المعتقدات الخاطئة للغرب حول المهاجرين/ حسن العاصي



أظهرت بعض الأبحاث السابقة أن الناس في الدول الغربية عادة ما يبالغون في تقدير حجم الأقليات العرقية الأخرى. [دراسات صادرة عن جامعة هامبورغ، جامعة جورج واشنطن،  وجامعة جورج تاون، وجامعة هارفارد، وجامعة ييل].

تتنبأ نظريات التهديد بين المجموعات بأن الأغلبية من السكان، يعتبرون أن الأقليات هم الأقل تفضيلاً. يبالغ الغربيون والأمريكيون في تقدير النسبة المئوية للسكان المولودين في الخارج أو الذين يعيشون في الولايات المتحدة وأوروبا بصورة غير شرعية.

في سبع تجارب استقصائية منفصلة بعدد من الدول، على مدى أحد عشر عاماً، وجد الباحثون أن المعلومات الدقيقة لا تؤثر كثيراً على مواقف السكان الأصليين تجاه الهجرة. تستدعي هذه النتائج التساؤل عن آلية معرفية محتملة يمكنها تفسير نظرية التهديد بين المجموعات. قد تكون المفاهيم الخاطئة عن حجم مجموعات الأقليات العرقية هي نتيجة وليست سبباً، للمواقف تجاه تلك المجموعات.

كيف يشكل الناس مواقف حول القضايا ذات التأثير العرقي؟ حسب نظريات القوة أو التهديد بين المجموعات، فإن العنصر الرئيسي هو انتشار الجماعات العرقية والإثنية في البيئة الأوسع، بما في ذلك مفهوم الأمة. يزداد الشعور بالتهديد بين المجموعات الأخرى. في المقابل، يمكن لهذا التهديد المتزايد تقليل الدعم للسياسات التي تفيد هذه المجموعات، واستفزاز الإجراءات التي تهدف إلى الحد منها من قبل السلطة السياسية.

أحد الأسباب المحتملة هو أن تصورات الناس عن التركيبة العرقية في محيطهم غالباً ما تكون غير صحيحة. يميل الناس إلى المبالغة في تقدير انتشار الأقليات والمجموعات، حتى عند المستويات المنخفضة نسبياً من التجميع، مثل أعدادهم في الأحياء. علاوة على ذلك، ترتبط المفاهيم الخاطئة لأعداد ومدى انتشار المجموعات بالمواقف السياسية ذات الصلة أكثر من انتشار المجموعة الفعلي في الواقع.  وبالتالي، فإن المواقف تجاه الأقليات قد تتوقف على التصور الخاطئ بأن هذه المجموعات أكثر عددًا مما هي عليه بالفعل.

هذا يثير السؤال المقلق: ما هي عواقب تقديم معلومات صحيحة عن انتشار الأقليات في الولايات المتحدة وأوروبا؟ بالتركيز على المعلومات حول المهاجرين، يميل الناس إلى المبالغة في تقدير انتشار المهاجرين. وأولئك الذين يقدرون بدقة أكبر نسبة المهاجرين في بلادهم يوجد لديهم آراء أكثر إيجابية حول الهجرة. ومع ذلك،  فإن هذا الاكتشاف لا يمكن أن يثبت ما إذا كانت التصورات الدقيقة في الواقع هي التي تسبب المواقف.


معتقدات خاطئة

 قد يطور الناس مواقفهم حول الهجرة لأسباب أخرى، ثم يقدمون تقارير وتقديرات الانتشار والأعداد التي تبرر هذه المواقف. على سبيل المثال، قد يقوم الأشخاص الذين يعارضون الهجرة بالإبلاغ عن تقديرات أعلى لأعداد المهاجرين لأنها تبدو متسقة مع معارضة الهجرة أو لأنها تساعد في تبرير موقف حزبهم المعلن. لهذا السبب، قام باحثون بفحص عواقب تقديم المعلومات الصحيحة عن المهاجرين عبر سبعة تجارب مسحية. تقوم جميع التجارب بتعيين المستجيبين بشكل عشوائي لتلقي أو عدم تلقي معلومات دقيقة حول انتشار المهاجرين قبل الإبلاغ عن المواقف حول المهاجرين وسياسة الهجرة. وجد الباحثين أن هذه المعلومات تقلل من متوسط تقدير حجم السكان المهاجرين، مما يجعل معتقدات الناس أكثر دقة. لكن المعلومات الصحيحة لها تأثير ضئيل على المواقف حول الهجرة - بغض النظر عما إذا كانت هذه المعلومات حول عدد السكان المهاجرين على الصعيد الوطني، أو السكان المهاجرين غير المسجلين على الصعيد الوطني، أو السكان المهاجرين المحليين. ينطبق هذا النمط على الأشخاص الذين تم تصحيح تصوراتهم الخاطئة بشكل صريح، وكذلك أولئك الذين يمتلكون معلومات دقيقة. بالإضافة إلى تأثير هذه المعلومات الصحيحة غير مشروط بالتقديرات الأولية للأشخاص: حتى بين أولئك الذين يبالغون في تقدير انتشار المهاجرين بشكل كبير، فإن المعلومات الصحيحة لا تفعل ذلك ولا تؤثر على المواقف من الهجرة.

تتقاطع هذه النتيجة مع نتائج دراسات تجريبية أخرى لتصحيح المفاهيم الخاطئة لأعداد المجموعات العرقية، وتتوافق بشكل عام مع دراسة أخرى لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الهجرة على وجه التحديد. تدعم النتائج التي تم التوصل إليها فكرة أن المعلومات الصحيحة يمكن أن تغير التصورات الواقعية، ولكن ليس بالضرورة أن تغير المواقف، لأن أحد الأسباب المحتملة هو أن مواقف الناس من الهجرة تتجذر فيها ميول نفسية راسخة تمكن الناس من مقاومة بعض المعلومات التي تتحدى معتقداتهم الحالية.  النتائج التي تم التوصل إليها تستدعي أيضاً


التساؤل عن آلية معرفية محتملة تقوم عليها نظرية التهديد الجماعي.

 ترتكز هذه النظرية على أن وجود حجم مجموعة عرقية خارجية يؤدي إلى إدراك مناظر لحجمها، والذي بدوره يؤدي إلى ظهور الشعور بالتهديد من قبل الأغلبية، والدفاع المقابل من قبل المجموعة. ومع ذلك، فإن معرفة الحجم الفعلي للمجموعة لا يغير المواقف تجاه تلك المجموعة. إن هذه المواقف قد تكون لا تعتمد كثيراً على حجم المجموعة نفسها أو تصورات عن حجمها. واحد من نتائج الدراسات التي توصل إليها الباحثين يؤكد أن التصورات حول العدد الكبير من المهاجرين، قد يكون نتيجة أكثر من كونه سبباً للمواقف تجاه الهجرة.

تم إجراء خمس استطلاعات منفصلة بين عامي 2006 و2017 لمعرفة التأثير السببي للمعلومات الصحيحة حول حجم السكان المهاجرين. تضمنت التجارب أربع مجموعات مختلفة طُلب منهم ببساطة تقديم أفضل تقدير لحجم السكان المولودين في الخارج.

لقياس اتجاهات الهجرة، يتم استخدم عنصراً واحداً أو أكثر من ثلاثة عناصر. واحد يلتقط بشكل عام المواقف تجاه الهجرة القانونية: “هل تعتقد أن عدد المهاجرين من الدول الأجنبية

الذين يُسمح لهم بالقدوم إلى الولايات المتحدة للعيش يجب زيادتهم كثيراً، أو زيادتهم قليلاً، أو تبقى على حالها؟ هل انخفضت الهجرة قليلاً أم انخفضت كثيراً؟

 المقياسان الآخران يلتقطان التصورات للتهديد الاقتصادي والثقافي الذي يشكله المهاجرون: ما مدى احتمالية أن يكون المهاجرون الوافدون حالياً إلى الولايات المتحدة سيسحبون الوظائف من الأشخاص الموجودين هنا بالفعل؟  وما مدى احتمالية ذلك؟ هل ستهدد الهجرة الحالية والمستقبلية أسلوب الحياة الأمريكي؟ "


استنتاجات

يميل الأمريكيون إلى المبالغة في حجم السكان المولودين في الخارج - بقدر ما يبالغون في حجم العديد من مجموعات الأقليات - وهذه المفاهيم الخاطئة مرتبطة بآراء غير مرحبة بالهجرة. لكن تجارب المسح هذه لا تقدم أي دليل ثابت على أن معرفة الناس للمعلومات الصحيحة حول حجم السكان المهاجرين قد يغير مواقفها من للهجرة، على الرغم من أن هذه المعلومات الصحيحة قللت من تقديراتهم لأعداد المهاجرين في المتوسط. لقد كان هذا صحيح بغض النظر عما إذا كانت المعلومات قد تم تقديمها لهم ببساطة أو قد تم تصحيحها مسبقاً بشكل مباشر أو غير مباشر.

النتائج تدعم الدراسات السابقة التي تفيد أن المعلومات الواقعية حول حجم مجموعات الأقليات لا تغير المواقف حول السياسات التي تؤثر على تلك الجماعات بصورة مماثلة. في دراسة أخرى تم بحث تأثير المعلومات حول الهجرة. تبين أن تقديم المعلومات حول أعداد السكان المهاجرين جعلت الناس أقل احتمالا لتضخيم أعداد المهاجرين، لكنه لم يجعلهم أقل قلقًا بشأن الهجرة ولم يغير من تفضيلاتهم السياسية.


في النموذج الدنماركي

أظهر بحث مماثل في الدنمارك، أن الدنماركيين يبالغون في تقدير عدد المسلمين بشكل كبير، لكن الأهم هو أن موقف الدنماركيين لن يتغير تجاه المسلمين إذا تم تصحيح هذا المفهوم الخاطئ، بمعنى أنه لو تم نشر الأعداد الحقيقية للمسلمين، فلن يصبح موقف الدنماركيين أكثر قبولاً للمسلمين. هذا لأن الناس لا تشكل الآراء والمواقف على أساس الإحصاءات، بل إن العواطف والتحيزات ضد المسلمين في الدنمارك تجعل من تقدير عدد المسلمين بالنسبة لعدد السكان قضية تخمينية ترتبط بالعلاقة مع أشخاص ملموسين لأنهم يثيرون مشاعر ومواقف الدنماركيين العرقيين، أكثر مما تفعله الأرقام والإحصائيات.

توصل "راسموس تو بيدرسن" Rasmus Tue Pedersen الباحث في السياسة والإعلام في قسم العلوم السياسية بجامعة كوبنهاغن أن "نظرة الدنماركيين للمسلمين تتأثر بالوجوه وليس بالأرقام". ويضيف "لقد بالغنا في تقدير عدد المسلمين لعقود. أن تصور الدنماركيين لعدد المسلمين خاطئ تماماً"

ما الذي قد يعنيه موقف الدنماركيين تجاه المسلمين إذا تم كبح الحقائق الخاطئة؟ هل يمكن التوصل إلى طريقة للخروج من المشكلة؟

يتساءل الباحث هل يجب توظيف مئة شخص في هيئة الإحصاء الدنماركية كي نتأكد أن جميع الدنماركيين يتلقون الإحصائيات الصحيحة في صناديق البريد الخاصة بهم كل صباح؟

الباحث ذاته يجيب على سؤاله بالقول "لن يغير ذلك مواقف الناس كثيراً". يوضح أن الأمر لا يتعلق فقط بما يحدث في وسائل الإعلام.

يذهب الباحث إلى ابعد من هذا، حيث يقول إنه حتى لو ذهب السياسيون والصحفيون والباحثون إلى بيت دنماركي لإبلاغ الدنماركيين بالعدد الحقيقي للمسلمين ونسبتهم بين السكان، فلن يكون لهذا العمل التأثير الكبير.

تشير التأثيرات المتعددة لأنواع مختلفة من الوسائط إلى أن العلاقة بين التعرض للوسائط والحساب الدقيق قد يكون أكثر تعقيدًا مما يُفترض.


الحقائق لا تؤثر على المواقف

أجرى الباحث أربع تجارب اختبر فيها ما إذا كان الناس يغيرون مواقفهم تجاه الهجرة عندما يتعلمون عدد المهاجرين الموجودين بالفعل في الدنمارك.

في التجارب طلب الباحث أولاً من المشاركين تخمين عدد المهاجرين. بعد ذلك تم إخبار الأشخاص إما بالعدد الصحيح بشكل مباشر أو غير مباشر.

أخيرًا، قاس الباحث موقف الأشخاص الخاضعين للاختبار فيما إذا كان ينبغي زيادة أو تقييد عدد المهاجرين وإلى أي مدى. وجد الباحث أن تقديم معلومات دقيقة حول أعداد المهاجرين والمسلمين ليس له أي تأثير تقريباً على مواقف الناس تجاه الهجرة. حتى عندما يتم توعية الأشخاص صراحةً بأن تصورهم لعدد المهاجرين غير صحيح، فلن يكون له أي تأثير لتغيير مواقفهم.


المزيد من الإحصائيات ليس هو الحل

بناءً على نتائج الباحثين الأمريكيين وأبحاث أخرى مماثلة، يعتقد الباحث الدنماركي بيدرسن أنه لن يكون هناك تأثير كبير لوجود وسائط تهدف إلى إيصال الإحصاءات إلى السكان.

قد يكون للوسائط تأثير مختلف. ربما يكون السياسيون الذين يتفادون ذكر الأرقام أكثر حرصاً لأنهم لا يريدون المجادلة مع الأرقام الخاطئة في وسائل الإعلام.

لذلك لا يكفي تصحيح سوء فهم السكان للأرقام المجردة إذا أردنا منهم تغيير موقفهم من قضايا سياسية محددة.

يقول بيدرسن إن "الصلة بين مواقفنا السياسية وهذه الأرقام المجردة ضعيفة نوعا ما" لأن مواقفنا السياسية تتشكل بواسطة العديد من العوامل، لكن هذه الأرقام المجردة ليست شيئاً يؤثر علينا بشكل خاص.

لكن إذا لم تتشكل الآراء بناءً على الإحصائيات، كيف تتشكل؟

أستاذ العلوم السياسية بجامعة آرهوس والباحث في تكوين المواقف "مايكل بانج بيترسن" Michael Bang Petersen يقول إن طريقتنا في تشكيل المواقف تعود إلى الوقت الذي كنا نعيش فيه صيادين، عندما يتعين عليك إصدار أحكام أخلاقية حول ما إذا كان يجب استبعاد شخص ما أو تضمينه في المجموعة، لقد كان علينا التعامل مع أشخاص ملموسين.

إن طريقة اتخاذ القرارات وتكوين المواقف لا تزال بداخلنا. ما نتفاعل معه اليوم هو أيضاً الحلقات المحددة والأشخاص الذين يظهرون في القصص الإخبارية. هناك الكثير من الأمثلة حول الجدل السياسي الذي يمكّن أشخاصاً محددين خلق أو تغيير موقف الجمهور في منطقة معينة، فالدراسات تُظهر أن النقاش يؤثر بالفعل في مواقف السكان. فالأرقام المجردة مجهولة الهوية ولا تولد المشاعر.


يتعلق الأمر بالخيال

أجرى مايكل بيترسن مع زملائه عدداً من التجارب لاكتشاف كيف تؤثر الزوايا الشخصية على مواقفنا. درس أحدهم العلاقة بين الخيال والمواقف السياسية. فمن خلال أحد عشر دراسة في الدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية، حقق الباحثون في كيفية تأثير الفروق الفردية في الخيال على تشكيل موقفنا السياسي. ركزت الدراسات على قضية سياسية حاسمة: الفوائد النقدية.

يشرح مايكل النتائج التي أظهرت أن الخيال لديه شبكة أكثر ثراءً وحيوية وتماسكاً من الأفكار حول متلقي المساعدة النقدية أكثر من متلقي الرعاية.

حيث تم تشكيل مواقف أوضح من الناس الذين يحصلون على المساعدات النقدية، فكانت ردود فعل الناس العاطفية أقوى تجاه متلقي المساعدة النقدية، لقد شعروا بغضب إذا اعتبروهم كسالى، بينما اظهروا تعاطفاً أقوى تجاه متلقي الرعاية إذا اعتبروهم أناس غير محظوظين.


نعيد سرد القصة الشخصية

في تجربة أخرى، وضع بيترسن وزملاؤه مواضيع اختبار مختلفة للعب لعبة أطفال كلاسيكية، حيث يقرأ شخص قصة ويعيد المتلقي روايتها لشخص آخر، ثم يعيد الأخير روايتها. ثم ترى ما سيحدث في النهاية. كانت القصص التي كان على الناس إعادة سردها عبارة عن مقالة إخبارية تحتوي على قصة شخصية ملموسة وبعض الإحصائيات.

في النهاية ، تمكن بيترسن وزملاؤه من معرفة أي جزء من القصة نجا من التقاليد الشفوية. كانت النتيجة واضحة. حيث إنه "عندما يعيد الناس سرد قصة إخبارية على مائدة العشاء، يمكننا أن نرى أن ما يرسمونه هو الزاوية الشخصية وليس الإحصاءات العامة" إن ما يركز عليه الناس ويبرعون في تذكره هو هذه القصص الشخصية، كما يقول أستاذ العلوم السياسية، الذي ذكر "من الواضح أن العناصر العرضية تمر عبر سلاسل النقل هذه."


متلقي إعانة البطالة الكسول عالق في الذهن

في دراسة ثالثة استأجر مايكل بيترسن ومجموعته البحثية ممثلاً ليكون بمثابة متلقي الرعاية الاجتماعية النقدية. كان على الممثل أن يتصرف إما كمتلقي بطالة كسول أو شخص سيئ الحظ يريد العودة إلى العمل. قام الباحثون بعد ذلك بقياس الموقف تجاه متلقي إعانات البطالة بين أولئك الذين تعرفوا على هذين النوعين من متلقي إعانات البطالة، وكانت النتيجة مذهلة.

يقول بيترسن: "تمكنا من تتبع التغييرات في موقف الناس تجاه إعانات البطالة لمدة تصل إلى شهر، اعتماداً على ما إذا كانوا قد تعرضوا لمتلقي إعانة البطالة الكسول أو غير المحظوظ".

بالتعاون مع مجموعته البحثية، يقوم حالياً بتحليل النتائج، لذلك لم يتم نشر التجربة بعد كمقال علمي. يشير البحث إلى حقيقة أن القصص الشخصية وليس الإحصائيات هي التي لها تأثير على تشكيل مواقفنا، ومع ذلك هذا لا يصح دائماً.


مصادر 


https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2798622

https://dataverse.harvard.edu/dataverse/jop

https://videnskab.dk/kultur-samfund/danskernes-syn-paa-muslimer-paavirkes-af-ansigter-ikke-tal

حُبٌ في الخريف/ د. عدنان الظاهر



تكشفُ صبري أسفاري أو تُخفي

الصبرُ الشاحبُ يخطفُ أبصاري

مرآةُ العينِ تُبرّئُ محكوماً بالعزلِ الفردي

أشعرُ أني لا إنّي

الطبُّ هزيمُ هزائمِ قصفاتِ الرعدِ

الحزنُ طريقتهُ المُثلى

لا مُنتَظرٌ يأتي

يضربُ أجراساً في بيتي 

موصدةً تبقى أبوابي

إسوّدَ القنديلُ وغابَ الموعدُ في يومِ الميلا دِ

ذَبُلتْ أورادُ الإكليلِ الحُمرُ

دارتْ عجلاتُ حديدِ الناعورِ وصرَّ صريرُ 

قَدَرٌ منذورٌ لا رؤيا فيه

صفحتهُ حالتْ لوناً .. جرداءُ

يا صاحبَ هذا الدولابِ الدوّارِ تمهّلْ

وقّفْ هذا الصخبَ الصافرَ غلّقهُ فورا

شابتْ نسوانُ مدينتنا تلقائيّا

ذبُلتْ قبلَ أوانِ تفتّحِ تيجانِ الأوراقِ الخُضرِ

ساقيةٌ جفّتْ بين النهدينِ وبين الثغرِ 

حزنُ الحبِّ ثقيلُ

سعيكَ يا هذا مشكورُ

حجّكَ حَجُّ العاشقِ مبرورُ

نبّأتُ الأخضرَ واليابسَ خبّرتُ الجيرانا

أني أرحلُ والحزنُ مُقيمُ

أطفأتُ شموعي كي لا يأتي عيدُ

الكوكبُ مِشكاةُ النارِ

والنجمةُ في مصرٍ بُشرى والقدسِ

عهدُ الأعوامِ التسعةِ مِخبارٌ سيّارُ

عَرَباتٌ للشحنِ ومنظارُ

روّضتُ نواطيرَ جسورِ خطوطِ الإمدادِ

ما أسِنَ الكأسُ ولا جفَّ نقيعُ شرابي 

إنتظري ما يأتي

أنباؤكِ جُلّى لا تُحصى

ليلُكِ في الأثوابِ السودِ

ساقيني من مائكِ مسفوحاً ساقيني 

مدّي لقواعدَ أخرى جسرا

يجمعنا حدّاً حدّا

وسّعتُ الساحةَ بين الدمعةِ والشمعةِ للحدِّ الأقصى

تعبتْ ..

أنهكها الترحالُ وبعدُ محبيها عنها

مدّتْ ساقيها في ماءِ النهرِ الجاري تطهيرا

شربتْ .. أصغتْ .. يتبعها ظلّي ممدودا

القلبُ جريحٌ قالتْ

لا ينفعُ طبٌّ للصبِّ المعطوبِ 

لا تُجدي شكوى من حُمّى

فتعالَ نمدَّ سُرادقَ يومِ الميلادِ معا 

التكاثرُ بالتراكم

( ألهاكمُ التكاثرُ .. )

تتراكمُ أكواماً أكواماً حُبّا

لكني لا أبصرُ شيئا

ما الذكرى ؟

الذكرى ليستْ وحياً يوحى

الذكرى أعوامٌ كرّتْ والمرُّ المرُّ وقودُ شرابي

أتكلّمُ عن دُنياها

عن شَفَقٍ يحمرُّ إذا ما غابتْ أو مالتْ

أوراقُ الدفلى عنوانُ ربيعِ الأوراقِ

فيها شمُّ الصبرِ المُرِّ

شَفَةٌ تزحفُ نحوي زحفا

الدفلى يقفزُ قفزا

رفيفُ الجفون

العينُ مرايا من خَزفٍ مصقولِ

تتقافزُ فيها أنوارُ شراراتِ خِداعِ الرؤيا

لا يرسبُ منها شئٌ إلاّ فيها

رفرفةُ الجُنحِ الكاسرِ والآسرِ أهدابٌ سودُ

عيناها مطرٌ يتعددُ ألوانا

يتغيّرُ فصلاً فصلا

أربعَ مرّاتٍ في العامِ

يتبدّلُ ما شاءتْ مملكةُ الأنواءِ

تَرَفٌ رفرافُ

شفتاها أقواسُ النصرِ على أقوامٍ بادتْ

خَذَلتني فانهارَ الثابتُ من جسري

لم ترسلْ تبريراً حرفا .


"صفقة رحافيا" نبكي خاسرين املاكا لم نصنها مؤمنين/ جواد بولس



كشف الاعلام العبري في الايام الماضية تفاصيل مستفيضة حول صفقتين عقاريتين لافتتين تشملان مساحات شاسعة من أراضي مدينة القدس ومحيطها، كانت تملكها البطريركية الأرثوذكسية المقدسية. الصفقة الاولى تعرف باسم "صفقة رحافيا" والثانية يسمونها صفقة "تلبيوت هحدشاه" ونحن نسميها أراضي "مار الياس"، وعن هذه الاخيرة سأكتب لاحقا في فرصة أخرى.  

من المؤسف حقاً أن نضطر للكتابة مجددًا حول ممارسات المسؤولين عن هذه الصفقات، من اكليروس يوناني متنفذ قابض على رقبة هذه الكنيسة المشرقية العريقة، ومستشاريهم ومساعديهم من عرب متعاونين ومستفيدين ومتواطئين. ومن الموجع فعلاً أن نذكّر بأننا كنا قد حذرنا خلال السنوات الماضية من مغبة السكوت عمّا يجري في أروقة هذه البطريركية، وعن امعان رؤسائها، البطريرك ورجالاته وأعوانهم، في نهج  التفريط و"التخلص" من أملاكها الشاسعة بأساليب مفجعة وبذرائع واهية لا يمكن قبولها. 

لن تكفي هذه المقالة لسرد قائمة الصفقات التي نفّذها، خلال السنين الأخيرة، المسؤولون في البطريركية، وشملت عقارات في مواقع هامة  في مدن طبريا ويافا وقيساريا والقدس وفي مناطق التماس مع "الخط الاخضر" وغيرها من المواقع ؛ علمًا بأن معظم تفاصيل صفقات البيع أو الاحكار ، التأجير طويل الأمد، التي نفّذت، نشرت بعد اتمام عمليات تسجيلها في الدوائر الاسرائيلية المختصة. 

تعرف الصفقة التي تصدرت عناوين الاخبار العقارية في الصحافة الاسرائيلية باسم "صفقة رحافيا" وهو اسم منطقة تعدّ من أرقى المناطق السكنية في القدس الغربية، وتقدر مساحتها بحوالي (530) دونما، أقيم عليها ما يقارب الألف مبنى سكني وفنادق ومرافق عامة كثيرة أخرى. قامت البطريركية  ألأرثوذكسية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، بتأجير هذه الأراضي لصندوق أراضي إسرائيل "الكيرن كييمت" لمدة تسعة وتسعين عاماً. من المفترض أن تنتهي مدة هذا الاحكار/التأجير في العام 2050 ؛ وعلى الرغم من ذلك قام البطريرك ثيوفيلوس وأعوانه في عام 2011 بنقل حقوق الكنيسة بتأجير الأراضي مستقبلًا لشركة اسرائيلية اسمها "نيوت كومميوت" ، ثم قام  بعد خمسة أعوام،  ببيع جميع تلك الأراضي لشركة "نايوت كومميوت" مقابل مبلغ اجمالي ذكرت الصحف انه ناهز المائة وخمسين مليون شاقل فقط لا غير، لا نعرف كيف صرف وعلى ماذا؟

قام العديد من الغيورين على مصير عقارات البطريركية وأوقافها المتوزعة على مساحات شاسعة في البلاد وفي مواقع استراتيجية هامة وثمينة في القدس، بالكشف عن نوايا البطريركية بانجاز عدة صفقات بيع جديدة، ونوهوا، من خلال كتابة المقالات أو التواصل مع ذوي الشأن والمصلحة، من خطورة تنفيذ هذه الصفقات وكونها حلقة في مسلسل التفريط المستمر، ورغم ذلك تم للبطركية ما أرادت! 

