تطوان حكاية حياة نخبة من بشر استحضرت لوجودها كأول لبنة مُقامة لمن ينشدون الاستقرار المسترسل انطلاقاً من تطوُّرٍ فكري زارعٍ لنور المعرفة في أرض طيِّبة فاتحة ذراعيها لمن قصدها بنيَّة سليمة ضامنة لهم الشعور التلقائي بالأمان مركزاً وأجنحة ، فيُتَرجَم ذاك التطور مُذ لحظة الوصول إلى قدرةٍ تُحوِّل المتوفِّر إلى أقوى إرادة تتحلَّى بها ربوع لتنمية نفسها اعتماداً على إمكاناتها المحلية أولاً وأخيراً ولكل ما يلزم العمل دون تأخير شارحَة ، بمعنى أن تطوان في نشأتها الثالثة ابتدأت وهي على قدر يكفى من حكمة مَن اتَّخذوها مقراً مدَى الحياة جعلتها تعايش مرحلة من بناء أسُسٍ لا زالت قاعدة كل شيء حتى الساعة وجميعها لمن استعملها وما زال بما صُرِف عليها من مجهود تظل رابحة ، لذا تراها عصراً بعد آخر متمسكة في شخص أهلها جيلاً بعد جيل متشبِّثة بأشياء خاصة ترى فيها عالمها المُصغَّر غير المُكرَّر في أي جهة كانت لاختلاف المصلحَة ، عناوين بعض فروعه تقاليد وأعراف تميِّز التطوانيين بميزة التأثير المباشر في الأوساط الوافدة إن أرادت الاندماج محلياً وفق شروطٍ غير مكتوبة بل مُعاشَة يوماً بعد يوم بأساليب مريحة ، آخرها من حيث النبل والاعتزاز بالنفس أن التطوانيين لا يتقنون التسوّل في أي مرحلة من أعمارهم ، تظل أيديهم نظيفة من هذه العادة الرخيصة ، مستعدة لتحمُّل أصعب متاعب أي عمل شريف لتوفير لقمة في الحلال ، ومهما كان الدَّخل يتعرَّض لبرنامج صَرْفٍ يُقارِب الحصول على أقل الضروريات والتَّوفير للغد ، فجاء التنظيم عندهم أساس التدبير العام لشؤون خاصة ، مرتبة حسب الحاجة اليومية المتقنة الإعداد فالاستهلاك ، مرتبطة بفرض أناقة المَظهَر عند الخروج للهواء الطلق كما يستحق فيهم الجوهر إتباعاً لتربية ساهمت في الوصول بالعقلية التطوانية لحد النزوع لعدم الاختلاط بمن يعاكسها أخلاقاً غير مضبوطة على قيم الخير ، أو البعيدة عن قناعة للقدَرِ فيها حضور ، وليست تابعة لشهوة تقود لعذاب القبور ، فتولَّدت الشخصية التطوانية عن تدرُّجٍ حميد مفعمٍ بتقدير الجمال ، والتعامل معه بما يلزم من إجلال ، وفق اعتناقٍ لدين تَرَبُّوا على حُبِّه الأزيد جمالاً والأكثر تقبُّلاً للتبجيل المصاحب الأفعال الطيبة النائية عن شوائب ولو التطلُّع لحقوق هي للآخرين رزقهم المكتوب عليهم في الفانية . فكانت هذه العناية لرعاية التطوانيين الخالصة للدين أداء للفرائض ، وتأسيساً لزوايا تذكر الله بغير انقطاع ، وتُطعِم بدون أطماع ، وتناصر بلا صُداع ، وتزيح المنكر والكل يُبصر ويسمع ، بلا وجلٍ ولا تفكير في ضياع ، بفضل الله تحيا وترحٍّب بالآتي من عنده سبحانه وتعالى أكانت من الأفراح أو الأوجاع .
التطوانيون مُسالمون لا يستسلمون ، يقولون كلمتهم ويقفون لسماع الجواب ، إن أعجبهم ساهموا في النقاش بما يضيف ، عن أفكار لا تُخيف ، تحمِّل المسؤولية لمن يتلقاها وينصرف ، مادام حضر تلبية لتعليمات عمق مفاهيمها أجوف ، تخص نشاطها على توفيت الصيف ، وبقية الفصول تخص نفس الازدحام على أخذ نفس الصف ، وكالأشجار أصناف ، حظ التطوانيين معرفتهم التكيف مع الصفصاف ، حيث لحاؤه يحارب الفيروسات على اختلاف الأصناف. ولا مرة تبت عليهم مجرد التقرَّب من شجيرات القنب الهندي ، وتلك من أروع المشاهدات عندي، مكتوبة بحبر لا يتبدَّد لونه على ورق ٍمقوَّى موضوع كدليل ثمين ضمن وثائق وصور داخل صندوق حديدي ، يلخص ذاك اللقاء بيني ووالي ولاية تطوان (محافظ محافظة تطوان) الدكتور بلماحي ونحن نتناقش حول العملية المنتهية بنجاح منقط النظير حيث طُبِّقت تعاليم وزير الداخلية بالخرف الواحد ، فكانت النتيجة أن تم القبض على جميع أباطرة المخدرات المنتسبين للناحية كبيرهم كصفيرهم في ظرف أسبوع واحد لا غير ، وحالما انتبه لضحكاتي سألني : لما تضحك؟ ، أجبته : الولايات المتحدة وما أدراك ما هي ، صرفت أكثر من خمس سنوات وما صاحب ذلك من صرف ملايين الدولارات ليتسنى لها مؤخرا القبض على إمبراطور مخدرات واحد ، وانتم هنا جمعتهم كلهم في كيس واحد في ظرف سبعة أيام ، لا تفسير لي سيادة الوالي عما حدث سوى أنكم تعرفونهم واحدا واحداً وليسوا ببعيدين عن أعينكم وما شكوا لحطة أن نهايتهم ستكون بهذا الشكل على أيديكم ، ثم أنهيت كلامي بسؤال : أمنهم من ينتمي لتطوان من التطوانيين الحقيقيين أباً عن جد ؟ . نظر إلي مُطولاً وقال : التطونيون الذين تعنيهم يا أستاذ منيغ لا علاقة لهم بمثل المجال لا من قريب أو بعيد . انصرفتُ بعدما تمكَّنتُ من الاطلاع على أسماء المقبوض عليهم .
****
في تطوان الأنثى تشرف أوطان
زمرُّدة كريمة في طراوة ربيعٍ لا يقهره الوقت ولا تُسيح يناعته مع مراحل العمرِ نادِرَة تمشي على الأرض تنثُر رائحة المسك جاذبَة اهتمام ورودِ "رياض العشَّاق" لمَّا كان رِياضاً تُنَظَّمُ في حقِّهِ قصائد شعراء الزمن الجميل ، زمردة يغار الشَّفق من لون وجنتيها حاملتي محاسن محيَّاها الصبوح مُوَاجِهاً في حياءٍ بصائِر لا تقوَى على إطالة التمعُّن في نسخة مصغرة مِن شمسِ الأصيل ، زمردة مُزيَّنة مذ خُلِقَت بما يُبهِج أكان الفم ثغر شَهدِ الوصال المشروع أو ما انْسَدَلَ مِن فوقِ رأسها مِن شَعر مازج الذهبي بالأصفر الفاقع أو بسواد العُزْلَةِ المنشودة بوجدان عاشقٍ في الحلال يميل . زمردة متى انبلج الصُّبح مَرَّرَ نسيمه العليل ، على قدِّها الممشوق لتستفيق فَرِحَة بما هي فيه مِن نِعَمٍ تطوانيةِ المَقرِ رَبَّانية المصدر موصولة بخير عميمٍ عريضٍ طويل ، يتسابق العقلاء على خطبتها طمعاً في إنجاب الجمال الجميل الأصيل ، يأتون من الشرق يزاحمون مَن يحملون نفس الرّغبة من المغرب المدركين نشأة أسرة عن بذرة مزروعة في مدينة كل الايجابيات كانت إليها تصِل ، حتى أسراب مِن السابحات في فضاء الدنيا إليها تَطير لتستَقِّر قرب غدير "الزرقاء" الفاقد اليوم نصيبه من الاهتمام بالكامِل ، زمرّدة صان الخُلُق اخضرارها وابتسم القدر لمصيرها ولَمَّا همَّت نفوس لضمِّها مُقدِّمَة الذهب بسِعَة أضخم برميل ، أَبَت العَرض وتمنَّعت وبأدب جم خاطبت ذاك السائل ، القادم من حقله المستخرج منه النفط أن الفتاة التطوانية ليست للبيع قانعة بمن ستحب ولو ملك القليل القليل ، فأقسم المُشبَّه وجهه بوجه الناقة أن لا يبرح المغرب إلا وتلك المرأة مضافة لحريمه ولو خسر ما يجعله كبير عشيرته ولتسخير نفوذه بعدها لن يزاول ، فخاب مسعاه لما وجد وما يتمتع به من ثراء لا يساوي فيما يطمع إليه رأس بصلة أو أقل من ذلك بقليل . فتلك الزمردة هي الأنثى التطوانية مهما كان سنها لا يظهر عليها الكِبر لطيبوبة قلبها ورجاحة عقلها منذ الصِّغر وصواب اختيارها لتبقى كتطوان مهما صبغوها لتغيير مظهرها لا تبالي مادامت قادرة على صيانة جوهرها بما يساير نور مشعالها المتنقل عبر الأجيال من طرف عقلية لا زالت على عهد المنتقلين من الأندلس بنظرية "أن الإخلاص لِما زُرِعَ في هذه الأرض لن يحصده أي غريب عنها قصْده اصطياد ما ليس له فيه حق مِن أيِّ ثمينٍ خفيف أو ثقيل" .
مرة وأنا جالس مع أصدقاء أقترب مني جندي من القوات المساعدة وهمس في أذني أن السيد الوالي الدكتور بلماحي كلَّفه بإحضاري لمكتبه فلبيتُ الطلب عن طيب خاطر بما يخص حُسْنَ تَخْييل ، فلما قابلته بادرني معاتبا : كيف تتزوج من تطوانية وتخفي علينا الخبر وكأنك تمانع في مشاركتك مثل الفرحة وقيامنا بما تفرض علينا المناسبة السعيدة من واجب دون الدخول في باقي التفاصيل ، أجبته مُستغرِباً : أكون قد فعلتها في المنام وعند الاستيقاظ أكون آخر مَن يعلم ؟؟؟ . قاطعني منفعلاً بعض الشيء ليستطرد قائلاً : من أسبوعين تقريباً اتصل بي مصطفى أبوظافر مدير ديواني وابلعني أن سيدة تطوانية تدعي أنها زوجتك من مدة قصيرة ترغب في مقابلتي ، طلبته بإحضارها فوراً لأسمع منها أنها زوجتك وحتى لا تمل من المكوث وحدها وطول الوقت بعيدة عنك حضرت راغبة مني مساعدتها للحصول على منصب شغل ، دون تردد أمرت بتعيينها مؤقتاً بقسم الشؤون الاجتماعية على أن يكون راتبها من ميزانية الإنعاش الوطني وهي الآن تعمل معنا في نفس الولاية ، قهقهتُ ضاحكاً وقلتُ له لقد كذبت علينا نحن الاثنين معاً ، لم ينتظر لحظة حتى مثلت أمامنا ليصيح في وجهها : ألا تدركين خطورة ما أقبلت عليه بانتحال شخصية الغير ؟؟؟، ما كان عليك المغامرة لادراك مبتغى لا يستحق بتاتا وقوفك هذا الموثق غير المناسب أصلا لمواطنة تبحث عن ربح لقمة عيشها بالطرق العادية دون التواء أو غش أو افتراء ، فما أنا فاعل بك ؟؟؟. قاطعته : كل خير يا سيادة الوالي اعتبرها في حاجة ماسة للحصول على وظيف تبني معه مستقبلها وخاصة في هذه الظروف وأنتم أدرى بوقعها السلبي على عموم الناس ، هذه المرأة فعلاً أعرفها ومن أسرة طيبة شريفة لكنها غير تطوانية ، التطوانية لن تستطيع مجرد التفكير فيما أقدمت عليه هذه المرأة ، مترفعة عن مثل التصرف بسمو أخلاقها وعزة نفسها ودخولها المؤسسات من أبوابها الرسمية إن رغبت في الحصول عمًّا تستحقه كإنسانة واعية مثقفة حاصلة على مؤهلات تغنيها عن أي وساطات .
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق