الكرة الأرضيّة في حالةِ اشتعالٍ متواصل/ صبري يوسف

 


انشراخاتٌ مخيفةٌ في قيمِ الجمالِ والحبِّ والوئامِ وإنسانيّةِ الإنسانِ  

انحدارٌ مرعبٌ في ميزانِ العدالةِ والأخلاقِ والرُّؤيةِ الخلَّاقةِ

    




نهضتُ من نومي بعدَ سهرٍ طويلٍ، وبعد اشتغالٍ متواصلٍ على أحدِ نصوصي في هدوءِ اللَّيلِ. تنبعثُ نصوصي من حالاتِ تأمُّلٍ عميقٍ، أمرُّ عبرَ تأمُّلاتي أحياناً في حالةِ انشغالٍ لمجرياتِ الأزماتِ والأحداثِ الكابوسيّة المتربِّصةِ بخاصرةِ الكونِ، لما فيها من انشراخاتٍ مريرةٍ، وتصدُّعاتٍ في علاقاتِ البشرِ معَ البشرِ، وخلخلةِ علاقاتِ الدُّولِ معَ الدّولِ، في الوقتِ الَّذي يتوجّبُ على البشرِ أن يبذلوا جهوداً مكثّفةً كي يعالجوا واقعَ ما نراهُ متشظِّياً من خرابٍ ودمارٍ في الكثيرِ من الصّراعاتِ والتَّناحراتِ الّتي تنشبُ في العديدِ من دولِ وقارّاتِ العالمِ. قرفٌ مريبٌ يغلِّفُ خاصرةَ الكونِ، وضمورٌ في الرُّؤيةِ يموجُ في آفاقِ الانبعاثِ، فشلٌ غيرُ مسبوقٍ طغى على علاقاتِ البشرِ معَ بني جنسِهِم، حروبٌ ضاريةٌ ولا في عالمِ الخُرافاتِ تُحاكُ في الأقبيةِ العميقةِ، بعيداً عن رؤى الخيرِ ومرافئِ الهناءِ. تزدادُ الحروبُ شراهةً وتناطُحَاً في أرجاءِ المعمورةِ بينَ البشرِ. حروبٌ عقيمةٌ لا تنتهي إلَّا بانتهاءِ أصحابِ الضّمائرِ الميّتةِ. تاهَ الإنسانُ عن مرامي السَّلامِ وظلالِ الوئامِ، متوغِّلاً في أعتى دهاليزِ الشَّقاءِ. جنونٌ حتَّى النُّخاعِ ما أراهُ سائداً في أزقَّةِ الكثيرِ من مدائنِ الكونِ. صراعاتٌ مفتوحةٌ على مساحاتِ غباءِ قادةِ هذا الزّمانِ، تناحراتٌ لا حصرَ لها تتناطحُ، وتهدرُ دماءَ آلافِ بل ملايينِ البشرِ، خلخلَتْ هذه التّناطحاتُ وجهَ الدُّنيا من أجلِ قشورِ الحياةِ. أهدافٌ سقيمةٌ أودَتْ بحضارةِ الإنسانِ إلى أبشعِ مرامي القُبْحِ والانهيارِ. لا أرى وئاماً يلوحُ في الأفقِ البعيدِ ولا حتَّى في الأفقِ القريبِ، ولا أرى رؤيةً خلَّاقةً تقودُ إلى ردمِ آفاتِ الشّقاءِ. انشراخٌ تامٌ في أبجدياتِ الحوارِ. ازدادتِ المواجهاتُ انشراخاً، أرى العالمَ في حالةٍ غليانٍ ولا في عصورِ الحجرِ، تشتعلُ فيهِ النِّيرانُ من كافَّةِ الأطرافِ. شراراتُ الغباءِ تزدادُ انتشاراً عاماً بعدَ عامٍ، صراعاتٌ مشبَّعةٌ بشهوةِ الجنونِ وشتَّى أنواعِ الغدرِ. تطوُّراتٌ دراماتيكيّةٌ موغلةٌ في الوحشيّةِ، سادَتْ في عقولِ سادةِ القومِ، قادَتْ رؤاهم العقيمةُ العالمَ إلى تيهٍ مفتوحٍ على آفاقِ الضّياعِ. 

هل بنو البشرِ ما زالوا بشراً، أم أنَّ الكثيرَ منهم قد تحوَّلوا إلى وحوشٍ مفترسةٍ على هيئةِ بشرٍ؟! فقدَ الإنسانُ بوصلةَ العبورِ إلى مرافئِ الأمانِ، انحدارٌ لا يُطاقُ تفشَّى في عقولِ قادةِ القومِ. لا أصدِّقُ نفسي عندما أرى إنسانَ هذا الزّمان، متعطِّشاً وشرهاً ومنساقاً بكلِّ هذا الانحدارِ نحوَ غريزةِ العنفِ، وشهوةِ القتلِ، متفنِّناً في أساليبِ الخرابِ والدّمارِ، إلى درجةٍ لا يصدِّقُها أيّ عاقلٍ على وجهِ الدّنيا. حالةُ حدادٍ تهيمنُ على الكثيرِ من جغرافيّاتِ العالمِ، إلى أن وصلَ الإنسانُ إلى حالةٍ مريرةٍ غيرَ قادرٍ على تحمُّلِ نفسِهِ من غَورِ الجراحِ الَّتي تفتكُ بِهِ، فنرى مَن يُنهي حياتَهُ من أنينِ الدَّمارِ وتلظِّي آفاتِ الاشتعالِ. وسؤالي المُلحُّ، لِمَ كلُّ هذه الانحداراتِ تزدادُ تفشِّياً في عالمِ اليومِ على مرأى من أسيادِ القومِ؟! هل هناكَ مَنْ يستحقُّ قيادةَ الكونِ في زمنِ الحماقاتِ؟! تصدُّعاتٌ لا تخطرُ على بالٍ تلوحُ في آفاقِ الغدِ الآتي، والغدُ لا يتجرَّأ أن يأتيَ، من تزايدِ ضراوةِ الاشتعالِ، وتراكُمِ الآفاتِ، وكأنَّنا نتصارعُ في غابةٍ متأجّجةٍ بلهيبِ النّارِ من أغلبِ الجهاتِ. صراعاتٌ مفخَّخةٌ بهدرِ الدِّماءِ، أوجاعٌ تحاصرُنا من أخمصِ القدمينِ حتّى فروةِ الرَّأسِ، تلاحقُ إنسانَ هذا الزَّمان منذُ أن يولدَ على وجهِ البسيطةِ إلى أن يرحلَ إلى الأعالي، تفتكُ بهِ الأوجاعُ من جهاتٍ لا تُحصى ولا تُرى أحياناً إلَّا بأدقِّ الميكروسكوباتِ. كيفُ سيكتشفُ الإنسانُ عدوَّاً غيرَ مرئيٍّ؟! احترابٌ ولا في شطحاتِ الخيالِ يتفشَّى في الكثيرِ من بقاعِ الدُّنيا. خروجٌ تامٌ عن أبجديّاتِ الأخلاقِ، عن منطقِ الحياةِ، بعيداً عن رجاحةِ العقلِ، وبعيداً عن حضارةِ الحياةِ على امتدادِ العصورِ. تشرذمَتْ إنسانيَّةُ الإنسانِ وتهشَّمتْ قيمُ الأخلاقِ على قارعةِ الطَّريقِ، وتصدَّعَ ميزانُ العدالاتِ عندَ قاضي القضاةِ. ها قد خرجَ الإنسانُ عن جوهرِ كينونتِهِ وعن مرامي وجودِهِ على الأرضِ، وغدا كائناً آخرَ، لا يُشبِهُ كينونتَهُ، لأنَّ الإنسانَ بطبيعتِهِ كائنٌ أليفٌ، يألفُ المؤانسةَ معَ بني جنسِهِ. لكنّهُ أصبحَ على ما يبدو بعيداً عن فضائلِ الخيرِ والعدالةِ والمحبَّةِ والمساواةِ. تسربلَ بأنيابِ الوحوشِ ومخالبِ الضّباعِ وهم يفترسونَ الغزلانَ في أعماقِ البراري. هل تيبَّسَتْ تجاعيدُ مُخِّ الإنسانِ من تراكماتِ القبحِ، وتوارَتْ رجاحةُ العقلِ بعيدا ًعنهُ، وتدبَّقَتْ معَ لزوجةِ القيرِ والفسادِ؟ أراهُ فَقَدَ مسارَ الحبِّ، وخرقَ بكلِّ جلافةٍ اخضرارَ الوئامِ معَ أخيهِ الإنسانِ، غيرَ آبهٍ بجلالةِ الأرضِ ولا بسموِّ السّماءِ. 

آهٍ، ما هذا الَّذي أراهُ؟! سوادٌ مدبَّقٌ بدخانِ الغدرِ يغلِّفُ إشراقةَ الصَّباحِ. بكَتِ الأمَّهاتُ من شراهةِ النِّيرانِ المتربِّصةِ ببراري حقولِ القمحِ. غاصتْ حيتانُ البحرِ عميقاً، بعيداً عن لهيبِ النَّارِ، مذهولةً من جمرِ الاشتعالِ. الكرةُ الأرضيّةُ تئِنُّ على صفيحٍ مشتعلٍ ليلَ نهارٍ، ضجرٌ مكوَّرٌ بشهقاتٍ مصحوبةٍ بمشاعرِ الانفلاقِ. تزدادُ ممارساتُ البشرِ أجيجاً وقُبْحَاً وانحداراً نحوَ معالفِ الدَّوابِ. هجرَ الإنسانُ إنسانيَّتهُ في وضحِ النّهارِ، وتهدَّلَتْ حكمةُ الحياةِ على وجهِ الأرضِ. شرورٌ لا تُحصى تفرِّخُ عندَ إشراقةِ الشّمسِ وعندَ أوَّلِ المغيبِ. ابتُليَ الإنسانُ بالإنسانِ دونَ أيِّ رادعٍ، فوقفَ يُسائلُ ذاتَهُ المهشَّمةَ، وعيناهُ تقدحانِ شرَراً: هل كفرْتُ لو كنتُ إنساناً، كي أتجرَّعَ كلَّ هذا الأنينِ المتفشِّي من قبلِ بني البشرِ؟! ما ذنبي لو كنتُ إنساناً ويذبحُني بنو جنسي؟! ما ذنبي لو كنتُ إنساناً ويمحَقُني إنسانٌ من لحمٍ ودمٍ عن بَكرةِ أبي وأمّي وأصلي وكاملِ ذرِّيَّتي؟! ماذا ارتكبتُ من أخطاءٍ بحقِّ الإنسانِ كي يأتيَ وينصبَ لي العداءَ بكلِّ هذا القبْحِ وشراهاتِ نارِ الانتقامِ تكوي مساحاتٍ من سفوحِ القلبِ وآفاقِ بوحِ الرُّوحِ، وكأنِّي عدوُّهُ منذُ الأزلِ؟! هل الإنسانُ عدوُّ الإنسانِ منذُ الأزلِ، وهل هناكَ أزلٌ تشكَّلَ منذُ فجرِ التَّكوينِ، ومنذُ متى تشكَّلَ هذا الأزلُ، أم أنَّ الأزلَ لا بدايةَ لهُ، ولا نعلمُ متى ستكونُ نهايتُهُ على أرضِ الخطيئةِ، أرضِ الخرابِ؟! تهاطَلتْ تساؤلاتٌ فوقَ جموحاتِ الخيالِ، ولم أجدْ إجاباتٍ شافيةً عنها وأنا محاطٌ بكلِّ هذهِ المراراتِ. ثمَّ أواجهُ ذاتي، متسائلاً من دونِ رتوشٍ: أنا مَن أنا يا قلبي كي أُزَجَ في لبِّ المراراتِ؟ هل كنتُ يوماً ما شجرةً شامخةً فوقَ إحدى هضابِ الخيرِ، أو نجمةً متلألئةً في بهاءِ السّماءِ؟! هل نحنُ غرباءُ عن اخضرارِ الأرضِ، لهذا أرى معشرَ الإنسانِ يعيثُ فساداً فوقَ طراوةِ الطِّينِ؟! ألَمْ يُجبَلِ الإنسانُ منذُ غابرِ الأزمانِ بقوّةِ الأعالي من طراوةِ الطَّينِ، فلماذا نسمِّمُ منبعَ الانبعاثِ؟! ولماذا لا نخضوضرُ عطاءً مثلَ أمِّنا الأرضِ؟!