لقد كان واضحًا لنا ولجميع الجهات أن ثمن أراضي رحافيا أعلى أضعافاً مضاعفة مما قبل به مفوضو البطريركية، (تحدثت بعض التخمينات ان قيمة الأراضي وما بني عليها خلال السنوات الماضية قد تقترب من الملياري شيكل)، ونوهنا على أنه لا يوجد أي مبرر مقنع وسليم لاتمام الصفقة بهذه الطريقة المستفزة وبدون حد ادنى من الشفافية، أو لانجازها ليس وفق شروط السوق والمنطق ومصلحة الكنيسة ورعاياها العرب؛ هذا طبعًا مع  التأكيد على ضرورة المحافظة على العقارات كجزء من سياسة عدم التفريط بها وبأوقافنا، خاصة في مدينة القدس.

مضت ستة أعوام فقط حتى قامت شركة "نيوت كومميوت" بعقد صفقة بيع "أراضي رحافيا" لرجل اعمال يهودي امريكي يدعى جاري برانط مقابل مبلغ  750 مليون شاقل؛ وذلك اضافة لاجزاء من الارض كانت الشركة قد باعتها  بشكل منفرد مقابل مبلغ 95 مليون شاقل، ليصبح مجموع ما قبضته "شركة نايوت" أكبر بخمسة أضعاف على الاقل مما دفعته هي، مقابل صفقة البيع، للبطريركية. ويبقى السؤال لماذا باعت البطريركية اصلا ؟ وما هي الدوافع لاتمام الصفقة كما تمت ومن هو المستفيد؟  

لم نكن بحاجة الى قراءة هذه الارقام كي نتأكد من صحة ما قلناه  قبل اكثر من عشرة أعوام، فممارسة المسؤولين في البطريركية وأعوانهم مكشوفة للكثيرين الذين يعرفون الحقائق، لكنهم يؤثرون اغفال نتائجها الكارثية، بينما لا يريد البعض ان يروا الحقائق إما عن جهل راسخ أو عن يأس مبرر أو من مصلحة شخصية معروفة للناس؛ وهناك، للأسف، بيننا عرب مسيحيون وغيرهم، معنيون بطمس الحقائق وتشويهها وبعضهم يفعل ذلك مقابل خمسة من فضة!  

في البداية عندما نشرت الصحف عن الصفقة بين البطريركية وشركة "نايوت كومميوت"، لم يصدّق البعض أن البطريركية شرعت بعقد صفقات بيع ولم تعد تكتف بتوقيع عقود احكار وايجارات، فنصحنا هؤلاء أن يتوجهوا الى دوائر الطابو الاسرائيلية ويستخرجوا مثلنا قيود التسجيل فعساهم عندها يضعون أياديهم داخل الجرح ويؤمنوا كما "آمن توما ".  

يحزنني ان استعيد بعض ما كتبت لهؤلاء حينها وقلت: " من سينقذ القدس وأملاك الكنيسة؟  كل من يرغب في استجماع المعلومات الدقيقة عن هذه الصفقات وعمّا سبقها من صفقات أبرمها هؤلاء في السنوات الأخيرة، لن يجد صعوبةً في الحصول عليها وعلى براهين دامغة بشأنها، فكثير منها كشفته الصحف الإسرائيلية بالمعطيات الوافية ومعظمه نقل إلى عناية من يجب أن يعرفوا عنه ؛ أمّا نصيحتنا لأحفاد "توما" أولئك الذين يرفضون تصديق أخبار الصفقات، رغم ما يقرأونه ويسمعونه، فسنوجزها بأن يحكّموا عقولهم والمنطق فليس صعبا التحقق من فداحة الخسائر ورائحة الهزيمة تنبعث من تراب القدس المغتصب، أو من بين المستندات والوثائق الموجودة عند  أقلام المحاكم الإسرائيلية أو في مكاتب تسجيل الأراضي، لأن معظم ملفات تلك الصفقات أودعها المستفيدون  هناك لضمان حقوقهم حسب الأصول والقانون.

فكيف نجح وينجح المتورطون بإبرام مزيد من الصفقات ويراكمون الأطيان من جرائها في خزائنهم ؟ ستبقى الاجابات حبيسة الحسرة والوجع وآتية من بطن التاريخ أصداء تردد تساؤلها باستهجان : "من فرعنك يا فرعون".

سوف ينتظر البعض "توضيحات" رجالات البطريركية بخصوص ما نشر وقرأناه، وسوف يسهب رجالات بلاط البطريركية في شرح ادعاءات أسيادهم  وسيلجأون إلى سحر البيان و "المحاسن والاضداد" ؛ أما نحن فسنبقى نهذي ونقول: ما ضر لو أمّنوا الصالحين العرب من  رعايا هذه الكنيسة  على هذه الأمانات، أكان ساعتها كهاننا العرب بحاجة لفتات موائدهم الشحيحة او مدارسنا الاهلية "لبركاتهم" ؟ تصوروا لو نجحنا ككمشة عرب مسيحيين بالتحكم أو بالمشاركة بما ملكته هذه الكنيسة من مقدرات .. تصوروا أكان أحدكم يشعر بالاغتراب كما هو الحال اليوم أو أكان البعض يهاجر أو يفكر بالهجرة من الوطن؟

لا تصدقوهم مهما برروا ولا تصغوا لابواقهم "ولا تقعوا في الفخ مرة اخرى. "توماكم" آمن بعد أن وضع يده في الخاصرة، فضعوها انتم ايضا؛ ومسيحكم المطعون في خاصرته وصاكم وهو على الصليب : "طوبى لمن آمنوا ولم يروا"، فكيف لا تؤمنوا وأنتم ترون بأعينكم، يومًا بعد يوم، ضياع كنائسكم ونفاد أوقافكم وتيه سفنكم !

نبكي على "أم الكنائس" ونسأل من ينقذها من هذه العتمة؟ ومن يحاسب الجناة على افعالهم؟ وننسى كيف كانت النسوة يلطمن وينُحن على يسوع الحامل صليبه في شوارع القدس، فالتفت إليهن وقال: " لا تبكين عليّ يا بنات أورشليم، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن".

فمتى يا " أهل أورشليم" ويا عرب ستصحون  ومتى ستكونون شركاء في مسيرة درب الآلام؟  تأكدوا ان العرب المسيحيين الأرثوذوكس لن ينجحوا وحدهم في مواجهة "روما" فهل نحمي معا ما تبقى من حلم شرقي ؟ 


يتبع .. 

بساتين خيال/ غسان منجد



ارحل 

وأتذكر أريج مواعيد ذكرتني بلقاءاتنا 

ولم يبقى منا غير كلمات عشناها 

هل نرحل بفصول لنعيش فصولها 

ام ترانا اعدنا رسائله مع غيوم رحلت 

ولم تكتب تاريخها 

اطياف حب فوق وسائد تثاءبت وداعبت اجسادنا 

تقرأ الآن جسدي وتشعل قناديله 

أقرأ شهواتها وآخذ ضيائها 

تأخذ تزاويق جسدي من على رسوم سرير 

وتقلب لياليها الماضيه 

الضياء هو الغالب 

والشمس ضياءه 

من اين يأتي الضياء والنوافذ مغلقة 

الظلام هنا نازف 

والغرف تخون غرفها

تذكر 

اننا جسدين في جسد واحد 

ونقترب من حدود غيم قرأنا وعرفنا بغيبه 

لم يهجرني جسدك من ذكرياتي إلا

ليبقي فيي وهداية لي 

حياة.  موت 

وتبدأ وتنتهي النبؤات 

امسح بشفتي اوراق ترابها ويبعثرني هواءها 

هل انفصل عن خيالي 

وتهيمن سلالة العدم في هندباء هذياني 

يلبس زمني شكل حقيقتي والبس واقعه 

هل ينقلب على ذاتي وينشغل بباطن تيهي 

أجمع بين التيه وشهيقي 

ويسترسل في رفض صوري 

وفي صيغة قلقي 


وللنّقد أمراضُه المعدية كذلك/ فراس حج محمد



النّقد هو الغوص في أنساغ العمل الأدبيّ وأعصابه من أوّل جملة فيه حتى آخر كلمة؛ لاستخراج مزايا ذلك العمل، وليس استهلاك الحديث بالمقدّمات النظريّة الطويلة التي يلجأ إليها "كتّاب النقد" هذه الأيّام في مقالات لا تعبّر عن العمل الأدبيّ بقدر ما تعيد ما هو مسطور في الكتب النقديّة التنظيريّة، فيبدو الأمر مستكرهاً ثقيلاً ممّلاً وممجوجاً.

لعلّ ما يلجأ إليه البعض من حِيَل في كتابة النقد وممارسته الباطلة عرفاً وعلماً يرغبون أن تندرج تحت باب "النقد"، وهي من النقد بريئة، كامتداح الكاتب والإشادة بمقدرته وتفوّقه النوعيّ، ورفع مستوى العمل الأدبيّ إلى مصافّ الأعمال المقدّسة يجعل من ذلك الهراء نكتة لغويّة ساذجة يصدّقها أصحاب الأذواق السّقيمة والمحصول المعرفيّ الضّحل، مع افتقاد تلك النكت البلهاء لمنهجيّة نقديّة واضحة، كأنّها خبط عشواء أو حفرٌ بلا طائل في أرض لا تنبت، وكأنّ ذلك المجهود ما هو إلّا كما يفعل الأطفال الصغار الذين يلهون في الرمل في ساعات تقمُّص أدوار لا تناسبهم!

وهنا لا أتحدّث عن المجاملات، وإن كانت غير مستبعدة، ولكنّني أتحدّث عن ذلك الجهل الفاضح في تناول الأعمال الإبداعيّة، والتبجّح والتنطّح لكتابة "قراءات" لا تنطبق عليها حتّى أّنها "انطباعيّة"، لأنّها ليس لها أيّ سند من ذوق أدبيّ وجماليّ، ولا بأيّ مستوى، عدا أنّ هناك من يستخدم لغة "اللفّ والدوران" في الحديث عن النصوص التي "يتكركب" في قراءتها، وإذا ما فتّشت بين السطور لا تجد كلاماً مفهوماً ولا معاني واضحة، وما هي إلّا سلاسل حجريّة ملتوية ناتئة، لا تؤدّي إلّا إلى أرض بور في نهاية المطاف.

ولا يقلّ خطراً عن ذلك ما يلجأ إليه بعض سليطي اللسان من توظيف لغة الردح والشتم والسبّ، والرِّدة الجماليّة في تناول الأعمال الإبداعيّة تحت ذرائع غير نقديّة تجعل من يكتبها يتردّى في الالتصاق بطين الكلام، فيلتّ العجين، ولا يستطيع تشكيله، لأنّه لم يجد شيئاً في العمل الأدبّي سوى أنّه لغة خرجت عن لغة العهد القديم وأساليبه، فيبدو كأنّه المصحّح اللغويّ الذي لا يُشقّ له غبار، ولا يُردّ له قرار، فيقترح التصحيحات، مزيّناً مقترحاته اللغويّة، مسبلاً عليها ثوب الجمال والجلال، وكأنّها وحدها من يعطي العمل الأدبيّ جماليّاته وأسباب معيشته وحياته، مصرّاً على أن يلغي كلّ عناصر العمل الأدبيّ ولا يلتفت لمناقشتها، لأنّه ببساطة جاهل في المعايير النقديّة والعناصر الفنّيّة للأنواع الأدبيّة، فيحشر نفسه في اللغة مفتّشاً عمّا يعتقد أنّها سقطات الكاتب.

إنّ هذا أيضاً، وهنا أستخدم لغة التوكيد، ليكشف عن جانب من الجهل مريع وفظيع في أنّه تدخّل الجاهل الغبيّ في صنعة ليس هو ربّها، وفي عمل ليس هو خالقه، وينصّب من نفسه إلهاً يُصدر التشريعات الجبريّة والقدريّة، لأنّه وحده، فيما يظنّ، من يملك الحقيقة المطلقة، أو لأّنه صاحب لسان حادّ يسلق به كلّ من انتقده، فيأخذ الجهلةَ المبهورين به بجعجعة الصوت فيخرسون ولا يحورون جواباً، يُفحمهم خشية الوقوع في رذائل ما اعتاد عليه من "قلّة الأدب" في الردّ على من ناقشه أو حاوره.

بمثل هؤلاء المدّعين تغصّ الساحة الآن من هواة الردح واللطم ليعظم بلاء الثقافة بمتنبّئين كذبة، يَضلّون ويُضلّون، فتضيع الطاسة، ولا تجد الفرس فارسها، وتعاني الحرّة من ألم استبداد الجواري والرقيق، ويتمدد الغثاء وتتكاثر بكتيريا الأمراض النقديّة المعدية في هوامش الرداءة ليتسع الفتق على الراتق.


لا احد يراني/ بن يونس ماجن

 


ادمنت على افيون الشعر

وتهت بين ادغال القوافي

الملتفة الامواج والبحور

وصرت كغراب على الاطلال

اندب حظي 

لا احد يراني

بين خطوط الكف

ورسم الكلمات

وشظايا فنجان مهشم


وفي صحبة الالم

امشي مبتور القدمين

اراوغ الارصفة

وازقة الضباب

ودهاليز الايام الطائشة


اتهرب من ظلي

فيذهب معي الى كل مكان

اختفي وراء شجرة

فتشي بي غصونها

الى اشعة الشمس


كل مرايا الدنيا

تفر من وجهي

وانا عائد في آخر الليل

لفت نظري قط جريح   

كان يتضور جوعا

تحت انقاض

بيوت مقصوفة


في حديقة الشعراء المنبوذين

رأيت الفيلة ترقص على جثة الاسد 

والذباب يسخر من الفريسة

ويتأفف من عفونتها


منذ ذلك الوقت

ولغاية الآن

لا فرق ان اكون ولا اكون

هذا الرهان الخاسر

الذي لا يزاحمني فيه احد


تجاعيد عميقة

تربض على وجهي 

وملامحي البوهيمية

ظاهرة للعيان

فلم ينتبه الي احد

دون ان اعرف السبب


لا غبار اليوم

على شعراء الامس

طالما بحثوا عن قافية جديدة

في بحر من بحور الفراهيدي

عبثا يبحرون بمراكب بلا اشرعة


المنافي القاسية

الرابضة بين الجمر والرماد

تحثني وتجذبني

فكيف الوصول اليها

والامواج الصاخبة

 تعج بالمجاذيف و قوارب الموت

وجثث بلا اطواق النجاة


فليس عجبا

ان يتجاهلني الهدهد

وأما الببغاوات فمآلها الزوال


واذا لم يراني احد

فاللوم يقع على نسيج العنكبوت

وخيوط الشمس والغربال

الليلة الأولى تعالج قضايا اجتماعية هامّة/ إسراء عبّوشي


الليلة الأولى هو عنوان الجزء الأول من الرواية الجديدة الصادرة بداية هذا العام 2023 عن مكتبة كل شيء في حيفا للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، وتقع في 190 صفحة من الحجم المتوسط..

مع أن أسم الرواية الليلة الأولى، لكنها هي الليلة الأخيرة قبل الطوفان،  من المفروض أنها كانت باكورة الليالي الحالمات، لولا تلك العقدة التي أدارت الصراع في الرواية عندما فشل الزوج، فكانت ليلة مخيّبة للآمال فتحت أبواب الجحيم، وطرقت أبواب العرَّافين و المشعوذين؛ لتظهر هزالة العقول، وتضع شخصيات الرواية خاصة النساء في مواجهة مريرة مع الأوهام التي تغيّب العقول، يقع المحظور وتتهافت الأحداث في حلقة متماسكة وحبكة متينة، يأسر الكاتب القارئ في سلاسة انتقاله بين أحداث الرواية وتلقائية الشخصيات، وكم تشبه الواقع.

ورغم أن الرواية تنتهي بلا حل لغز الليلة الأولى، إذا يقول موسى:" لم استطع معاشرة ليلى لأسباب لا أعرفها"، والرواية تفتح نيرانها على الأفكار المتخلفة التي تُضلل الحقيقة، وتهدم البيوت.

لا يترك الأديب جميل السلحوت بطلات روايته يغرقن في ضعفهن كما يريد المجتمع لهن، بل يجبرهن على خوض حرب لتظهر قوتهن، فظهرت ليلى فتاة صاحبة فكر حرّ وعقلية متفتحة لا ترضخ للخرافات، ولا تتحكم فيها العقلية الرجعية الجاهلة، تحملت المسؤولية وكانت المبادرة لحل مشكلتها، بقدر ما يُصعب المجتمع الحياة على الأنثى ويضيق خياراتها، تجدها تتحمل المسؤولية وتواجه ضعف المجتمع بإصرار وثبات، ضمنيا ظهرت ليلى ضحية للمجتمع- رغم محاولاتها للتقرب من زوجها وإغرائه؛ ليتجاوز عقدة الليلة الأولى-،  فقد صمتت كي لا يفضح أمرها الذي ليس لها يد به أبدا، ومع ذلك يحملها المجتمع كامل المسؤولية على فشل ليلتها الأولى، فما زالت المرأة عورة وعار على مجتمع يحكم قبضة الذكورية.

غالباً النّساء في روايات جميل السلحوت محاربات منتصرات، حتى العرافة المحتالة  مبروكة تتمتع بقدر كبير من الذكاء، وتوظف هذا الذكاء لتسيير العقول المتخلفة وتمويه الحقائق وتغييب الوعي.

 لم تحصر الرّواية الدّجل والشعوذة بامرأة " مبروكة"، فهناك" أبو ربيع" الذي يستغل ضحاياه أسوأ استغلال، وبأبشع الصّور، فينتهك عفتهن باسم العلاج، وقد تكون مبروكة في رواية السلحوت شخصية أقل فظاظة من أبو ربيع، صحيح أنها استغلت مسبحتها وآيات القرآن الكريم التي تتمم بها أثناء العلاج، لكنها لم تستغل أحدا من مرضاها كما فعل أبو ربيع مع سعديّة زوجة محجوب عبد السميع وغيرها من النساء. 

رغم أن الكاتب أظهر تباينا بين الأجيال في الإيمان بالسحر والشعوذة، إلا أن اعتراف غادة للفتّاح أبو ربيع بتورطها بعلاقة جسدية مع سميح السّلمان على أمل الزواج كان غريبا، فمن الأولى أن تخبر والدتها بما حصل معها.

عدا غادة فالجيل الجديد " ليلى وعمر" قاوم الأفكار البالية والخرافات المتوارثة، ولم يكتف عمر بتكذيب المشعوذة مبروكة، بل كشف خداعها للعقول، وحمى أخته من تجاربها التي استمرت لمدة عام تقريبا، وقام باسترداد المال الذي أخذته مبروكة باسم علاج ليلى.

في النهاية تُظهر الرّواية بشاعة نظرات الناس التي حاصرت موسى، وأجبرته على الهجرة، وكان ببساطة يمكنه أن يتعالج عند طبيب كما اقترح عليه عمر، ممّا يدل على أن أفكار الناس السلبية تلغي الفكر وتهدم العلم.

أخيرا مبارك للأديب الرائع جميل السلحوت الذي حمل على عاتقه محاربة الأفكار البالية والجهل ونصرة المرأة، مولوده الأدبي هذا، مع التمنيّات بمزيدٍ من التقدّم والنجاحات.

شارل مالك وفيليب سالم: أين يلتقيان وكيف يفترقان؟/ أسعد الخوري



بمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول/ديسمبر 1948، عمّت احتفالات في لبنان وعدد من دول العالم بمناسبة هذه الذكرى الخالدة. أكّد "الإعلان" على أنه "يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق، لقد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يتصرّفوا تجاه بعضهم بعضًا بروح الإخاء". وينص "الإعلان" على الحقوق "دون تمييز من أي نوع، بما في ذلك العرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي، وما الى ذلك"...

في هذه الذكرى كان لا بدّ من التركيز على رجلين ساهما في صنع "مجد لبنان" هما الدكتور شارل مالك والدكتور فيليب سالم، كونهما، أولاً يتحدّران من ضيعةٍ واحدة (بطرام – الكورة في شمال لبنان). وثانيًا، كونهما لبنانيين، يُقدّر لبنان والعالم دورهما الإنساني والفلسفي والفكري (والطبي بالنسبة الى البروفسور سالم). لذا يصدر قريبًا كتاب عن الرجلين (مالك وسالم) هو كناية عن دراسة تتناول حياتهما وإنجازاتهما على هذه الأصعدة، ودور مالك في عملية إنجاز "الإعلان العالمي"، وكذلك دور سالم في اقتراح تحديث "الإعلان" بحيث يصبح أهم حق للإنسان هو الحق في الحياة. والمدخل إلى الحق في الحياة هو الحق في الصحة. وهو ما اقترحه سالم في خطاب له قبل أعوام في الأمم المتحدة، كان مخصصًا للاحتفال بهذه الذكرى الهامة.

*****


بطرام ضيعة شارل مالك وفيليب سالم تتصف بهدوء في طبيعتها الخضراء. أشجار الصنوبر والسنديان والزيتون تضفي جمالاً ساحرًا على المنازل المزدانة بالقرميد الأحمر. بطرام القرية الوادعة مرتع الحساسين ومساكب الورد والياسمين والزهور، تطوّقها منازل من حجرٍ قديم صقلته الأزمنة!

تاريخ عريق من النجاح: وزيران للخارجية من ضيعة صغيرة وسط الكورة الخضراء، شارل مالك (1956 – 1958) في عهد الرئيس كميل شمعون، وإيلي سالم (1982 – 1984) في عهد الرئيس أـمين الجميّل. وزيران مميّزان في الدبلوماسية والفاعلية والحضور.

بطرام أعطت طبيبًا عالميًا أسمه فيليب سالم (شقيق الوزير إيلي سالم). هو يتربّع اليوم على رأس مؤسسة طبية ذائعة الصيت (Salem Ocnology Center) في مدينة هيوستن الأميركية. طبيب ومفكّر له مؤلفات عديدة وأَحدُ كتّاب افتتاحيات "النهار" منذ أكثر من خمسين عامًا. سأله مرة غسان تويني وكانا معًا على شرفة منزل صاحب "النهار" في بيت مري: هل تدوّن أفكارك يا فيليب على الورق لتحفظها من الاندثار؟ أجابه سالم: كلا. فنصحه تويني بتدوين أفكاره، لأنّ الفكرة التي لا تتعمّد بالحبر تموت. منذ ذلك الوقت، أصبح فيليب سالم أحد كتّاب "الافتتاحية" في جريدة "النهار" اللبنانية.


مالك وسالم: من هما؟

شارل مالك هو ابن الطبيب حبيب مالك الذي عَمِلَ مع الجيش البريطاني في مصر حيث أمضى معظم حياته. أما نجله شارل فأمضى ثلاث سنوات فقط في مصر في مدينة الأسكندرية ثمّ غادر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1933 لدراسة الفلسفة في جامعة هارفارد.

في بطرام، ضيعة مالك، كانت علاقة الفتى شارل محصورة بذويه من آل مالك. قصصه الطفولية ترويها السيدة لميا مالك أبنة سليم مالك ووالدة الدكتور فيليب سالم. تروي السيدة لميا كيف كانت تلعب وهي فتاة صغيرة مع ابن عمّها شارل الذي كان يشاركها الألعاب مع اخته ليندا التي تزوجها إبراهيم مالك (خال فيليب سالم) وغادرا بعدها إلى استراليا حيث عاشا هنالك وأسسا عائلة وأعمالاً. أما شقيقة شارل الثانية واسمها ميليا فقد تزوجت نقولا خير وأنجبا وائل خير المعروف في الأوساط البيروتية بشكل أساسي.

الروايات تؤكد أنّ شارل مالك، منذ صغره، يحب الخطابة التي أبدع فيها. كان أحيانًا يضع بعض الحجارة ويقف عليها ويخطب. أو كان يستخدم شرفة منزله في بطرام للوقوف عليها ومخاطبة "الجماهير" وكلهم فتية صغار!

للدكتور شارل مالك ثلاثة أخوة: الأب غبريال راهب يسوعي. رمزي، الذي أمضى معظم حياته خارج لبنان هو أيضًا مثل شقيقه الراهب غبريال، مثقف لاهوتي. أما الأخ الثالث فهو بهيج. وشارل مالك متزوج من السيدة إيفا بدر وله صبي واحد هو الدكتور حبيب الذي يعمل استاذًا جامعيًا.

شارل مالك لم يسكن في بطرام خلال فترة شبابه، ولم تكن له علاقة وطيدة مع بطرّام. هو نقيض فيليب سالم الذي أمضى حياته خلال الطفولة والفتوّة والشباب في قريته بطرّام، وما زال يعود اليها كلما سنحت له الفرص. دائمًا كانت بطرّام تشكّل "بوصلة" لفيليب سالم، سواء كان تلميذًا للطبّ أو ممارسًا مهنته كطبيب واستاذاً في الجامعة الأميركية ببيروت. وهو، عندما كان طالبًا في جامعات الولايات المتحدة الأميركية، أو اليوم بعدما غادر لبنان في العام 1987 وعمل هناك وأسس عيادة خاصة تهتم بمرضى السرطان... بقي حريصًا على زيارة مسقط رأسه بطرام، حتى أنه قام بترميم منزله الوالدي في الضيعة، وحوّله إلى منزل تراثي يُمضي فيه شهراً في السنة عندما يزور لبنان مع عائلته خلال الصيف وأيضًا خلال فترة أعياد الميلاد ورأس السنة. فيليب سالم متزوج من السيدة وداد جبوري.

