محاكمة الكاتب في (( ما لم يقله سيزيف في مذكراته المجنونة )) للروائي العراقي : كريم عبد الله/ حسن الموسوي



يأخذ الروائي كريم عبد الله من خلال روايته ( ما لم يقله سيزيف في مذكراته المجنونة )على عاتقه دور المؤرخ ,ليروي لنا أحداث من تاريخ العراق الحديث ,فمن أجواء حرب الثمان سنوات و هي الحرب التي اندلعت بين العراق و ايران للفترة من 1980 إلى 1988,و سمّاها الغرب ,حرب الاحتواء المزدوج, أي انها لاستنزاف البلدين ,الجارين, المسلمين ، مرورا بحرب الخليج الأولى, و الانتفاضة الشعبانية ,و انتهاءً بالغزو الأمريكي للعراق.

الرواية تاريخية بامتياز, حيث أخذ الكاتب على عاتقه مهمة سرد أحداث تاريخية ,و لكن من مكان واحد, ألا و هو مستشفى للأمراض العقلية و النفسية،  و كيف تعامل كل من كان في ذلك المكان من أطباء ,و عاملين ,و مرضى, مع هذه الأحداث .

يعتبر العنوان العتبة النصّية الأولى ,و يعرف على أنه ثريا النصّ ,

و سيزيف ,هو رجل استطاع بذكائه أن يخدع إله الموت ثانتوس ,حيث طلب منه سيزيف أن يجرّب الأصفاد, و ما ان وضع إله الموت الأصفاد في يده, حتى كبّله سيزيف, و بذلك استطاع أن يحمي الناس من الموت .

أن حياتنا اليومية تشبه إلى حد كبير أسطورة سيزيف ، ذلك الرجل الذي يحمل صخرة كبيرة فوق كتفه من أجل الوصول إلى قمة الجبل ، و قبل ان يصل إلى مبتغاه ,يسقط إلى أسفل الوادي, ليسقط من جديد ، ومن ثم يعيد المحاولة من جديد .

الغلاف هو العتبة النصية الثانية ، و نجد فيه صورة لرجل عاري تماما ,و هو يجلس على دائرة كبيرة, و يحمل في يده كتابا ، و في داخل الدائرة الكبيرة ,نجد رجلا عاريا ايضا ,و هو يحمل دائرة صغيرة ,و هذه إشارة إلى صخرة سيزيف .

المقدمة هي العتبة النصية الثالثة حيث يقول الكاتب { نحن لا ندّعي بأننا نمتلك الحقيقة ، الحقيقة التي تكلّمنا عنها ، و إنما سولت لنا الخيانة التي سكنت في تلافيف العقل أن نقولها } ص 5.

وقد كتبت هذه المقدمة بطريقة الانزياح كون أن الروائي هو شاعر أيضا.


تدور احداث هذه الرواية في مستشفى للأمراض العقلية و النفسية ,و يكشف الكاتب الممارسات الشنيعة التي يمارسها كادر المستشفى بحق النزلاء المرضى .

و من السمات الرئيسية للمجانين ,انهم يتحررون من عقدة الخوف ,حيث لا قوانين تحاكمهم, و لا مستبد يفرض سطوته عليهم ، لذلك نراهم يعبرون عن رأيهم بكل جرأة دون خوف من أحد .

يتطرق الكاتب الى مسألة مهمة تمثلت بضرورة الانتماء إلى الحزب الحاكم في تلك الفترة ,و بعقلية رجعية ,فإما تكون معنا او انت ضدنا ، و بالتالي فإن الذي يتم وضعه في خانة الضدّ فإنه سوف يكون في غياهب العدم ، و هذه الطريقة لا تجعل للأحرار مجالا للتفكير, أو على الأقل البقاء في الحالة الوسطية ، حيث يقول الكاتب { انها الفرصة الأخيرة بالنسبة لكم ، لقد أخذتم الوقت الكافي للتفكير ، الآن ,و الآن فقط ,حددوا طريقكم .. مع أو ضدّ } ص 45 .

نجد في هذه الرواية السمات الرئيسية للدولة البوليسية التي تحاول بشتى الطرق أن تخضع الجميع إلى سلطانها ، فنجد الممرضة نوال و هي تمارس الغواية من أجل الإيقاع بـ جواد الممرض المؤمن ,و حين يرفض الاقتراب منها تهدده بالدليل القاطع الذي يثبت خيانته للوطن حسب زعمها ، حيث يقول الكاتب{ قبل أيام يا جواد وجد صديق لك في الردهة كتابا يتحدث عن الثورة الإسلامية،  كان هذا الكتاب في درج مكتبك } ص 130 .