بدأتُ أشكِّكُ أنَّ الإنسانَ كائنٌ سَامٍ، ومحِبٌّ للسلامِ، فما أراهُ على أرضِ الواقعِ، ممّا يرتكبُهُ من حماقاتٍ ووحشيَّةٍ مُريبةٍ، تضاهي وحشيَّةَ الوحوشِ في الكثيرِ من الوجوهِ، وتشيرُ إلى أنّهُ بعيدٌ عن فضاءِ السُّموِّ وعن فضيلةِ الحبِّ والخيرِ والوئامِ، وتؤكِّدُ من خلالِ نزوعِهِ الدَّموي، أنَّهُ كائنٌ مفتَرِسٌ، وأراهُ أكثرَ ضراوةً من الضَّواري ووحوشِ الغاباتِ، لأنَّ الوحوشَ المفترسةَ أصبحَتْ مفترسةً كما قلتُ مراراً بسببِ الجوعِ الفتّاكِ في دنيا البراري وأسرارِ البحارِ، فتفترسُ بعضَ الحيواناتِ الضَّعيفةِ من بني غيرِ جنسِها وفصيلِها، كي تسدَّ رمقَها من لهيبِ الجوعِ وتستمرَّ فوقَ طينِ الحياةِ، بينما الإنسانُ يقتلُ بني جنسِهِ ومن نفسِ الفصيلِ وهو في كامِلِ قيافتِهِ وعافيتِه ورجاحةِ عقلِهِ، وشبعانٌ حتّى التّخمةِ. وفي هذا المنحى أرى الإنسانَ يقتلُ بني جنسِهِ بوحشيَّةٍ مِنَ البطرِ ومنْ تفاقمِ شراهةِ الجشاعةِ. يقتلُ الإنسانُ الإنسانَ بدمٍ باردٍ، كأنَّهُ في رحلةِ صيدٍ ترفيهيّةٍ، يصطادُ العصافيرَ والأرانبَ والقطا البرِّي. يقتلُ أخاهُ الإنسانَ ولا يرمشُ له جفنٌ. يدهِشُني، بل يفلقُني حتَّى النُّخاعِ، ما يرتكِبُهُ الإنسانُ من وحشيّةٍ في حقِّ أخيهِ الإنسانِ. رؤيةٌ ظلاميَّةٌ تهيمنُ على آفاقِ رؤاهُ. الإنسانُ كائنٌ غدَّارٌ، مهووسٌ بهدرِ الدِّماءِ، دماءِ بني جنسِهِ من البشرِ. لماذا انحرفَ الإنسانُ عن كينونَتِهِ الودودةِ، عن إنسانيّةِ الإنسانِ، عن نبلِهِ، عن سماحتِهِ، معَ أنَّه لم يعِشْ معَ عالمِ الوحوشِ، كي يتعلّمَ منهم شهوةَ الافتراسِ أو يتشرَّبَ منهم في واحاتِ البراري، لغةَ الهجومِ على الطَّرائدِ لسدِّ ضراوةِ الجوعِ؟! عاشَ وما يزالُ يعيشُ في قمّةِ المدنيَّةِ والتَّمَدُّنِ وفي رفاهيّةٍ تامّةٍ، بعيداً عن مخالبِ الوحوشِ، مع هذا نرى الكثيرَ من البشرِ ينساقونَ وراءَ بوهيميّتهِم الشَّرهةِ، ويفتكونَ ببني جنسِهِم دونَ أيِّ وازعٍ للضميرِ، وكأنّهم تتلمذوا على لغةِ الافتراسِ بأنيابِ الحيتانِ والذِّئابِ والأسودِ والنُّمورِ!  

عجباً أرى، كيف انزلقَ الإنسانُ في ممارساتِهِ الافتراسيّةِ الوحشيّةِ إلى أسفلِ السَّافلينَ، منافساً ضواري الغاباتِ وأخطرَ الأفاعي الّتي تزحفُ بكاملِ فحيحِها في أعماقِ البراري، بحثاً عن طرائدِها الهاربةِ في شقوقِ الأرضِ؟ لا تستهوي إنسانُ هذا الزّمانِ، إلَّا لغةُ البطشِ والاغتيالِ. غاصَ في أقبحِ الشُّرورِ المتأصِّلةِ في قذاراتِ بواطنِ القاعِ، لا يريدُ أن يخرجَ من دبقِ القاعِ. جشاعاتٌ غريبةُ الأطوارِ يخبِّئُها بينَ آفاقِهِ المسروجةِ من شهوةِ الشَّراهاتِ المعشَّشةِ في هذهِ الأزمنةِ المعتَّقةِ بالحماقاتِ. رؤى ممجوجةٌ تسيَّدَتْ في تكويرةِ المخِّ بكلِّ تماوجاتِ تعاريجِهِ. تلوَّثَ العقلُ بآفاتِ الشُّرورِ والغدرِ وكلِّ صنوفِ الاحتيالِ، وضلَّ طريقَهُ عن مسارِ التَّنويرِ والتَّطويرِ في زمنِ غزوِ الفضاءِ، وتاهَ في مهبِّ التّقهقرِ نحوَ مدارجِ التَّخلُّفِ رغمَ كلّ حداثاتِ العصرِ، غائصاً في دهاليزِ الظَّلامِ على إيقاعِ هديرِ الرّيحِ، ونشرِ آفاتِ الموتِ الزّؤامِ، غير عابئٍ بمرامي دروبِ الازدهارِ. لم أرَهُ يغزو شبراً منَ الفضاءِ، بقدرِ ما رأيتُهُ يغزو بني جنسِهِ، ويمحقُهُ محقاً. قحطٌ حارقٌ يضجُّ في لبِّ المُخيخِ، لم يَعُدْ قادراً على استشرافِ بذورِ الخيرِ والصَّلاحِ، ولا تَلوحُ في الأفقِ المنظورِ بشائرُ السَّلامِ، ولا يلوحُ بينَ الأيادي طابوقٌ لتشييدِ أسوارِ البنيانِ. ضاعَ الإنسانُ بينَ طبولِ الحروبِ وحفرِ مآوي القبورِ، وترنَّحَ بينَ شهوةِ الغدرِ وشراسةِ الانشطارِ. لا يميلُ إلَّا لسيوفِ الطّغيانِ ولَهيبِ النِّيرانِ، يُشهِرُ سيوفَهُ دونَ وجلٍ في منائرِ النُّورِ، ويؤجِّجُ نيرانَهُ بلا رحمةٍ في وجوهِ فقراءِ هذا العالم. كم مِنَ الانكسارِ حتَّى تراخَتْ قواهُ وتخلخلَتْ أجنحةُ البِرِّ في أوجِ العمرِ. يحتاجُ إنسانُ هذا الزّمانِ إلى آلافِ الأطبَّاءِ، وإلى معجراتٍ خارقةٍ، كي يرى بأمِّ عينيهِ إلى أيِّ مدىً تشرنقَ في شراهاتِ الافتراسِ، ضالَّاً عن رحيقِ المحبَّةِ وشهيقِ الخيرِ، لعلَّ هذهِ المعجزاتِ تخفِّفُ من غلواءِ شرورِهِ وغدرِهِ. لا تروقُني ممارساتُهُ العقيمةُ في عزِّ النَّهارِ، ولا تفكيرُهُ المعجونُ بشهوةِ الشَّرورِ، ولا جموحُهُ الأهوجُ في استفحالِ لغةِ القتلِ والعنفِ والدَّمارِ، الَّتي ازدادَتْ استفحالاً على مساحاتٍ شاسعةٍ من خارطةِ الكونِ. أينَّ المفرُّ من هذا البلاءِ السَّقيمِ، ومن هذا الوباءِ الذَّميمِ؟! 

أكتبُ حرفي وأنا في أوجِ اشتعالي ممَّا أراهُ طافحاً فوقَ اخضرارِ الكونِ، تدحرجَ الإنسانُ نحوَ أعتى كهوفِ الظَّلامِ، تعفَّرَ وجهُ الضُّحى من دخانِ أجيجِ القمحِ، ماتَ الأطفالُ في مهودِهِم، ابتلى الإنسانُ بتسارعِ تكنولوجيَّاتِ العصرِ، لم يعُدْ قادراً على توجيهها إلى مرافئِ السَّلامِ، فَلَتَتْ أغلبُ المعاييرِ من دروبِ العبورِ. داخَ ربابنةُ السُّفنِ، فتاهوا في خِضَمِّ البحارِ، وتاهَ مَنْ عبروا في يباسِ الأرضِ عن مرامي الخيرِ. أينَ المفرُّ من استفحالِ شِباكِ القهرِ والغدرِ وأنيابِ القحطِ؟ إلى متى سيزرعُ قادةُ هذا الزّمانِ الأرضَ البكرَ بالفِخاخِ؟ ازدادَ المخيخُ تورُّماً في أوجِ انتشارِ أرقى تقنياتِ العصرِ، فقَدَ الرُّبّانُ السَّيطرةَ على مرامي الجهاتِ الّتي تقودُهُ إلى ظلالِ الأمانِ، ولا أمانَ يسودُ في الأفقِ القريبِ، ولا حتَّى البعيدِ. عجباً أرى كيفَ تخلخلَ الحوارُ إلى هذا الحدِّ منَ النٌّفورِ والعداءِ، ما بينَ الإنسانِ والإنسانِ، وما بينَ الإنسانِ ونفسِهِ، فكيفَ سيسودُ الأمانُ ما بينَ الإنسانِ وصديقِهِ وجارِهِ والآخرِ المترامي خلفَ أقاصي البحارِ، إذا كان لنفسِهِ غيرَ قادرٍ على تحقيقِ الوئامِ؟! أسئلةٌ حارقةٌ تتربَّصُ بسماءِ الحلقِ، ولا ألقى جواباً شافياً، يخفِّفُ من لهيبِ الاشتعالِ!  

انشراخاتٌ مخيفةٌ تجتاحُ قيمَ الجمالِ والحبِّ والوئامِ وإنسانيّةِ الإنسانِ، انحدارٌ مرعبٌ في ميزانِ العدالةِ والأخلاقِ والرُّؤيةِ الخلَّاقةِ، جنوحٌ تامٌّ عن أبجديَّاتِ الخيرِ. ترنّحَتْ قيمُ الجمالِ، وتهرَّأتْ وجنةُ الحبِّ وتخلخلَتْ أجنحةُ الوئامِ وتصدَّعتْ إنسانيَّةُ الإنسانٍ إلى حدٍّ لا يُطاقُ، معَ أنّنا في أوجِ شموخِ العلمِ. بحسرةٍ حارقةٍ أشهقُ متسائلاً: ما فائدةُ العلومِ إنْ لم تخدمْ حياةَ الإنسانِ؟! طاقاتٌ سلبيّةٌ غارقةٌ في لهيبِ القبْحُ وشراهاتِ الاشتعالِ، اجتاحَتْ ميزانَ العدالةِ، وسمَّمَتْ لُبَّ الأخلاقِ، وأحرقَتْ حُلُوقَ الصِّغارِ والكبارِ. اضمحلَّتِ الرُّؤيةُ الخلّاقةُ رويداً رويداً، وذابتْ في أعماقِ القاعِ، وتسرَّبَتْ في شقوقِ اليباسِ في أعماقِ الصَّحارى. تاهتِ البشريّةُ في فيافي الجنونِ، تزلزلَتْ كينونةُ الإنسانِ وغابَتْ لغةُ الحوارِ عن مرامي التَّنويرِ، وسادَتْ شرائعُ الغابِ. أينَ المفرُّ من جنونِ البشرِ، من هولِ البراكينِ، من انشطاراتِ السُّمومِ في شهيقِ الإنسانِ؟! تساؤلاتٌ لا تُحصى تتهاطلُ بغزارةٍ فوقَ خيالِ الحكماءِ، لكن – على ما يبدو - حكماءُ هذا العالمِ في حالةِ تراخٍ سقيمٍ ومللٍ مريرٍ وفي طورِ الانقراضِ ممَّا يموجُ من لهيبِ الغمائمِ فوقَ صدغِ الكونِ!


ستوكهولم: 26. 8. 2021 مسودة أولى،

 30. 9. 2021 صياغة نهائيّة. 

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق