فتشوا عن "المشترك" وليس عن " المشتركة"/ جواد بولس

تجاوز بنيامين نتنياهو أزمة ائتلافه الأخيرة وحافظ، مؤقتًا، على بقاء حكومته، وذلك بعد أن تراجع حزب "البيت اليهودي" ، حزب الوزيرين بينت وشاكيد، عن تهديداته بالانسحاب منها. ومع ذلك يراهن معظم المحللين السياسيين على أنّ موعد الانتخابات العامة للكنيست بات وشيكًا ؛ وهذا ما دفع بجميع الأحزاب والقوى السياسية في إسرائيل إلى الشروع في تجهيز بيادرهم لاستقبال مواسم الحصاد، واعداد خوابيهم لملئها بالجنى أو بالخيبات.

تداعت أزمة نتياهو في أعقاب استقالة وزير الدفاع ايفيت ليبرمان وانسحاب حزبه، إسرائيل بيتنا، من الائتلاف، بالتزامن، تقريبًا، مع انتهاء معارك الانتخابات المحلية التي جرت في البلاد وظهور نتائجها التي حملت دلائل سياسية هامة ولافتة، خاصة في بعض المدن والقرى العربية،  وفي طليعتها مدينة الناصرة طبعًا.

استفزّت ، في هذه الأجواء ، تحرّكاتُ النائب أحمد الطيبي، رئيس"الحركة العربية للتغيير"، معظم شركائه في القائمة المشتركة، فانبرى بعضهم بالتهجّم عليه وباتهامه بالقفز من "حضن الأم" وبإطلاقه حملة، قبل "الحج بمرحلة" ، كما ادّعى زملاؤه، تستهدف "ابتزازهم" وتحسين مطالبه التفاوضية منهم؛ فقواعد الشراكة الحقة، حسب حلفائه، تستدعي الاتفاق أوّلًا على حماية "القائمة المشتركة" والاعتراف على أنّ استمرارها ضرورة سياسية تفوق كل مطلب شخصي أو مطمح حركي أو مطمع حزبي، وبعد ذلك سيصير التحاور من داخل "العائلة" على توزيع الريوع والمقاعد والحصص جائزًا وشرعيًا.

أكد شركاء النائب الطيبي على أنّ قائمتهم المشتركة هي أداة تنظيمية تحصّن قوة الجماهير النضالية في وقوفها ضد مستجدات المرحلة، وضد مخاطرها التي لا يختلف عليها عاقلان؛ وخرجوا، من أجل دعم موقفهم، بحملة واسعة ضد مناورات "الحركة العربية للتغيير" وضد رهانها على مستقبل القائمة، بينما أكدوا من جانبهم أن "الاسلامية" و"الجبهة" و"التجمع" يرون بالمشتركة "خيارًا استراتيجيًا" يجب عدم التخلي عنه أو إضعافه أو منافسته.   

حافظت "القائمة المشتركة" منذ ولادتها، قبيل انتخابات الكنيست السابقة وحتى يومنا هذا، على "صيتها " كمخلوق إشكالي، أشغل بتصرّفاته العامة وبقضاياه الداخلية، مواقع الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي، وأثار، خلال مسيرته القصيرة التي تخللتها بعض الانجازات المهمة، معارك ونقاشات، كانت في بعض الأحيان قاسية وصدامية ومخيّبة.

لم يتوقع أحد، في الواقع، أن تنجو هذه التجربة الرائدة من سهام الناقدين أو أن تولد خالية من الشوائب ومن دون نواقص؛ ولكن كان رجاء من رأوا بها مجنّ المواطنين العرب الحامي وعقدوا عليها واسع الآمال، أن تخلّصها "قابلتها" من أمراضها أو من بعضها، وأن تحظى برعاية "أبوية" مسؤولة وناضجة كيما تمضي نحو مستقبلها بقامة صلبة ، لا كما ظهرت عرجاء غير مكسيّة.

لقد ادّعى معظم المؤيّدين لتشكيل القائمة المشتركة بأنها استجابة صحيحة لرغبة الجماهير وخيارها الوحيد والواضح؛ وبقدر ما يحمله هذا التذرع من "شعبوية" وتسطيح، لم تكن فرص تفنيده واردة ولا امكانيات دحضه سهلة؛ فلا تستطيع  أقلية تواجه سياسة قمع عنصرية، كما نواجه نحن المواطنين العرب في اسرائيل، استبعاد أدوات النضال الوحدوية ولا الاستغناء عن ضرورة انضوائها تحت مظلات تجمّع ولا تفرّق؛ فميلاد القائمة المشتركة، ورغم ما شابه من مثالب، أشاع بين الناس راحةً فطرية وهيّأ لهم فضاءات رحبة ستمكنهم من الوقوف ضد عنصرية أكثر الحكومات الاسرائيلية بطشًا وخطورة على استمرار وجودنا وبقائنا في وطننا.

مع هذا فلقد نبّه الكثيرون، منذ البداية، إلى خطورة اكتفاء الشركاء بانجاز وحدة شكلية وغير مسلحة ببرنامج سياسي واضح وموحّد، وغير مدعّمة بتفاهمات جوهرية أساسية تمكّن الفرقاء من مخاطبة الجماهير بلغة غير ملتبسة ومؤثرة، وتجيّشهم في معارك نضالية حقيقية ضد سياسات القمع والعنصرية المستوحشة في حقنا.

كم قلنا لكم، يا قادة المشتركة،  فتشوا، قبل الشراكة، عن "المشترك" الذي يفيد مصالح الجماهير ويلقّحها ويحصّنها، فبدونه لن تقوم لكم "قائمة" ولن تدوم لكم نعمة ؛ فالشعب يمهل ويهمل خاصة اذا لم يجد للحياة في وعودكم سبيلا؛ والشعب يبحث عن "خبزه" في شباك غيركم اذا لم تتركوا له فسحة للأمل ولا فرصة للخلاص وللعمل.

كانت كل النذائر معلّقة أمامكم وكانت السحب تمطرنا بغضبها الأسود، وانتم تقامرون، بثقة حزبية عمياء، على إرادات البسطاء، وتعرضون، كالمدمنين على الهزائم، عن الخرائب وهي تتراكم في قرانا وفي داخل مواقعكم؛ لم يعنيكم  سوى مشيئة "أربابكم الأعلون" وكأنهم كانوا يعلّبون، من أجلكم، الغيب في حجراتهم ويقبضون على نواصي النصر والريح.

كم مرة صرخنا في آذانكم: إن البحر جائع !  ولم يسمعنا  "شيخ المينا" ولم يحرّك حاجبيه قائد. ولكم نادينا في أحراجكم:  سراب ، سراب ويباب ، فغصصنا بريقنا، وأنتم واقفون على "قافات" ضحكاتكم وكأنكم رماة القدر وسادة الطين وصنّاع القلائد.  

لا اكتب لأدافع عن أحمد الطيبي، فعندي ما يقال بحقه، ولكن من كان منكم بلا خطيئة فليرمه بحجر؛ ولا أناقشكم في ضرورة الوحدة، فلن يناقشكم عاقل، لأن اتحاد الضحايا هو قانون بقائها الخالد، وأما التيه فتعرفه الصحراء وتشهد عليه حناجر المزايدين وتجار العقائد.

لقد  كتبت مرة بأنني أخشى أننا نعيش في عصر نفدت فيه تواريخ صلاحيات  أحزابه العربية، فلم يسمعني غير صبار شرفتي وبعض أكواز التين.

سأعود قريبًا للكتابة حول دور "الحزب" ومكانته في حياتنا كأقلية عربية تعيش في زمن الرصاص والولاء والخناجر ؛ وسأكتب عن أحزابنا التاريخية وعن حواضنها الفكرية ومصادر شرعياتها الأصلية في زمن صاحَبَ فيه إخوة "يوسف"  ابنة صهيون ، وشرّع الشرقُ واحاتِه مرابعَ لجيوش "يوشع" ولنزوات ترامب ولحكّام المقابر ؛ ولكنني أتساءل، بعيدا عن هذا وعن ذاك، ماذا يجب أن يحصل أكثر مما هو حاصل عندنا كي نسمع دبيب النمل في شراييننا وكي نشم رائحة الذبائح؟ وهل سيكفي أن  نطالب بالمحافظة على "بقرتنا " من أجل نضالاتنا العتيدة وأوهامنا المقدسة؟

لن ترضى "جماهيركم"  هذه المرة بأقل من تأمين حلمها البسيط، ولن تسامحكم كرمى لعيون "وحدة " بقيت عذراء وخلاسية، ولن تراهن مرّة أخرى على "بيض صنائعنا ، سود وقائعنا ، خضر مرابعنا ، حمر مواضينا"؛  فالدنيا، هكذا ثبت في شرقنا،  للأزرق وللأبيض وللعربيد إن غلبا.

 اسمعوا ما تقوله لكم هذه الجماهير فهي ، ليست مثلكم، بل ترقص على مقامات جديدة، وإن لم تصدقوني فزوروا الناصرة وعرّجوا على أخواتها فعند أهلها الخبر اليقين.     

نحن، العرب في إسرائيل، نواجه مصيرنا من جديد، فمن لا يعرف قدراته لن ينتصر ابداً، ومن لا يعترف بهزائمه لن يقوَ على "فَلّ الحديد"  وسيبقى معلقًا على أهداب التاريخ.

أنا لا أكتب كي ادافع عن أحمد الطيبي، لكنني لن أحمّله، مثلكم، خطيئة تعرية "مومياء" لففتموها، قبل بضع سنين، بستائر من غبار  لم تصمد أمام العاصفة وأمام "موجعات الدهر حين ولت".

جرائم قتل النساء... إلى متى/ شاكر فريد حسن


هزت الجريمة الوحشية البشعة المدانة والمستنكرة، التي راحت ضحيتها يارا أيوب، ابنة السادسة عشرة من قرية الجش الجليلية، هزت الضمير الانساني الحي، فهي جريمة بربرية وسادية غير مسبوقة، فوق الوصف والتصور بالشكل والصورة التي اقترفت فيها.
وهذه الجريمة هي تكريس للنظرة الدونية الرجعية وللفكر الذكوري واللامساواة واللاقيم والعنف المتصاعد بحق النساء، اللواتي يعتبرن نصف المجتمع، وانطلاقًا من مفهوم الوصاية الموروثة وبحكم الجنس والجندر، والنظرة الاستعلائية والفوقية والاملائية بحق المرأة، باعتبارها جسدًا لاشباع الرغبة الجنسية والجسدية، ومكانها المطبخ وغرفة النوم، وليس انسانًا له حقوقه وواجباته، ويستحق الوجود والحياة.
هذه الجريمة وغيرها من الجرائم التي ارتكبت وترتكب تحت مسمى " شرف العائلة " هي ناقوس خطير يهدد مجتمعنا ويصيبه بالتفكك وانعدام الأمان، وحالة مقلقة ستقود إلى المزيد من الانحدار والتدهور اللاحلاقي والمجتمعي، طالما لم تقم السلطة أو المؤسسة الحاكمة بدورها بتطبيق القاتون.
ولعل اسقاط الاقتراح الذي تقدمت به النائبة عن القائمة المشتركة عايدة توما، باقامة لجنة تحقيق برلمانية لبحث الفشل في معالجة مسألة قتل النساء دليل واضح وساطع على أن السلطة ليست معنية بوضع حد لهذه الجرائم، ولذلك فهي شريكة في عدم التصدي ومكافحة الجرائم التي تنهش أجساد النساء في مجتمعنا العربي الفلسطيني الذي يسوده ويستشري فيه العنف بكل أشكاله والوانه.
عمليات قتل النساء تتعدد خلفياتها ومسمياتها وأشكالها، والمطلوب من الجميع والكل المجتمعي، وكل واحد من موقعه، الوقوف امام هذه العمليات وتفحصها من كل جوانبها، تمهيدًا لمحاربتها واقتلاع جذورها والقضاء عليها، ومن الضروري ايجاد رادع بمستوى الجريمة، والانتهاك الذي تتعرض له النساء في مجتمعنا العربي الفلسطيني.

الأغنية التي غناها الغراب/ عبدالقادر رالة


   أطفأت النور لكن ابنتي الصغيرة ما رغبت في النوم ، ففكرت أن أحكي لها حكاية ، وأغمضت عيناي استرجع قصص الطفولة فقفزت أمامي إحدى قصص لا فونتين ، من كتاب مختارات المطالعة المدرسي ؛ قصة الثعلب والغراب...
   مر الثعلب... وقال الثعلب للغراب : أيها الغراب صوتك جميل فغني لي أغنية!....وسقطت الجبنة من منقار الغراب...
   همست ابنتي بكل براءة :  ــــــ  أي أغنية غناها الغراب يا أمي؟...
 التفت الى زوجي أساله فوجدته يغط في النوم.....
   قالت ابنتي : هل هي أغنية صبرا صبرا هذه الدنيا قصيرة ... 
وانفجرت ضاحكة وسط الظلمة الهادئة  وهل للغراب أن يغني أغنية راي؟..
 بعد أن نامت ابنتي بتُ ليلتي أفكر من أين تعلمت الطفلة ذات العامين تلك الأغنية ...
ما أبشع الجلوس أمام التلفزيون لساعات ...

أو كي _ OK/ شوقي مسلماني

ارتَكبتْ إسرائيل مجزرة في كونين، وهي القرية الحدوديّة مع فلسطين المحتلّة. وفي ما بعد قامت بتهجير جميع الأحياء الباقين. وبعد سنوات جرتْ إنتخابات نيابيّة في سيدني فازَ حزب العمّال الأسترالي، وفاز السيِّد باري أنزورث رئيس الحزب بمقعد روكدايل _ سانت جورج على خصمه زعيم حزب الأحرار  بفارق أصوات، وأصبحَ هو رئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز التي يزيد عدد سكّانها عن 9 مليون نسمة. وكان السيِّد باري أنزورث قد رأى الحاجّة أمَّ شوقي مهنّا مسلماني تحمل ركوة القهوة اللبنانيّة وتوزّع على أنصار حزب العمّال، وعلى مَن هي تشاء، عند صندوق الإقتراع، فناجين القهوة، ورأى أبناءها يتفانون من أجل فوز من يحبّون. وجرى السعي عنده في ما بعد لإعطاء بعض أبناء بلدة كونين المنكوبة تأشيرات هجرة إنسانيّة إلى أستراليا. السيِّد أنزورث لم ينس ولا يتناسى. وبمعيّة الوزير غاري بانش، وهو صديق المحامي شوكت مسلماني، رئيس بلديّة روكدايل في ما بعد، ثمّ عضو المجلس التشريعي في الولاية، وإبن الحاجّة أم شوقي ذاتها، وبمساعدة كريمة مِنَ السفير الأسترالي في لبنان السيّد ساندي فوكس، وفي حالة استثنائيّة، حازت التأشيرات 16 عائلة كبيرة كونينيّة بكفالة الكونينيين الأستراليين الذين منهم الحاج شاهر علي مسلماني "أبو شوقي". لكنّ الجنسيّة الأستراليّة لا يحوزها المهاجِر إلى أستراليا إلاّ بعدَ إقامة تزيد على سنتين، وبعدَ جلسة أسئلة وأجوبة سابقة على حفل يُقام خصِّيصاً للمناسبة. استحقَّ موعِد جلسة مَن بالكاد تعلّم جملتين باللغة الإنكليزيّة بعدَ أكثر من سنتين، وهو مكفول من الحاج "أبو شوقي". وكان لا بدّ أن يرافقه مترجم. سأله الموظّف الحكومي خلال الجلسة إذا كان يحبّ أستراليا؟. أجاب بالعربي وترك للمترجم أن يترجم: "أحبّها حبّاً جمّاً". سأله الموظّف الحكومي إذا تعرّضتْ أستراليا لعدوان خارجي هل هو مستعدّ للدفاع عنها؟. أجاب أنّه وزوجته وأطفاله سيكونون بعون الله في "أوّل الجبهة". ابتسم المترجم. ابتسم الموظّف الحكومي الذي سأل السؤال الثالث والأخير: "هل تعرف إسم رئيس وزراء أستراليا الفيدرالي"؟. خيّل لحبيبنا أنّه فهم السؤال.  ظنّ أن الموظّف يسأله عن إسم كفيله. لم ينتظر الترجمة لكي يُثبِتْ أيضاً أنّه تعلّمَ من الإنكليزيّة الكثير، وإن يظلّ بحاجة إلى مترجم. قال للموظّف: "أبو شوقي مسلماني". لم يفهم الموظّف. نظر إلى المترجم. سأله عمّا سمع؟. استدرك المترجم وقد كان نبيهاً وقال لإبن جنسه: "إنّه يسألك عن إسم رئيس وزراء أستراليا الفيدرالي"؟. قال مرتبكاً: "ظننت إنّه سألني عن إسم كفيلي إلى أستراليا"!. وبسرعة رفع إصبعه وقال للموظّف: عوض "بوب هوك": "هوك بوب". ابتسم الموظّف أيضاً. حمل الختم الكبير. قال وهو يهوي به على ورقة أمامه: O k. 

ـ الصورة: الوالد الحاج "أبو شوقي" شاهر مسلماني، ينتصر لكونين من سيدني أيضاً ويقول: "إيّاكم وكونين".

لبنان .. من الجلجلة الى القيامة/ الدكتور فيليب سالم

لا تخافوا الظلمة، حدقوا بالنور الخافت البعيد. فالذين لا يحدقون في هذا النور يغرقون في الظلمة

بكركي (لبنان)- 9 تشرين الثاني 2018

***

(القيت هذه الكلمة في المنتدى الاجتماعي الاقتصادي الدولي الأول الذي عقد في بكركي (لبنان) 9-11  تشرين الثاني 2018  بدعوة من المنتدى ولتكون الكلمة الأساسية فيه).

***

ها نحن نجتمع اليوم في هذا الصرح البطريركي. هذا الصرح الذي " مجد لبنان اعطي له".  ولكن تعالوا نسأل، ماذا تبقى من مجد لبنان؟ هذا المجد الذي يغوص في التاريخ ويتمدد على ساحة الأرض كلها. لماذا لا يسكن هذا المجد هنا؟ بل لماذا هاجر هذا المجد من هنا؟ وهذا اللبنان الذي نحبه، لماذا هو كبير في كل مكان في الأرض الا في ارضه؟ ولماذا هو هزيل هكذا في وطنه؟. ان لبناننا الحبيب يمر في مرحلة مفصلية تاريخية وخطرة تهدد وجوده وتهدد معناه. ثلاث وأربعون سنة ولبنان في طريق الجلجلة. من ألم الى ألم. من حرب الى حرب. من أزمة الى أزمة.  يحمل صليبه ويمشي. يحاولون قتله ولكنه يرفض ان يموت. وأكثر ما يوجعه ان بعض الذين يقتلونه هم أناس من أهله.

 وأنا لست هنا لأتكلم عن الجلجلة. لقد جئت لأتكلم عن القيامة. عن الطريق التي تأخذنا الى القيامة.  لقد تعلمت من ممارسة الطب ومعالجة الامراض السرطانية في الخمسين سنة الماضية، انه ليس هناك شيء مستحيلا؛ وان الاستسلام للإحباط ليس خيارا. جئت لأقول: لا تخافوا الظلمة، حدقوا بالنور الخافت البعيد. فالذين لا يحدقون في هذا النور يغرقون في الظلمة. وتعالوا نمشي صوب هذا النور. ولكن قبل ذلك يجب ان نركع ونصلي ونعترف امام الله وأمام العالم كله، ان مسؤولية الحرب في لبنان وانحداره الى هذا القعر لم تكن مسؤولية الآخرين، بل كانت مسؤوليتنا نحن اللبنانيين. نحن وحدنا. " ان المرء قد يفشل مراراً الا انه لا يصبح فاشلا الا عندما يلوم الآخرين على فشله". وكذلك اليوم فمسؤولية قيامة لبنان هي مسؤوليتنا نحن اللبنانيين. نحن وحدنا. وتعلمت من الطب انه لا يمكنك شفاء مريض ان لم تحدد بدقة هوية المرض المصاب به. فتعالوا نحدد هوية المرض الذي أصاب لبنان واسبابه.

 ان السبب الرئيسي هو ان اللبنانيين منذ الاستقلال الى يومنا هذا لم يتمكنوا من بناء الدولة. لم تبن الدولة للأسباب الآتية:

ان المدرسة السياسية التقليدية التي حكمت لبنان لم ترد قيام الدولة لأن قيامها يهدد مصالحها ويلغي امتيازاتها. ولا أفشي سراً إذا قلت ان هذه المدرسة التقليدية حتى ولو ارادت بناء الدولة بالمطلق لم تكن تمتلك القدرة على القيام بهذه المهمة.
عدم الولاء للبنان. ويكاد عدم الولاء هذا يختصر القضية اللبنانية. وحده في لبنان من كل دول العالم يتكلم "الزعيم" السياسي ويحاضر في الوطنية، وفي نفس الوقت يعترف امام الناس جميعا بل يفتخر بان مرجعيته السياسية ليست في بيروت بل في مدينة أخرى. مدينة غير مدينتنا. وحده في لبنان تستجلب قوة سياسية قوة من خارج الوطن لتتسلق على اكتاف شركائها في الوطن. 
النظام السياسي الطائفي. هذا النظام يكبل قدرة لبنان على الحياة ويقتل مواهب شعبه. ان المفهوم السياسي للمواطن في لبنان لا يحدد بما هو ومن هو كانسان ولا يحدد بفكره وعقله واخلاقه ونظافة يده وولائه للبنان؛ بل يحدد بانتمائه الى دين ما او طائفة ما؛ ويحدد أيضا بما هو أكثر اذلالا بانتمائه الى "زعيم" سياسي او "زعيم" ديني. واما اذا كان انتماؤك الى لبنان الوطن والى الشعب اللبناني كله ، فانت لست بشيء.  انت غير موجود سياسيا ان لم تكن متزلما الى "زعيم" طائفة او "زعيم" سياسي . والمشكلة هي ان القادرين على التزلم ليسوا قادرين على بناء الدولة .

وها بعد ان حددنا الأسباب التي اوصلتنا الى هنا تعالوا نتلمس الطريق التي تقودنا إلى  الضوء. خمسة مفاهيم تحدد هذه الطريق.

ان الغاء الطائفية السياسية وحده لا يكفي. فيجب فصل الدين عن الدولة كما يجب فصل الدين عن التربية. ان أعظم ما لدينا في هذا الشرق هو الأديان. الا اننا قد نجحنا في جعل هذه الأديان قوة ضدنا بدل ان تكون قوة لنا.  ان استعمالنا الدين كأداة سياسية وأداة للحروب، لم يكن اعتداء على الدين فقط بل كان اعتداء على الله.  ويجب فصل التربية عن الدين حتى يتمكن الدين من اغناء الروح وحتى تتمكن التربية من تدريب العقل؛ بحيث يصبح هذا العقل قادرا على استنباط المعرفة، وتصبح هذه المعرفة هي الطريق الى الايمان؛ الطريق الى الله. أنا "أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض"، كما انني أؤمن بأنه كلما غُصت في المعرفة كلما اقتربت من الله، واقتربت من اخيك الانسان.
بناء الدولة المدنية. وحدها الدولة المدنية تليق بلبنان وحدها تعبر بلبنان الى القرن الواحد والعشرين. وحدها ترفع الناس من رعايا الى مواطنين. وحدها تأخذنا الى الحرية الى الحضارة. ولربما يكون لبنان البلد الوحيد في هذا الشرق الذي يمكنه بناء الدولة المدنية حيث يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق وفي الواجبات.
إرساء دبلوماسية الحياد الفاعل الذي يصب في مصلحة لبنان. ان سياسة النأي بالنفس التي تبنتها الحكومات الحديثة في لبنان هي خطوة في هذا الاتجاه. هي خطوة الى الحياد الا إنها ليست الحياد. وكيف الوصول الى الحياد ونحن في ظل نظام طائفي مهترئ وظل دولة غير قادرة على بسط سلطتها على جميع أراضيها. 
الولاء للبنان. ان الولاء للبنان يجب ان يكون مطلقا ومقدساً، وكذلك الولاء لبعضنا البعض يجب ان يكون مقدساً ايضاً.  لقد حاول بعض اللبنانيين استجلاب الغير الى الداخل اللبناني للاستقواء به وللحصول على مغانم على حساب إخوانهم في الوطن، الا انهم فشلوا. وثمة من لم يتعلم من الماضي ويحاول اليوم الاستقواء بالخارج ولكنه بالتأكيد سيفشل.
ان المدرسة السياسية التقليدية في لبنان والتي تؤمن بأن الحكم هو جاه، وان العمل السياسي هو الحصول على النفوذ، وأن النفوذ هو الطريق لجمع الأموال ولخدمة المصالح الشخصية والعائلية، هي التي أوصلت لبنان إلى هذا الحضيض. ألم نقتنع بعد بأن الذين أخذوه الى حافة الموت لا يمكنهم ان يعيدوه الى الحياة؟ لذلك نقول ان مسؤولية قيام لبنان هي مسؤولية المجتمع المدني فيه. وحده لبنان من كل دول العالم العربي يتمتع بمجتمع مدني قادر على عملية التغيير. قادر على القيام " بربيع" جديد.

وتعالوا نسأل ما سر هذا اللبنان؟ ولماذا يجب ان يكون هناك لبنان؟ بالطبع، نحن نحبه. نحبه حتى الثمالة. نحبه كيف ما كان. ولكن فهو ليس لنا فقط. انه ضرورة للشرق. ضرورة للعالم. وبالرغم من حضوره السياسي الهزيل والمعيب، لقد نجح شعبه في صنع حضارة مميزة. حضارة يحتاج اليها الشرق لكل يحيا. حضارة يحتاج اليها الغرب لكي ينعم بالسلام. هذه الحضارة مميزة بالإصرار على الحرية ومميزة بالإصرار على التعددية الدينية والتعددية الحضارية. ان الحرية هي البوابة للحضارة دونها لا تنمو الحضارة ولا تحيا. والتعددية هي البوابة للمستقبل. ان الذي حدث في لبنان لم يحدث في العالم ولا في التاريخ. ثلاث واربعون سنة من الحروب ومن الانحدار السياسي ولا تزال المسيحية تعانق الإسلام. ولا تزال تسع عشر طائفة قادرة على العيش والفرح معا. ثلاث واربعون سنة من الحروب ولا تزال حضارة الشرق تعانق حضارة الغرب. ثلاث واربعون سنة من الحروب وليس هناك لاجئ لبناني واحد؛ كما انه ليس هناك متسول لبناني واحد في مدن العالم.  وبعد ان أقرت إسرائيل قانون القومية اليهودية أصبح لبنان الدولة الوحيدة في الشرق كله التي لا دين للدولة فيها. ونحن عندما نذهب الى العالم يجب ان لا نقدمه فقط كوطن الحوار والثقافات بل أيضا كنموذج ضد الإرهاب؛ نموذج ضد التطرف.  فالحرية والتعددية الحضارية والدينية هي مداميك السلام. ان عظمة لبنان لا تكمن في الحضور المسيحي الكبير فيه، بقدر ما تكمن في ايمانه بالحرية وفي ايمانه بالتعددية الحضارية. ولكي تبقى المسيحية في الشرق تنمو وتزدهر يجب تفعيل دورها.  لقد علمنا المسيح ان "نحب اعداءنا ونبارك لاعنينا"، فكيف لا نحب إخواننا ونبارك شركاءنا. تبقى المسيحية وتزدهر عندما تبقى على رسالتها: رسالة المحبة. " المحبة التي لا تسقط ابدا"، ومعانقة الآخر، ونشر ثقافة العلم والسلام.  تبقى المسيحية وتزدهر عندما نبني الدولة. الدولة المدنية. وحدها الدولة المدنية تؤمن الإطار السياسي لترسيخ المسيحية في الشرق.

وتعالوا نطلب التوبة عن خطايانا؛ ونطلب من الله ان يعطينا "شيئا من نوره"، وان يعطينا القوة لنقوم "بربيع" لبناني حضاري وندحرج الحجر من امام القبر حتى يقوم. عندذاك يعود مجد لبنان اليه. وعندذاك "يعطى هذا المجد " الى بطريرك هذا الصرح العظيم.

المصدر: صحيفة "النهار" - بيروت

هل فعلاً يعاني ترامب من عقدة أوباما؟!/ صبحي غندور

قليلاً ما تخلو تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الإشارة السلبية إلى حقبة الرئيس السابق باراك أوباما، لدرجة أنّ الكثير من المحلّلين السياسيين يتحدّثون عن وجود "عقدة أوباما" لدى ترامب ويُفسّرون الأمر وكأنّه عقدة نفسية يعاني منها الرئيس الحالي، أو كأنّها مشكلة شخصية بينهما. لكن حسب وجهة نظري، فإنّ المسألة لا ترتبط بعقدٍ نفسية بل هي مسألة سياسية محض تندرّج في سياق المنهج الذي سار عليه ترامب منذ سعيه للترشّح لمنصب الرئاسة الأميركية. ومن المهمّ معرفة أنّ طموحات ترامب لمنصب الرئاسة تعود لحقبة الثمانينات من القرن الماضي رغم عدم تولّيه لأي موقع سياسي في العقود الماضية كلّها. وهو سعى في العام 2000 للترشّح للرئاسة باسم "حزب الإصلاح" الذي تأسّس في مطلع حقبة التسعينات مع ترشّح رجل الأعمال الثري روس بيرو، لكن لم يُؤخذ ترشّح ترامب جدّياً رغم قيامه بحملاتٍ انتخابية في بعض الولايات.
إذن، الطموحات السياسية للثري ورجل العقارات دونالد ترامب، والتي كانت تتراوح بين منصب حاكمية ولاية نيويورك وبين رئاسة "البيت الأبيض"، عمرها عقود من الزمن، وهي لم تقف على أرضية انتماء فكري أو سياسي لحزب محدّد، بل انطبق على ترامب قول ميكيافيلي: "الغاية تبرّر الوسيلة"، وهذا ما فعله ترامب عقب فوز باراك أوباما بانتخابات العام 2008، حيث لمس حجم ردّة الفعل السلبية التي جرت في أوساط الجماعات المحافظة والعنصرية داخل المجتمع الأميركي، نتيجة فوز أميركي من ذوي البشرة السوداء وابن مهاجر أفريقي مسلم، بأهمّ موقع سياسي في أميركا والتي ما زالت العنصرية متجذّرة في أعماق الكثير من ولاياتها الخمسين.
أيضاً، أدرك ترامب ما حصل داخل الحزب الجمهوري في العام 2010 من ظهور وتفوّق تيّار "حزب الشاي" المحافظ، والذي استطاع الحصول على غالبية أعضاء الكونغرس في الانتخابات النصفية، اعتماداً على التخويف الذي مارسه هذا التيّار من معاني فوز أوباما بالرئاسة الأميركية، وعلى الحملات التي قام بها المرشّحون باسم هذا التيار ضدّ المضامين الاجتماعية الليبرالية لأجندة أوباما وضدّ المهاجرين عموماً، ومن هم من دول العالم الإسلامي على وجه الخصوص. وحصلت آنذاك ممارسات ومواقف تتّصف بالعداء للمسلمين في عدّة ولايات أميركية، بينها التحريض ضدّ بناء مسجد في مدينة نيويورك، والضجّة المفتعلة ضدّ قضية الشريعة الإسلامية ومحاولات حرق نسخٍ من القرآن الكريم، وهذ الأمور كلّها كانت تتزامن مع توزيع رسائل تمّ نشرها بالملايين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحذّر من خطر "أسلمة أميركا" الذي بدأ بفوز باراك حسين أوباما!.
وكان ما سبق ذكره كافياً لدونالد ترامب لكي يحسم خياراته الفكرية والسياسية لصالح القوى المنتمية لهذه الجماعات اليمينية المحافظة، التي تحرّكت ضدّ كل ما كان يرمز له أوباما من أجندة ومن أصول إثنية وعرقية ودينية وسياسية، وبحيث تحوّلت هذه القوى إلى تيّارٍ شعبيٍ بنى عليه ترامب لاحقاً قوّة قاعدته الانتخابية والتي استطاعت تجاوز العديد من المرشّحين المعروفين في الحزب الجمهوري، وجعلت من ترامب رمزاً لها وتمكّنت من إيصاله إلى الرئاسة الأميركية.
لذلك، فحينما يشير ترامب في تصريحاته إلى أوباما فإنّه يفعل ذلك متعمّداً لكي يُذكّر قاعدته الشعبية بأنّه (أي ترامب) هو الذي أنقذهم من إمكانية استمرار حقبة أوباما لو فازت هيلاري كلينتون، وبأنّ دعم هذه القاعدة الشعبية له هو الذي يضمن عدم تكرار حقبة أوباما، وبأنّ عودة "أميركا العظيمة".. أميركا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانتية، مرهونة باستمرار ترامب في الحكم وبما هو عليه من أجندة داخلية وخارجية.
فأميركا التي قامت على أساسٍ دستوري سليم واتّحادٍ قوي بين الولايات، هي أيضاً تأسّست كمجتمع على ما يُعرف اختصاراً بأحرف: WASP  والتي تعني "الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت". والدستور الأميركي العظيم الذي جرى إعداده منذ حوالي 230 سنة، كان معنياً به أولاً وأخيراً هؤلاء المهاجرون القادمون من أوروبا، والذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الإنسان الأسود البشرة، إلى حين تحريرهم قانونياً من العبودية على أيدي الرئيس إبراهام لنكولن، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أميركا.
لكن أميركا الحديثة هي غير ذلك تماماً، فالهجرة الكبيرة المتزايدة إلى الولايات المتحدة، في العقود الخمسة الماضية، من مختلف بقاع العالم، وبشكلٍ خاص من أميركا اللاتينية، بدأت تُغيّر معالم المجتمع الأميركي ثقافياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً، واحتضن "الحزب الديمقراطي" هذه الفئات الجديدة، بينما راح "الحزب الجمهوري" باتّجاهٍ محافظ ولّد فيما بعد ظاهرة "حزب الشاي"، في مقابل نموّ وتصاعد "التيّار الليبرالي" اليساري في "الحزب الديمقراطي"، والذي عبّر عنه في انتخابات الرئاسة الأخيرة المرشّح بيرني ساندرز، وبعض من فازوا في الانتخابات النصفية مؤخّراً.
هذه المتغيّرات تحصل في الحياة السياسية الأميركية منذ مطلع هذا القرن الجديد، وبعد تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الداخلي الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقلّيات الدينية والعرقية في أميركا، إضافةً طبعاً للدور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم "المحافظين الجدد" في صنع القرار الأميركي، وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضاً الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، خاصّةً بعد فوز باراك أوباما بمنصب الرئاسة في العام 2008 وما سبّبه ذلك من عودة مشاعر العنصرية لدى بعض الأميركيين، وخوفهم على نهاية عصر "أميركا البيضاء البروتستانت الأنجلوسكسون".
إنّ الإنقلاب الثقافي الذي حدث في العام 2008 بانتخاب مرشّح للرئاسة الأميركية هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون، الأوروبية الأصل، والتي تتوارث عادةً مواقع النفوذ والثروة، كان لا يمكن القبول باستمراره أو جعله مقدّمة لتغيير كامل في مجتمع أميركي قام أصلاً على العنصرية ضدّ كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008. فهي عنصريةٌ عميقة ضدّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء، وشاهدنا في السنوات الأخيرة ممارساتٍ عنصرية كثيرة حدثت ضدّ أميركيين أفارقة. وهي عنصريةٌ متجدّدة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية خاصّةً القادمين من أميركا اللاتينية، وهي عنصرية نامية ضدّ الأقلّيات ذات الأصول الدينية الإسلامية، حيث حفل العديد من تصريحات ترامب وخطبه بهاتين المسألتين. 
فوجود ترامب في "البيت الأبيض"، بالنسبة للجمهوريين المحافظين، هو أشبه بانقلابٍ نجح في القضاء على "الانقلاب" الثقافي والاجتماعي الذي حدث في العام 2008، حينما أُنتخب باراك، ابن المهاجر الإفريقي حسين أوباما، كرئيسٍ للولايات المتحدة. وترامب يحرص باستمرار على التذكير بذلك ضمناً حينما يشير في تصريحاته إلى حقبة أوباما.

الممانعة الشعبية العربية هل تمنع التطبيع العربي الرسمي؟/ راسم عبيدات

من الواضح أننا امام حالة غير مسبوقة من " الإندلاق" والهرولة التطبيعية الرسمية العربية على دولة الإحتلال،بما يؤكد بأن النظام الرسمي العربي،يعاني من ازمة بنيوية عميقة،وبأنه وصل  حد التعفن،ولم يعد قادرا ومالكاًً لإرادته وقراره السياسي للتقرير بشأن قضاياه الداخلية وسياساته الخارجية.

وحالة الهرولة التطبيعية  العربية الرسمية العلنية نحو الإحتلال، لم تأت من الفراغ او مقطوعة الجذور،بل هي نتاج لعملية تراكمية متواصلة كانت تتم بالخفاء والسر لمدة طويلة،ولعل قول الرئيس الأمريكي المتصهين ترامب،بانه لولا السعودية  لعانت " اسرائيل" من تهديد وجودي.وبما يكشف حجم التطبيع الكبير الذي كان يجري تحت الطاولة وفي الخفاء،بين العديد من دول النظام الرسمي العربي،وفي المقدمة منها العديد من المشيخات الخليجية العربية،ولعل رئيس وزراء الإحتلال نتنياهو تحدث عن هذه الظاهرة اكثر من مرة،حول اللقاءات والزيارات التي كانت تجمعه،هو والعديد من قادة الإحتلال مع قادة وصناع قرار عرب،وهو ضاق ذرعاً في تلك العلاقة التطبيعية السرية،ويريد لها ان تنتقل من  العشق السري الى الزواج العلني وعلى رؤوس الأشهاد،وليتحقق لنتنياهو ما يريده،حيث جرى تدشين هذه العملية بشكل علني وفي مؤتمر رسمي عقد في الرياض في 20/ ايار من عام/2017،المؤتمر العربي – الإسلامي – الأمريكي،حيث جلب ولي العهد السعودي الدول العربية والإسلامية لتصطف خلف " إمامة" ترامب لها،مؤذنة ببداية مرحلة التطبيع العلني مع دولة الإحتلال الإسرائيلي،ومعلنة بان " اسرائيل" ليس العدو للأمة العربية،ولا هي التي تهدد أمنها وإستقرارها وتحتل أرضها،بل هي مكون "طبيعي" من جغرافيا المنطقة،حارفة بذلك الصراع عن قواعده وأسسه من صراع عربي- صهيوني جوهرة القضية الفلسطينية الى صراع مذهبي إسلامي- إسلامي (السنة والشيعة)،وبان ايران هي "العدو" الرئيسي للأمة العربية،وهي من تهدد عروشها وأمنها وإستقرارها،وتقيم لها أذرع "إرهابية"  في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين،والمقصود هنا القوى والحركات المرتبطة بمحور المقاومة من الجيش الشعبي في العراق الى حزب الله في لبنان وحركة انصار الله " الحوثيين" في اليمن،وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.

ثمن هذا الإصطفاف كبير جداً،مقابل الحماية للعروش الخليجية،التي يقول ترامب بانها لم تصمد امام الألة العسكرية لإيران بضعة أيام، جزية دفعت بأشكال متعددة مالية نقدية واستثمارات في الإقتصاد والشركات الأمريكية وأثمان لصفقات أسلحة امريكية للسعودية تجاوزت ال 460 مليار دولار،وتدشين لخط الطيران المباشر لطائرة الرئيس ترامب من مطار الرياض مباشرة الى مطار اللد،والسماح للطائرات المدنية الهندية القادمة من الهند بإتجاه " اسرائيل" بإستخدام المجال الجوي السعودي.

على ضوء ما يسمى بصفقة القرن الأمريكية،المستهدفة لتصفية القضية الفلسطينية،والتي يقع على السعودية فيها  دور"تطويع" الحلقة الفلسطينية للموافقة عليها،وفي ظل الفشل السعودي في جلب الطرف الفلسطيني لبيت الطاعة الأمريكي- الإسرائيلي،بات بن سلمان يهدد بتجاوز الطرف الفلسطيني،والذهاب نحو تسوية إقليمية،الطرف الفلسطيني فيها ليس صاحب قرار،ولكي نجد بان حبل التطبيع الخليجي العربي مع دولة الإحتلال مد " الحبل على غاربه" ،وكشف عن نظام عربي رسمي هش،يستعجل التطبيع مع الإحتلال الصهيوني،غير منتظر لما يسمى بالمبادرة العربية للسلام،التي جرى طرحها من قبل ولي العهد السعودي أنذاك خالد بن عبد العزيز قبل أن يصبح ملكاً في قمة بيروت أذار/2002،والتي نصت على الإنسحاب الإسرائيلي الكامل والشامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 مقابل التطبيع مع دولة الإحتلال.

النظام الرسمي العربي الذي يعيش مازقاً كبيراً،بات يعتقد بان التطبيع العلني والشرعي مع المحتل،قد يشكل مخرجاً له من ازماته،ويمنع تساقط عروشه،فحرب بن سلمان على اليمن فشلت ،ومصيره على كف عفريت بسبب قضية قتل مواطن بلاده الخاشقجي وتقطيعه وإذابته بالأحماض،وإحتمالات توجيه الإتهامات له بالمسؤولية المباشرة عن هذه القضية كمجرم حرب،ناهيك عن فشل العقوبات الأمريكية على ايران،وهذا يعني بأن الدور السعودي في السياسة الأمريكية  كضامنة لأمن اسرائيل يتراجع،ولذلك لا بد من خطوات دراماتيكية للسعودية في هذا الجانب،تبقي على الدور السعودي لدى الأمريكان،حتى ان بن سلمان  هو من نصح وطلب من نتنياهو شن الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة،لكي يبعد الأنظار عن والإهتمام بقضية الخاشقجي،ولذلك بن سلمان،كان عراب العملية التطبيعية العربية الخليجية مع اسرائيل التي افتتحها نتنياهو ووزير مواصلاته يسرائيل كاتس بزيارة لدولة عُمان،وفي نفس الوقت كانت وزيرة ثقافته والرياضة تزور أبو ظبي،وتجول في قصورها ومساجدها،وتقول لنا بان " شعب اسرائيل حي"،وكذلك جرت لقاءات تطبيعية رياضية في الإمارات وقطر،أنشد فيها "هتكفا" الأمل، ما يسمى بالنشيد الوطني الإسرائيلي،ورفع فيها كذلك العلم الإسرائيلي،ولتتواصل العملية التطبيعية بتسارع كبير ،حيث تشارك ابو ظبي في دفع تكاليف مد خط الغاز الإسرائيلي تحت البحر بطول 2000 كم الى أوروبا (100 ) مليون دولار،ونتنياهو يستعد لزيارة السودان من اجل تعزيز علاقات التعاون مع رئيسها الإخونجي الذي فرط بوحدة السودان،وسخر جيشها للمشاركة في العدوان على أطفال اليمن الى جانب السعودية،ونتنياهو يريد أن تفتح السودان مجالها الجوي لطائراته المدنية الذهابة الى البرازيل وأمريكا اللاتينية،وكذلك وزير اقتصاده وصناعته إيلي كوهين يستعد لزيارة البحرين لحضور مؤتمر دولي حول صناعة " الهاي تيك" ...والسعودية تشتري منظومة  تصنت اسرائيلية ...و"سيل" جراف من التطبيع العربي العلني المستمر والمتواصل،ورئيس جمهورية تشاد الإسلامية زار اسرائيل لتعزيز التعاون والعلاقات معها.

هذا القطار التطبيعي العربي غير المتوقف يقابله حالة استعصاء شعبي وجماهيري عربية واسعة،لم تمكن من صرف هذا التطبيع لا شعبياً ولا معنوياً،بل تصر على التمسك بالحقوق العربية،وبان لا يسمح لإسرائيل ان تكون جزء من المكون الجغرافي الطبيعي للمنطقة لأن ذلك يعاند حقائق التاريخ،والجماهير العربية ترفض التطبيع بكافة أشكاله سياسي،دبلوماسي،اقتصادي،ثقافي،تجاري ،عسكري وغيره،ما دامت اسرائيل تحتل أرضنا العربية.

البعض يرى بان انتشار التطبيع العربي ،انتشار النار في الهشيم،مرده الى السياسات المائعة للسلطة الفلسطينية،التي لم تدن علناً التطبيع العربي،وسياساتها التطبيعية شكلت حافزاً لتلك الأنظمة العربية المنهارة،لكي تشرعن علاقاتها التطبيعية مع دولة الإحتلال بشكل علني.

دبلوماسية الديون المفخخة الصينية/ د. عبدالله المدني

تعتمد الصين في تمدد وتثبيت أقدامها ونفوذها خارج أراضيها على ما وصفه الخبير في الشؤون الافريقية "روناك جوبالداس" بـ"دبلوماسية الديون المفخخة". ومضمون هذه الدبلوماسية هو قيام بكين بإغداق الأموال في صورة قروض ميسرة واستثمارات ضخمة في البنية التحتية للدول الأفريقية والآسيوية الفقيرة ، الأمر الذي يزيد من عبء الديون على الأخيرة ويوقعها في مآزق السداد.  وحينما يحدث هذا تضغط بكين عليها مطالبة بالسداد أو التخلي عن أحد موانئها أو قواعدها كمقابل.

ولعل ما حدث لسريلانكا خير مثال على هذه الدبلوماسية التي وصفها مراقبون كثر بالخبيثة أو الماكرة، بل قال البعض أن ما حدث لسريلانكا مثال تحذيري لغيرها لجهة محاذير الوقوع في فخ رهن سيادتها للصين مقابل القروض.

والمعروف في هذا السياق أن سريلانكا إضطرت تحت ضغط الحاجة إلى تحديث بنيتها التحتية المتهالكة للاقتراض من الصين التي أبدتْ كامل إستعدادها للمساعدة عبر تقديم القروض المطلوبة بشروط ميسرة، لكن ما حدث لاحقا هو أن سريلانكا عجزت عن السداد، واضطرتْ لبيع حصة كبيرة في مشروع ميناء "همبانتوتا" للصينيين سدادا للمستحق عليها.
وهكذا أخضعت الصين سريلانكا، وهو ما صدم الكثير من مواطنيها وأحزابها السياسية التي راحت تهاجم حكومة كولومبو وتتهمها بالتفريط بسيادة البلاد على واحد من أهم موانيء سريلانكا على المحيط الهندي الرابط للطرق التجارية الاستراتيجية مابين أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. 

صحيح أن الدول الغربية بخيلة ومتشددة في منح القروض للدول النامية، لكنها لم يحدث في التاريخ الحديث أنها لجأت إلى ما تفعله الصين اليوم وهو التقدم بتمويل مشاريع البنية التحتية بشروط سهلة نسبيا مقارنة بالشروط التقليدية (مثل الفوائد المنخفضة) مقابل أن تكون شركاتها الوطنية هي المستفيدة الكبرى من تنفيذ المشاريع، ثم المطالبة برهن الموارد الطبيعية أو المواقع الاستراتيجية في الدول المقترضة في حالة العجز عن السداد، وذلك في عملية طويلة الأجل لضمان أمن الصين وأمن مواطنيها وشركاتها الكبرى بحيث يتحقق لها النفوذ والهيمنة والاختراق الاقتصادي  ويساعد على إنجاز مشروعها المثير للجدل المتمثل في طريق الحرير.

والحقيقة أن سريلانكا ليست الضحية الوحيدة لدبلوماسية الديون المفخخة الصينية في آسيا، فهناك أيضا باكستان التي أقدمت، تحت ضغوط حاجتها الماسة للقروض والمساعدات الصينية، على تأجير ورهن ميناء غوادر بمقاطعة بلوشستان للصينيين لمدة 40 سنة، فضمنتْ بكين بذلك السيطرة والإشراف على ميناء استراتيجي يشرف على مضيق هرمز. ليس هذا فحسب وإنما تمكن الصينيون أيضا من الحصول على تسهيلات عسكرية ضمن قاعدة بحرية/جوية جديدة إفتتحتها باكستان في "توربات" الواقعة على بعد نحو 100 ميل إلى الشمال الشرقي من غوادر. ومن جانبها تنفي إسلام آباد هذه الوقائع وتقول أن ما يجري مجرد مشاريع مدنية مشتركة مع بكين لتطوير الأراضي .

وإذا كانت سريلانكا إحدى ضحايا الصين في آسيا فإن ضحيتها في أفريقيا هي جيبوتي حيث تتواجد الصين بقوة في هذا البلد ذي الموقع الاستراتيجي الهام من خلال قاعدة عسكرية هي الأولى من نوعها للصين خارج حدودها، ومن خلال مشاريع البنية التحتية شاملة ميناء جديدا ومطارين جديدين وسكة حديد تربط جيبوتي باثيوبيا. 

وكدليل على وضع جيبوتي المقلق واحتمال أن تفعل بها الصين ما فعلته بسريلانكا تعالت الأصوات المنددة ومن بينها صوت النائب في الجمعية الوطنية  "دواليه أوفله" الذي وصف الصين بالمستعمر الجديد واتهم ساسة بلاده بالتواطيء والغباء والسذاجة وعدم إدراك عواقب الاستسلام للاغراءات الصينية.

والمؤكد أن بكين (من خلال شركتها المعروفة باسم تشاينا ميرتشانت بورت) هي التي حرضت حكومة جيبوتي بطريقة غير قانونية كي تلغي العقد الموقع بين الاخيرة وشركة موانيء دبي العالمية حول قيام الشركة الاماراتية حصريا  بإدارة مرافق المواني والمنطقة الحرة في جيبوتي بما في ذلك مرافق مناولة الحاويات مما اضطرت معه شركة موانيء دبي للجوء إلى القضاء البريطاني الذي حكم لصالحها لكن دون أن تلتزم جيبوتي بهذا الحكم حتى اللحظة. وبعبارة أخرى وجدتْ بكين أن وجود شركة موانيء دبي على الساحة الجيبوتية قد يؤثر سلبا على خططها وطموحاتها فسارعت للضغط لاخراجها كي تبقى الساحة لها ولشركاتها، وهنا استجابت جيبوتي للرغبات الصينية فانخرطت مع شركة "تشاينا ميرتشانت بورت" في بناء وتطوير ستة موانيء ومناطق حرة داخل أراضيها ضاربة عرض الحائط بالحقوق الحصرية للشركة الاماراتية.

والجدير بالذكر أن شركة موانيء دبي قالت في دعواه القضائية أن محطة الحاويات التي كانت تديرها في "دوراليه" حققت أرباحا سنوية بعشرات الملايين من الدولارات إستولت عليها حكومة جيبوتي في فبراير 2018 بالتعاون مع الصينيين وبتحريض منهم وطالبت بتعويضها عن الخسائر التي لحقت بها. 

يقول الكاتب الهندي "براهما شيلاني" في مقال كتبه العام الماضي أنّ مصيرا أسود قد يواجه دولا افريقية أخرى من تلك التي تكتنز بالموارد الطبيعية التي يسيل لها لعاب الصينيين. ومن أمثلة هذه الدول جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالنحاس والكوبالت وزامبيا الغنية بالنحاس وانغولا الغنية بالنفط وزيمبابوي الغنية بالغاز.

د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أكتوبر 2018 
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh

ألف مَثَل ومثل فلسطيني/ عرض ومراجعة ب. حسيب شحادة

A Thousand and one Palestinian Proverbs
جامعة هلسنكي

משה (מוסא) בן חיים, אלף פתגם ופתגם בערבית מדוברת ובתרגום עברי. ירושלים: אקדמון, 1991, 216 עמ’. 
موسى بن حيم، ألف مثل ومثل في العربية المحكية وبترجمة عبرية. القدس: أكّادِمون ١٩٩١، ٢١٦ ص. 
الأمثال والأقوال المأثورة كما يذكر بن حيم (هكذا يكتب اسمه بالعربية أي: حايم أو حاييم) في مقدّمته هي ”ملح الكلام ومصابيح الأقوال“.  هذا الكتاب مُعدّ للقارىء العبري، لا سيّما الإسرائيلي بغية التعرّف على الشعب العربي، عاداته وطريقة تفكيره، على حدّ قول الجامع في المقدّمة. لبن حاييم كتاب بعنوان ”اللغة كجسر، لتعليم العربية المحكية“ (بالعبرية) وكتاب آخر بعنوان ”حكمة الثور، مجموعة قصص حول الثقافة العربية“ (بالعبرية أيضًا). موسى بن حاييم ولد في العراق، خرّيج الجامعة العبرية في موضوعي اللغة العربية وآدابها وتاريخ الشرق الأوسط، كان مسؤولًا عن شؤون المسلمين في وزارة الأديان، كما علّم العربية المحكية وعمل في مركز بوبر في الجامعة العبرية في الأولپان اليهودي العربي. قام بن حاييم بجمع هذا الكم الضخم من الأمثال، أكثر من الألف، وتحديدًا ١٠٢٦ مثلًا، في غُضون عمله طويل الأمد في الوسط العربي في البلاد، وقد عاونه على ذلك أربعة أشخاص. يعتبر بن حاييم واحدًا من الخبراء اليهود البارزين بالثقافة العربية.  هذه الأمثال والأقوال موزّعة على تسعةَ عشرَ بابَا مثل: آدم وحوّاء؛ الحبّ والأُخوّة والكراهية والحسد؛ أقوياء وضعفاء وأغنياء وفقراء؛ حياة الإنسان وعلاقته بالآخر؛ التربية والعلاقات بين أفراد العائلة؛ الطبيعة والعادة؛ الأخيار والأشرار؛ الموت والحياة باللسان؛ الصبر؛ اتّكل على نفسك؛ نصائح جيّدة، البخل والضيافة؛ الجيرة؛ عن هذا وذاك. ثلاثة الأبواب، ١٩، ١٦، ٩ التي تحمل هذه العناوين: عن هذا وذاك ص. ١٧٠-٢١٥، نصائح جيّدة، ص. ١٣٠-١٥٨ والطبيعة والعادة، ص. ٧٧-٩٦ تضمّ أكبر عدد من الأمثال وهو ٢٢٤، ١٥٤ و ١٠١ على التوالي. 
أمثال كل باب مرقّمة وكل مَثل مرتّب بأربعة أقسام: كتابة المثل بالرسم العربي القريب من الفصحى بدون تشكيل تقريبًا، وهذه المادّة تُمثّل لهجاتٍ فلسطينية متعدّدة، قروية، مدنية بدوية؛ نقحرة المثل بالحرف العبري مشكّلة وهنا تنكشف طريقة اللفظ؛ نقْل المثل إلى العبرية حرفيًا في الغالب الأعمّ، بدون تشكيل عادة وفي حالات التشكيل القليلة وقعت أخطاء مثل ص. ٥٣ رقم ٤٧، ص. ١١٥ رقم ٢٣؛ ص. ١٢٧ رقم ٥ (لفظة ”الليالي“ مذكرة بالعبرية)، وكان من المفروض إضافة المعنى المقصود بين قوسين مثل ص. ٩٨ رقم ١١ تُرجم الفعل ”طلع“ بـ ”خرج“ والمقصود ”اتّضح“؛ بعض الخلفية والتفسير وَفق اجتهاد الجامع وما سمِعه من الرواة. 
أحيانًا يحاول جامع هذه الأمثال والأقوال، أن يأتيَ بما يقابلُها في تقديره بالعبرية، رغم الاختلاف بين اللغتين مثل: ”اللي بشاور المره مره“ وفي العبرية التلمودية ”كلّ من يسمع بنصيحة زوجته يقع في جهنم“ (ص. ١١) والفرق بينهما جليّ وينظر في الصفحات ١١ رقم ٤؛ ١٢ رقم ٨؛ ١٣ رقم ١١؛ ١٦ رقم ٢٦؛ ٢٦ رقم ٣٧؛ ٤٤ رقم ٧١؛ ٤٨ رقم ١٩؛ ٥٤ رقم ٥٠؛ ٧٨ رقم ٦؛ ٨٧ رقم ٥٣، ٥٦؛ ٩٨ رقم ٦؛ ١٠٠ رقم ١٨؛ ١١٩ رقم ٧؛ ١٢٠ رقم ١٤؛ ١٢٥ رقم ١١؛ ١٢٦ رقم ١٣؛ ١٣٢ رقم ١٢؛ ١٤٢ رقم ٦٣؛ ١٦٧ رقم ٦؛ ١٧٠ رقم ٣؛ ١٨٣ رقم ٦٧؛ ١٩٨ رقم ١٣٩؛ ٢١٤ رقم ٢١٧؛ ٢١٥ رقم ٢٢٣. ويلاحظ أيضًا أنّ بن حاييم عمِل جاهدًا للتنويه بأمثال شبيهة لدى شعوب أخرى مثل الهنغاريين، اليونانيين، الإنجليز، الأكراد، الروس، الآيسلنديين،  وينظر مثلًا في الصفحات والأرقام الآتية: ١٢/١٣؛ ١/٢٠؛ ٢٦/٦٢؛ ١٤/٩٩؛ ١٧/١٢٦؛ ١٢٣/١٥٢؛ ١٢٤/١٥٣؛ ٣/١٦٦؛ ١٠٨/١٩٢؛١٨١/٢٠٦. 
عيّنة من الأمثال والأقوال المأثورة الواردة في هذا الكتاب بحسب ورودها: 
الانثى ما بتشبع من الذكر والارض ما بتشبع من المطر.
الجوز رحمة ولو ما بيجيب فحمه.
همّ البنات للممات.
طنجرة ولقت غطاها.
المره من دانها بتسمن.
صح الها جوز قالت عنه اعور.
اذا دخل الفقر من الباب، طار الحب من الشباك.
بصلة المحب خروف.
الحيه عمرها ما بتصير خيه.
لولا الغيره ما حبلت النسوان.
العدو ما بصير حبيب إلا لما يصير الحمار طبيب.
صديق الكل ما له صديق.
ضرب الحبيب زبيب وحجارته قطين.
اجا مين يعرفك يا بلوط.
بالفلوس كل شي بتدوس.
افلس من يهودي بيوم السبت.
اذا انا امير وانت امير مين يسوق الحمير.
بيت الاسد ما بخلى من العظام.
طول ما الكيس مليان بكثروا الخلان.
لا فوقه ولا تحته.
اجت منك وما اجت مني.
اللي بطبل لك زمر له.
الجنازة حامية والميت كلب.
ما بجي من الناس غير وجع الراس.
مثل الشحمه والنار.
العتاب صابون القلب.
ربنا ما ساوانا الا بالموت.
شو احلى من الحلاوة، الصلح بعد العداوه.
البنت بلا اخلاق كشجرة بلا اوراق.
بتجيش المصايب الا من الحبايب.
ركبناه ورانا مد ايده ع الخرج.
كل شي اذا كتر رخص الا العقل.
اللي بسرق البيضه بسرق الجاجه.
الديك الفصيح من البيضة يصيح.
طبع البدن ما بغيره غير الكفن.
لسان ملس وقلب نجس.
بسكر من زبيبه.
عنزة ولو طارت.
قالوا للغراب ليش تسرق الصابون؟ قال: الاذى طبع.
تنين ما بشبعوا: طالب علم وطالب مال.
حاميها حراميها.
في الوجه خيه وفي القفى حيه.
الحيطان الها ودان.
كلمة بتحنن وكلمة بتجنن.
اجت الحزينة ت-تفرح ما لقتش مطرح.
اكل ومرعى وقلة صنعه.
الله بسدها من باب وبفتحها من بوابه.
كل قمحه مسوسه الها كيال اعمى.
اذا رجعت من السفر جيب لاهلك ولو حجر.
خيرها بغيرها.
بصلته محروقه.
طولة البال بتهد الجبال.
الارض ما بحرثها الا عجالها.
اشرب زيت وناطح الحيط.
اللي بده يسكر ما يعد الاقداح.
اللي ما بجي معاك تعال معه.
اللي بخاف الله لا تخاف منه.
اللي بستحي من اصله ما اله اصل.
امشي بجنازة ولا تمشي بجوازه.
بطن الانسان عدوه.
دور كثير بتشوف كتير.
زوان بلادك ولا قمح الغريب.
حط في الحرج.
يا نازل في البير احسب حساب الطلوع.
كل اللي بعجبك والبس اللي بعجب الناس.
لا تقول فول الا بعد ما تحط في العدول.
سكر بالمفتاح ونام مرتاح.
تغدى وتمدى تعشى وتمشى.
شاور الكبير والزغير وارجع لعقلك.
تشتريش سمك في البحر.
التوم قاتل السموم.
لاقيني ولا تغديني.
قعد الضيف ومد اجريه.
شعره من طيز خنزير بركه.
دار بلا جار بتسوى الف دينار.
انا خابزه وعاجنه.
احتجنا لليهودي قال اليوم عيد.
ارخص من الفجل.
اربعه ما بشبعوا: الارض من المطر والعين من النظر والدان من الخبر والمره من الذكر.
بين حنا ومنا ضاعت لحانا.
جاي يقيم الدين في مالطه.
هذا وجه الضيف.
زمان اول حول.
زغرها بتزغر كبرها بتكبر.
حماتك بتحبك.
حامل السلم بالعرض.
طاسه وضايعه.
طيزين بلباس.
الكلام الك يا كنه واسمعي يا جارتي.
كل واحد على دينه الله يعينه.
مش كل من نفخ طبخ.
ما حدا بقول على زيته عكر.
الماشي طير والقاعد حجر.
ما في اشي بلاش الا العمى والطراش.
عمرك شفت بس بلاعب فار؟.
بعمل من الحبة قبه ومن النمله جمل.
عيش كتير بتشوف كتير وبتسمع كتير.
غاب القط العب يا فار.
فرجاه نجوم الظهر.
في الحركه بركه والبطاله هلكه.
الضحك للانسان مثل السماد للبستان.
قالوا لليهودي حمل معنا، راح مسك رسن الدابه.
راح يكحلها عماها.
روح بلط البحر.
الشمس ما بتتغطى بعبايه.
تيتي تيتي مثل ما رحت جيت.
تلاته ما بتخبوش: الحب والحبل وركوب الجمل. 
لا ريب في أنّ القارىء العربيَّ بعامّة والفلسطيني بخاصّة، سيجد بعض الاختلاف بين ما في هذا الكتاب وما يعرفه هو من أمثال، وقلِ الأمر ذاتَه بصدد تفسير الأمثال. على سبيل المثال، في شرح المثل الأوّل (ص. ١١) ”اقلب الجرة على تمّها بتطلع البنت لامها“ يكتب موسى بن حاييم ما معناه: المجتمع العربي التقليدي ليس حرًّا بما فيه الكفاية، ولا يمكّن الشاب من التعرّف على عروسه قبل الزواج، وعليه ينصح المثل بالتعرّف على والدة العروس إذ عادة ترِث البنت صفاتِ أمّها. وفي شرح المثل ”طنجره ولقت غطاها“ (ص. ١٥) يجد القارىء ما معناه ”وافق شنّ طبقة“ والمعنى المعروف ”انتهت المشكلة“. وفي شرح ”اكلها لحمه ورماها عظمه“ يقول المؤلف إنّ هذا المثال يقال عن ”رجُل تمتّع بزوجته الشابّة والجميلة وتركها عندما شاخت“ (ص. ١٢ رقم ٥ وانظر ص. ٨٩ رقم ٦٢؛ ص. ٩١ رقم ٧٨)، وهنالك مواضعُ كثيرة من هذا القبيل. أضف إلى ذلك هنالك هفوات في تشكيل النقحرة العبرية للأصل العربي مثل ص. ١٥ رقم ٢١، ٢٤؛ ص. ٢١ رقم ٧؛ ص. ٢٧ رقم ٤٠؛ ص. ٣٢ رقم ١؛ ص. ٤٤ رقم ٦٧؛ ص. ٦٢ رقم ٢٣؛ ص. ٧٣ رقم ٢٠؛ ص. ٨٠ رقم ١٨؛ ص. ٨٥ رقم ٥٠؛ ص. ١٢٧ رقم ٥؛ ص. ١٤٦ رقم ٨٩؛ ص. ١٧١ رقم ٧؛ ص. ١٨٥ رقم ٧٦؛ ص. ١٩٥ رقم ١٢٦؛ ٢٠١ رقم ١٥٥؛ ص. ٢١٠ رقم ٢٠١. 
في بعض المواضع وقعت بعض الهفوات في ترجمة الأمثال إلى العبرية مثل: ”… ولا شاب يولعك“ نقل إلى العبرية بما معناه ”ولا شاب يسلّيك“، ص. ١٥ رقم ٢١؛ ”شاوِرهُن وخالفهُن“ ترجم إلى العبرية لضمير المخاطبين بدلًا من المخاطَب، ص. ١٩، رقم ٤٨؛ وينظر في ص. ٢١ رقم ١١؛ ص. ٢٨ رقم ٥؛ ص. ٣١ رقم ١٧؛ ص. ٣٨ رقم ٣٧؛ ص. ٤٤ رقم ٧١؛ ص. ٥١ رقم ٣٦؛ ص. ٥٢ رقم ٤٢؛ ص. ٥٦ رقم ٦٤؛ ص. ٦٦ رقم ١؛ ص. ٦٨ رقم ٨؛ ص. ٧٤ رقم ٢٢؛ ص. ٨٣ رقم ٣٣؛ ص. ٩٠ رقم ٧١؛ ص. ١٠٦ رقم ١٤؛ ص. ١٢٩ رقم ١٢؛ ص. ١٣٢ رقم ١٤؛ ص. ١٤٦ رقم ٨٩؛ ص. ١٧١ رقم ٥؛ ص. ١٧٩ رقم ٤٨؛ ص. ١٨٣ رقم ٦٤؛ ص. ١٩٠ رقم ١٠٠؛ ص. ١٩٦ رقم ١٣١؛ ص. ٢٠٥ رقم ١٧٣.
وأخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى وجود طبعة جديدة ومزيدة لهذا الكتاب، صدرت عن الجامعة العبرية عن طريق دار النشر ذاتها سنة ٢٠٠٤، وفيها ٥٠٧ ص. وفيها أكثر من ثلاثة آلاف وستمائة من الأمثال والأقوال المأثورة، وهذه الطبعة تستحقّ بحثًا منفردا للوقوف على مستجدّاتها.

مجرد أفكار/ صالح أحمد

* لم أجد لكلام المنظِّرينَ وعشاقِ الصّراخِ والتّهويلِ مِن مَثلٍ سوى عُشبِ الطّريق؛ سرعانَ ما يُداس.. وفي أفضلِ حالاتِه، يصمُدُ حتى تذروهُ الرّياح.  

* الحرُّ يجدُ حياتَه في معاني الفداء، وفي هذا معنى خلودِ روحه... 
والعبدُ يجدُ حياته بالتّملقِ والتّزلُّفِ والتّنظيرِ حفاظًا على سلامتِه.. وتحقيقًا لمصالحه..
وفي هذا معنى سقوطِه وفراغِ روحه.

* أن تعيشَ أصمَّ أبكَمَ... خيرٌ لك مِن أن تنطِقَ بما يذهَبُ بهيبَتِك.

* الأمورُ التي تتغَيّرُ بتغَيُّرِ الزّمانِ والمكانِ؛ لا يمكنُها أن تكونَ حقائق. والطّباعُ التي تغيِّرُها الظّروفُ والحاجاتُ؛ لا يمكنًها أن تكونَ إنسانيّة.

* لطالما آمنتُ أنّ الحماسةَ الزّائدةَ، تُنجبُ الخطابَ الأجوف.

* كلَّما تأخَّرنا في رَأبِ الصّدوعِ في كَيانِنا؛ يَتَرَسَّخُ الخمولُ في حَياتِنا، ونفتحُ الطّريقَ ليدخلَ علينا ما لا نحبُّ وما لا نطيقُ، وما لا يعودُ بإمكانِنا التّخلصُ منهُ بسهولةٍ... فهل يمكنكُم أن تتصوّروا شكلَ حياتِنا حينَها؟

* هل من حقّنا أن نلومَ الغريبَ إذا سَقانا ماءَهُ العَكِر، نحن الذين رَدَمنا بئرَنا بأيدينا؟

 * الحرية في ما يبني وينفع... ولا حرية في ما يضر ويؤذي ويهدم..

* إذا ارتبط معنى الحريّة بالهوى... فقد أصبحت داءً، بل معضلة.

* حيثما تنعدم الحرية... وتهان الكرامة.. تنبت الهزيمة..

* أخي الإنسان.. إنَّ الحريّةَ منحةٌ إلهيّةٌ، فأحسن فهمَها واحترامَها واستخدامَها تهتدِ، وإلا فالضّلالُ نصيبُك.. وعلى هذا ستُحاسَب.

* من لم يزدَد بالعلم احترامًا للحريّة الإنسانيّة –لذاتها- فمرَدُّ ذلك إلى الجهل الأخلاقي والفراغ القِيَمي. لأنّ العلم لا يُغني عنهما أبدًا..

* حين تحصُرُ الخيرَ فيما تملكُ، والصّوابَ فيما تَرى، والحقيقةَ فيما تعرف، والجمالَ فيما تحب... تكونُ قد قطعتَ شوطًا طويلًا في اتّجاه العُزلَةِ عَن الواقِعِ، والشّذوذِ عنِ المَنطِقِ...

* قناع الانتفاخ الزّائف قد يساعدُنا في إخفاءِ آلام كياننا، وهَوانِ واقِعِنا... ولكّنه لن يجعَلَنا ننساها، أو ننسى أنّها تدفنُ أحلامَنا...

* تجرّدَ مِنَ الإنسانيّةِ مَن سَوَّلَت له نفسُه قتلَ أخيه.

