لم يكن القرار الاسرائيلي بنقل الجبهة اللبنانية الى مرحلة عسكرية جديدة مفاجئًا ؛ فإبقاء المواجهة مع حزب الله وفق تعريفه لها "كجبهة اسناد لغزة" فقط، لم يعد يتماشى ومخطط حكومة اسرائيل الكبير واهدافها الرامية الى تدمير القطاع وتهجير سكانه والقضاء على قوة "حركة المقاومة الاسلامية" العسكرية في غزة، ومع القضاء على قوة حزب الله العسكرية؛ أو على الأقل تحييد الحزب واجبار عناصره على التراجع الى مواقع لبنانية جديدة، لتضمن اسرائيل وجود شريط حدودي آمن لها، وخلق واقع سياسي جديد يؤدي إلى اضعاف مكانة حزب الله على الساحة اللبنانية الداخلية وخلخلة دوره كعضو بارز ضمن قوى "محور الممانعة" الناشطة تحت الراية الايرانية.
من الصعب، في هذه الأيام، التكهن بشأن التداعيات المحتملة لهذا التصعيد، الذي بدأ ، من دون شك، بعد أن وافقت عليه الادارة الأمريكية بعد أن ضمنت عدم معارضة حلفائها في المنطقة وداخل لبنان نفسه للخطوة الاسرائيلية، في حين تمتنع ايران لغاية الآن من التدخل، بينما لا تتحرك الدول الكبرى التي لها مصالح استراتيجية كبرى في المنطقة، بل تكتفي بشجب الفعل الاسرائيلي وبانتقاده.
يحاول نتنياهو أن يرسم بواسطة نيران حروبه الحالية "خارطة جديدة للمنطقة" كما صرح في أكثر من مناسبة؛ ويستهدف بالطبع، أوّل ما يستهدف بقرارة نفسه، نسف امكانية اقامة الدولة الفلسطينية، واحياء "حلف ابراهيمي" جديد أو ما يشبهه، بحيث تتوسطه اسرائيل وترعاه الولايات المتحدة كقوة مناهضة للنفوذ الايراني في بعض دول المنطقة.
أمّا على الصعيد الاسرائيلي الداخلي فنتنياهو يستغل، من جهة، مسألة التصعيد الحربي على الجبهة اللبنانية لتعزيز مكانته السياسية داخل الأوساط الغوغائية الشعبوية الاسرائيلية، ومن جهة أخرى يستغلها من أجل اجهاض محاولات أحزاب المعارضة ضعضعة استقرار حكومته، ولضبط بعض ظواهر الفوضى والانفلات التي بدأت تظهر داخل توليفة إئتلاف حكومته وتؤثر على صورته كقائد سياسي محنك وقوي يجب ألا يجرؤ أحد من داخل حزبه وحكومته أن يتحدى زعامته أو أن يتمرد عليها.
لقد بدأ نتنياهو يشعر بأنه لا يستطيع الاستمرار بتسويق وبتبرير مشهد الهزيمة المتمثل بنزوح أهل بلدات شمال اسرائيل عن منازلهم، وبشل جميع أشكال الحركة والحياة في المنطقة الشمالية؛ ولم يعد محتملا، بعد مرور ما يقارب العام، الابقاء على حالة اللا حرب واللا سلم مع حزب الله، خاصة بعد عودة الاحتجاجات الشعبية الى شوارع المدن الاسرائيلية وعودة الانتقادات معها لسياساته التي فشلت باستعادة المخطوفين من غزة، وفشلت بالقضاء على حماس، وفشلت أيضا بطرح أي رؤية سياسية واضحة لما بعد انتهاء الحرب ومصير مستعمرات غلاف غزة ومستعمرات الشريط الشمالي وأمنهم في المستقبل.
من المستفز أن نرى كيف تستغل القوى والحركات اليمينية وحكومة نتنياهو عملية السابع من اكتوبر وتداعيات حالة الحرب من أجل تنفيذ مخططاتها السياسية على مستوى الساحة الداخلية الاسرائيلية وتأليب الرأي العام ضد مواطني الدولة العرب ومن لا يدعم سياستها الحربية أو من يعلن معارضته أو تحفظه منها.
فخلال العام المنصرم استمرت القوى الانقلابية التي تشكل الحكومة الحالية، بتنفيذ مخططها وتشديد سيطرتها على مؤسسات الدولة. ومن أهم انجازاتهم وأخطرها يمكننا أن نسجل: اخضاع وزارة الأمن الوطني بالكامل لارادة وسياسة الوزير ايتمار بن غفير، والسيطرة على مؤسسة "مراقب الدولة"، وعلى "مجلس التعليم العالي"، وعلى وزارة المالية، وعلى هياكل الادارات التنفيذية في معظم الوزارات. ولعل أبرز المعارك التي تدور حاليا داخل إسرائيل، في نفس الوقت مع استمرار حربي الحكومة على غزة وعلى لبنان، هي المعركة ضد المحكمة العليا وتمرد معظم وزراء حكومة نتنياهو، بدعمه شخصيا، على قراراتها وأحكامها، وإعلان إصرارهم على "احتلالها" وإخضاعها لارادتهم ضمن مشروع بناء الدولة التوراتية الفاشية الجديدة.
ليس لدي شك بأن المحكمة العليا الاسرائيلية سوف تسقط قريبا، ففي اسرائيل الحالية لا يوجد من يستطيع حماية المحكمة وانقاذها من الهزيمة الاخيرة. اسرائيل اليوم هي مجرد مسخ ولد في حقول من الدماء والرصاص وكبر وصار وحشا في حضن اسرائيل الأم وعلى مستنقعات احتلالها وفي ظل ممارساتها لسياسات القمع والقهر والعنصرية التي احتضنتها ورعتها هذه المحكمة العليا ذاتها منذ أول يوم لانشائها وحتى أيامنا هذه. سوف تسقط المحكمة العليا كآخر رمز من رموز اسرائيل المهزومة، ولن يتبقى على المنتصرين إلا أن يُخضعوا بقايا المنظومة الأمنية القديمة التي يحاول رؤساؤها النجاة بانفسهم وحماية أجهزتهم من سيطرة فقه المنظومات والحركات الغيبية والفاشية. أراهن على أنهم لن يصمدوا وسيسقطون مع اجهزتهم كما سقطت سائر منظومات الحكم ومؤسساته.
نحن على أعتاب مرحلة سياسية خطيرة جديدة، قد نشهد فيها ولادة خارطة جديدة، سياسية وجغرافية، لمنطقتنا؛ لكننا حتما سنشهد ولادة اسرائيل الجديدة. ستنتهي الحربان الحاليتان ضمن اتفاقات سياسية وشروط ستمليها معطيات النهايات المتشكلة وموازين القوى المحلية والقطرية والعالمية، وسنبقى، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، رهائن لمستقبل مجهول ونواجه مصيرنا في واقع أشد خطورة علينا وداخل دولة يعتبرنا حكامها ومعظم سكانها أعداءهم وخطرا عليهم يتوجب اقتلاعه. أقول ذلك وأعرف أننا بحاجة لمن يزرع الأمل فينا والثقة، لكنني أقوله وأعرف أيضا أننا قوم قد شاخت جباهنا ونحن واقفون على مفارق التاريخ وقد طارت العصافير عن بيادرنا، وصرنا نعدّ في كل صباح أضلاعنا ونداري قلوبنا خشية أن يُسكتها الحنين أو يسقطها الوجع. وفي الليالي نأوي الى صدور "القصب" ولا ننام إلا على قلق النايات ونخاف من الغد ومن الندم.
يجب أن نبقى واقعيين ونرى ما يجري في مواقعنا. فاسرائيل اشعلت حربين على جبهتي غزة ولبنان وتدير حربها الثالثة داخل مناطق الضفة المحتلة وتمارس كل هذا وأعينها علينا وتحريضها ضدنا لم يتوقف ولا للحظة حتى بات استهدافنا اليومي رياضة قومية يهودية، والاعتداءات العنصرية ظاهرة يومية وعادية. فعلى سبيل المثال قرأنا مؤخرا كيف حاولت نقابة الطلاب في جامعة حيفا منع اشتراك الطلاب العرب في الانتخابات العامة للنقابة بقرار عنصري فاشي، وقرأنا أيضا كيف اعتدى جندي احتياط على سائق عربي لمجرد ان السائق كان يستمع لموسيقى عربية داخل سيارته في محطة وقود. وقرأنا عن الاعتداء الخطير الذي تعرضت له طالبة عربية في احدى مدارس مدينة بئر السبع حيث تدرس مع طلاب يهود ادعوا انها صرحت عن تعاطفها مع الفلسطينيين وانها حرضت على الدولة وجيشها. كان هذا الادعاء الذي نفته الطالبة وأبوها، كافيا لملاحقتها من قبل عشرات الطلاب ومحاولتهم الاعتداء الجسدي عليها وامطارها بالشتائم والصراخ والتوعد بحرقها وحرق القرية التي تسكنها. نجت الفتاة بعد تدخل احدى المعلمات وحمايتها، لكن ادارة المدرسة طلبت منها الا تعود الى التعليم، بينما طالب نائب رئيس بلدية بئر السبع بضرورة ابعادها وطرد اهلها من المدينة وسحب المواطنة الاسرائيلية من جميع أفراد اسرتها علما بانه ثبت بان كل ما قالته كان ان الحرب في غزة حصدت أرواح الكثيرين من الابرياء وكان هذا ردها على سؤال من طالب يهودي مستفز حول رأيها في الحرب على غزة.
لن أعدّ في هذه المقالة قوائم الاعتداءات العنصرية التي تتم على المواطنين العرب بشكل يومي في الشوارع الاسرائيلية وفي الأماكن العامة وأماكن العمل، ولا قائمة الملاحقات السياسية التي تمارسها أجهزة الحكومة بحق جميع من يعارضون سياساتها، من عرب ومن يهود، لكنني أؤكد على أننا نواجه ظاهرة خطيرة للغاية هي في الواقع بمثابة جبهة حرب رابعة علينا نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل. إنها حرب مختلفة، فعندما سيتوصل العالم الى حل بشأن الحربين على غزة وعلى لبنان سيبقى الفلسطينيون في الضفة عُزّلا، ونحن داخل اسرائيل مجرد كائنات مدجّنة ومهددين إما بحرق قرانا وإما بالتهجير كما تطالب سوائب الغوغائيين في ملاعب كرة القدم وفي مظاهرات اليمينيين، أو وهم يطاردون فرائسهم، كما حصل قبل أيام في المدرسة الشاملة على اسم زيلبرمان في مدينة بئر السبع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق