فرسان الله وقصص أخرى قصيرة جدّا/ حسن سالمي

الزّمن البكر
    على أطراف حيّنا غابة حرمل، إذا أقبل الرّبيع أينع ورقه الصّغير وتزيّن بزهر أبيض فوّاح. ومع انتشار الدّفء تخرج علينا كائنات من كلّ صوب، منها ما هي محبّبة لدينا فنبادر إلى العبث بها، ومنها ما هي بغيضة فنسارع إلى قتلها. وكان لا بدّ أن يكون الحرمل قبلتنا دائما، إذ لا بقعة خضراء سواه.
     ومرّ علينا زمن شغفنا فيه باصطياد النّحل، فكنّا نغدو إليه كلّما سنح لنا الفراغ. لم نك ندرك أنّنا لا نقوى على أمّة النّحل إلاّ وهي فرادى، وأنّ الويل كلّه معقود في مملكته. كنّا ثلاثة أطفال حين عثرنا على عشّ مخفّي...  
ورقة منسيّة
     تسقط الشّمس في العراء جمرة ملتهبة، مخلّفة وراءها شفقا ساحرا، ملأ السّماء وسقط على أعشاشنا وخيامنا فوهبها شيئا من عالم الأحلام. إذّاك كنت أسير وراء أبي وعمّي اللّذان يعودان من المرعى وقد امتلأ الجوّ بغثاء أغنامنا ونباح كلبنا الفتيّ... 
    رأيتها تزحف مسرعة تحت الرّمل. فجأة قفزت في الهواء لامعة البطن، قبل أن تواصل اندفاعها السّريع نحو جحر قريب.. أبرقتُ خلفها يدي فأمسكتها من ذيلها وجذبتها في قوّة...
- مغوار أنت يا ابن أخي، تعال.
فما إن اقتربت منه مزهوّا حتّى هوى على خدّي بصفعة...
- أيّها الغرّ، متى تقدّر الأفاعي حقّ قدرها؟

عُصيّة ليــــــــــل

    ذلك زمن بعيد، ورغم قلّة ذات اليد كنّا نبتكر ألعابنا من اللاّشيء، ونسري على أنفسنا بما لا يثقل كواهل والِدِينا. إذا جنّ اللّيل وقت الرّبيع وغاب القمر عن السّماء، وبدأت أنفاس الهواء تغادر لسعها البارد، اجتمعنا في ناحية من الدّشرة وانطلقنا في لعبة الموسم...
*****
     دوّت العصا في الظّلام فطلبناها بأرجلنا الحافية وأبصارنا الحسيرة... حين وجدتها ضربت بها الأرض مرّتين، وانطلقت كالرّيح وورائي يرتفع لغط ووقع خطى مجنونة واثبة...
اللّعنة، انتهت الصّفحة ولم أكمل لعبتي بعد؟!  
فرسان الله
      
    ونحن صبية صغار كم كانت تدهشنا مشاهد الحرب التي يقذفنا بها التّلفاز. تأخذنا حمحمة الخيل إلى أقاصي الخيال، وتهزّنا من الأعماق ضربات السّيوف والرّماح... 
في حوش مهجور والهاجرة ضاربة، كنّا نجتمع وبين أيدينا كوم من عيدان الجريد وأقواس العراجين، نصنع منها عتادا حربيّا، وأخيلتنا وقتذاك مشحونة بمشاهد القتل والدّم...
    قبل المغيب نخرج إلى الأحياء المجاورة ونبرز إلى فريق آخر بعد ميعاد مقدّر. ومن هذا الصّفّ وذاك يرتفع التّكبير وكلّ منّا يشتهي ذبح الآخر، قاذفا في وجهه: "مت يا عدوّ الله"!

عام الجراد
     
    مع طلوع الشّمس وأنفاس الرّبيع دافئة منعشة، ارتفعت ستارة سوداء ملأت الفضاء. حسبناها -لهولها-عارضا مدمّرا. فما إن اقتربت حتّى سمعنا له دويّا ملأ الصّحراء...
ورأيناه يتفرّق نُتُفًا وينزل على أعشاب الصّحراء وأزهار الرتّم، فما هي حتّى تَحزُّ الأرض من تحته وتصير قاعا صفصفا...
صرخنا: هلك الزّرع والضّرع...
قال المسنّون: كلوه قبل أن يأكلكم.

محنة العقل العربي بين الاستبداد السياسي وسطوة التراث/ حسن العاصي

مأزق العقل العربي وأزمته، وإشكاليات التراث العميقة مع الفكر العربي، كانا العنوانان الأهم والابرز خلال القرن العشرين، من خلال حوار الفكر ونفسه، وعبر التجاذب والتنافر بين عدة تيارات فكرية تأطرت في اتجاهين رئيسيين، هما السلفية والأصالة في مواجهة المعاصرة والحداثة، والتراث والشيخوخة بمواجهة التجديد والتنوير، ودعاة التعدد والمشاركة والتسامح في وجه الأفكار والسياسات التي تدعو للكراهية والمركزية والإقصاء. تم تلخيص محنة العقل العربي بثنائيات أسست لحالة جدل وسجال لم تنتهي بعد، ودفعت رواد ومفكري ومثقفي هذه التيارات إلى ميدان معركة تسببت-ولا زالت- بشقاء الأمة.
بالرغم من كافة مظاهر الحداثة في العالم العربي، إلا أنها تخفي انحداراً وسقوطاً فكرياً وثقافياً واقتصادياً مرعباً. لأن التقنيات التي يستخدمها المواطن العربي، هي أداه وظيفية منفصلة تماماً عن عقل المستخدم، لذلك هذا التفاعل لم يؤسس لتقدم حقيقي ولا لإبداع ذاتي، وتحول الوطن العربي إلى أقوام مستهلكة لإنتاج الآخر. السؤال الكبير الذي ينبثق هنا والذي طالما نردده، لماذا تقدم الآخرون وتخلف العرب؟
ما زال الفكر العربي الحديث غارق في مستنقع أزمته، بالرغم من المحاولات الجادة البحثية والنقدية والتأصيلية التي قام بها عدد من المفكرين العرب، لعل أبرزهم من وجهة نظري المشروع التحديثي النقدي الذي قاده المفكر المغربي "محمد عابد الجابري"، الذي حاول إعادة الاعتبار والمكانة للعقل العربي بعد أن هيمنت عليه الأيديولوجيات في القرن العشرين. 

أزمة العقل النقدي العربي
إن التخلف والتصلب والتثاقل في البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية في العالم العربي، واللبس والاختلاط الواقع في العديد من المفاهيم أبرزها قضايا بناء الدولة والحريات العامة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية والمشاركة في الحكم والتعددية، إضافة إلى سيادة الأنظمة الأبوية والعشائرية بفكر بدائي، والنزعة الاستبدادية الجائرة والقمع والظلم، وغياب النقد وعدم وضوح الرؤى المستقبلية، وعدم وجود مشاريع جيو استراتيجية، وإشكالية الإصلاح والتغيير والتحديث والتنمية المستدامة، جميعها-إضافة إلى عوامل أخرى- أدت إلى فشل مشروع النهوض العربي، وشكلت سداً منيعاً أمام دخول العرب إلى عصر الحداثة والتقدم حتى لو من الأبواب الجانبية.
لا بد من تفكيك الموروث العربي والإسلامي ودراسته وتحليله ثم نقده، وبهذا فقط نستطيع إعادة قراءة هذا التراث بصورة نقدية مختلفة، لا بطريقة استعراضية، لفهم ومعرفة دور هذا الموروث ومكانته في العقل والفكر العربيين. 
أستاذ الفلسفة والفكر العربي الإسلامي المفكر المغربي الدكتور "محمد عابد الجابري" قاد مشروع تحليل وتأويل وتفسير التراث الإسلامي لتبيان مقدرته المعرفية في توفير نوافذ الانفتاح على الآخر، وإعادة قراءة وتحديد مفاهيم التاريخ والأيديولوجيا والهوية والاختلاف، وذلك بواسطة الأدوات النقدية للمشروع الغربي، أي قيام المشروع الفكري المغربي المعاصر بقراءة ومقاربة ماضيه وحاضره عبر المذاهب النقدية الغربية.
المؤرخ والروائي المغربي المفكر الدكتور "عبد الله العروي" يعتبر أن المرجعية الفكرية الوحيدة للبلدان غير الغربية هي فقط الفترة الممتدة من عصر النهضة التي انبثقت بإيطاليا في القرن الرابع عشر إلى الثورة الصناعية في أواسط القرن الثامن عشر، ودعا العروي إلى التسليم للفكر في سياقه وصيرورته التاريخية، والإيمان بحقيقة الأحداث التاريخية وتسلسلها. وفصل العروي بين الأصالة والتراث وخصوصية المجتمعات، واعتبر أن الاصالة تتسم بالسكون والثبات، فإن الخصوصية متحركة ومتغيرة على الدوام.
لكن الجابري الذي يختلف مع رؤية العروي، انتقد هذا المفهوم وتعامل مع التراث بصورة تجعله قريباً وتحاور معه لإخراجه بإطار معاصر. وقام بتحديد ثلاث اتجاهات فكرية للمقاربة وهي قضايا الواقع الراهن على المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وثانياً التراث، وثالثاً الفكر العالمي المعاصر، ويعتبر الجابري هذه السياقات حقولاً معرفية. وأن جمود العقل في العصر الإسلامي كان نتيجة غياب العقلانية اليونانية التي تعتبر من وجهة نظره العنصر الثالث للعقل العربي، وهو أمر يتعارض مع المقاربة الدينية التي تنظر للعقل البشري على أنه عاجز عن إدراك علوم الغيب، وأن حصول الإنسان على معارف يتدبر بها شؤون الحياة لا تأتي إلا من مصدر وحيد هو الحقيقة العليا.
يميز الجابري في نظام "العرفان" بين الموقف الفردي والفكري الرافض للعالم والذي ينشد العلاقة مع الله، وبين العرفان كفلسفة للخليقة من المهد إلى اللحد. والعرفان كرؤية ميثولوجية رفدت البيان العربي بلا معقول عقلي أدى إلى أن يستقيل العقل العربي. وتساءل في تناول نقد العقل العربي عن إمكانية قيام نهضة بغير ناهض.
في القرنين الخامس والسادس الهجريين سعى عدد من المفكرين الإسلاميين العرفانيون مثل "ابن عربي" إلى تأسيس البيان العربي الإسلامي على العرفان، وبذلك مهدوا الطريق أمام تجميد العقل العربي، وصار المتصوف يهزم الفيلسوف. فيما فعل "ابن رشد" العكس في المغرب حيث بنى البيان على البرهان. وهذا ما نلمسه في الواقع الثقافي العربي الراهن، إذ لا وجود ولا أثر ومكانة للفلسفة، بينما ما زال التصوف الأكثر حضوراً. واقع يؤكد عقلانية ابن رشد وصوفية ابن سينا.

