هروب عند منتصف الليل/ ايمان الدرع



ناداني بصوته الأجشِّ المجلجل ، ارتجفتْ أضلاعي،...فتحتُ الباب بحذرٍ ،نزلتُ درجات السلّم على أطراف أصابعي ، وكأنّي أستعدُّ لملاقاة غولٍ كاسرٍ.

كرّر النداء بصوت أعلى ، أجبته مذعورة : نعم أبي .. هاقد وصلت.

عنّفني على تأخّري طالباً مني تهيئة المكان من أجل سهرته المعتادة التي تجمعه بأصدقاء اللَّهو والمجون، وعبيد سمومٍ بيضاءَ أقحموها إلى حياته كغربان سودٍ تحت جنح الظلام .

لينزعوا بأظفارهم المهووسة .كلّ شيءٍ حلوٍ في هذه المملكة الصغيرة ، ليحيلوها إلى يبابٍ ، يرتعون فيه و يعربدون دون قيود .

تنحنح أبي لثقلٍ في رأسه، ومدَّد جسمه على الأريكة وراح في عالمه المفصول عن عالم بيته .

يحاور بغموضٍ وصمتٍ قصوراً موغلةً في السراب ،ويجوب ببحارٍ لا وجود لها .

إلى أن غالبه النَعاس فأغمض جفنيه وتركني أتخبّط في عذاباتي ، وأنا أعيد ترتيب الأشياء التي بعثرها في عالمه المجنون هذا .

أزيل بقايا السجائر المحشوّة بمخدّراتٍ أزكمت أنفي برائحة مقزِّزة ، صرت أميّزها بنفورٍ واضحٍ .وأحمل الأكواب العالقة برواسب أشربة شتَّى إلى المطبخ في الصالة.

وأناجي أمي بدموع ساخنة ، أشكوها للسماء التي كانت تمطر بغزارة في الخارج ،لأنها تركتني وحيدة مع ألمي، ومع بقايا رجلٍ كان يوماً أبي الذي يضج بالحياة والبِشْر ، ويطفح بالخير والطيبة . قبل أن يدخل نفق الإدمان.

وأهزّها بعنفٍ وأعاتبها بقلبي المجروح أسألها :كيف طاوعك قلبك على البعد عني وأنا وحيدتك ؟ لماذا لم تصبري؟ لمَ رحلتِ وأفرغت هذا البيت من طيفك الجميل الذي كان يحميني ؟

ولفرط خوفي ألا أكون قد آلمت أمي حتى في طيفها ..، عانقتها و قبَّلتها ، وبكيت متذكّرةً أوجاعها ، وآثار لكمات أبي على جسدها ..، وصدى أصوات تعذيبها الذي سكن جدران هذا البيت البارد -بلا مجيب و لكم حاولت أن أردَه عنها ..أجذبه من ملابسه متوسّلةً ، فيركلني بقدمه ويسطحني أرضاً ،فيصيب أمّي مرّتين : مرّةً بأوجاعها والأخرى قهراً على ابنتها.

ولأنّه مشلول الفكر طلّقها ثلاثاً متتابعات في أزمنةٍ شتى .

بوعي ٍ بعد أن أضاع منه كلّ شيءٍ ،و مرَّات عديدة وهو تحت وطأة الإدمان ..

وبين هذه وتلك كان يتجلَّى ضعفه ، وخساراته ، وهزائمه المعيشيّة التي انهارت ، وعصفت بكلِّ ماجنى عبر أسفاره و إبحاره طلباً للرزق الحلال .

اِنهار هذا الصرح الجميل -الإدمان- هذا الوحش الكاسر انقضّ على عيوننا الفرحة فاقتلعها ، خنق بسماتنا و أفقرنا .

و ضاعت أمّي و ُأبعدت أمي .... أمي الطاهرة الحلوة التي غادرت مملكتها الخربة مرغمةً بعد أن استماتت في الدفاع عنها بلا جدوى

غادرتني في عتمة الّليل ، و هي تضمّني بانكسارٍ إلى صدرها المكلوم ، و زرعتْ فيّ نبضها ومآقيها الدامعة، فما استطعت الفكاك من أسرهما حتى هذه اللحظة ،و ما استطعت أن أنسى صوت إطباق باب السيارة التي أقلّتها ، و كأنها أرتجت على آخر معاقل السعادة في قلبي

اليوم هي في مملكةٍ أخرى ..... مملكةٍ تعجّ بأولادٍ ليسوا منها و ليسوا من دمي .

هربت من ظلم الزوج و الأهل إلى واحة مجهولة , علّها تستنشق فيها رائحة هواء نظيف غير هذا الهواء الفاسد الذي سرطن رئتيها عند أبي .

لعلها ترى نور الشمس , و تحسّ بدفئها بعد هذا الصقيع

شخير أبي يعلو و يوقظني من شرودي، و هو يتقلّب على الطرف الآخر من الأريكة...

أسرعت إليه بوسادة أخرى علّها تريحه , و أرخيتُ على جسده الموهن لحافا ًصوفيّاً يقي أضلاعه المتعَبة من البرد الذي يحاصرنا .

شوقي لأمي اعتصرني حتى آخر نقطة في عروقي ...... ارتديت ملابسي على عجلٍ ، سمع وقْع خطواتي، و ربما نبضاتي، سألني كالمغيّب عن وجهتي:

قلت له سأعود بعد ساعة في أمر هام طارئ .

لست أدري إن سمعني أم لا.. خلته عاد إلى عالمه المحموم بالهذيان المنسلخ عن الواقع

 ************************************

قرعتُ بابها تسبقني أشواقي إليها , تسمّرتْ عند رؤيتي و على استحياء استقبلتني.

رميت بنفسي عند أحضانها , قلبها كنوز عطرٍ و واحة أمانٍ و لكنه ليس كما توقعت من القوّة والشوق.

شاورتُ نفسي أن أعودَ من حيث أتيتُ، و قد هممتُ، لولا أن سمعتُ صوت زوجها الهادر يسأل عن القادم ,

غالبتْ أمي ارتباكها , و أمسكت بيدي تجذبني نحو الداخل قائلة : تعالي سلّمي على عمّك . ارتطمتُ بعينيه الحادّتين و يده الجافّة و هو يصافحني و يقول مرغماً أهلا و سهلا ...

مجاملةً واضحةً لشخصٍ لا يعنيه، أتى متطفّلاً ليخرب عليه سهرةً ملوّنةً بكلّ الأصباغ ،كتلك التي كانت تضعها أمي على وجهها عربون صفقة تبادلا فيها الأدوار:

هو بسكنه و ماله و اسمه، و هي بشبابها و جمالها... و بإشباع نهمه و غرائزه على حواسٍ لم يستطع إسكاتها حتى بحضوري ،إذ كانت ردوده تشي بانزعاجٍ لضيف المساء هذا و هو يطلب منها التعجيل في إعداد القهوة

أسكتتْ أمي صوت المسجّل الذي كان يعلو بنغمات راقصة مجلجلة، و لمحتُ وشاحها الأحمر الذي كان معقوداً على خصرها مركوناً على عجلٍ في إحدى الزوايا.

ارتبكتْ المسكينة و هي تجاهد في تقليل جرعة جراحي و آلامي ببعثرة صور شتى فرضت وجودها في هذه الصالة الفخمة التي تضمّ حبيبتي وقد صارتْ بقهرها بعيدةً ......... بعيدة لا وجود لها إلا في ذاكرتي الطفوليّة التي لا تفارقني

انكسارها و تذلّلها أوجعني ، انسحبت معتذرةً ........ عانقتها عند الباب مودعةً

امْتزجتْ أنّات مآقينا تحت المطر العاصف بعنفٍ، شدّتْ بأناملها معطفي على جسدي ، و لفّحتني بوشاح الصوف و هي توصيني بنفسي .

تقاذفتني الريح عند مفترق الطرق

**********************************

تمشّيت في الأزقّة العتيقة بدمشق وحدي ،علّني أبثّ بيوتها مكنونات صدري، أسترق ومضة دفءٍ متسّربةٍ خلف الأبواب الّتي كان يجمعها أناس يضحكون ، يأكلون اللقمة معا , يتسامرون ، يختصمون و يصطلحون ، و ينامون في آخر الليل تحت سقف واحدٍ.

تذكّرت ملامح خالتي الصغرى الأقرب إلى نفسي التي تقطن في حلب بعد زواجها .......

أحسستها تناديني عن بعد، و تشاركني جولتي المسائية.

لحظة تمرّد أفقدتني صوابي ’ طرأت لي فكرة ما استطعت أن أخمدها، أردت السفر إليها مهما كانت الأسباب و النتائج , صدري لم يعد يحتمل الوجع أكثر.

توجّهت إلى محطّة القطار، اقتطعتُ تذكرة سفر، عرفتُ أنّ موعد الانطلاق عند منتصف الليل

جلست على مقعد قصيّ أنتظر موعد الرحلة , أتناول لقيماتٍ ساخنةً لأُسكت جوعي

ثلّةٌ من الشبّان الذّين يملؤهم الّصّخب المجنون بكل أشكاله يتقاربون لمقعدي , أدرتُ ظهري بقسوةٍ باديةٍ ، و أسدلت الوشاح على قسماتٍ كثيرةٍ من وجهي ، و استنفرت كلبؤةٍ متوحشّةٍ تُخيف من يقترب منها بزمجرةٍ كامنةٍ ، و أظفارٍ مُعَدّةٍ للنشْب في حال الاقتراب.

تباعدوا عنّي تلحق أذني تعليقاتهم السّاخرة بأني: لعلّي مجنونةٌ.. مُعَقّدة.. بشعة الملامح.

ارتحت قليلا واعدةً نفسي بأحضان خالتي الوادعة التي عاصرتْ المعاناة منذ بدئها ،و قد كنت أبّثّها شكواي عند كل عشيّةٍ، فتصبّرني ،و تمسح دمعتي، و تواسيني بفرجٍ قريبٍ وجدته لفرط تعاستي بعيداً.

و الآن بعد زواجها نأتْ قافلتها عن طريقي و ابتعدت ، فلكم بعُدت عني الأشياء التي أحبها ؟؟

هذا قدري...

لاحتْ لي و من خلف نافذة الاستراحة , قطط الّليل الشاردة بأصباغٍ رخيصةٍ و ألبسةٍ فاضحةٍ ما وُجِدتْ إلا لتنادي على فاكهةٍ كَبُرَتْ على سمادٍ صناعيّ ٍ ، مزدانةٍ من الخارج ، خاويةٍ عجفاءَ من الداخل ، تعجّبْتُ من هذه الدنيا.؟؟؟

جلستْ قربي امرأةٌ تلاطفني و تستأذنني الجلوس , أوغلتْ بفنّ ٍ بتفاصيل حياتي ، و بذكاءٍ شديدٍ حاولتْ الولوج إلى قهر نفسي الذي كنت أداريه عنها .

انفلتّ من حوارها بإجابات مقتضبة تنمّ عن ضيقٍ من محاصرتها لي بالأسئلة التي كانت تلتقطها برادارها العجيب الغريب .

ولما أيقنتْ ضجري منها دسّتْ في يدي عنوانها بكثيرٍ من الودّ و الحبّ. كدتُ أن ألقي بنفسي بين ذراعيها لأبكي و أبكي و لكنني لم أفعل.

يا الله .... اشتقت إلى بيتي، تذكّرت أبي ... بقايا أبي ... سمعته يناديني بجسده المكلوم وهو يستنجد بي ، يريد أن آخذه كطفلٍ مذعورٍ ، مُسْتضعفٍ إلى غرفته بعد أن دارتْ به الأرض .