* سلام على فكرٍ بِكرٍ؛ عرف كيف يتعلّمَ لغةَ القلوبِ والأرواحِ ، وكيف يجذِبُها إليه بِطُهرِ روحِهِ وموقِفِه ومبدَئِه.. ولم ينجَذِب يومًا لغيرِ الطّهر والنّقاء...
::::::::: صالح أحمد (كناعنة) :::::::::

الرسالة الخامسة والعشرون: اكتبي إليّ أرجوك إن شعرت أن أحوالي قد تهمك/ فراس حج محمد

الاثنين: 26/11/2018

إنه الاثنين، في مكتبي البارد أسترجع في ذاكرتي قولك في رسالتك القصيرة الحادة: "ممكن أفهم، ماذا يحدث، أم أنني سأبقى أعايش هذه المزاجية؟". إنني لست مزاجيا، شيء أبعد من المزاجية، إنه الإحساس بالكارثة، باليأس من كل شيء في هذه الحياة، أفكر على نحو سطحي: ماذا تفعلين في مثل هذا اليوم؟ لعلك في العمل، عملك يختلف عن عملي، أشياؤك مختلفة، اهتماماتك أيضا مختلفة، ربما لم يعد شيء يجمعنا، لا أشياء مشتركة، غريب هذا الإحساس، لم يعد حتى الأدب والاهتمام به يجمعنا، أشعر أن الأمر سيئ للغاية، بل ربما هو كارثي أيضا.
أقاوم الإحساس باليأس، لا رغبة لدي سوى المكوث بلا عمل حقيقي، أغوص منذ يومين في قراءة رواية "عندما بكى نيتشة". أصدقك القول إن نيتشه وأفكاره وكتبه وما كتب عنه تستحوذ على اهتمامي بالكامل. شيء مهم وحاد وقاس في هذه الرواية مع أنه ملهم أيضا. يتملكني إحساس بالفوضى والعبثية وأنا أقرأ. عوالم ليست منظمة على نحو جيد، ليست روائيا بطبيعة الحال، أقصد ما تتحدث عنه الرواية، علاقة نيتشه بنفسه وبمحبوبته "لو سالومي" عبثية جدا، ربما هي تشبهك قليلا، لكن ثمة فارقا بينكما بالتأكيد. أجواء من الإحساس المؤلم عند كل من الطبيب بريوير ونيتشه، مخاتلة نوعا ما، لكنها ليست مزاجية. عقلان عظيمان يتحركان في فضاء هذه الرواية، متصارعان على السيطرة؛ سيطرة الطبيب على مريضه، وسيطرة البروفسور الفيلسوف على الطبيب، لعبة شد الحبل أو عض الأصابع، إن شئتِ في هذه الرواية.
ارتشف قليلا من الألم البارد مع كل رشفة من فنجان القهوة المرة الذي أحضره لي المراسل. شخص كثير الكلام، لحوح، شعبوي، يقتحم مكتبي كثيرا، يعرض علي خدماته، يدخل في أحاديث كثيرة، لا داعي لها، ليس لي رغبة في الحديث معه، شخص مزعج جدا وخاصة وأنا في هذه الحالة. لعلك تعانين أيضا مثلي من الأشخاص الفوضويين الفضوليين المزعجين.
إنه يوم الاثنين، موعدي مع صديقي الطليعي، كنت أظن أنه لن يتصل بي ولن يأتي، هاتفني قبل قليل، وأنا أكتب لك هذه الرسالة، إنه قادم، لا أدري ماذا سيكون بيننا من حوار، لكنه سيحدثني عن انشغاله بمتابعة الرواية، قرأت ما كتبه قبل أيام عن واحدة من الروايات، يستعين برأي لي حول الرواية: "أعتقد أن هذا التركيز على الرواية يضر بالراوية وبكاتبها، فرغم الكم الكبير الذي يُنشر إلا أنه قليل الجودة، ويُبقي فنية كتابة الراوية على السطح دون أن يوصلنا إلى النشوة التي نريدها من العمل الروائي". إن النشوة التي يبحث عنها القارئ والناقد هدف مهم لكل كاتب وقارئ. لماذا تنعدم هذه النشوة ويصاب القارئ بخيبة أمل؟ فكري بهذه النقطة الحيوية في عملك القادم.
الليلة السابقة، كانت ليلة مزعجة جدا، هواجس وتخيلات، أفكر بقول الطبيب بريوير وهو يتحدث عن مريضته النفسية وكيف أنه ابتعد عن زوجته ولم يلمسها منذ عدة أشهر، لا يريد أن يشعر بالخيانة، ويتخيل هذه المريضة تحته وهو يضاجع زوجته. كنت أفكر بهذا بالضبط منذ أيام، كيف كنت أفعل الأمر نفسه، لقد أبلغتك سابقا عن هذا، على الرغم من استحسانك الفكرة ونظرتك إليها من جانب مختلف تماما، ما دام أن في الأمر إسعادا للطرف الآخر، فليس هذا مهما. كما قلت لي يومئذ. كنت محتاجا منك لهذا التصريح، فجريت في كل مرة مع هذا الأمر إلى أقصاه، ما هي مشاعري حيال ذلك وما هي مشاعرك؟ كنت أشعر بالرضا أحيانا وأحيانا أخرى بالتفاهة. ففي كلتا الحالتين بعيدة عني جدا، ولا أستطيع أن أشم أنفاسك التي كانت تتغلغل في ذاكرتي كعمود ضوء برقيّ.
لم تكن هذه التخيلات وحدها هي المسؤولة عن قلق الليلة الفائتة. عدت إلى البيت متأخرا بعد المشاركة في مراسم دفن أحد أقاربنا، شخص مصاب بالسرطان لم يمهله المرض طويلا، في بداية الخمسينيات من عمره ربما، حشد كبير من الناس، يودعون رجلا توفي، الناس في ذهول، لا أحد يتحدث مع أحد، متأثرون جدا لموت هذا الرجل الذي لم يكن مفاجئا. لماذا يصحو الناس أحيانا من سكرتهم، ويأخذون بتأمل مشهد الموت. تأملت مشهد الناس أمس، وتذكرت أقوال نيتشه عن الموت، يبدو أن الفلسفة أخذت تنخر في عقلي ونفسي، لماذا يموت الناس؟ ولماذا يولدون إذا كان مصيرهم هو الموت؟ أسئلة صعبة وقاسية وليس لها جواب محدد.
لقد غصت قاعة بيت العزاء بالناس، لست معتادا على هذه الأجواء، منذ مدة لم أشارك بمثل هذه الاجتماعات، لكن هذا الموت الذي صدمني جعلني أغوص في تلك المشهدية المعقدة للموت، كيف لي أن أتخلص من هذا الجو الرهيب؟ لحسن حظي جلست إلى جانب أحد زملاء المدرسة، دار حديث حول العمل، والأبناء، يعمل صديقي في البناء، يريني من جهازه المحمول إنجازاته من بنايات وعمارات، بعد أن أشرت إليه أنني قد علمت بعض الموجودين في القاعة، وكأنه يريد أن يوازن بين الإنجازين. هل أنجزت فعلا شيئا مهما أنا؟ هل يعترف هؤلاء الذين علّمتهم بالفضل أو بالأثر الذي تركته فيهم وعلى حياتهم، لا يبدو ذلك، ذهب عملي باطلا، أما صديقي فعمله واضح ثابت.
صديقي هذا كان طالبا مشاغبا مع أنه ذكي، وأعترف أنه كان أذكى مني، وأمهر في الرياضيات، يتحدث لي أنه كان يجيد الرياضيات وأنا أجيد الحفظ، بالفعل كنت كثير الدراسة وأركز المجهود على الحفظ، لا عيب في ذلك هذه هي قدراتي، وهذه هي إمكانياتي. يسترسل صديقي في إنجاز مهمات صعبة، يستطيع قراءة خطط المهندسين بسرعة، وينفذها بعبقرية، إنه محظوظ جدا.
الليلة السابقة كانت صعبة جدا، في حاشية الموت الممتدة على مساحة الحياة، ثمة طلاب علمتهم، التقيت بهم، كبروا كثيرا صاروا ناضجين، هؤلاء المشاغبون سابقا، صاروا أكثر رجولة الآن، أنا أصبحت أكثر عجزا، وهم أكثر حيوية، أحدهم يكتفي من التعليم بثمانين ساعة، يغادر الجامعة ويعمل في مصبغة، بدا سعيدا أنه لم يكمل تعليمه، لقد كان محقا على ما يبدو، فالتعليم هو همّ الكسالى والباحثين عن الفقر أمثالي، هو الآن يلبس ملابس غالية الثمن ويدخن نوعا فاخرا من الدخان، كان مشرق الوجه على الرغم من بشاعة الموت البادية على وجوه البشر المكدسين في الساحة العامة وعلى جانب المقبرة.
أفكر يا عزيزتي في الموت كثيرا، أرى تقدمي في العمر وتواضع هذه الحياة بإنجازاتها العبثية. لا شيء يمكننا أن نقدمه لهذه البشرية الساعية إلى أهداف عبثية، العمل، الزواج، البناء، لكن لا أحد يتحدث عن تحسين الظروف العامة، هل أبدو لك مثاليا نوعا ما؟ لا أظن ذلك، فأنا أيضا لم أساهم في تحسين الظروف العامة عدا تحسين ظروفي الشخصية. هل لو سعى كل شخص لتحسين ظروفه الشخصية ستتحسن الظروف العامة؟ فكرة غبية وعبثية أيضا، لأنها تجعل الناس منغمسين في أفكارهم ومصالحهم الشخصية المتضاربة والمتواضعة. فلا شيء سيتحسن لو انغمس الناس في تحسين ظروفهم الخاصة، فالحياة تحتاج إلى ما هو أعمق وأكثر تركيزا.
على كل حال، لا تفكري كثيرا بالمزاجية، لقد نضجتُ بما فيه الكفاية، فلم أعد خاضعا لهذا القلق النفسي المراهق. لكن تذكري أيضا أنك ربما كنت مزاجية؛ ألم تقرئي رسالتي السابقة، ولم تردي عليها بأي تعقيب صغير أم كبير؟ ماذا يعني ذلك؟ أليست هذه مزاجية مغلفة بغلاف من اللامبالاة وعدم الاهتمام؟ لا تحفلي كثيرا بهذا التفسير، ربما كنت مخطئا، لكنّ شيئا مزعجا في هذه العلاقة المميتة حقا.
لم أنس وعدي في الكتابة إليك عن بقية رسائل يوسا، ولكن عليّ الانتظار لتتحسن حالة القلق، لا أستطيع الكتابة بشكل مكثف ودالّ وأنا في مثل هذه الحالة، تكون لدي رغبة في الهذيان والاسترسال في موضوعات شتى، وهذا لا يناسب الحديث عن تقنيات الرواية التي تحدث عنها يوسا. أكتب إليك فقط لأشعر بشيء من التحسن. اصبري عليّ قليلا ربما استطعت تجاوز هذا الذي أنا فيه.
اكتبي إليّ أرجوك إن شعرت أن أحوالي قد تهمك، ولو قليلا، من باب التعاطف الإنساني العام ليس أكثر. دمت بود ومحبة.
المشتاق إليك بقوة: فراس حج محمد

فينومينولوجيا شقاء الوعي.. مأزق المثقف العربي/ حسن العاصي

أزمة المثقفين المنخرطين العرب ليست فقط أزمة علاقتهم بالسلطة السياسية والدينية، بل إنها في عمقها أزمة ضمير وأخلاق والتزام يولّد شقاءً أو ينتج جاهاً. فلا غرابة أن يكون المثقفين إما أهم أدوات الدفاع عن الحريات الأساسية للناس، وترميم المجتمعات التي أعطبتها الأنظمة البوليسية، أو أن يكونوا سلاحاً بالغ الخطورة بيد السلاطين، لتزييف وعي وواقع البشر وذاكرتهم وتاريخهم.

من البؤس والوحشة أن يكون الفرد تعيساً بسبب وعيه. في المناخات العربية التي ابتليت بكافة أمراض النمو، ولم تنل أية جرعة لقاح حقيقية، رغم وفرة الأطباء، تتعدد الظروف التي تضاعف شقاء المثقفين، شقاء يسببه وعيهم المعرفي، وشقاء آخر ناجم عن الإقصاء والتهميش التي تعتمده السلطة كمنهج للتعاطي مع المثقفين، وشقاء يتولّد عن قيام المثقف بالانكفاء والانعزال عن المجتمع طواعية، أو ربما يكون العزل قسرياً، حيث يدفعه تجاهل الجماهير له ونبذهم لأفكاره ومواقفه على الخلوة وترك الشأن العام، عزلة مميتة قد تتسبب بالانتحار الثقافي، وأحياناً يُرغم المثقف على الرحيل الفكري.

ليست المعضلة في السفر الثقافي، من خلال انتقال المثقف من أيديولوجيا إلى أخرى، ومن مذهب فلسفي إلى آخر، في مسيرته البحثية لاكتشاف الصواب والحقيقة، ما دام هذا الانتقال له ما يبرره فكرياً، ومبني على إعادة قراءة التجربة وتقييمها. أو إن دُ فع للانتقال قسراً، لكن المصيبة في السفر الطوعي الانتهازي، في الانتقال بهف تحقيق المنفعة الشخصية. الإشكالية المفجعة في السبات الطويل لضمير بعض المثقفين، الذي لا يصحو من غفوته إلا من خلال مقايضات خالية من المنهجية ومن الأخلاق، والطامة في وجود بعض المثقفين الذين هم أشبه بالمقاولين للأفكار والمواقف والخطابات والشعارات، عبر توظيف ذخيرتهم المعرفية واللغوية، في سوق المشتري فيه من يدفع أكثر.

 خطاب تغريبي

لا يستوي المثقفين في التعريف والدور والتصنيف، فمنهم المثقف التقليدي أشبه بأجير العمل الوظيفي الثقافي، يكرر القيام بما يجيد فعله. وفيهم المثقف العضوي الذي إما أن يكون ملتصقاً بسلطة، أو مناهضاً يسعى للتغيير. وهناك بعض أشباه المثقفين الذين يتسمون بالانتهازية، فترى أحدهم قد انتحل شخصية المثقف ويتلوّن حسب مقتضيات المناسبة وشروط الولاء، ويتحول في كل مرحلة، يقوم بالتشكل حسب القالب كأنه مادة هلامية، يؤمن بأن لكل مقام مقال.

يعاني المثقف العضوي المشتبك والمساهم في الصراع لإحداث تغيير حقيقي في واقع الإنسان نحو الأفضل، من مأزق إشكالي يتجلى في مفارقة عجيبة، بين دوره الريادي في مجتمعه، وعدم إظهار التقدير والاحترام له من قبل أفراد هذا المجتمع. يظهر المأزق في حالة الإرباك التي يعاني منها رغم نبل أهدافه ورزانة رأيه وحماسه الطفولي، فالمثقف العضوي الحداثي لم يستطيع إدراك عدم جدوى فعاليته وجهوده في المجتمع الذي ينشط فيه. فحين تمارس عليه السلطة السياسية أو الدينية القمع والقهر وتحاصره وتزج به في السجن، يصاب بالإحباط والقنوط حين يلمس اللامبالاة وعدم الاهتمام من الناس الذين كان يؤمن بهم، خاصة أنه يجهد ويناضل لأجل مصالحهم ومستقبلهم، وقد يقضي السنين خلف القضبان لا يذكره أحد سوى في المناسبات الثورية، وحين يموت يخرج خلفه القلة ممن يعرفون القيمة الحقيقية لجهده وأفكاره ومواقفه، وإن كان محظوظاً يرثيه البعض في ذكرى غيابه ويتأسفون عليه.

ربما هذا المأزق بظني يعود في أحد جوانبه إلى المفاهيم المثالية التي يتصورها المثقف عن الغالبية الكبيرة من أفراد المجتمع الذين لا يمتلكون مصادر الوعي الثقافي والمعرفي التي يمتلكها المثقف ذاته، لذلك قد لا يلحظ في غمرة اندفاعه للدفاع عن مصالح الناس، أنهم ذوي ثقافة تقليدية اجتماعية، يعتبرون أنها ثقافة آمنة تجنبهم سخط السلطات السياسية والأمنية والدينية.

تبدو هذه المفارقة جلية أكثر ربما مع مثقفين الأحزاب القومية واليسارية الليبرالية، وهو ما يفسر سبب انسحال هؤلاء وفشلهم في الالتحام مع الجماهير. وفي مقابل هذا الفريق من المثقفين هناك طائفة أخرى من المثقفين التقليديين، الذين تمكنوا من التأثير على مواقف البشر وأفكارهم، لأن المثقف التقليدي تربطه بمحيطه الاجتماعي تداخلات اجتماعية وتاريخية ومكونات متوارثة. واتضح أن المثقفين التقليديين الذين يبدون كأنهم جنوداً قدامى متقاعدين، أكثر تأثيراً وفاعلية في المجتمع من المثقفين الليبراليين واليساريين، من خلال مقدرتهم على التواصل مع الجماهير، رغم أنهم مثقفين غير متنورين وعايشوا فترات زمنية مغايرة تماماً عن عصرنا، وخبروا نظماً اجتماعية وسياسية وعادات وتقاليد ومشاكل تختلف تماماً عن النظم الحديثة التي يعيشها الإنسان المعاصر، إلا أنهم يمتلكون ثقافة يصل الناس إليها بدون مشقة، ويتسلحون بمرجعيات فكرية وفلسفية يخبرها الناس، ويستخدمون رموزاً مألوفة للعامة، بعكس المثقف التنويري الذي يجعل الناس تنتقل إلى عوالم زاهية يكونوا فيها مواطنين أحراراً يتنعمون برغد الديمقراطية، لكنه بالمقابل يكون غافلاً عما يدور حوله من شقاء وضنك للحياة، وقمع وقهر تمارسه السلطة.

مأزق المثقف اليساري لجوئه إلى الأفكار والأيديولوجيا الغربية عن مجتمعه، واستعماله المصطلحات التي لا يفقهها الناس، والتي هي بالأساس مفردات مرجعيته الفلسفية التي تشكل مذهبه. بظني أن هذا الاغتراب عن الناس هو الذي جعل من الخطاب الثقافي التنويري العربي عديم الفعالية، وأحدث الأزمة الثقافية الراهنة في نهاية المطاف، والانتقال إلى مرحلة مختلفة سمتها فشل الفكر الحداثي وسطوة الأفكار الظلامية.

معظم المثقفين لا يدركون أنهم يخاطبون جماهيراً لا تعيش في قلاع الأيديولوجيا، ولا تنام على سرير الفلسفة. إن ما يظهر أنه مسلمات بديهية بالنسبة للمثقفين، ليس هو كذلك بالنسبة لعامة الناس، وإن دعوة بعض المثقفين للجماهير أن ترتقي بأفكارها إلى مستواهم المعرفي، ما هي إلا أوهاماً مريضة، ودليلاً لافتاً على اتساع الفجوة بين الأفكار والمعرفة النظرية للمثقف الليبرالي وبين أفكار مجتمعه، فجوة لا تساعد على تحقيق أي انسجام وتناغم بين الطرفين من جهة، وتعمل على تعميق أزمة المثقف من جهة أخرى. فنجد بعض المثقفين يبتعدون عن مجتمعاتهم، وبعضهم يشتمه، والبعض الآخر يتعالى عليه. إن التطور الهائل في وسائل الاتصال والثورة المعلوماتية التي أسهمت بصورة سحرية في سهولة الحصول على المعلومة، وجعلت العالم متعدد الثقافات ومتنوع الأفكار، وأثرت العقول بالمعرفة، لكنها في ذات الوقت غرّبت المثقف عن عالمه المحيط.

 شقاء الوعي

من أشهر أبيات الشاعر المتنبي "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"، هذا البيت ثري بالحكمة وهو ينطق بالمعنى ولا يحتاج تفسير.

لقد بدأ الفيلسوف الألماني "فريدريك هيغل" مشروعه الفلسفي في نقد نظرية الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" وغيرها من النظريات الفلسفية بوصفها شديدة التقييد، حيث طور ما يدعى بالتفكير الديالكتيكي أي التفكير الجدلي. ربط هيغل مفهوم "الوعي الشقي" بإحساس الفرد بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، اغتراب يسببه العقل الجدلي التنويري للمثقف العضوي، ومقدرته على الاستبصار.

"جان بول سارتر" اعتبر أن المثقف هو ذاك الفرد الذي يسعى للقيام بواجبات لم يكلفه بها أحد، إذ أن المثقف العضوي المترابط مع قضايا الناس يشكل الضمير والوجدان المجتمعي، لكنه ضمير يشقى في سعيه الوصول لغاياته.

الأديب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي" ذكر إن الإفراط في امتلاك الوعي ما هو إلا علة، علة مرضية حقيقية وتامة. وقال مرة إن العقل هو الذي يقوده، وذلك تماماً ما تسبب في ضياعه.

إن أفظع ما في القضية في نظري هو أن تفهم كل شيء، فيمكن للوعي ببساطة أن يتحول إلى مصدر للتعاسة والشقاء، ومن سخرية الاقدار هنا أن يصبح الجهل نعمة لصاحبه غالباً. فالإنسان القانع بحياته والراض عن واقعه لا تقلقه الأسئلة، ولا ينتظر إجابات، ولا يشغله البحث ولا تستنزفه الأفكار، فهو قابل بما يمنح له من حقوق. لكن الإنسان الذي يمتلك ناصية الوعي والمعرفة، فإنه مصاب بالقلق ومتوتر بالأسئلة، يبحث دون كلل عن إجابات ترضيه، متعطش للعلم والتقدم، منسحق تحت وطأة المفارقة التي تأزمه، وهي بين وعيه المعرفي الذي ينشد الأمثل، وبين واقعه الرديء.

فالوعي العميق بحقيقة الأشياء وإدراك أبعادها يتسببان بالعذاب للبشر، بحيث يبدو أن أفظع ما في القضية هو أن تفهم كل شيء. ذلك أن الفرد الواعي يمتلك نظرة شاملة، وبعداً أعمق للقضايا، وطموحاً يسعى للأفضل، ويمتلك عقلاً متفحصاً ناقداً محللاً، ووعياً يمكنه من إجراء المقاربات واقتراح البدائل. الإنسان الواعي صاحب خاصية النفاذ إلى عمق القضايا وجوهر الظواهر، يمتلك العزيمة وملكة الإقدام للمضي بحثاً عن الحقائق، ولديه الجرأة لمواجهة وتعرية كل ما هو زائف ومبتذل وسطحي.

هذا حال المثقف حيث أن كثير من المفكرين كانوا يصنفون شرائح المجتمع إلى صنفين "الخواص والعوام" ومنهم الفيلسوف وعالم الاجتماع "ابن خلدون" ووضعوا المثقفين في خانة الخواص، يمتلكون المعرفة ويفتقدون الحظ.

 جلد الذات الشقية

هل يمكن أن تتحول الثقافة من وظيفتها الفكرية في تطوير العقل إلى مس يصيب المثقفين بنوبات التعاسة؟ وهل يصبح الوعي المعرفي بما يتضمنه من أفكار سامية مصدراً للشقاء؟

عانى المثقفين العرب دهراً الرهبة والخشية المستمرة من قمع وقهر السلطتين السياسية والدينية، فظلت أسئلتهم مبتورة، وبحثهم غير مكتمل، وخطاهم متعثرة، وشعاراتهم وعباراتهم مواربة ودورهم ضبابي، وعلاقتهم بالناس ملتبسة، وخطابهم مراوغ، لذلك لم يكتمل مشروعهم، وأحلامهم تم إجهاضها وبقي وليدهم يعاني من ضعف ووهن في النمو. ولأن معظم المثقفين العرب لم يتمكنوا من توجيه الانتقاد الفعال للسلطة، بسبب السياسات الاستبدادية التي اتبعتها معظم الأنظمة العربية وأدواتها الأمنية بحق المثقفين، وبالتالي لم ينجحوا في مهامهم، ولم يتبلور مشروعهم التقدمي، لجأ معظم المثقفين العرب إلى سياسة نقد الذات وجلدها بقسوة وتأنيب أنفسهم لهزائم وكوارث العرب التي لا تتوقف، وبالتالي عجزهم عن إجراء أي تغيير حقيقي في مجتمعاتهم. هذه الانتكاسات التي مني بها العرب ما هي في الواقع إلا نتيجة السياسات غير الصائبة والخيارات العشوائية التي أقدمت عليها بعض الأنظمة العربية، التي غيبت بالكامل دور الجماهير في تقرير مصيرها، ولم تتمكن من بناء دولة المؤسسات، لكن وحدهم المثقفين هم الذين نسب إليهم أبوة الهزيمة.

الراهن العربي بخيباته وبؤسه دفع الكثير من المثقفين العرب أن يخطّئوا أنفسهم ويتحملون مسؤولية الشقاء الذي حل بالأمة، وعانوا من الإحساس بالذنب، ومنهم من انتكس وانكفأ على ذاته من مجتمعه، مما أنتج حالة من الاغتراب والشقاء لدى قطاع واسع من المثقفين الذين سقطوا في جادة توبيخ أفعالهم وتقبيح فشلهم، لكن هذا النقد الذاتي للمثقفين العرب لم يكن لا علمياً ولا موضوعياً، بل كان عاطفياً انفعالياً غالباً، بدلاً عن انكبابهم على نقد السلطة وسياساتها، وتحليل مواقفها ومواجهة تسلطها، وتفكيك إشكاليات المجتمع والبحث عن مكمن العلة.

بالرغم من سياسات الإقصاء والتهميش التي تعرض لها زمناً المثقفين العرب- ومازالوا- من جانب معظم الأنظمة العربية تاريخياً، ومعاناتهم نتيجة فقدان الحرية والمناخات الديمقراطية، وانتهاك حقوقهم من السلطة، وشعورهم بالاغتراب وسحق روحهم الإبداعية، إلا أن المثقفين العرب يجدون أنفسهم مسؤولين بشكل مباشر عن إنجاز الأهداف الإنسانية السامية التي جاهدوا لتحقيقها في مجتمعهم. ويشعرون بتأنيب الضمير الأخلاقي، فيقومون بتوبيخ حالهم على ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد.

لكن في الحقيقة هل المثقفين وحدهم يتحملون مسؤولية هذا الشقاء، وهل يجب أن يسددوا أثمان الخسائر التي لا تتوقف التي مني بها العرب؟ وهم الذين ظلوا منبوذين وخارج مؤسسة صنع القرار، ولم تأخذ يوماً أية سلطة عربية مواقفهم ورؤيتهم على محمل الاحترام، بل كانوا دوماً في موضع الشك الأمني. هنا المثقف يجلد ذاته على هزائم لم يتسبب بها، والمجتمع لا يعفيه من المسؤولية، والسلطة لا تقيم له وزنا، ويبدو الأمر وكأن المثقفين قد شاركوا في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا. هذه المفارقة تمثل الموت البطيء بالنسبة للمثقفين الذين يمارسون بحق أنفسهم رقابة ذاتية صارمة، قد تؤدي إلى الانسلاخ الإرادي عن المجتمع، بحيث لا يستطيع المثقف أن يعبر عن نفسه، ولا يتمكن من إخراج هذه الأفكار بصورة تسهم في تطور مجتمعه، حيث الإشكالية الشقية هنا أن الالتحام مع الناس يثير غضب السلطة، والتقرب من أجهزة السلطة يعني الانسلاخ عن الناس وهمومها وواقعها.

يبدأ المثقفين بالتساؤل عن أسباب هذا الوضع المربك المقلق والمشوش، فهل هم في الجبهة الصحيحة لخوض المواجهة مع أسباب التخلف والإخفاقات والانكسارات التي أصبحت سمة الأمة العربية، وما هي أسباب فشل المشروع الإصلاحي التنويري النهضوي، هل السبب في الرؤية أم في العقل أم في الوسائل، في الاستراتيجيا أم في العجز عن فهم وتحليل الراهن، هل الإشكالية في التوقيت أم في طبيعة الأهداف وتحديدها؟

 مثقف مستهلك لا منتج

ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا. والبعض منهم سقط في اعتبار الموروث أو جزءًا منه معيار أساسي لمقاربة الراهن العربي، دون الاعتبار للاختلافات المرتبطة بالسيرورة التاريخية، وتغير عاملا الزمان والمكان، مما يجعل من إعادة إحياء الماضي كما كان أمراً طوباوياً. من جانب آخر نلاحظ تأثر بعض المثقفين الكبير بالنظرة التحليلية لغالبية المستشرقين الغربيين، هذا التأثر دفع المثقفين للنقل وإجراءات المقاربات بمنظور غربي دون تفكيكه، وبأدوات غربية من دون إدراك المصالح الغربية خلفها.

لذلك تحول غالبية المثقفين العرب إلى مستهلكين للأفكار والنظريات، وليسوا منتجين لها، حيث كانوا منبهرين أمام الفلسفة الغربية وثقافتها. وأكبر الأخطاء التي لم يتوقف أمامها المثقفين العرب منذ عقود، أنهم -أو معظمهم- رغبوا بشدة في الحصول على إجابات جاهزة من تراثنا وتاريخنا، أو من التجربة الغربية، أجوبة لأسئلة الراهن وإشكالياته وانسداداته، بينما أغفلوا -عمداً أو جهلاً- أن عليهم ابتداع أجوبتهم الخاصة، وإجراء مقارباتهم من عمق التجربة في الواقع المعاش، ومراعاة النظرة الشمولية في السياق التاريخي. إن الكثير من المثقفين لم يدركوا أهمية أدوارهم التاريخية، في أن يكونوا مثقفين عضويين ملتحمين مع الواقع، وينغمسون مع هيئات المجتمع غير الرسمية المتعددة في مواجهة السلطة واستبدادها، بل أن بعضهم راهن على أن الموقع السياسي كفيل بتحقيق مشاريعه الثقافية عامتها وخاصتها، مما جعل هؤلاء البعض خارج إطار التأثير المجتمعي.

في واحدة من المفارقات التعيسة، وضع معظم المثقفين العرب أنفسهم أمام خيارات ثنائية " التراث والحاضر، العراقة والحداثة، الشيوعية والأصولية، اليمين واليسار، الأسود والأبيض، أنا والآخر، الخ" وكأن الأفكار والنظريات والتاريخ قوالب جامدة معبأة في صناديق، فإما أن تحمل هذا أو تأخذ ذاك. هذه العبثية فرضت سطوتها على المثقفين والمجتمع، وأفرزت نماذج متعددة فظهر المثقف القائد دون تكليف، المثقف الذي يمور مع حراك المجتمع كيفما كان، المثقف المتعالي على الناس، والمثقف الناقد الذي يمتلك نظرة ورؤية وموقف وملتصق بقضايا الناس، وهو الأكثر شقاء وشعوراً بالخيبة والبؤس، لأنه يرقب الانهيارات والانهزامات والكوارث التي تصيب العرب في أكثر من مفصل، ويجد نفسه مصاباً بالشلل وعاجزاً عن إيقاف هذا الخراب أو مواجهة طوفانه، وعدم مقدرته على الترميم والإصلاح، في ظروف يعاني فيها من الحصار وضنك الحياة، ويكابد من أجل لقمة العيش.

للشقاء الذي يصيب المثقفين العرب أكثر من مصدر، فإن أقدم المثقف على طرح الأسئلة الشائكة الصادمة يتم اتهامه من السلطة الدينية بالزندقة، وتتهمه السلطة السياسية بتمزيق الروابط الاجتماعية، حتى المجتمع نفسه يكيل له تهم تهديد السلام والوفاق الوطني. من جهة أخرى إن واكب السياق العام للمواقف تم اتهامه بالنفاق والمساومة وعدم المبدئية، وإن صمت تكال فوق رأسه تهم الانهزامية والانبطاحية وعدم الجذرية.

يقف المثقف العربي اليوم بلا جدار أيديولوجي، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقف عارياً من أي حماية، معلقاً في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذموم من السلطة السياسية، وموضع شك من السلطة الدينية، يشعر بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، حائراً مربكاً غير واثق، يواجه مجتمعاً مأزوم مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفه أو تهميشه أو سجنه أو تصفيته.

 نهاية منفرجة

من المثير أن تتحول رفاهية الوعي المعرفي إلى فعل مضني ومكابدة للضنك والشقاء، وقد تتحول إلى دافع للاغتراب وسبباً للعزلة والانكفاء ثم المنفى التعيس. فامتلاك الوعي في المجتمعات المتطورة يتم تحويله إلى طاقة بناءة تنتج الفعل الثقافي والإبداعي، وتسهم في التطور الاجتماعي، بينما يصبح الوعي في البلدان النامية سبباً للقلق والتوتر ويؤدي إلى الضيق والمشقة، وقد يتحول إلى ذريعة للاعتقال ومسوغ للموت في بعض الحالات.

في المشهد العربي لم يعد كافياً تغيير بعض السياسات المتبعة من بعض الدول، ولا حتى تغيير بعض الأنظمة القهرية، أصبح لزاماً تبديل العقول وتغيير الأفكار، وخلق وعي مختلف لدي شرائح المجتمع، وهي مسؤولية المثقفين، القيام بتفكيك منظومة المفاهيم والأفكار التي ترسخت في اذهان الناس وأعرافها وثقافتها، وربما تتسبب هذه المهمة لهم بشقاء إضافي، لأن سعي المثقفين لإحداث تغيير جدي في حياة البشر قد يبعدهم عن مواكبة الراهن لانشغالهم في مهام ذات محاصيل استراتيجية، وخاصة إن كان الراهن محتقناً بالأحداث.

حين تعتمد السلطة السياسية القوة والقهر لإدارة الشأن العام للناس، تبدأ شرائح المجتمع بالتفتت، وتأخذ الجماعات بالانسلاخ عن النظام والعودة إلى أصولها الثقافية كرد فعل تحسسي حمائي بمواجهة تنازل الدولة السياسية عن دورها الطبيعي في رعاية الجميع. ولأن السلطة انحرفت عن تأدية دورها الثقافي والمعرفي، تصبح الثقافة في هكذا ظروف شيء يشبه الترف، وتظل أفكار ونظريات لا تلامس الواقع، ويصبح المثقف أداه فائضة عن الحاجة المجتمعية لا أهمية لوجوده، ذلك أن قوة السلطة لم تعد تحتاج إلى مبررات أخلاقية وثقافية، ولا إلى مسوغات اجتماعية كي تحقق شرعيتها، لأنها استعاضت عن المثقف ودوره، بوسائل أخرى، مثل الاستبداد والقمع والأجهزة الأمنية والترويع الفكري. وبهذه الصورة تكون الثقافة الممسوسة في الجحيم العربي قد رسبت، والمثقف الشقي سقط وفشل.

بعد الإنفراجة المالية.. نحو إستراتيجية وطنية لحماية الأونروا/ علي هويدي

على الرغم من الإنفراجة المالية، لا تزال وكالة "الأونروا" في دائرة الإستهداف الإستراتيجي لكل من أمريكا والكيان الإسرائيلي. ترافق إستهداف الوكالة غير المسبوق في نهايات العام 2016 (مجيئ ترامب إلى الرئاسة الأمريكية)، مع ما يسمى بصفقة القرن، لكن الحقيقة أن عملية الإستهداف ومحاولات التصفية للأونروا هو مشروع سياسي إستراتيجي منظم ومتجدد ومتشعب، يعمل عليه الإحتلال والإدارة الأمريكية وحلفاؤهما في الخفاء وفي العلن منذ زمن بعيد، ويُوَظّف له جملة من الإجراءات بهدف نزع المسؤولية الأممية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين التي تجسدها وكالة "الأونروا".

بادرت 4 دول عربية لسداد حوالي نصف العجز المالي لـ"الأونروا" لسنة 2018 (السعودية، الإمارات، قطر والكويت بدفع 50 مليون دولار لكل منها)؛ يعتبر هذا مؤشر إيجابي على مستوى ضرورة تغطية الحاجات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، لكن دعوة الإدارة الأمريكية للدول العربية لتمويل "الأونروا"، لا بل تهكمها على الدول العربية في مجلس الأمن على لسان مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة نيكي هيلي في نهاية تموز/يوليو 2018 بسبب أنها أي الدول العربية "لا تقدم مساعدات للأونروا أو تكتفي بمساعدات هزيلة"، وبالتوازي مع وقفها لمساهمتها المالية، لا يمكن إعتباره إلا مصيدة يراد بها التنصل من المسؤولية الدولية تجاه حقوق اللاجئين وتحويلها تدريجياً إلى الدول العربية، وبالتالي فإن أزمة "الأونروا" ليست أزمة مالية أو إدارية بقدر ما هي نتاج للإستهداف السياسي الإسترتيجي المنظّم.

تعتبر نتائج لقاء اللجنة الإستشارية لـ "الأونروا" الذي عُقد في العاصمة الأردنية عمان يومي 19 و 20 من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018 برئاسة تركيا من أهم نتائج اللقاءات التي عقدتها الوكالة خلال السنة سعياً لسداد عجزها المالي للعام 2018 والذي قدرته الوكالة في بداية العام بـ 446 مليون دولار، إذ أعلن المفوض العام للوكالة كريبنول بأن العجز المالي قد وصل الى 21 مليون دولار، متجاوزاً بذلك الأزمة المالية.

يشكل تجاوز الأزمة المالية للوكالة دعماً معنوياً وسياسياً ومالياً قوياً من قبل الدول المانحة والمجتمع الدولي، فمنذ تأسيسها في كانون الأول/ديسمبر 1949، لم تمر الوكالة بأزمة مالية وسياسية مشابهة في ظل وقف مساهمة أكبر الدول المانحة أمريكا، إذ لم تدفع الإدارة الأمريكية سوى مبلغ 60 مليون دولار خلال سنة 2018 من أصل حوالي 360 مليون تدفعها للوكالة سنوياً بسبب حجج وذرائع واهية أثبتت عدم صحتها.

ساهمت الأزمة التي عصفت بالوكالة بالمزيد من الوعي الإستراتيجي لأهمية المؤسسة الأممية للاجئين الفلسطينيين، وإلتفافاً ملحوظاً من الشركاء المتضامنين مع الوكالة من المؤسسات غير الحكومية المحلية والدولية، ودعماً مهماً عبّر عنه الحراك الشعبي الوطني بين اللاجئين في المخيمات والتجمعات والمناطق، وإجماعاً لكافة المشارب السياسية الفلسطينية على التمسك بالوكالة على قاعدة "نختلف مع الوكالة وليس عليها"، ناهيك عن الدعم القوي الذي عبّرت عنه الدول المضيفة للاجئين على المستوى الرسمي لأهمية وإستمرار عمل الوكالة لا سيما الأردن الذي يستضيف العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين.

نجحت تركيا التي تسلمت رئاسة اللجنة الإستشارية لـ "الأونروا" من جمهورية مصر العربية في الأول من تموز/يوليو 2018 ولمدة سنة، نجحت بتجاوز الإختبار الأول والأقسى وفي فترة زمنية قصيرة، إذ لعبت دورأ هاماً في التحضير ولمُخرجات مؤتمر المانحين الذي عقد في 28/9/2018 في نيويورك على هامش أعمال الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة إلى جانب كل من دول السويد والأردن واليابان والمجموعة الأوروبية، حينها تم الإعلان عن  إنخفاض العجز المالي من 446 مليون دولار إلى 64 مليون دولار. 

رجحت كفة الفريق الذي يعتقد بأن وكالة "الأونروا" حاجة إنسانية ضرورية وملحة لأكثر من 6 مليون لاجئ فلسطيني مسجل، وبأن الوكالة عنصر أمن وإستقرار في المنطقة، وهذا الفريق يمثل غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفي المقدمة منها دول الإتحاد الأوروبي، على كفة "الفريق" المتمثل بالإدارة الأمريكية ودولة الإحتلال الإسرائيلي والحلفاء الذي يعتقد بأن الوكالة تديم قضية اللاجئين وتدعم الإرهاب وبأنها فاسدة وغير قابلة للإصلاح، وهو ما ذكره مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون وصهر الرئيس الأمريكي كوشنير وغرينبلانت ونيكي هيلي وغيرهم من المسؤولين الأمريكيين ونتنياهو شخصياً.

وجّه تجاوز الأزمة المالية للوكالة صفعة قوية لدبلوماسية الإحتلال الإسرائيلي وشكّل فشل ذريع لسياسة ومخطط الكيان الإسرائيلي، فقد أعلنت نائب وزير خارجية الإحتلال أمام سفراء الكيان الإسرائيلي في الدول الأوروبية وأمريكا ودول عربية في بداية العام 2018، بأن دبلوماسية الإحتلال لهذه السنة ترتكز على مسألتين؛ الأولى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والثانية بأن عهد "الأونروا" قد انتهى إلى الأبد، وبقيت "الأونروا".

أسقط تجاوز الأزمة المالية عنجهية الإدارة الأمريكية التي حاولت ومن خلال إبتزاز سياسي رخيص بمقايضة حاجات اللاجئين الفلسطينيين الإنسانية من خلال إدخال الوكالة في لعبة التجاذبات السياسية بين السلطة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي المحتل، ذلك حين أعلنت نيكي هيلي وبكل وقاحة في كانون الثاني/يناير 2018 بأن عودة مساهمة الإدارة الأمريكية بالمبالغ المالية في ميزانية "الأونروا" مرهون بعودة المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما لم يتحقق.

اتخذت الإدارة الأمريكية قرارها القاطع بوقف مساهمتها المالية السنوية للوكالة في 31/8/2018، لذلك ستدخل الوكالة سنة 2019 بعجز مالي قيمته 360 مليون دولار (المساهمة الأمريكية)، والأصل أن تتحمل الأمم المتحدة مسؤولية توفير الأموال المطلوبة، فوكالة "الأونروا" ليست منظمة أهلية، وبالتالي ليست مكلفة بتوفير ميزانيتها بنفسها، وأية جهود تقوم بها الوكالة لجمع المبالغ المطلوبة هو جهد إضافي ولا يعفي الأمم المتحدة، التي من المفترض أن تكون قد أعدت خطتها بالتنسيق مع "الأونروا" لتجاوز العجز المالي المرتقب.

حتى لا يتكرر المأزق المالي والسياسي التي واجهته الوكالة وما سببه من حالة التخبط والإيذاء للموظفين واللاجئين والطلاب والمتضامنين..، آن الأوان لاتخاذ خطوات جاده باتجاه حماية "الأونروا"، وتوسيع سياسة عملها، وتحويل ميزانيتها إلى ميزانية كافية ومستدامة وقابلة للتنبّؤ وهو ما أكد عليه الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش في تقريره للجمعية العامة في نيسان/إبريل 2017، أو على الأقل أن تصبح مساهمات الدول في ميزانية "الأونروا" إلزامية بدل طوعية، والمسؤولية هنا تقع بالدرجة الأولى على إستثمار حالة الإجماع الفلسطيني الوطني والسياسي، الدبلوماسي والشعبي التي تشكلت تحديداً في العام 2018 والمؤيد لـ "الأونروا"، بالمبادرة إلى إعداد خطة إستراتيجية تكون قادرة على الحفاظ على إستمرارية عمل الوكالة إلى حين عودة اللاجئين، فالفعل الشعبي المطالب بوقف إستهداف "الأونروا" لا يكفي وحده.