العقل العربي وسؤال الدين
معضلة العقل العربي في علاقته المربكة الملتبسة مع الدين والسياسة التي جثمت فوقه عبر قرون، وابتعاد هذا العقل عن النقد والتحليل والتفكيك، لا زالت أهم المعوقات لقيام مشروع إصلاحي نهضوي تحديثي يمتلك إمكانيات لدفع الأمة نحو التقدم والتطور.
اتسمت العلاقة ما بين العقل العربي والسلطة السياسية بالخشونة والنفور غالباً، لكن هذه القسوة من جانب السلطة السياسية في علاقتها الحذرة مع العقل العربي، لم تصل إلى درجة تعرقل الحركة الفكرية إلا بمقدار قيام الفكر بتوجيه النقد المباشر والواضح للأنظمة السياسية، أو حين -بصورة أقل- يتم توجيه النقد للمؤسسة الدينية بثوبها المتحالف مع السلطة السياسية الحاكمة.
في بداية القرن التاسع عشر بدأ احتكاك العقل العربي بصورة مباشرة مع الفكر والثقافة الغربيتين، لكن حذر الدولة العثمانية من الأفكار القادمة من أوروبا، ونتيجة الريبة التي كانت تبديها تجاه المثقفين العرب -على قلتهم- حيث كانت تجري محاولات تتريك الثقافة والفكر في الأقاليم التابعة للدولة العثمانية، كانا عاملان أعاقا أي تطور للفكر العربي. لكن في النصف الأول من القرن العشرين أمكن للعقل العربي أن يكون حركياً وأن يكون منتجاً، حيث نشطت حركة الترجمة، وتوسعت عمليات التأليف، وظهرت نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، اشتغلت بموضوع الأدب والتراث والقومية العربية. ونجحت تجربة "عباس محمود العقاد" وغيره من الرواد في مصر بالبحث والتحليل العقلي وفي تنشيط وتحفيز الأدوات العقلية دون أن يفقد العقل مكانته أمام الدين، ودون أن تُمس قداسة الدين.
الفكر العربي المعاصر أدرك الشرط الموضوعي لعلاقته مع المؤسستين السياسية والدينية، وتمكن من قراءة واقع المرحلة، فكان نقده للخطاب الديني والسياسي متوازن وعقلاني دونما شطط، وهكذا تعايش العقل العربي مع المؤسستين بمناخ ليبرالي استمر لغاية نهاية اربعينيات القرن العشرين. إن العقل الأوروبي الذي أحدث النهضة تحلل من قيد الدين وهدم سلطة الكنيسة، بينما الفكر العربي في تلك المرحلة لم يكن مشككاً، وتعامل مع الفقه باحترام كونه جزء من التكوين الفكري العقلاني العربي.
بعد القرآن الكريم والحديث الشريف، تم اعتماد العقل في الاجتهاد الفقهي، من قبل المؤسسة الدينية التقليدية في فجر الإسلام قبل أن يتم تسييسها. إن العقل العربي حين أقبل على الفلسفة الإغريقية كانت غايته ردم الفجوة الفكرية بين الدين والعقل، وحين احتك بالفكر الأوروبي الحديث كان هدفه هو وصل الجسور بين الدين والعلوم الحديثة. وهكذا فإن مشروع "ابن رشد" الفلسفي كانت غايته إثبات عدم التعارض بين الشريعة والتفكير والتحليل والتأمل. ومشروع "ابن خلدون" كان هدفه تحليل وتفكيك البنية الاجتماعية ومقاربتها.
لكن حين شرع الغرب في بناء مشروعه، كان الاجتهاد الديني في الحالة العربية قد أغلق نوافذه على نفسه وانكفأ بعد خمسة قرون من تطور الحركة الفكرية والتقدم. لقد ظن فكر المؤسسة الدينية أن لا فكر جديد ولا اجتهاد جديد ولا استنباط جديد يمكن لها أن تُقدم عليه بعد اجتهاد السلف والأجداد. توقف الاجتهاد في العقل العربي رافقه تغيرات وتحولات سياسية واجتماعية، جعلت من المؤسسة الدينية التي تم تسييسها تضيق على العقل العربي وتحاصر الفكر وتمنع النقد.
تحالفت السلطتين الدينية والسياسية لقمع العقل العربي، الذي غالباً ما كان يتراجع وينعزل طلباً للسلامة مما أوصله لحالة التصلب والجمود الفكري. وهكذا بينما كان العقل الأوروبي يحقق تطوره ويحطم القيود التي تحول بينه وبين العلوم والمعارف، كان العقل العربي في حالة من الخمول والخوف والتردد، واكتفى بالنقل والنسخ والتقليد والتكرار للموروث ولفكر السف الصالح. كان الفكر العربي منشغلاً في إذكاء روح التنافس بين الفكر ونفسه، وكان العقل العربي غارقاً في شرح وتفسير وتحليل وتفكيك المفكّك والمفسر. أي كان العقل والفكر العربيين يعيدان إنتاج نفسهما دون تحقيق أي تطور ولا تقدم، دون أي تغيير ولا تبديل، دون أي نقد أو اجتهاد. أي كانا يراوحان مكانهما فأصيبا بالوهن والضعف والتصلب.
منذ منتصف القرن العشرين واجه العقل العربي قمع السلطة السياسية الوليدة، وعانى من استبداد الأنظمة العربية التي تحررت حديثاً بعد طي صفحة الاستعمار، حيث سعت هذه السلطات إلى السيطرة على العقل العربي وقولبته، وقامت بصياغة مفاهيم الفكر بعيداً عن شرط تطوره وهو شرط الحرية. لقد نصبت الأنظمة العربية نفسها وصية على العقل العربي وتحكمت بروافد تغذيته. ضيقت عليه وطوعته لإخضاعه وإخضاع الفكر والأفراد لإرادتها ورؤيتها. أحاطته بالأجهزة الأمنية التي تعد له عدد مرات الشهيق، وأرهقته بضنك الحياة والبحث عن لقمة العيش التي تضمن حياة شبه كريمة.
في الألفية الثالثة، عصر الثورة المعلوماتية والجيل الرابع من التقنيات الحديثة، تقوم في المشهد العربي تحالفات بين المؤسستين السياسية والدينية التقليدية ضد العقل العربي، وضد حريته وحقوقه في البحث والتحليل والنقد والمقاربات والإنتاج والإبداع والتواصل مع الآخر. حان الأوان لإزالة كافة القيود المفروضة على العقل والفكر، وعلى المفكرين والمثقفين، وتلك التي تعترض عملية الإنتاج الفكري والإبداع الثقافي، إن أردنا الاستيقاظ من غيبوبتنا التي طالت.

سؤال الحرية
لا يمكن تحليل العقل الإسلامي ونقده دون قراءة وتقييم شامل لكافة مكونات الموروث في الفكر الإسلامي منذ نشأته وتطوره إلى غاية دخول العقل العربي فترة الانحدار التي تواصلت حتى القرن التاسع عشر. لذلك فإن محاولة قراءة وتفكيك وتحليل بنية العقل العربي تحرّض على إثارة أسئلة إشكالية أبرزها سؤال الحرية الذي يُعتبر المكون الأهم في قيام أية نهضة وتقدم. في الحالة العربية ما زال سؤال الحرية معلقاً دون توفر أي من شروطه المرتبطة بالحرية الفكرية واستقلال العقل العربي وتطويره وتحديثه كي يصبح عقلاً نقدياً يواجه الاستبداد واللاعقلانية والايديولوجيات الثابتة.
بالرغم من أن الإسلام قد كرّم العقل ودعا إلى استخدام العقل في القرآن الكريم، إلا أن الفكر الإسلامي بأبعاده ومفاعيله اللاهوتية مكث فوق الوعي الاجتماعي قروناً عديدة أدت إلى تراجع وانحسار دور العقل، فانفصلت الثقافة العربية عن السؤال والنقد.
مع أن علم المنطق والفلسفة قد تطورا في منتصف القرن الثامن الميلادي، واستمر هذا التقدم لغاية القرن الحادي عشر، حيث تميزت تلك الفترة انتعاشاً للفكر العقلاني العربي الذي دخل في مواجهة العقل والفلسفة الاغريقية لأول مرة.
إلا أن الفلسفة بثوبها العربي خسرت رهانها ومعركتها التاريخية في مواجهة الجهل والاستبداد والأفكار الظلامية، فعلت أصوات التكفير بدلاً عن التفكير، وشاعت الأساطير والخزعبلات وانكمشت الحقائق. تم اغتيال حرية التفكير فتوقف كل شيء مكانه وتحجر، وأصيب العقل العربي بالضمور، ثم تراجع الفكر العربي فتراجعت الأمة كاملة. لأن الفلسفة في بنيتها ومكانتها ضد الخنوع والإذعان والأوهام.
إن الحرية باعتبارها أهم وأول شرط لتحقق الذات، هي أبرز مبادئ الديمقراطية بصيغتها المعاصرة، وهي أصل الصراع في أن حرية اختيار الأفراد لنظامهم السياسي والاجتماعي، في أن يكونوا أحراراً أو عبيداً. إن الوصاية على الدين وعلى الفكر الإسلامي لدى بعض المفكرين لضبط الحرية كما هو حاصل في الراهن العربي، هو أمر يتعارض مع استخدام العقل والفكر النقدي، ويعيق النهوض والتطور، إذ لم يكن الدين يوماً يتعارض مع سعي البشر نحو تحقيق الحقوق الوضعية التي تضمن حياة كريمة للناس وترفع عنها المظالم.
لقد فشلت جهود الرواد من عصر النهضة التي بذلت لتأسيس مشروع عربي على أسس حديثة بسبب غياب العقل النقدي. ولم تتمكن النهضة من تشكيل أدواتها العقلية الخاصة، ولا هي قامت بمقاربات موضوعية مبنية على فهم سليم لتجربة العقل الغربي الذي كان قد تجاوز تراثه وتحرر من قيوده. عانى مشروع النهضة من السلطة القمعية التي كانت بمثابة معول يهدم كل بناء في اتجاه حداثي تنويري، ولذلك فإن هذا الفشل إنما يعود إلى أسباب موضوعية أسهمت في تغييب العقل النقدي، لا إلى قصور في بنية الفكر العربي.
كان رواد النهضة ينادون بالحرية ويدعون إلى سلطة العقل، ولذلك ظل سؤال الحرية كسيحاً لأنه لم يتم تحقق شرط استقلالية العقل الذي بقي خاضعاً لسلطة الأيديولوجيا السلفية، وبهذا تم خلع الفاعلية النقدية عن العقل العربي. مع غياب النقد أضاع المشروع النهضوي أحد أهم أسلحته وأدواته التي تمكنه من تحليل ومقاربة الواقع بعلمية، وأن يوظف النقد الذاتي ونقد الآخر، وكذلك النقد الفكري في عملية تحديث وتطوير الوعي الجمعي. لكن الموروث المتخشب بفهمه والمؤطر غيبياً سيطر على العقل الاجتماعي وأنتج ثقافة صوفية تمددت على حساب انحسار حركة العقل، مما أدى إلى زوال هامش الحرية. لهذا تماماً فشل المشروع النهضوي لأنه عجز عن إحداث أي تقدم علمي يدفع للنهوض والتطور، كما أخفق في الانعتاق من السيطرة التامة للموروث الذي فرض سطوته ولا زال. إن كافة الأمم التي حققت الازدهار تمكنت من ذلك بفعل طي صفحة الماضي وتجاوز القيود التي تكبل العقل والفكر.

من تفلسف قد تمنطق
كما قال العالم الفقيه المحدث "ابن الصلاح الشهرزوري" ذات واقعة أن "من تفلسف قد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق" وأعادها بعده شيخ الإسلام "ابن تيمية" في العصر العباسي حين نشطت حركة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية. وأعتقد أن تاريخ الفلسفة وتأويل المصطلح المقترن بالمنطق والفهم الخاطئ قد تسببوا بالربط الذهني لدى البشر بين الفلسفة والكفر والعصيان وبين المنطق والإلحاد، وهو في الحقيقة موروث ثقافي لا صلة له بالمعرفة. ما وقع تاريخياً من جدال وإشكاليات إنما يعود بظني إلى الاختلاط واللبس بين الوحي والوعي والعلاقة بينهما في اتصالهما وانفصالهما. بلا شك أن الوحي قضية سماوية الهية، بينما الوعي شأن وضعي للإنسان فيه حرية الاختيار والقرار، أن ينفصل أو يتصل.
لقد وفدت الفلسفة اليونانية لبلاد العرب والإسلام في عصر خلفاء بني أمية في القرن الأول الهجري، لكنها لم تنتشر لأن السلف كانوا يتحفظون عليها. وسميت علوم الأوائل، أي الفلسفة والمنطق. وفي العصر العباسي نشطت حركة الترجمة وازدهرت، فتم نقل الفلسفة اليونانية للعربية ابتداء من عهد الخليفة المهدي حتى وصلت إلى قمتها في عصر الخليفة المأمون. واعتمد المسلمون الأوائل على فلسفة أرسطو وأفلاطون بصورة خاصة، ثم مزجوها بالعقائد الدينية فتشكل خليط فكري جديد.
من أهم أساب انتشار الفلسفة في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي كانت سعة الأفق الفكري لدى الخلفاء العباسيين الأوائل، وشيوع ثقافة التسامح الديني والانفتاح على غير المسلمين، وهذا أتاح قيام مناظرات حوارية فكرية صقلت وتطورت القدرات العقلية للمسلمين، مما شكل دافعاً مهماً في إسهامهم بالحركة العلمية والفكرية والثقافية التي وصلت ذروتها في ذاك العصر.
لكن هناك تيارات فكرية إسلامية دعت إلى الأخذ فقط بعلوم العرب وإسقاط أي علوم أخرى وما تشتمل عليه من علوم رياضية وطبيعية وفلك وموسيقى وغيرها. الإمام "أبو حامد الغزالي" اتخذ موقفاً وسطياً واعتبر أن ليس كل علوم الأوائل ضارة، فهناك الرياضة وعلم المنطق مثلاً وهما علمان لا يتعارضان مع فلسفة العقيدة الدينية.
كان "الغزالي" كفيلسوف يتمتع بالجرأة والذكاء في مواجهة التيارات الفكرية بعصره، وقام بنقد تطرف بعض الفرق بدافع إخلاصه للإسلام. وقد اتبع في فلسفته منهجاً عقلياً يعتمد الشك والحدس الذهني. ثم تحول من الفلسفة إلى التصوف لكنه لم يهمش العقل في تصوفه، وظل العقل عنده حجة على غلاة الصوفية، فهو يؤمن أنه لا يمكن أن ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، فالعقل هو المعيار في صدق وحقائق المعارف، أما الغيبيات فلا بد من التسليم بها ولها.
مع ذلك فإن بعض الفرق الإسلامية لم تكن راضية عن دخول أي فكر أو علوم دخيلة على الإسلام، فالعلوم عندهم هي فقط العلوم المتوارثة عن النبي "محمد ﷺ" وباستثناء ذلك فهو ليس علماً، وإنما معرفة لا تستحق التحصيل، بل أنها قد تكون معرفة ضارة تدفع بحاملها إلى الاستهانة بالدين.
إن كان "الغزالي" حاول بعقلانية التصدي لإسراف بعض الفرق المتطرفة في الإسلام التي كانت ترفض مطلقاً الفلسفة اليونانية، حتى أنه لم يستخدم مصطلح منطق كعنوان لأي من مؤلفاته الكثيرة لعدم إثارة حفيظة هذه الفرق، إلا أن المحافظين اعتبروا دراسة الفلسفة ضرباً من الزندقة، وقيل في هذا الشأن أن من تمنطق فقد تزندق. وما زال الموقف الشائع عند أئمة الفقه أن منهج البراهين التي تعود إلى فلسفة "أرسطو" خطراً على الفكر الإسلامي والعقيدة. الفقيه "الشهرزوري" اعتبر أن الفلسفة "سفه وانحلال، ومادة حيرة وضلال، وتثير الزيغ والزندقة" واعتبر المنطق مدخلاً للفلسفة ومدخل الضلال ضلال.

انحسار الفكر الفلسفي
حين تم نقل الفلسفة اليونانية وعلم المنطق على اعتبارهما تمثلان النظرة العقلانية، استخدمتا كأداة في مواجهة التيار الفكري الإسلامي اللا عقلي الذي كان سائداً، ثم انشق العقلانيين على أنفسهم، فخرج منهم فقهاء هاجموا الفلسفة، وتركوا خلفهم المعتزلة وحدهم في الميدان الذين حافظوا على منهج العقل، وبعضهم تحولوا إلى أشاعرة الذين تركوا للإيمان الصرف قسطاً وللعقل قسطاً آخر.
الإشكالية تكمن في انحسار الفلسفة والتيار العقلاني في الفكر العربي الإسلامي وتحجيم دور العقل الذي دخل إلى منطقة مظلمة، وتبدلت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وضاق العقل كثيراً بحيث أصبح ينظر لكل فكر فلسفي على أنه كفر، ثم انحاز العقل للطوائف والمذاهب منذ القرن الحادي عشر. بعد ذلك توقف التفكير العقلاني وتوقف النقد، وتوقف كل إنتاج فكري وفلسفي جديد، ولم يتجدد أي عنصر من مكونات الفكر العربي والإسلامي، واكتفى الفكر بالنقل الذي توسع واشتد وأصبح ذا سلطة واسعة مؤثرة في بنية الفكر العربي لقرون مديدة، حيث كان الفكر العربي يعيد إنتاج نفسه دون أي تطور وإبداع وتحديث.
يعتبر الدكتور "محمد أركون" صاحب مشروع تجديد الفكر العربي أن الصوفية هي تمرين فردي للتواصل بين المؤمن وخالقه، بصورة مستقلة عن الشعائر والفرائض والعبادات التي تؤديها الجماعة. ويرى أن سلطة العقل لا تعني مطلقاً تجاوز سلطة النص بقدر ماهي قراءة ومقاربة مختلفة في ضوء المعارف والعلوم الحديثة.
إن العلوم لم تكن منفصلة عن الفلسفة عند الإغريق ولا عند العرب في القرون الوسطى، حيث أكد الفيلسوف والطبيب "ابن سينا" على ارتباط الطب بالفلسفة في كتاب "الشفاء" مثلما اعتبر الكيميائي "جابر ابن حيان" الذي وضع الأسس العلمية للكيمياء الحديثة والمعاصرة، أن الكيمياء مرتبطة بالفلسفة. كما أن القرآن الكريم قد شجع وحث على العلم وتحصيل المعرفة. حتى أن المسلمين نمت لديهم مختلف العلوم وازدهرت لدرجة أن الغرب قد بدأ ينقل هذه العلوم عن العرب والمسلمين. لكن هذا الازدهار في الحركة المعرفية العلمية توقف لأسباب ترتبط بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بداية من القرن الثاني عشر ميلادي، ولا تعود إلى سلطة الضبط والهيمنة اللاهوتية.
وهكذا تراجع البحث العلمي ليخلو الميدان للخطاب التعبوي الأيديولوجي، الذي كلما اشتد وأصبح أقوى كلما تقلصت مكانة العقل والفكر العلمي النقدي في البنية العربية. هذا التراجع أضحى مرعباً في القرنين الأخيرين، حيث اعتمد العرب والمسلمون التصلب الأيديولوجي لمقاومة الحملات الصليبية، ثم ظهرت حركة سلفية إصلاحية في القرن التاسع عشر لكنها فشلت، لأن القطيعة مع العقل العلمي كانت قد ترسخت في الفكر العربي، ثم ظهرت الأيديولوجية القومية في القرن العشرين التي أعاقت في نضالها التحرري كل محاولة لدراسة العلوم التي ظلت ولا زالت الأقل تحليلاً من كافة جوانب التراث الإسلامي.

معركة شقاء
وهكذا استمر العقل العربي مشتتاً بين التراث والحداثة، وفي كل مرة يتم فيها محاولة إعادة قراءة التراث وفق العقل الاستبدادي يتواصل إعادة إنتاج التخلف. ورغم أن العقل العربي قد صدم بالحداثة عبر احتكاكه مع العقل الغربي في القرن التاسع عشر، إلا أن تحديث الفكر العربي ظل حبيس أطر ومفاهيم أيديولوجية، ولم يتجدد بذاته كممارسة نظرية عقلانية، لأن المثقفين العرب الذين رفعوا لواء النهضة لم ينعتقوا من قيد الأيديولوجيا، ولم يتمكنوا من صياغة فكر نقدي لهويتنا ولعلاقتنا مع الآخر. ومكث العقل العربي في صندوق الأنثروبولوجيا مما شكل حائلاً دونه والتجديد والإبداع.
بعض رواد مشروع النهضة العربية وظفوا الدين لصالح السلطة السياسة، والبعض جعل السياسة في خدمة الدين، لذلك فشل هذا المنهج في تحقيق أي إصلاح في البنية الفكرية العربية. وكانت الفلسفة مادية برهانية تقوم على الحجة والأدلة في المغرب العربي، فيما كانت الفلسفة في المشرق مثالية لاهوتية تقوم على التأمل.
نظريات ومذاهب وأفكار وفدت على المنطقة العربية من كل صوب وحدب، عبر روافد متعددة ومتنوعة ومتشابكة، دون أي تأصيل ومن غير تهيئة البيئة العربية لهذه النظريات، ولا الاشتغال على الفكر وتعديله ليكون متوافقاً مع الحالة العربية. مثل النظرية الماركسية التي نقلها اليساريون العرب، فكانت محنة العقل اليساري العربي حالة من الفصام الفكري، حيث تجد يساريين وأحزاباً يسارية لكن من دون فكر ماركسي. 
العقل العربي تجاذبته المفاهيم والنظريات والأفكار المعاصرة منها والموروثة، وعانى من السلطة الدينية المتشددة، ومن الاستبداد السياسي، ومورس عليه التهميش والتضييق والإلغاء والقولبة والقهر والاعتقال بل والقتل. تمت مصادرة حقوقه في التفكير الحر المستقل وفي التحليل والنقد والإنتاج دون قيد.
إننا نحتاج عقل جديد ورؤية أخرى وقراءة هادئة ومقاربة مختلفة لتاريخنا العربي والإسلامي ولتراثنا الثري. العقل العربي يحتاج أدوات مغايرة للبحث والتحليل والدراسة. إن العقل العربي ليس عقلاً قاصراً ولا فاشلاً ولا عاجزاً بل يحتاج إلى معلمين وملهمين ونماذج متميزة عما هو سائد. ولا يحتاج العقل العربي إلى مزيد من الكراهية والطائفية والمذهبية والعرقية التي فتكت به.

مراجع:
-محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1، 1988.
-عبد الرحمن بدوي، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ط1، 1940. 
- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1986.
-عبد الإله بلقزيز، التفكير في التكفير. نحو استراتيجيّة مواجهةٍ ثقافية، مجلة المستقبل العربي العدد 433 في آذار/ مارس 2015.

أثقل الشهور حزيران/ د. عدنان الظاهر

جُدرانُ خرافةِ ميزاني
تتهاوى في داري أكفانا
تتساقطُ أجداثا
أسمعُ ليلاً قرآنا
يتلوهُ مجدورٌ أعمى
ما هذا ؟ ما يجري ؟
أكبرُ من طاقاتي
أصغرُ جدّاً منّي
أتكاثرُ متلوفَ الخيطانِ
أفنى مُلتفّا
أبَتي أنقذني
أنقذني منّي
بادلني شوقي للنارِ
أرصُدُها تضليلا
لا مانعَ لا رحمةَ في دوراتِ الطاعونِ
بادلني الرنّةَ في صوتِ الطاحونِ
يتكرّرُ دوريّا
يبحثُ عنّي !
في الحُبِّ يواسيني
يتسامقُ لا يخشى بأسا
يتكبّرُ إبليسا
أزرقَ يمتدُّ فُراتاً أو نيلا
يهوى أنْ يهوي أو يزني
نادى من خلفِ حِجابِ الظلِّ :
مُدّوا حبلَ غسيلِ الموتى
هذا يومُ الحشرِ !
سَهْمٌ طاشَ تكبّرَ واستعلى
وتعرّجَ مُلتوياً مُلْتفّا
خابَ وخافَ العُقبى فاستثنى
ذَكرَ البصرةَ ميناءَ عبيدٍ ثاروا
سَرَحتْ فيها أهوائي فُلْكا
يا أنتَ الراكبُ في ماءٍ سيفا
هل أعددتَ وعدّدتَ الأوراقا
فكّرتَ بما لا يأتي سهوا
وقّعتَ الصكَّ بموتكَ شَنْقا ؟
زُرْها أوراداً سودا
قَبّلْ مثواها قُدْسا ...
ليلٌ يتميّزُ غيضا
أنَّ القادمَ أسوأُ حظّا
أنَّ التوقَ العالقَ يبقى طوقا
أنَّ الضربةَ أمرٌ محسومُ
يا هذا النائمُ فتّشْ عنّي
شأني منحىً أعمى فيكا
جهّزْ وتأهّبْ ظلاّ 
الشكوى في أعلى رأسي
قطّعْ أوصالي
وزّعني مقسوماً ضيزى
أنبئني أنَّ التنورَ يفورُ
شقَّ الأرضَ وواريني مؤودا.    