سالم ما زال يتفاعل مع بطرّام وأهلها حتى اليوم خاصة في هذه الأيام الصعبة من تاريخ لبنان. وعلاقته مع بطرّام ليست علاقة رومانطيقية فقط، بل هي علاقة كيانية وتفاعلية. صحيح أن بطرّام صارت بعيدة جغرافيًا من هيوستن (حيث يعيش) لكنها استمرت وبقيت في كيانه جزءاً لا يتجزأ من مسار حياته.

وتذكر مهى سمارة في كتابها (فيليب سالم: الثائر والعالم والإنساني) أنه "تقريبًا للمسافة بين مكاني إقامة البروفسور سالم وعمله في هيوستن وجذوره في بطرّام، يحتفظ في مركز فيليب سالم لمعالجة السرطان... بمجموعة من الأمور الحميمة والاستذكارات التي تجسّد أقانيم فيليب سالم الثلاثة: بطرّام والعائلة ولبنان. فعلى طاولته، يحتفظ بحفنة من تراب ضيعته، وغصن زيتون من كرمه، وزجاجة صغيرة من زيت الزيتون، ورسوم لمناظر بيوت لبنانية بالقرميد الأحمر وسط أشجار الصنوبر والسنديان بريشة فنانين لبنانيين والعلم اللبناني الذي يعلو ساريةً فوق العلم الأميركي. كما أنه ربما الوحيد في أميركا الذي يقود سيارته بلوحة عليها اسم لبنان، واينما يتوجه يصادف لبنانيين يرفعون له التحية". 


مفاهيم الإنتماء للبنان

"من الصعب جدًا أن يكون أحد الناس يحب لبنان أكثر من شارل مالك"، يقول فيليب سالم. ويضيف: "نحن التقينا في حبّنا للبنان وولائنا له. أنا أقول أن يكون لبنان عربيًا ألف نعم، ولكن أن يذوب في العالم العربي فألف لا". أنا التقي مع شارل مالك حول أبدية وسرمدية إبقاء لبنان حرًا ومستقلاً. لكنّني أؤمن بأنّ لبنان هو عربي من رأسه حتّى أخمص قدميه. ولكنّه يجب أن يكون قائداً للعرب لا ذيلاً لهم. أمّا شارل مالك فكان يؤمن ب"لبنان في ذاته". ويريد أن يكون لبنان جزءاً من حضارة الغرب، لا جزءاً من حضارة الشرق. 

القومية اللبنانية في فكر شارل مالك تقوم على أسس سياسية ودينية، أما القومية اللبنانية في فكر فيليب سالم فتقوم على أسس سياسية لا دينية كما كان يوحي البطريرك الماروني الياس الحويك خلال محادثاته في باريس المتعلقة بتأسيس دولة لبنان عام 1920.

الكلام الذي أطلقه البطريرك الياس الحويك في مؤتمر السلام في باريس عام 1919، وقال فيه: "اننا نطالب بكيان وطني على أساس الوطنية السياسية لا الدينية، وهو ما يحدث للمرة الأولى في تاريخ هذا الشرق"، هو تمامًا ما يردّده فيليب سالم في مقالاته ومقابلاته، إذ يصرّ على أن تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 تمّ على أسس وطنية لا دينية، وان القومية اللبنانية تقوم على هذا المفهوم السياسي الوطني لا الديني. وإذا كان الفيلسوف شارل مالك يعتبر ان "لبنان هو بلد العيش المشترك"، فإن فيليب سالم يؤكد دائمًا أن "لبنان هو بلد العيش الواحد" وان لا حلّ طائفيًا أو فئويًا لأي مشكلة طائفية في لبنان، مستشهدًا بشهادة البابا يوحنا بولس الثاني الذي أكدّ خلال زيارته التاريخية لوطن الأرز، أنّ "لبنان هو وطن الرسالة". ويضيف البابا موضحًا فكرته: "يقوم لبنان بجميع طوائفه وأهله أو لا يقوم، وهو للجميع أو لا يكون". ويقول فيليب سالم: "أنا أؤمن بلبنان الرسالة. والرسالة ليست فقط في انصهار الأديان والطوائف بل أيضاً بانصهار الحضارات".

تباين الرأي في نظرة شارل مالك وفيليب سالم إلى العالم العربي أمر واضح وماثل للعيان. فالعالم العربي ليس ضمن أولويات شارل مالك ولا يشكّل أهمية لافتة رغم أنه من أوائل الذين حذّروا من مخاطر إسرائيل والصهيونية على لبنان والعالم العربي.. مالك يهتم بلبنان الذي "يمثّل ويجسّد الحضور المسيحي في الشرق". أما "لبنان العربي" فكان يؤمن به شارل مالك بشكل غير جدّي وغير عميق.

كما أن مالك أعلن دعمه للبنان وولاءه الشديد له من "زاوية مسيحية" لأن لبنان، بالنسبة اليه، يجسّد الحضور المسيحي في الشرق. بينما فيليب سالم يطرح قضايا لبنان، من علاقات وطن الأرز بالدول العربية باعتباره جزءًا أساسيًا من هذا العالم العربي المترامي الأطراف. سالم يؤمن بكل قوة، بأن لبنان دولة عربية تاريخيًا وسياسيًا وثقافيًا. ويردّد: بالرغم من اعتباري حضارة لبنان مميّزة عن حضارة العالم العربي، لكنها ليست ناتجة أو متأتية من "المنحى الديني" بل من زاوية "عظمة لبنان وعظمة حضارته"، وان الهدف هو إرساء الدولة المدنية. ويشدّد سالم دائمًا "على أنني لست مسيحيًا في الشأن العام بل لبنانيًا رغم أنني مسيحي حتى العظم". بينما شارل مالك يعتبر أن المسيحيةَ جزءٌ أساس من القضية اللبنانية.

فيليب سالم يؤكد أنّ الحضور المسيحي في الشرق مهم. ولكن في النهاية يؤمن بـ"الانصهار المسيحي – الإسلامي، وبدولة المواطنة والدولة المدنية وأنّ لا فرق أو تمييز بين المسيحي والمسلم والدرزي"... ويؤمن بكل قوة بفصل الدين عن الدولة. والموضوع المسيحي عند سالم، هو موضوع شخصي أكثر مما هو موضوع وطني.


حقوق الإنسان

"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" هو ذروة إنجازات الدكتور شارل مالك ورفاقه. ويؤكد فيليب سالم أنه لولا شارل مالك (اللبناني) لما خرجت هذه الوثيقة التاريخية من لدن الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى الحياة. هذه الوثيقة الهامة تمّ الاتفاق على مضمونها نهائيًا عام 1948 في العاصمة الفرنسية باريس.

شرعة حقوق الإنسان "شرّعت" حقوق للإنسان كافة في كل أنحاء الدنيا. كل إنسان في العالم، بغضّ النظر عن جنسيته ولونه وانتمائه...

هذا الإعلان أبصر النور في نهاية الحرب العالمية الثانية، ويُعتبر المحاولة الأولى التي تبذلها منظمة دولية من أجل "الاعتراف بالحقوق المتساوية والثابتة لجميع أعضاء الأسرة البشرية".

لكن ما كان ينقص هذه "الوثيقة التاريخية" هو "حقّ الإنسان في الصحة". وهذا ما حدا بالطبيب اللبناني الدكتور فيليب سالم أن يدعو الأمم المتحدة إلى "إعادة النظر في الصحة لجعل الحقّ في الرعاية الصحية الأكثر قدسية بين حقوق الإنسان". ودعا سالم إلى تغيير المادة الثالثة في الإعلان لتصبح على الشكل الآتي: "الحق الأهم والأكثر قدسية بين حقوق الإنسان هو الحقّ في الحياة، لكنه غير ممكن في غياب الحق في الرعاية الصحية، فالحياة رهنّ بالصحة...". ويكمل سالم قائلاً: ماذا ينفع الإنسان إذا تمتّع بكل حقوقه الإنسانية ولم يتمتع بالحق في الحياة، في غياب الحق في الرعاية الصحيّة. 

ويتابع سالم: لا أشكّ أبدًا أن أهم حق للإنسان هو الحق في الصحة والحياة لأن المريض الذي لا يستطيع الوصول إلى طبيبه (لأي سبب) لا يعود يهمّه كثيرًا قضية الحرية وحرية المعتقد أو الدين...

ولو أن هذا الحق كان موجودًا لما فقدت البشرية ثمانية ملايين شخص توفوا نتيجة إصاباتهم بـ(كوفيد 19) في السنوات الأخيرة.

                                 *****


في كتاب فيليب سالم (المعرفة تقودك إلى الله) الصادر عام 2021، يقدّم غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي الكتاب ويقول: "ليس كتابك هذا موضوعًا أكاديميًا، بل هو إخراج ما في قلبك من إيمان ومعرفة وخبرة حياتية في عالمك، عالم الطبّ. أنتَ تَضعُنا أمام تأملاتٍ رفيعة في الحياة، وصفحات رائعة من السموّ الروحي واللاهوتي، هي في صميم حياتك وخبرتك اليومية، ولذا، هو ليس كتابًا فلسفيًا أو لاهوتيًا، بل شهادة حياة تتضمن الوجهين الفلسفي واللاهوتي".

هي شهادة حقٍ من البطريرك الماروني في فيليب سالم الإنسان الذي يحمل "صفحات رائعة من السمو الروحي واللاهوتي" من شأنها أن تنعكس إيجابًا في ممارساته اليومية، كما في مسيرته الإنسانية والأخلاقية والوطنية والطبّية...

إعلامي


الصور

- الدكتور شارل مالك

- الدكتور فيليب سالم


سلامٌ على ذاكَ الوحيد/ فراس حج محمد

 


1

أصحو باكراً جدّاً

رأيت أبي يضحك في وجهي

يصافحني

أقبّل رأسه

وأسأله عن حاله:

يمرّ أمامي مثل نور بهيٍّ

يخطو كأنْ لم يفقد الكلام والمشيَ مذُ ثلاثِ سنينْ

2

أصحو باكراً جدّاً

تدقّ الساعة في رأسي

في العتمة التي تحيط بي، تأخذني إلى ملاذي الأخير

زوجتي عن يساري

وطفلتي الصغيرة غافية بسلام كبير

هادئتان تماماً مثل ظلّ القمر

أتفقّد الوجهين في العتمة السائلةْ

أقبّل الوجوه الثلاثةَ باضطرابٍ غريبْ

أسمع صوت الله ينادي للصلاةِ

أرى أبي ثانية يساندني لأقفْ

3

أصحو باكراً جدّاً 

الوقت بعد الثانية صباحاً بقليلْ

يبادلني الحزنُ أطرافهُ

ويقيم فيّ حفلتهُ

نبكي معاً على ذاك الجدار الذي ظلّ يسندني خمسين عاماً 

ثم غاب في ظلال الأمكنةْ

الصورة الآن واضحة يا أبي:

وحيداً صرتَ 

ومثلكَ صرتُ وحيداً دون أبٍ صديقْ

دون نهر وغناءٍ 

دون وقتٍ وحكاياتٍ ودليلٍ وطريقْ

الصورة الآن واضحة يا أبي:

كأنّك حيٌّ

بل إنّك حيّ وحيّ وحيّ

4

أصحو باكراً جدّاً

أرتّب الوقت كما يحلو لحزينٍ جرّه الموتُ لأطياف الحنينْ

كأنْ لم يغب عن المشهد الكليّ أيّ أبٍ منذ آدمَ حتى آخر لحظةٍ من عمر هذا الكونْ

أحدّث الزملاء عن "أبتي"

فينشرح الوجهُ تارةً 

وتارة يغلبني الطينُ والقدر الإلهيُّ وأنفاسُ قلبي المثقّب بالأنينْ

ينحدر الكلام على شفتيّ

نسقط في الصمتِ

وحدها العينان تأخذ بالحديث الشجيِّ 

عن الذكرياتِ والوجعِ الشقيِّ

5

أصحو باكراً جدّاً

يأخذني الوقت والتاريخ والذاكرةْ

مرّ شهر يا أبي 

عاد الجميع إلى عاداتهم

أفراحهم

أعمالهم

لكنّ- وحدك- قد بقيت هناك تحت الشجْرة الخضراءَ 

تنبت في أعالي الشجرةْ

غصناً فتيّاً ونديّاً وجديدَ الورقةْ

مثقل الأغصان- يا أبتي الرضيِّ- بشهدِ الثمرةْ

6

أصحو باكراً جدّاً 

يأخذني المكانُ الطاهر المبتلّ برائحة الجسد المسجّى كالعقيقْ

تحدّثني يا أبي عن:

كيف أعدتَ ترتيب المكانِ في الحفرة الطيّبة

وكيف صادقت جيرانك الطيبين في المقبرةْ

وكيف صرت تبني الحكاياتِ لهم فقرةً، فقرةْ

كي لا تشعرَ –مثلي- بالوحدة الجارحةْ

7

أصحو باكراً جدّاً 

لا أعرف غير وجهك الضوئيّ في هذا الظلام المخيفْ

سلام عليكَ أباً لا مثيل لهُ

في الفرح

والحزنِ

والراحلينْ

سلام عليك- أبي- إلى يوم أن يلتقي الطيبين بالطيبينْ

طبتَ حياً خالداً في الخالدينْ

كانون الثاني 2023


الاستيطيقا بين الابداع الجمالي والخلق الفني/ د زهير الخويلدي



مقدمة

سنقوم في هذه المرحلة بإدخال دراسة بعض الظواهر التي يساهم فيها كل من الحساسية والذكاء. هذه هي الظواهر النفسية المتعلقة بالجمال. العلم الذي يدرس يسمى الجماليات، من الإحساس. كما أن كانط، الذي يحرف هذه الكلمة عن معناها العادي، يجعلها تحدد ذلك الجزء من الفلسفة حيث يتم دراسة التجربة الداخلية والخارجية. ولا تسعى إلى تحديد القواعد التي يجب أن يلتزم بها الفنانون. والغرض منه هو تحديد الجمال الذي يُنظر إليه أولاً بطريقة مجردة عامة. ينتقل علم الجمال بعد ذلك إلى دراسة الطرق المختلفة التي ينكشف بها الجمال لنا، والأشكال المختلفة التي يتم التعبير عنها من خلالها، أي باختصار، لدراسة الفنون الجميلة. مشاكل: الجمال المجرد والجمال الملموس، الذي يجب أن تسعى الجماليات إلى حله.


ما هو الابداع الجمالي؟

هذا سؤال يصعب جدًا تقديم إجابة مرضية تمامًا عليه. تم اقتراح مجموعة من الحلول المتناقضة. كما أن فكرة كون الجمال قريبًا من العديد من الأفكار الأخرى التي غالبًا ما يتم الخلط بينها ، سنحاول أولاً التمييز بين الجميل وما هو غير ذلك. وبالتالي سيكون لدينا تعريف سلبي للجمال ، وبالحديث عن هذا سنبحث عن الخصائص المحددة لهذه الفكرة ، فالجمال ، كما قيل ذات مرة ، هو ما يخدم. وهكذا تم الخلط بينه وبين المفيد. وفقًا لهذه النظرية ، يسمي سقراط أي كائن مفيد بأنه جميل. - هذا التعريف يتجاهل إحدى الخصائص الأساسية للجمال. لا يثير الجميل فينا أي شعور بالاهتمام بالذات: لا يهمنا كثيرًا ما إذا كان الجميل يخدم أم لا ؛ حتى أنه يبدو لنا أن مجال الجمال هو خارج نطاق المفيد تمامًا. ما يميز الجميل هو عدم وجود أي ميل إلى المفيد. أشار كانط عن حق إلى أنه بمجرد أن نتصور أن الشيء مفيدًا ، فإن قيمته الجمالية تتضاءل ، لذا فإن هاتين الفكرتين متميزتين بعمق. - مهما كانت هذه الاعتبارات النظرية ، فإن الحقيقة هي أن كل لحظة تقدم لنا أشياء مفيدة وليس لديها شيء جميل ، وثانيًا ، لقد خلطنا بين الجميل والممتع. الجميل هو بالتأكيد لطيف دائما. لكن اللطيف ليس جميلًا دائمًا. المتعة التي يمنحها لنا الجمال هي من نوع خاص. فالطعام الجيد ممتع ولا يترك فينا أي انطباع جمالي ، والجمال ليس هو الخير: كم من الأشياء الجميلة التي ليست جيدة. تخيلوا شخصا غير أخلاقي. فلننسب إليه أبغض الأهواء وأعظم الرذائل. شريطة أن لا يوجد شيء مشترك بين هذه الرذائل ، وأن مشاريعه الإجرامية تدل على طاقة كبيرة ، بشرط أن تكون عواطفه قوية ، بشرط ألا يكون هذا النشاط المحكوم عليه بالأخلاق أقل عنفًا وعظيمًا ، سيكون هذا الشخص جميلًا. - على العكس من ذلك ، هناك أشياء كثيرة جيدة وليست جميلة ؛ وإذا كانت لأعمال الفضيلة العظيمة قيمة جمالية ، فإنها تختلف مع الصدق العادي ، مع الفضيلة البرجوازية ، التي لها مع ذلك مزايا عظيمة من وجهة النظر الأخلاقية. - أخيرًا ، هناك أشياء غير مبالية أخلاقياً ، وهي جميلة أو قبيحة. المناظر الطبيعية الكبيرة ، الحياة الساكنة ، ليس لها علاقة بالرذيلة أو الفضيلة ، ومع ذلك تعطي المادة لعمل فني ، والجمال ليس هو الصحيح: النظريات العلمية العظيمة بالتأكيد لا تفتقر إلى الجمال. لكن هذا الجمال لا يمكن أن يأتي من صحة التفكير ، لأن العديد من الاستدلالات الصحيحة ، وبالتالي ، لا تحتوي على شيء جميل عنها. من ناحية أخرى ، يمكننا تصور فرضية عظيمة ، خاطئة ، لكنها جميلة. هذه ، على سبيل المثال ، هي النظرية الشهيرة لدوامات ديكارت. كما قيل أن الجمال هو الكمال. لكن يمكن فهم هذه الكلمة بمعاني مختلفة. أولاً ، نسمي الكمال شيئًا يحقق بالضبط الغرض الذي صُنع من أجله: سيتكون الجميل بعد ذلك في تكييف الوسائل حتى الغاية. الآن ، يمكننا أن نرى أن فكرة الكمال هذه تختلف قليلاً عن فكرة المفيد. الشيء المثالي ، بهذا المعنى ، هو الشيء الذي يؤدي بشكل جيد المكتب المتوقع منه. لاحظ ، علاوة على ذلك ، أن العديد من أشكال الجمال لا يمكن اختزالها إلى الكمال على هذا النحو: هذا هو السمو. لا يجد المرء هناك التكيف المتناغم الموجود بين الغاية والوسيلة. على العكس من ذلك ، هناك اختلاف في الشكل والمضمون. السامي جمال لا يجد تعبيرا ملائما. يوجد فيه تمزق في هذا التوازن الكامل الذي يحدد الكمال ، كما حددناه. عندما نعرّف الجمال بالترتيب ، فإنه ينزل إلى الشيء نفسه: النظام هو مجرد علاقة دقيقة بين أجزاء الكل. ما قلناه للتو عن الجمال المحدد بالكمال ينطبق أيضًا على الجمال المحدد بالترتيب. السامي يتعارض مع هذه النظرية. علاوة على ذلك ، فإن الأعمال الفنية حيث تسود العاطفة - ومعها التناقض والفوضى - لن تكون بالتالي جميلة. إذا كان الجمال هو النظام ، فإن مثل هذا التعريف يناسب الأدب الكلاسيكي حيث يسود التناغم التام ، لكنه لن يناسب الأدب الحديث ، حيث يتم تصوير المشاعر النارية عن طيب خاطر ، لن يناسب الأدب القديم. لقد سمعنا أيضًا كلمة الكمال بمعنى أوسع ؛ بهذا أشرنا إلى الكمال المطلق. لم يعد الأمر يتعلق بكمال شيء ما ، بل هو الكمال في حد ذاته. إلى جانب الكمال النسبي الذي لا يمكن تصوره بمعزل عن صفة معينة، سيكون هناك كمال أسمى ، وهذا مطابق للجميل. إذا قبلنا هذا التعريف الأخير للجمال ، فسيكون الجمال هو الكمال المطلق المتجسد في شكل مادي. لسوء الحظ ، هذه الفكرة تنطوي على تناقض: لا يمكن أن يكون لدينا فكرة بسيطة وبالتالي تشمل كل الكمال. إنه مفهوم فارغ. يجب أن يكون لهذا النموذج المثالي الذي قيل لنا طبيعة محددة. خلاف ذلك ، فإنه لا يمكن تمثيله. على العكس من ذلك ، إذا كان من الممكن تحديد هذا الكمال بطريقة ما ، إذا كان يتعلق ببعض الصفة الخاصة ، مهما كان من المفترض أن يكون عامًا ، فهو كمال نسبي وليس كمالًا مطلقًا ، كما قيل. فالجمال ، على الرغم من قربه الشديد من المفيد ، والممتع ، والصالح ، والحقيقي ، والكمال ، فلا يجب الخلط بينه وبين أي من هذه الأفكار. لذلك دعونا نبحث الآن عن طبيعتها الصحيحة. لهذا ، سنقوم بدراسة الطرق المختلفة التي يكشف بها الجمال للإنسان ، وعندما يكشف عن نفسه ، ما هي الآثار التي ينتجها علينا. ثم الآثار المرصودة ، سنحاول العودة إلى السبب عن طريق الاستقراء. وقبل كل شيء ، كيف يكشف لنا الجمال عن نفسه؟ إنه دائمًا في شكل محسوس معقول. هل هو شيء مميز عن هذا الشكل ، أم أنه ليس سوى هذا الشكل بالذات ، لا يهم. الحقيقة هي أنه من أجل الوصول إلينا ، يجب أن يأخذ الجمال شكلاً محسوسا معقولاً. ما إذا كان هذا الشكل مدركًا من قبل الحواس أو تصوره الخيال ليس ذا أهمية كبيرة. الخيال ، مثل الحواس ، يظهر لنا الأشياء في أشكال ملموسة ، لذلك نحن نعلم بالفعل أنه يجب دائمًا التعبير عن الجمال في شكل محسوس معقول. لكن ما هو في حد ذاته؟ لن نتمكن من قول هذا إلا بعد تحليل آثار الجمال علينا. يعطي الجمال أحاسيس ممتعة. أول ما يميز العاطفة الجمالية هو أن تكون المتعة. - ها هي الثانية ، والتي تبدو للوهلة الأولى مناقضة للأولى. في حين أن ما يرضينا بشكل عام يثير فينا مخاوف أنانية - كل ما يرضي لنا يكون مفيدًا لنا إلى حد ما - فإن المتعة الجمالية دائمًا ما تكون غير مبالية. عندما نختبر هذا النوع من المتعة ، فإننا نتخلى عن أنفسنا تمامًا للمتعة التي يمنحنا إياها دون أن نسأل أنفسنا ما إذا كان هذا الشيء يمكن أن يخدمنا أم لا. نحن لا نحسب: لذلك لا نصر على الاحتفاظ بامتياز المتعة التي نختبرها. لا تدفعنا المتعة الجمالية إلى امتلاك الشيء الذي تسبب فيه لأنفسنا وفقط لأنفسنا. طالما أننا نرى الأشياء الجميلة ، فإن حبنا للجمال يكون راضيًا. لا نريد أن نكون أصحاب الشيء الذي سحرنا. إذا كان الهاوي يسعى إلى جمع اللوحات ، فإنه يطيع شعورًا لا علاقة له بالجمال. ليس حب الفن هو الذي يحركه ، بل الحاجة إلى الامتلاك ومجده ، وإليكم سمتان أساسيتان أخريان للجمال: المتعة الجمالية عالمية وفي نفس الوقت فردية. إنها عالمية من حيث أنه عندما أختبر إحساسًا جماليًا ، أعتقد أن جميع البشر الذين يوضعون في نفس الظروف سيختبرون نفس المتعة. يمكننا مناقشة الأذواق والألوان ، لكن هذا لا يمنع ، كما يقول لابرويير ، من وجود طعم جيد وسيئ ، لأن الأشخاص المستنيرين يوافقون على تسمية الأشياء التي تحتوي على نفس الصفات بأنها جميلة. لكن المذاق من وجهة نظر فردية أخرى. ما أجده جميلًا لا يتم الحكم عليه بالضرورة بأنه جميل وبنفس الطريقة من قبل شخص آخر. نحن لا نتفق على الميزة النسبية للعمل الذي نحكم عليه مع عمل آخر. وتكثر الأمثلة من هذا النوع. لقد لوحظ أيضًا في كثير من الأحيان أن المثل الجميل لعصر ما ليس عصرًا آخر. الجمال ، في القرن السابع عشر ، كان موجودًا فقط بالترتيب والانتظام ؛ على العكس من ذلك ، يميل عصرنا إلى البحث عن الجميل في حركات العاطفة العظيمة. ما أحبه قرن لويس الرابع عشر كان نسبة دقيقة في كل شيء ؛ ما نحبه في الفن هو الثراء والتعقيد. لذلك يوجد تنوع كبير وعالمية واضحة في الأحكام المتعلقة بالجمال: لقد درسنا للتو آثار الجمال والعاطفة الجمالية. بدءًا من هناك سنسعى للعودة إلى السبب ، لنستنتج من الصفات المختلفة أن المتعة الجمالية تقدم الصفات التي يجب أن يمتلكها موضوعها ، الجميل ، أولاً وقبل كل شيء ، نحن نعلم أن العاطفة الجمالية غير مبالية. الآن ، هذا وحده هو موضوع عدم الاهتمام الحقيقي ، والذي ليس له حقيقة ملموسة. ما هو موجود حقًا دائمًا ما يكون له فائدة معينة بالنسبة لنا ، إذا كان فقط فائدة إرضائنا. عندما نراها ، تبرز فينا على الفور فكرة لاحقة ؛ نريد الاحتفاظ بهذا الشيء لأنفسنا. الآن ، لا ينتج الجميل شيئًا مثله: لذلك فهو ليس حقيقيًا. إنه مجرد مفهوم للعقل ، وهو مثالي يتشكل ، وثانيًا ، وجدنا أن العاطفة الجمالية هي المتعة. الآن ، المتعة معنا تنتج عن فعل شيء في أذهاننا يتوافق مع طبيعته ؛ الألم ، على العكس من ذلك. نحن نعرف أنفسنا فقط. وبالمقارنة في علاقتها بنا نحكم على الأشياء. إذا كانت العاطفة الجمالية هي متعة، فذلك لأن الجمال يتوافق مع طبيعتنا. كما يجب أن يكون للجميل شيء من الطبيعة البشرية. هذا ما لاحظه سان مارك جيراردين عن حق في مساره في الأدب الدرامي. ما نسعى إليه في كل مكان في الفن هو أنفسنا. المناظر الطبيعية ليست جميلة في حد ذاتها: ما يجعلها جميلة ، ما يجعلها قادرة على أن تصبح موضوعًا لعاطفة جمالية ، هي المشاعر التي يوقظها هذا المشهد فينا. قمع الانسان ، أنت تقمع الجميل. إذا كان الجمال متوافقًا مع طبيعتنا ، فسيتعين علينا فقط فحص أنفسنا لمعرفة ما هو ، على الأقل جزئيًا. الآن ، طبيعتنا تتكون أساسًا من ثلاث ملكات ، ويمكننا النظر في كل منها من وجهتي نظر مختلفتين. في الإحساس ، لدينا التعددية في جانب واحد: الميول والعواطف. من ناحية أخرى ، الوحدة التي تعطى بالعاطفة. - في الذكاء ينتج التعددية عن طريق الأحاسيس ، حالات الوعي المختلفة ، كل ذلك يتعلق بالمعرفة ، ولكن يضاف إليها العقل ، ويمنحها الوحدة. - أخيرًا ، يتكون النشاط من مجموعة من الإجراءات ، من الغرائز ؛ إنها تعددية. تتدخل الذات في هذه الفوضى من خلال الإرادة التي توجه النشاط وتفرض الوحدة عليه ، والتعددية التي تمنحها التجربة والتي أعادتها الذات إلى الوحدة ، فهذه إذن هي صيغة كل معارفنا. وكلما اقتربنا من التوحيد المطلق لهذه التعددية ، زادت المتعة الفكرية ، ويجب أن يتوافق الجميل مع هذه الصيغة ، ومن ناحية أخرى فهو مثالي. لذلك يمكننا أن نقول: الجمال هو الوحدة المثالية والتعددية ، والتنوع ، لكي تكون مثالية ، ستكون معقدة بقدر الإمكان ؛ الوحدة قوية ومتماسكة قدر الإمكان. سيتعين عليها فهم المضاعفات دون السماح لأي شيء بالهروب ، ودون التخفيف من تعقيدها. من الانسجام التام بين هذين المصطلحين سوف يولد الجميل. فقط ، لسوء الحظ ، هذا الانسجام مثالي تمامًا وهذا الانسجام بالكاد يمكن أن يوجد في الممارسة. ومن ثم فإنه في الأعمال الفنية يتم التضحية بواحدة أو أخرى من هذه الخصائص لصالح الثانية. هذا يفسر جيدًا كيف تكون العاطفة الجمالية عالمية وفردية. إنه عالمي لأنه ، بالنسبة للجميع ، يتوافق دائمًا مع الشرطين اللذين وضعناهما. إنه توحيد للتعددية. - لكنها من ناحية أخرى فردية: أولاً ، لأن البعض يفضل أن تسود الوحدة على حساب التعددية ؛ الآخرون يفضلون العكس. بعد ذلك ، بسبب الاختلاف في الحساسيات والميول الشخصية للعقل الذي يفحص الإدراك الملموس للجمال ، وبالتالي يمكننا التعبير عن النتيجة التي توصلنا إليها للتو: الوحدة هي تركيز جميع العناصر نحو الهدف نفسه. إنه مثالي ، إذا لم يصرف أي منهما عن الغاية المشتركة. يتميز هذا النظام بقوته. - التعددية ، من ناحية أخرى ، هي الثراء والتنوع والتعقيد. لذلك يمكن تعريف الجمال: اتفاق متناغم للقوة والثراء. - لكن هذا الاتفاق لا يمكن أن يكون كاملاً: في بعض الأحيان تسود الثروة على حساب القوة ، وأحيانًا القوة على حساب الثروة. بعد ذلك ، وفقًا لميول عقله ، سيفضل كل واحد أو آخر من هاتين المجموعتين. وهكذا ، فإن كورنيل لديه القوة (كما في الواقع كل القرن السابع عشر والفن اليوناني الذي قلدته هذه الفترة) ؛ لكنه يخسر الثروة. الشخصيات لها شعور أو شعوران في الطاقة ، لكن بدون تنوع. الفن الرومانسي ، على العكس من ذلك المفضل في الوقت الحاضر ، يستمد كل مزاياه من تنوعه وثرائه. من ناحية أخرى ، يتم تحرير الوحدة ؛ هناك المزيد من التنوع والقوة الأقل.

جوهر الجمال هو القوة: في بعض الأحيان يعبر عن نفسه على السطح ، مع الكثير من الثراء والقليل من الوحدة ؛ أحيانًا في العمق ، مع وحدة قوية وفقر نسبي. ولكن في هذين الشكلين له نفس القيمة الجمالية لعقل محايد. لكن يجب ألا نحدد الجمال فقط من وجهة نظر الجمال المثالي. إن اتخاذ شكل ملموس ليس سقوطًا للجمال ؛ إنه موجود فقط من خلال الكشف عن نفسه لنا: هذا هو الشرط ذاته لوجوده. الجمال الحقيقي هو القوة والثروة التي تتخذ شكلاً ملموسًا ، وتقترب قدر الإمكان من الانسجام المثالي الذي سيكون الجمال المثالي.


الخلق الفني بين الرائع والسامي

يجب تحديد فكرتين قريبتين من فكرة الجمال: السامية والجليل. بالنسبة إلى كانط ، السامي خاص ، ولا يشبه بأي حال الجمال. يقدم الجميل نفسه دائمًا لنا بوجه محدد ؛ السامي يعطينا انطباع اللامحدود. في نفس الوقت الذي يتميز فيه السامي والجميل بطبيعتهما ، تختلف المشاعر التي يعطوننا إياها. الجميل يعطي متعة هادئة وساكنة ؛ لذة الجليل ممزوجة بالألم. عندما تأملنا في السمو ، ينتج فينا ، وفقًا لكانط ، ألمًا طفيفًا ، نوعًا من التطلع نحو هذه اللانهاية للسامية التي لا يستطيع العقل احتضانها بالكامل. وهذا ما يولد هذا الإحراج ، إلا أنه لطيف. لأن هذا الجهد لإمساك السامي قد يكون عاجزًا ، لكنه مرتفع ، ونحن مدينون له بالرضا عن النظام الأعلى. هذا هو السبب في أن كانط ، في نقد ملكة للحكم ، جعل الفكرة السامية منفصلة تمامًا عن فكرة الجمال. لا سامية في الأدب الكلاسيكي. ما الذي يمكن أن يكون أكثر دقة من: "دعه يموت!" هوراس؟ ومع ذلك ، أليس هذا مثالًا رائعًا على السمو؟

لذلك لن نضع هوة بين الجليل والجميل؛ الأول هو فقط أعلى تعبير، أقصى كثافة للجمال. ولكن بما أنه يوجد نوعان من الجمال، فلا بد أن يكون هناك نوعان من السمو: الجليل في القوة، والسامي في الغنى. الآيات القرنية، البسيطة والقوية للغاية، هي سامية: فالسهل الهائل الذي يقدم لنا المشهد الأكثر تنوعًا ليس أقل من ذلك. يجب أن نمنح هذا الاسم لكل ما يستحق أن يتحمله: رودريغ لا يستحقه أكثر من فاوست. تمامًا كما أن السمو هو أوج الجمال، فإن الجميلة مثلها الضئيلة. الجميل هو الحالة الطبيعية للفن: الجميل هو نزوة؛ السامي، الصدفة السعيدة، ما يميز الجميل هو المقياس المثالي بين عنصري الجميل، الوحدة، التنوع. يمكن للمرء أيضًا أن يقول إنه في الجمال، القوة تفسح المجال قليلاً للتنوع. الجميلة سهلة، وهذا ما يميزها قبل كل شيء، مثلها مثل الجليل، مثل الجميلة، لا توجد الجميلة إلا من خلال اتخاذ شكل محسوس معقول. إن إعطاء الشكل الجمالي المثالي هو عمل فني. إذا أخذنا الفن بمعناه العام فهو معارض للنظرية. إنها مجموعة الوسائل التي تهدف إلى تطبيق الحقائق التي أنشأتها التامل. عندما يهتم الفن بإدراك الجمال فقط، فإنه يأخذ اسمًا جديدًا ويشكل الفنون الجميلة. ومن هؤلاء سنتحدث. الفن مثل اللغة. الأشياء هي العلامات التي من خلالها سيتمكن من التعبير عن الجمال. سوف يبحث في الواقع المعقول عن الأشكال التي سيعبر بها عن الفكرة الجمالية. المادة نفسها ليس لها قيمة جمالية؛ يستعير كل شيء مما يعبر عنه. فكما أن الكلمات ليس لها معنى في حد ذاتها، فإن الأشكال التي يستخدمها الفنان تعمل فقط على جعل المفهوم المثالي الذي تصوره الفنان ملموسًا، وغالبًا ما تم تمييز مذهبين عظيمين في الفن: المثالية والواقعية. المثالية هي الفن الذي يسعى إلى نسيان الواقع، لتحقيق المثل الأعلى قدر الإمكان. لا يهمه ما هو البشر والأشياء. الفنان المثالي يظهر لنا البشر والأشياء بنسب أكبر من الحياة. الواقعية، على العكس من ذلك، تختزل الفن إلى استنساخ فوتوغرافي للطبيعة. الواقعي يمتنع عن الحلم، ويمنع الخيال، والنسخ. يريد أن يظهر لنا الأشياء كما هي، ليست أكبر أو أصغر من الحياة. يريد أن يظهر لنا الحقيقة كما هي. هل الواقعية حقا تستحق اسم الفن؟ أليس هذان التعبيران المتناقضان؟ يبدو لنا. الهدف من الفن هو التعبير عن الجمال: فالجمال إما مثالي أو ليس كذلك. الغرض من العلم ، وليس الفن ، هو تعليمنا ما هو موجود. يجب أن يجنبنا الفن جنبًا إلى جنب مع تفاهة الحياة الواقعية ، حياة مثالية تقع علينا منذ البداية ، حيث يرتفع كل شيء ويتضخم. هذا هو موضوع الفن. تُفهم الواقعية على أنها علم الملاحظة: إنها تاريخ الحاضر. لكنه ليس فنًا إذا كان يحظر المثل الأعلى. من المؤكد أن المثالية يجب أن تأخذ نقطة انطلاقها في الواقع. يبدأ بملاحظة ما هو موجود ثم يمثّله. لكن الجزء الثاني من هذه المهمة هو عملها الأصلي والأصيل. يجب إضافة تصنيف للفنون الجميلة إلى نظرية الفن هذه. يعبرون عن الجمال بأشكال مختلفة: سيكون هذا هو أساس ما يميزنا. للتعبير عن الجمال ، هناك نوعان رائعان من الأشكال: أشكال بلاستيكية للبصر ؛ أصوات للسمع. هذه هي الحواس الجمالية. وهكذا لدينا بالفعل ثلاث فئات: الفنون الموجهة للسمع ، والفنون الموجهة للبصر ، والفنون الموجهة لهاتين الحسيتين في نفس الوقت. يمكن للمرء أن يصنف الفنون المتضمنة في كل فئة من هذه الفئات حسب المقدرة الأكبر أو الأقل لشكلها للتعبير عن الجمال. وبالتالي ، بالنسبة للأصوات ، من الواضح أن الشعر هو الأنسب للتعبير عن المثالية الجمالية أكثر من الموسيقى. وبالمثل ، في الفنون المرئية ، يكون اللون أكثر ملاءمة للتعبير عن الجمال من النحت أو العمارة. وانطلاقًا من ذلك ، يمكننا تقسيم الفنون المختلفة إلى هذه المجموعات على النحو التالي:

الفنون التي تتناول السمع: الموسيقى. الشِعر.

الفنون المشتركة للسمع والبصر: الفن المسرحي ، الخطابة.

الفنون التي تلائم الرؤية: العمارة. النحت. الطلاء

هذا هو تصنيف الفنون الجميلة.

أحجارُ العيون/ عدنان الظاهر

     

غامتْ أو صحّتْ

عيناكِ الضوءُ القادحُ في أحجارِ الليلِ

نجما شَجَنٍ يتقهقرُ إمّا طلَّ الفجرُ وضاءَ

طقَّ الجُنبُذُ فارتاحَ التاجُ وغنّى

ريحاً وعبيراً وحنانا

دسَّ الشيطانَ فمسَّ الجفنُ الكأسا

أخشى البوحَ إذا مرَّ على روحٍ ريحانُ

همزُكِ شاراتٌ عجفاءُ

لا مطرٌ ينزلُ منها لا طبٌّ فيها لا إسعافُ

أمضيتُ العمرَ لألقى مَن أهوى لكّني

( خفّفتُ الوطءَ ) على الآرضٍ الرخواءِ

يأساً من سَلَسِ الوعدِ الضاربِ أطنابا

أغلقتُ كتابي وسحبتُ الأوراقا ..

ما قالَ بنفسجُ عينيها للكنزِ الكامنِ في رُمّانِ القلبِ المحروقِ

ما قالَ الساحرُ في لُعبةِ قانونِ الأوتارِ

ما قالتْ لوسُئلتْ في كُحلةِ قُرّةِ عينيها

لا تثريبَ ولا شكوى من نجوى

عُرُسَ القنصِ السريِّ الساقطِ هَمْسا

لا أشتاقُ لغيرِ عبيرِ الشوقِ العالقِ طوقا

هزّي العرْشَ وشدّي العزما

ذَبُلتْ أجفانُ عيونِ الدِفلى شوقا

يا ساقيَ أعراقِ النعناعِ البرّي عفوا

لا ترفعْ في وجهِ المُدلجِ ليلاً راياتٍ سودا

الهمُّ ثقيلُ 

والليلُ إذا ما طالَ طويلُ

يا قاضي أَجَلاً مُستثنى لا تمضي أبعدَ من مرمىً أعمى

هل مِنْ حلِّ ؟

لا ترمِ الأحجارَ بعيدا

آهٍ من جسرٍ يهوي ..

أطلقتُ الصرخةَ بعدَ الأُخرى

أعياني جهلي

صيّرني خَلِقاً مخلوقاً مِسخا

يا دُرّةَ عينِ المشتاقِ وهبَّ الريحِ على الأوراقِ

أقدامكِ تمشي نحوي أمْ تمشي أشواقي

لا أرسمُ في حائطِ خطِّ النجوى أشباحا

حيثُ الملقى أهواءُ قصيرِ الأعناقِ

أنتِ الحُمّى في رأسِ الغارقِ بالإطراقِ

والآسي للساقطِ في لُجّةِ سِحر الأحداقِ

كوني مسَّ الرامي للمرمى

كوني أحجارَ الرامي.



همسات في ليل رام الله/ جواد بولس



فرحًا كطفل قطعت الطريق من بيتي في القدس إلى مدينة رام اللة. هناك في أحد مطاعمها تواعدنا، أنا وثلاثة أصدقاء قدامى، أن نلتقي بعد فراق دام طويلًا. اصدقائي محامون فلسطينيون عمل اثنان منهم ، عدنان الشعيبي وشاهر العاروري، في الدفاع عن الاسرى الفلسطينيين أمام محاكم الاحتلال الاسرائيلي العسكرية لعدة سنوات وحتى سنة التوقيع على "اتفاقية أوسلو". رافقت عملية توقيع الاتفاقية تساؤلات فلسطينية عديدة؛ كما وحملت المبادرة بذور تحقيق الحلم الفلسطيني بانهاء الاحتلال وباقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد توقيع الاتفاقية كثيرًا من التغييرات كان من بينها هجرة العديد من المحامين العاملين في ميدان القضاء العسكري وعودتهم الى مزاولة مهنتهم كمحامين داخل المناطق الفلسطينية المحررة/ المحتلة؛ وكان صديقاي، عدنان وشاهر، من بين هؤلاء المحامين، بينما بقيت أنا في موقعي برفقة زملاء جدد آخرين. أما صديقنا الرابع، المحامي شكري النشاشيبي، فلم يستهوه، منذ البداية، النضال تحت "بنديرة" القضاء العسكري الاسرائيلي ولم يؤمن بجدواه أصلا، فقرر الابتعاد عن مباذل هذه المحاكم والاكتفاء بالعمل، كرجل قانون، في ساحة العدل الفلسطيني ومنظوماته القضائية.


لم نعرف، عندما التقينا، متى ولماذا كانت "القطيعة" بيننا، خاصة ومنذ لحظة لقائنا الاولى وقعنا على أعناق بعضنا البعض بدفء حميمي مألوف وكأننا لم نفترق طيلة تلك السنين. لقد أجمعنا أن الظروف التي مرّت على فلسطين كانت هي السبب الذي أبعدنا عن بعضنا؛ هكذا قبلنا الحجة بتعميم مقصود مكّننا، عمليًا، ألا نتعاطى بصراحة وبدقة متناهيتين مع تشخيص الانهيارات التي أصابت فلسطين وأعطبت منظومات قيمها، الوطنية والاجتماعية، كما سادت فيها عندما كنا نركض شبابًا على أدراجها بلهفة الصبح وهو يطرد، بعناد الماس، العتمة نحو العدم. تدافعت حكاياتنا كسيل كان حبيسًا في صدور الزمن: فضحكنا تارة حتى الدمع وغصصنا تارات بالدموع. تذكرنا كيف كنا كمحامين شباب ندقّ أبواب المحاكم العسكرية بقبضاتنا وبايماننا بقدسية ما نقوم به، وكيف كنا نزور أسرى الحرية في سجون الاحتلال كي نقف معهم في وجه الطغيان ونستمد منهم معنوياتنا ونعود الى بيوتنا ومكاتبنا طائرين بجناحين من أحلام، حسبنا انها لن تشيخ، ومن أمل سرمدي حسبنا أنه لن يزول.


لم يشغلنا، خلال الجلسة، وجع الفراق إلا من باب الحنين والعودة الى الفرح الذي سبقه؛ أو للدقة حين استحضرنا فلسطين التي كانت تسكننا وتسكن قلوب أبنائها. فلسطين التي إن كنا ننطق باسمها كنا ننطق بكل معاني الحرية والنضال والعدالة والأمل والتضحية. فلسطين التي على أرضها خلق "قوس قزح" وزرع ، قبل أن تتبدد ألوانه وفصائلها هباءً ، في حضنها وعاش وادعًا آمنًا. فلسطين التي وحّدت الفكرة والهمّ والنشيد والعلم. هي تلك الأم التي لم يختلف عليها ومعها أولادها، فكانت بالنسبة لجميعهم، خاصة عند ساعات الحسم والخطر، الصلاة والحلم والمهد واللحد والفردوس الوطن .


ليل رام الله يضج بالأضواء وبالسمّار وبالأساطير، وسماؤها ناعسة تغض طرفها عمّن يمارسون أكل "خبزهم الحافي" في الأزقة والمقاهي والميادين؛ فهي، مذ حاصر الاحتلال الاسرائيلي القدس وخنقها كليًا، ووهب سائر المدن الفلسطينية الكبيرة "استقلالها الكانتوني"، صارت مدينة الأصداف الهامسة والنبيذ، ومتنفسا لرئات شبابها وللحالمين.


لقد انتقلنا فيها، مثل قطيع غزلان جائعة، من حاكورة منسية إلى بستان أخضر يانع، ولم نشعر أن الوقت يمضي. كان ضروريًا أن "أطمئنهم" إنهم لم يخسروا شيئًا بابتعادهم عن العمل في المحاكم العسكرية، فهذه المحاكم قد وصلت في السنوات الأخيرة الى حضيض لا قاع له ولا مثيل؛ وهي أسوأ بأضعاف المرات عما كانوا يعرفون من قبل. كذلك أوجزت لهم تفاصيل حال الحركة الأسيرة في السجون الاسرائيلية، وكيف تحوّلت عمليًا هذه القلعة الرمز ، منذ تجذر الانقسام بين غزة والضفة الغربية، الى كائن غير الذي كانوا يعرفونه ويتعاملون معه ويضحّون من أجله. لقد أفهمتهم أنّ ما كان يومًا ناقوس فجر الاحرار، وضابط ايقاع النبض الوطني في شوارع فلسطين ومواقع كثيرة في العالم، صار مرآة محطمة تعكس وجه الحالة الفلسطينية المتشظية في الخارج وتحمل كل أمراضها وأنّاتها.


توقفت عند حافة الليل، وعدت معهم الى "شراع يرعى ظلنا وحلمنا"، فلملمنا كثيرًا من نتف قصصنا التي عشناها في قاعات المحاكم أو خلال سفرنا لزيارات السجون، مثل رحلاتنا لزيارة خيام سجن "كتسيعوت" (انصار ) المقام على رمال صحراء النقب، أو زياراتنا لسجني "الفارعة" "والظاهرية" سيئي الصيت.


كنا كأربعة جنود يلتقون بعد سنوات ويستذكرون ايام كتيبتهم وتفاصيل معاركهم وملذاتهم. كانت قصصنا مليئة بالحسرات وبالألم، لكنها كانت تفيض أيضا بمشاعر الغبطة والفخر . لقد كنا حينها نعي أننا نناضل بحزم ضد احتلال غاشم وواضح، ونقف في وجه ممارساته حتى آخر الأنفاس؛ لكننا كنا نعي كذلك على أن الذي كنا نقوم به بقناعة كاملة ورضا قدسي وبسعادة، هو واجبنا تجاه من يناضلون من أجل حرية شعبهم/نا . هكذا كان يوم كانت فلسطين "قبلة المشرقين" وحين كانت "الأمة ترد الضلال وتحيي الهدى" ؛ فاين اليوم منا كل هذا وتلك؟


وعندما جاء دورهم ليطلعوني على ما غاب عني من حياة فلسطين المحررة في عرف "اتفاقية أوسلو"،  لم يجدوا إلا الحقيقة يطرحونها أمامي؛ وقد كانت مرّة. كنت أعرف كثيرًا مما وصفوه ، فحاولنا، معًا، أن نجد بين الضلوع ملاذات آمنة لمستقبل أولادنا، فأخفقنا. لقد نجح الاحتلال باغتصاب اتفاقية أوسلو وطوّعها لمآربه بعد أن دق خناجره في خواصر منظمة التحرير، من كانت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويريدونها جسدًا ممزقًا لا سيقان له ولا سواعد. لقد نجحت إسرائيل بتواطوء شركائها ومن بينهم "أشقائنا" وأعدائنا، من الداخل ومن الخارج، بتثبيت الانقسام الفلسطيني الذي بدأ في العام 2006 حتى اختلف أبناء فلسطين على مفهوم الفكرة وعلى معنى الدولة وأين سيكون الوطن، واختلفوا كذلك على كلمات الدعاء وعلى نبض النشيد وعلى لون العلم.


كنا واقعيين مثل "بنات العنب"، فكانت النتيجة التي خلصنا اليها صعبة علينا حتى حدود المتاهة؛ حاولنا أن نجد فلسطيننا الفتية والأبية، التي كنا نمد لمناضليها وأحرارها ، كمحامين وأكثر، أضلعنا كي يعبروا "الجسر في الصبح خفافًا" ويحيون؛ فلم نجد منها، في تلك الليلة، الا بعض أصداء لتناهيد بعيدة ونثار آمال منهكة. فلسطيننا اليوم عابسة كعاصفة، وتائهة كزغاريد أمهات الشهداء، "وتحترف الحزن" كقبر . فمن أبله يراهن على صمت صارخ!


لقد كان الانتقال الى وصف حالتنا، نحن الفلسطينيين المواطنين داخل اسرائيل، تلقائيًا وسهلا ؛ فسياسة الاضطهاد والقمع الحكومية في حقنا تتفاقم من يوم الى يوم، وما يخطط ضدنا، في ظل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، ينذر بخواتيم كارثية، قد تكون متشابهة من حيث النتائج المحتملة مع ما يخطط لمستقبل الاراضي والمواطنين في المناطق الفلسطينية المحتلة. وعندنا ، كما في المناطق المحتلة، نعاني من أزمة على مستوى القيادات بشكل عام وتشتت في وحدة الموقف السياسي، ونعاني كذلك من خلخلة في دور الهيئات التمثيلية، السياسية والمدنية، خاصة داخل الاحزاب والحركات السياسية والدينية التقليدية، وداخل "لجنة المتابعة العليا" المتعبة والضعيفة والمفككة، علمًا بأنها من المفترض ان تكون عنوان الجماهير العربية السياسي في اسرائيل.


لقد أخافنا هذا التشابه بالبؤس واليأس وبفكرة عدم وجود، في المستقبل المنظور ، مخارج وحلول لأزماتنا الوجودية الخطيرة التي وصلنا اليها، سواء داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل إسرائيل. ولكن...


لم يكن كلامنا كله يأسًا. كنا نُسمع ليل رام الله همساتنا/أناتنا، ونتذكر كيف كنا أربعة أصدقاء جمعهم حلم وأرض وعاصفة ونبيذ، فافترقوا على محطة قطار، لكنهم بقوا على رصيف الوعد وفي عهدة الصداقة النقية ، وبقي محفورا في قلوبهم وشم الوفاء لفلسطين، الذي لا يقدر عليه لا احتلال ولا برق ولا رعد. أربعة عادوا الى "وطنهم" الذي من حب ومن ذكريات ومن حنين، فالتقوا وكأنهم على وجع الذي هو من "نوع صحي" ، كما قال درويشنا "لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل" .. وعاطفيون" .