الوفاءُ والفضلُ والمعروف/ محمود شباط

 


الوفاء والفضل والمعروف عند بعض الكرماء

حُكِيَ أنَّه بينما كان عُمرُ بنُ الخطّاب جالساً في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة وأهل الرأي والإهابة وهو في القضايا يحكم بين الرعايا أقبل شاب من أحسن الشباب نظيف الأثواب يكتنفه شابان من أحسن الشباب أيضاً، وقد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبًّباه فلما وقفوا بين يديه نظر إليهما وإليه فقالا يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان جديران باتِّباعِ الحق حقيقان، كان لنا أبٌ شيخٌ كبيرٌ حسن التدبير مُعَظَّمٌ في قبائلهِ، مُنزَّهٌ عن رذائله، معروفٌ بفضائله، ربّانا صغاراً وأولانا مِنَناً غراراً كما قيل في المعنى.

لنا والدٌ لو كان للناس مثلهُ  / أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقب

فخرج اليوم إلى حديقةٍ له يتنزه في أشجارها ويقتطف من يانع ثمارها فقتله هذا الشاب وعدل عن طريق الصَّواب فنسألك القصاص عـمّا جناه والحكم فيه بما أمرك الله- قال الراوي فنظر عمر إلى الشاب وقال له سمعتُ فما الجواب والغلام مع ذلك ثابت الجَنان خالٍ من الإستيحاش قد خلع ثياب الهلع ونزع لباس الجزع فتبسَّم عن مثل الجمان وتكلم بأفصح لسان وحيّا بكلمات حسان ثم قال يا أمير المؤمنين والله لقد وعيا فيما ادّعيا وصدقا فيما نطقا وأخبرا بما جرى وعبَّرا عـمّا طرا وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك إعلم أني عريمٌ من العرب الـعُرباء نبتُّ في منازل البادية وصَبَحت عليَّ أسود السنين العادية فأقبلتُ إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد فأفضت بي بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها بنياقٍ إليّ حبيبات عليّ عزيزات بينهنَّ فحلٌ كريم الأصل كثير النَّسل مليح الشكل حسنُ النِّتاج يمشي بينهنَّ كأنه ملك عليه تاج فدنت النُّوقُ إلى حديقةٍ قد ظهر من الحائط شجرها فتناولتها بمشفرها فطردتها عن تلك الحديقة فإذا شيخٌ قد ظهر وتسوَّر الحائط وزفر وفي يده اليمنى حجر يتهادى كالليث إذا خطر فضرب الفحل بذلك الحجر فأصاب مقتله وأباده.

فلما رأيت الفحل سقط لجنبه وانقلب توقّدت فيَّ جمرات الغضب فتناولت الحجر بعينه فضربته به فكان سبب حَينهِ ولقي سوء منقلبه والمرء مقتولٌ بما قتل به بعد أن صاح صيحةً عظيمةً وصرخ صرخة أليمةً فأسرعت هارباً من مكاني فلم أكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني وأحضراني كما تراني.

قال عُمر قد اعترفت بما اقترفت وتَعذَّرَ الخلاص ووَجَبَ القصاص ولاتَ حينها مناص، فقال الشاب سمعاً وطوعاً لما حكمَ الإمام ورضيتُ بما اقتضته شريعة الإسلام، ولكن لي أخٌ صغيرٌ كان له أبٌ خبير خصّهُ قبل وفاته بمال جزيلٍ وذهب جليلٍ وأحضره بين يديَّ وسلَّمَ أمرهُ إليّ وأشهد الله عليَ وقال هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك فاتخذت لذلك مدفناً ووضعته فيه ولا يعلم به أحدٌ إلا أنا. فإن حكمت الأنَ بقتلي ذهب الذهب وكنت أنت السبب وطالبك الصغير بحقه وإن انتظرتني ثلاثة أيام قمت (بتدبير) من يتولى أمر الغلام وعُدتُ وافياً بالذِمام ولي من يضمنني على هذا الكلام.

أطرقَ عمر ساعة ثم نظر إلى من حضر وقال من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه؟ - قال – فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الحاضرين وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال هذا يكفلني وهو الذي يضمنني.

فقال عمر أتضمنه يا أبا ذر على هذا الكلام فقال أبو ذر نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام فرضي الشابان بضمان أبي ذر وانتظراه ذلك القدر.

فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر وأبو ذر قد حضر والخصم ينتظر فقالا أين الغريم يا أبا ذرّ وكيف يرجع من قد فرّ؟ فلا نبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا فقال أبو ذرّ وحق الملك العلاّم إن انقضى تمام الأيام ولم يحضر الغلام وفيت بالضمان وأسلمت نفسي وبالله المستعان.

فقال عمر والله إن تأخر الغلام لأمضينَّ في أبي ذرِّ ما اقتضتهُ شريعة الإسلام فَهَمَلَت عبرات الحاضرين وارفضَّت زَفَرات الناظرين وعظُمَ الضجيج وتزايد النشيجُ فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذَ الديّة واغتنام الأثنية فأصرَّا على عدم القبول وأبيا إلا الأخذ بثار المقتول.

وبينما النّاس يموجون تلهُّفاً لما مر ويصيحون تلهفا على أبي ذر إذ أقبل الغلامُ ووقف بين يدي الإمام وسلَّمَ عليه أتمّ السلام ووجهه يتهلّل مشرقاً ويتكلّل عرَقاً وقال قد أسلمت الصبي إلى أخوالي وعرّفتهم خفيّ أحوالي وأطلعتهم على مكان أموالهم وأموالي ثم اقتحمت هاجرات الحر ووفيت وفاء الحُرّ الأغرّ. فعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه فقال من غدر لم يعفو عنه من قدر ومن وفى رحمه الطالب وعفا وتحققتُ أن الموت إذا حضر لم ينجُ منه احتراس وبادرتُ كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس.

فقال أبو ذرّ والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنتُ هذا الغلام ولم أعرفه من أيّ قوم ولا رأيته قبل ذلك اليوم، ولكنه نظر إلى من حضر فقصدني وقال هذا يضمنني فلم أستحسن ردّه وأبت المروءة أن تُخَيِّبَ قصده، إذ ليس في إجابة القصد من باس كي لا يقال ذهب الفضلُ من الناس.

فقال الشابان عند ذلك يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا الغلام دم أبينا فلتبدل وحشته بإيناس كي لا يقال ذهب المعروف من الناس. فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وعجب من صدقه ووفائه واستغزر مروءة أبي ذر دون جلسائه واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف وأثنى عليهما أحسن ثناء تمثَّل بهذا البيت:

مَن يَصنَع الخَيرَ لَم يُعدَم جَوائِزَه / لا يَذهب العُرفُ بَينَ اللهِ والنَّاسِ

ثم عرض عليهما أمير المؤمنين أن يُصرفَ لهما من بيت المال ديّةَ أبيهما فقالا يا أمير المؤمنين إنّما عفونا عنه ابتغاء لوجه الله ومن نيّته كذا لا يُتبعُ إحسانه منّاً ولا أذى.

قال الراوي فاعتددتها من أنفس العجائب وأثبتها في ديوان الغرائب.

منقول


 


CONVERSATION

1 comments:

  1. قصه جميله ورائعه وفيها عبر ومعاني كثيره تعبر عن الصدق وعن الوفاء وعن العفو والأروع من القصه كاتبها الذي حاكها بأسلوب شييق ورائع سلمت يداك وسلم يراعك أيها الأديب الغالي والحبيب

    ردحذف