في تأمل تجربة الكتابة: إضاءات على الهامش/ فراس حج محمد

الإضاءة الأولى:
وصلني مؤخرا من الأردن كتاب الصديق هاني أبو انعيم "كفاف البوح" الصادر عن دار فضاءات للنشر بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنية، وصنف الكتاب على أنه "قصص قصيرة جداً"، ومنذ أن تعارفنا يحرص الكاتب أبو انعيم على أن يوصلني كتبه مع أقاربه الذين يزورون فلسطين من حينٍ لآخر.
يعتبر أبو انعيم رائدا من رواد كتّاب القصة القصيرة جدا في الأردن، وتناولت دراسات ومقالات متعددة تجربته الإبداعية، وكنت قد تحدثت عن كتابين من كتبه في كتابيّ "ملامح من السرد المعاصر" بجزأيه الثاني والثالث. فتناولت في التحليل روايته "واحة اليقين" في كتاب "قراءات في الرواية"، تحت عنوان "استعارية الرواية وتفكيك المقولات الفكرية"، ومجموعته القصصية القصيرة جدا "أرواح شاحبة" في "قراءات في متنوع السرد" تحت عنوان "نسق العلامات النصية واللغوية". 
يقع الكتاب الجديد للكاتب هاني أبو انعيم في (203) صفحات من القطع المتوسط، ويتألف من (100) قصة قصيرة جدا، يحتل كل منها الصفحة اليسار من الكتاب، وبقيت الصفحة المقابلة فارغة، ويتخذ كل نص رقما وعنوانا، والملاحظ على العنوان التزام الكاتب بكلمة واحدة، تنوعت بين الاسم المفرد والجمع. وغلب المصدر على هذه العناوين.
تذكّر هذه الإستراتيجية بالإستراتيجية التي اتبعها المؤلف في كتابه "أرواح شاحبة"، ليس في صياغة العناوين فقط، وإنما في حجم القصص، فتكاد تكون القصص متساوية في بنيتها اللغوية، كأن الكاتب يتابع إستراتيجياته في بناء القصة القصيرة جدا، تلك الإستراتبجبات التي وظفها في كتابه السابق المشار إليه أعلاه "أروح شاحبة"، وشمل ذلك الموضوعات أيضا، وبناء القصة الداخلي، والضمائر المستخدمة، والخاتمة.
في رصيد أبو انعيم الإبداعي ثلاث روايات، ومجموعة قصصية واحدة، ومجموعتان أخريان غير "كفاف البوح" قصص قصيرة جدا، أطلق على واحدة منهما تجنيس "ومضات قصصية"، وبهذه الخريطة السردية يكون الكاتب هاني أبو انعيم قد كتب في الفنون السردية الشائعة عدا المسرحية.
أتمنى للصديق هاني أبو انعيم مزيدا من الإبداع، وشكرا جزيلا على هذه الهدية القيمة التي رفدت مكتبتي الخاصة بكتاب جدير أن يُقرأ ويُستمتع به. منتظرا كتبا أخرى للكاتب برؤى جديدة، تنقل هذا الفن القصصي الذي ما زال يحيا على هامش الأعمال الإبداعية وخاصة الرواية، هذا الأخطبوط الذي يتمدد في عقل الكتّاب وأقلامهم كأنه مرض ينتشر بشراسة في جسد السرد العربي والعالمي على حد سواء، وكان من نتائجه الكارثية تجارب غير ناضجة بل وعقيمة أيضا من السرد الذي يُخجل الناقد والقارئ، فلماذا لا يشعر هؤلاء الكتبة بالبؤس من سوء ما اقترفت أيديهم من رديء الكتابة؟
الإضاءة الثانية:
على هامش مناقشة كتاب "شرائط ملونة" للكاتبة فاطمة عبد الله، دار حديث بيني وبين الصديق سامي مروح، وهو من أعضاء لجنة الفاروق الثقافية، حول قضايا كثيرة، هذا الصديق في كل قراءة له لكتاب ما يقدم ملحوظات ذكية حول تلك الكتب محل المناقشة. مع أنه يستمتع بوصفه بالبلّيط، ويذكر هذا الوصف بشيء من الطرفة المزوجة بالفخر الخفي، وما فتئ أبو رأفت الروائي محمد عبد الله البيتاوي يذكر بما صنعته اللجنة الثقافية بأحد كتب شاعر من نابلس يعد نفسه كبيرا، وعندما أحرجوه بملحوظاتهم بمن فيهم سامي مروح، يستفسر عن تخصصاتهم، ليعرف أن من بينهم البليط والقصّير والعامل. فيشتاط غضبا ويقول: هل هؤلاء هم من يناقشون كتابي؟ وبالطبع سيمارس هذا الكاتب عادة الحرد الثقافي ككثير مثله لم تعجبهم الملحوظات السلبية التي قدمها أعضاء اللجنة. 
من المناسب أن أقول إن عادة الحرد الثقافي ظاهرة متفشية في الوسط الثقافي، وهي تشبه الزكام الذي لا يسلم منه كاتب أو مثقف إلا في حالات نادرة، بعد أن يكون قد استقبل هذا الزكام بمصل التحمل للقضاء على هذا الفيروس اللئيم.
أنا كنت أحد الكتاب الذين نالوا نصيبا لا بأس به من ملحوظات اللجنة، ولكنني لم أمارس عادة الحرد الثقافي ولم أجرّح أحدا، كما فعلت إحداهنّ في منشور لها على الفيسبوك بعد أن سقط كتابها في الرداءة. بل استمررتُ في إرسال كتبي لمناقشتها، وصرت حريصا على حضور اللقاء والاستماع لما يقوله الأعضاء، حتى لو لم تسرّني الجلسة وما يدور فيها من حديث أحياناً. لكن عليّ الخضوع بكل ثقة وحب واحترام لقوانين القوم وأعرافهم ومنطق تناولهم للكتب، والاستفادة من آرائهم، ففي داخل كل قارئ ناقد يتربّص بك أيها الكاتب عليك أن تستمع له وتحترم ما يقول، وإلا عليك اختصار التعب والمكابدة، وتختار الأسهل، ولتخلد إلى الراحة والكسل والخمول.
على هامش هذا اللقاء أطلب من الكاتب البيتاوي نسخة من كتابه "مرسوم لإصدار هوية" الذي تمت مناقشته قبل هذه الجلسة، يبحثون لي عن نسخة، وأخيرا يعثرون على نسخة مركونة على هامش أحد الرفوف. الكتاب مجموعة قصصية، منشورة عام 1994، ويشتمل على قصص قصيرة مكتوب بعضها في السبعينيات كأبعد تاريخ مكتوب لاحظته في المجموعة.
المجموعة القصصية هذه أثارت شجوني، فأخذت أحدث الصديق سامي عن المأزق الإبداعي للقصة القصيرة في فلسطين والعالم العربي، إذ أصبحت في تراجع كبير وخفوت واضح، وكنت قد تحدثت عن ذلك غير مرة، ولكنني ذكّرت الأخ سامي كيف أن مؤلفي المقررات الفلسطينية في اللغة العربية لم يكن عندهم معرفة بالقصة القصيرة ولا كتّابها، وعندما رشحت بعض الأسماء والنصوص لمن اتصل بي من أجل هذا الغرض، كان المسؤول الذي يحلل ويحرّم، و"يقطع السرّة" يقيس القصة بالشبر، وبما أنه لا قصة جاءت على مقدار شبره المتقلص فقد رفضت كل الاقتراحات، وكنت قد اتصلت شخصيا بالكتّاب والكاتبات وحصلت على قصصهم مطبوعة على برنامج (Word) لتسهل عليهم عملية التحرير. يحل محل تلك الاقتراحات نماذج قصصية باهتة أو تقليدية لأسماء مكررة، وتم تجاهل جيل كبير ومهم من كتاب القصة القصيرة، حرموا من أن تدرس قصصهم والتعريف بهم، فقط لأنهم ذهبوا ضحية مسؤول يجهل الأدب وأجناسه وأهم كتابه وتطوره، والجيل الجديد. إنه الجهل الذي بسببه يفقد كثير من المبدعين حقهم، فأنا متأكد أنه لا يعرف أن من كتاب القصة القصيرة في فلسطين المتميزين عبد الغني سلامة، وعبلة الفاري ومشهور البطران ومحمد عبد الله البيتاوي وعادل الأسطة وخليل السواحري، وغيرهم.
الهامش الثالث:
كتبت مقالة بدت مهمة نوعا ما، حول كتاب "دنان" للكاتبة الفلسطينية لينة صفدي. هذه المقالة نشرت على نطاق واسع، بعد أن وعد مسؤول أحد المواقع الأدبية الفلسطينية أن ينشرها (حصريا) في موقعه، يماطل ليومين، وكان قد أبلغني أنه سينشرها في اليوم التالي الذي بعثته فيها. يمر يومان بعدها ولم ينشرها، حررت المادة من احتكاره لها، وأبلغته أنني بعثتها للنشر، لم يرد على الرسالة بطبيعة الحال، وحسنا فعل أنه لم ينشرها عنده، لأنها تكون قد ماتت في موقعه، ومهما كان عدد القراء المحتملين للمادة في موقعه، لن يكون أكثر من نشرها في ما يزيد عن عشرة مواقع وصحف ورقية في العراق والجزائر ولبنان وفلسطين وأمريكا ولندن. ورب ضارة نافعة.
كنت أرغب في أن أخصه بمادة جيدة، ولكن لسوء حظه، وحسن حظي وحظ الكاتبة أن المقالة انتشرت هذا الانتشار الكبير، ما أدخل السرور والبهجة إلى نفسي ونفس الكاتبة، فكم هو جميل أن ترى كتابك محتفى فيه ومذكور في مواقع شتى، لتنعم المقالة بآلاف القراء.
على هامش توقيع كتاب "دنان" وكتاب "ضاحية قرطاج وقصص أخرى"، لم يتقبل صاحب الضاحية النقد الذي قدمه فيه الصديق رائد حواري، فيسأله كما سأل شاعر نابلس الفحل عن عمله، فأجابه دون خجل أنني "جابي كهربا". هل يعني أنك لو كنت جابيا لا تستطيع تفكيك النصوص والحكم عليها؟ صديقي رائد، سعيد بنفسه دون غرور، وبصمتُه واضحة في الكتابة ومتابعة الكتّاب الشباب وعمل إضاءات نقدية لكثيرين ممن يعرف وممن لا يعرف، إن ما يقوم به هذا "الطليعي" لا يقدر بثمن، ولكن وزارة الثقافة بجلالة قدرها، تلك "الدكانة" المتكورة على نفسها، وعلى شلة من منتجي الهذر من أتباعها والمطبلين لمن يعمل فيها، رفضت طباعة كتاب نقدي لهذا "الطليعي المتنوّر". أيّ جنون وغباء يمارسونه في حق الكتاب؟ إن ما يقوم به هذا الكاتب الطليعي رائد محمد الحواري ليترفع عنه الموصوفون بأنهم "نقاد كبار" على الرغم من أنهم لا يقدمون شيئا للأدب ولا للثقافة، فقط يدورون في حلقة مفرغة، ويكتبون "دراسات محكمة" طلسمية لا يقرأها سوى من ابتلي بمساق نقدي جامعي أو رسالة جامعية، ثم تركن إلى أقصى نقطة في الهامش.
صديقي رائد يكتب النقد على منهج الكتاب النقاد الأوائل الذين يضعون في اعتبارهم إفادة الكتّاب وإحداث تفاعل معهم، ليدفعهم نحو التطور، ويكفيه احتراما أن كتابا كثرا يبعثون له نصوصهم وكتبهم المطبوعة ليقول فيها رأيه، وأنا واحد منهم، فعدا أنني أعرض عليه مسودات كتبي إلا أنه أول شخص يتسلم نسخة مطبوعة من كل كتاب يصدر لي، بل كنت حريصا على أن يقول رأيه في كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية" المعد للطباعة، وسيصدر قريبا عن دار نشر مصرية، وأن يكون جزء من رأيه ذاك على الغلاف الأخير للكتاب.
أعتز بصداقة الكتّاب والكاتبات المحترمين والمحترمات فقط، إذ ليسوا كلهم وكلهن على شاكلة واحدة، وأحرص على أن يشاركوني أفكاري كما أحرص على أن أشاركهم أفكارهم واقتناء كتبهم وقراءتها، من هاني أبو انعيم في الأردن إلى العزيزة حنان باكير في النرويج، إلى الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر، وإلى من هم في فلسطين: رائد الحواري والبيتاوي وفاطمة عبد الله ولينة صفدي ومشهور البطران والصديق الجديد الكاتب منجد صالح الذي يشاركني عبر البريد الإلكتروني قراءة مقالاته التي يواظب على نشرها في المواقع الإلكترونية، والكاتب إبراهيم جوهر الذي ينعتني بحب بالكاتب المشاكس، ويتابعني باستمرار دون ملل، ويصوّب أخطائي النحوية بلطف الصديق المحب، وعبد الغني سلامة الذي يحرص دوما على أن أشاركه كتبه بدءا من قراءة المسودة وانتهاء بإهدائي نسخا مطبوعة ممهورة بتوقيعه المحمّل بعبق الحب دوما، ومحرري الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية الذين يحملون أفكاري لما لا يحصى عددا من القراء، فيشاركونني فيها قراءة وكتابة واتفاقا واختلافا. كما أنني لا أنسى البعض الآخر الذي يتذكرني عند الحاجة، فربما كنت بدرهم الذي يحتاجون إليه في عتمة نصوصهم، لعلني أساعدهم فأضيء لهم بعض جوانبها المعتمة.