الرواية فلسفية ,و فيها افكار متجددة, حيث يقول الكاتب { لا أجد تفسيرا مقنعا لوجودي في وسط هذا الكون المظلم ، و لكني أعي جيدا بأن ورائي, يوجد قبر أعد لي منذ ولادتي } ص 155 .

و هذه التساؤلات هي التي شغلت تفكير الفلاسفة و المنظرين ، فنظرية الوجود و العدم هي من الثنائيات التي حيرت أصحاب الألباب, و لم يجدوا تفسيرا مقنعا لها .

و يواصل الكاتب تساؤلاته الفلسفية من خلال شخوص روايته ,حيث يقول{ في دائرة صماء أدور وحدي ، مبعثر الأفكار ، مشدوها ، متى بدأ هذا العالم ؟ متى ينتهي ؟ أقف على سطح كرة تتدحرج ، لا أدري متى تتوقف ؟ } ص 221 .

يتحدث الكاتب و ضمن مفهوم الروائي بوصفه مؤرخا عن الانتفاضة الشعبانية التي اعقبت انسحاب الجيش العراقي من الكويت ,و ما أعقب ذلك من تداعيات ألقت بظلالها على المشهد السياسي للعراق, حيث يقول الكاتب{ كانت محافظات الجنوب مشتعلة ، سقطت جميعها بأيدي أهلها،  كانت العشائر ترفع الرايات الملونة ، السود ، الخضر ، الحمر ، البيض ، زيادة على رايات العشائر المختلفة الألوان ، لكن تبقى راية واحدة هي المسيطرة على هذا الفضاء الكرنفالي ، راية سوداء كتب عليها يا لثارات الحسين } 171 .

و من الجدير بالذكر ان الألوان التي ذكرت في هذه القطعة تمثل مجموع ألوان العلم العراقي .

يصل الكاتب من خلال روايته التاريخية إلى الغزو الأمريكي للعراق, و ما جرى في مستشفى الأمراض النفسية و العقلية ، وما رافق ذلك من تصفية لكل رموز النظام السابق .

الشيء الملفت للنظر, أن لا أحد فكر في تصفية المرضى ,كون أن الجرائم الشنيعة قد تم ارتكابها من قبل بعض الكوادر العاملة في المستشفى, و هم من الأصحاء طبعا  ,و هذه مفارقة تستحق أن نقف أمامها بتمعن .

الرواية فن زمني بامتياز ، و الزمن من العناصر المهمة في كتابة الرواية ,و على الكاتب أن يتوخى الحذر عند كتابته للزمن, و ان لا يغفل أي شيء من عادات ,وتقاليد كانت سائدة في تلك الحقبة الزمنية التي يتكلم عنها ,مثل شكل النظام السياسي القائم ,و المودة ,و تسريحة الشعر ,و نوعية السيارات .

و من خلال سرد الأحداث يستطيع القارئ أن يتصور تلك الحقبة الزمنية حتى و ان لم يكن قد عاشها .

و الرواية مكانية أيضا , و يعرف المكان على أنه الفضاء الذي تدور بداخله كل المشاهد ,و الصور ,و يسمى بالحيز المكاني .

و يقوم الكاتب بوصف كل شيء يتعلق بذلك الحيز المكاني ,من أبنية ,و شوارع, و علامات دالة حقيقية ، و للمكان دلالات مهمة يذكرها الكاتب حسب المستوى العام لطريقة سرده للأحداث .

و للمكان اهمية خاصة في كتابة الرواية ,و أحيانا يكون المكان بمثابة بطل الرواية.

من أجمل الأشياء في قراءة أي رواية, هو أن يجد القارئ شيئا مختلفا عما قرأه من قبل .

و هذا ما وجدته في الفصل الأخير من الرواية ,حينما قامت الشخصيات بمحاكمة المؤلف على الادوار التي اضطلعوا بها ، فالكل غير راض عن دوره  ، أما المؤلف فقد دافع عن وجهة نظره ,و ربما هو لم يقصّ علينا كل ما في جعبته من مذكرات مجنونة .

بقي ان أشير إلى أن هذه الرواية هي من إصدارات مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع .و تتكون من 355 صفحة. و من القطع المتوسط .

و قد أشرف عليها لغويا الدكتور عبد الحسن خضير عبيد المحياوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق