل، فعلى الرغم مما يقال في صالح التسامح بين الديانات ومصير الإخوة المشترك تبقى هذه مجرد فقاعات وهمية وزركشات عابرة، فالحقيقة هي، أن العرب المسيحيين في فلسطين، تحولوا إلى مجموعة سكانية هامشية، أو إن شئتم لمجرد حمل زائد على مسرح البلاد المضطرب.  

لم تبدأ القضية مع صفقة الناصرة الحالية ولن تنتهي بها؛ فما يجري في هذه الساحة وقضية تناقص أعداد العرب المسيحيين في منطقتنا هي في الواقع عوارض تشي بوجود حالة مستعصية وخطيرة عنوانها كان وسيبقى: مصير الوجود المسيحي العربي في فلسطين تحديدًا وفي الشرق عمومًا.

 لقد وصلني بالتزامن مع اندلاع قضية بيع الأراضي في الناصرة نداء أطلقه كل من غبطة البطريرك ميشيل صباح، الكنيسة الكاثوليكية/ اللاتينية، ونيافة المطرانين منيب يونان، الكنيسة اللوثرية، ورياح ابو العسل،الكنيسة الانجيلية؛  يعلنون فيه موقفًا واضحًا من ضرورة التزام اسرائيل بقرارات هيئة الأمم المتحدة وإنهاء الاحتلال الاسرائيلي واستعمارها للاراضي الفلسطينية، ويعبّرون عن قلقهم من استمرار معاناة ابناء شعبهم الفلسطيني ومن الظلم الواقع وغياب العدل عن ارض السلام، ويناشدون العالم بضرورة العمل من اجل إقامة دولة فلسطين المستقلة.

انه نداء هام ولافت وواضح أطلقه ثلاثة من رجالات الدين الفلسطينيين المسيحيين الأجلاء.  وبمقدار كونه هامًا بما حمل، فهو كذلك لافت بما غاب عنه؛ إذ لم يتطرق البيان إلى قضية بيع الأراضي ولا إلى ما أوردته الكنيسة كذريعة لإبرام الصفقة.

نعرف البطريرك صبّاح كانسان جريء ومستقيم وواضح، واعتقد ان عدم تطرقه في ذلك البيان أو في بيان غيره لقضية الصفقة ولما سبقها من مظاهر فساد في مشروع البناء في كنيسة عمان، وفي صفقات أخرى، لم يكن إلا من باب حرجه ومشاعره تجاه إدارة كنيسته في روما.

إنها مفارقة وقد تكون هامشية، لكنها حتمًا هزة تذكرنا مجددًا اننا قاب غفوة أو اقرب من النهاية، فجلاء المسيحية العربية عن الشرق قد حسم وحتى لو بقيت بعض آلافهم في فلسطين الكبرى، إلا أن هؤلاء لن يشكلوا أي مركب سكاني ذا وزن اجتماعي ومعنى، بل سيكون بقاؤهم كما قلنا مرة، " كمحميات بشرية طبيعية" ستشهد على جزء من تاريخ المكان الدارس، أو بقاء أفراد ومجموعات صغيرة منهم تستعرض في المستقبل كأحفورات تنطق باسم ما ومن كان هنا.