مزّقتُ تذكرة السفر ، سابقت الريح إليه ، الأمطار تلسعني و البرق ينشقّ عن ضوءٍ يفضحني و أنا أهرول بين السيارات و المارّة المشدوهين لهذه العجلة ، لم يكن يهمني إلا الوصول لعتبة المنزل

أدرت المفتاح ........... الدخان الأزرق الكثيف يعلو المكان , وصدى ضحكات مجنونة تجلجل وتزيدني اختناقاً ....

حاولت أن لا أمعن النظر، هممت في صعود السُلّم لغرفتي ...... أيادٍ شدّتني إلى الصالة تعبث في جسدي ، قُبلات محمومة تناوشني ، صرخت أستنجد بأبي

أبي أبعد الغربان عني...

أبي أبعد الغربان .... اختبأت خلف جسده الهزيل ... ما استطاع أن يفعل شيئا

أبيـــ يييـ ييــ احمني منهم.......

جاوبني بشفاهٍ مرتعشةٍ تهذي ما بك ....؟ ما بك....؟

اجلسي معنا ....

اشتدت أناملهم اشتعالا على جسدي... و قيت بكفي أدفع ما استطعت عني أذاهم , و لما انفلتّ ُ منهم مبتعدةً ، رمقت أبي ، وجدته ما زال مغيبّا و لكن عينيه الحمراوتين كانتا تبكيان.. تبكيان بدموعٍ ما استطاع أن يكتمها رغم فقد وعيه وهذيانه ، كان أضعف من أن يدافع عني

كأن سلاسل من حديد قيّدتْ أطرافه، وفكّكت ذرّات شرفه و دمه .

صفقتُ الباب خلفي و أنا أغادر المنزل من جديد ،قادتني قدماي المقرّحتان إلى جدتي المسنةّ التي تقبع في بيت بسيط منسيّ بعد أن ذهب عنها الشباب ، و المال، و الأهل ، منعزلة كشجرةٍ يابسةٍ تنتظر مصيرها.

كثيرة النسيان كانت و لكنها بشوشة الملامح.....

ما زال الخير يسكن قلبها الواهن ....

ابتسمتْ لي عيناها قائلةً : يا ابنتي ادخلي بسرعة ثيابك مبتلّةٌ ...و اعتصرتْ ذاكرتها جاهدةً في تذكّر اسمي , عانقتها , , أمطرتُ دموعاً غزيرةً سالت على أخاديد وجهها .

أمسكت بيدي برفق إلى أريكة مهترئة قرب الموقد.

قالت لي : بردانة أنت يا عين جدّتك ...؟؟ ثم أراحتني، دثّرتني، هدّأتْ قلبي ، قدّمتْ لي صحن تمرٍ عربيّ ٍ كانت تأكل منه .

ابتسمتُ في وجهها استأذنتُها المبيتَ عندها ....؟؟

رحّبت بي قائلة : إن لم يسعك قلبي تسعك عيناي

جلستْ قربي أتنسّم عبير طهرها ، و حدّثتني ببراءة الأطفال عن كلّ ما يجول بعالمها من أحداث حتى استراحت حواسي و غالبني النعاس

و لمّا أطفأتُ النور أستعرض أحداث يومي الهارب من فوهة بركان دائم الحمم , تلمّست بيدي هذه الأريكة التي أنام عليها ، وجدتها متعبة ، بسيطة ، و لكنها صلبة ٌ ، نظيفة ، تقاوم الزمن . وحمدت الله في سرّي لأنه غمرني بهذا النور الذي أشعل في قلبي الأمل من جديد.

و تأملت السماء قبل أن أغفو و أنا أمنّي النفس بغدٍ أجمل.

تذكرت في سرّي الورقة التي دسّتْها امرأةُ المحطّة في يدي ، نزعتها من معطفي ... مزّقتها بين أصابعي منتشية بالنصر.....

رغم كلّ ِ الألم ......

هناك تعليق واحد:

  1. سردك الحكايا جميل جعلني أعيشها لحظه بلحظه..شعرت بالخوف من الأيادي التي تعبث بجسدك..شعرت بالخوف من سيدة القطار لكنني ارتحت عندما وجدي الأمان والطمئنين...

    ردحذف