هاكَ روحي/ وعد جرجس


في عيوني بحرُ شوقٍ هائج

لست أدري أيَّ موجٍ يشتكي

ذكرياتٌ من حبيبٍ سابقٍ

تستفِزُّ العقلَ يغدو مُهلكي

في جنونِ العشقِ بتُّ ناسكًا

يستمدُّ النّورَ منهُ حالكي

أستشفُّ النّارَ ضوء دافئًا

كفَراشٍ في احتراقٍ مُنْهِكِ

يا إلهيْ هاكَ روحي وكفى

من صليبٍ فوقَ ظَهري يتّكي


لطوني بك فرنجيه بمناسبة زواجه/ روميو عويس

= مبروك =
لطوني بك فرنجيه بمناسبة زواجه 

1
لبنان مش ناسي الرئيس الكان
لشعبو وفي.. ومواقفو صوّان
لبنان مستفقد لهيك رجال
لا يبَدّلو ولا يغيرو الالوان
2
بعمرُن ما نهبو من الخزينه مال
ولا الغرب طوَّعهُن ولا الجيران
ولا تآمرو وباعو الاستقلال
واللي انسمى وحدو بطل لوزان
بعدُن كلامو سيرة الاجيال
"الحق طول العمر مع لبنان"
تعيش يا طوني سنين طوال
وتحمل مزايا جدك سليمان
3
والسيدة طلت مقابيلك
بالهنا والخير تدعيلك
وغمرت الفرحه بعرسك محبيك
اللي قلوبهن حضرت تغنيلك
والرئيس البركتو عاطيك
من عند الله عم يصليلك
وبيك المارد شاف حالو فيك
كل المحبه من القلب هاديك
وامك رضاها وحبها بيغنيك
مبارك يا طوني بيك اكليلك

نصّ خاصّ لقصة جرّة الزيت/ ترجمة ب. حسيب شحادة

جامعة هلسنكي ـ

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها فياض بن يوسف/لطفي بن فياض لطيف الدنفي  (زبولن بن يوسف بن زبولن الطيف الدنفي،  ١٩٢٩- ٢٠١٨، من  رؤساء الطائفة، مرنّم، معلّم للإنجليزية في مدارس نابلس، السكرتير الأول للجنة الطائفة في نابلس بعد ١٩٦٧) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة، الذي بدوره ترجمها إلى العبرية، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٣٢-١٢٣٣، ١ آذار ٢٠١٧، ص. ٣١-٣٥. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني. 

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستين بيتًا تقريبًا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة ترزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّرين، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

”الأعاجيب تحدُث لمن يستحقّها

من لا يؤمن بالآيات والأعاجيب أو بالمعجزات كما يسمّيها الكثيرون، فهو كمن يُعلن بأنّه لا يؤمن بالتوراة. كم من الأعاجيب والمعجزات حصلت لآبائنا، بني شعب إسرائيل، بالرغم من أنّ الله تبارك تواجد/تواعد [أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب. ١٩٨٩، ص. ٢٣، ٢٥] غير مرّة لأنّه أخرجهم من أرض مصر، ووعدهم بالأرض التي أقسم لآبائهم؟  هذا ما قاله لموسى ”قل لبني اسرائيل انتم شعب قاسي العرف“ [أنظر حسيب شحادة، ص. ٤١٠-٤١١]، ومع هذا صنع لهم أعاجيب وما هي إلّا من التجربة (يقول الراوي: في العبرية נסים من נסיון والصحيح أنّ أصل اللفظة الأولى هو נסס وأصل اللفظة الثانية נסה) وحقًّا قال لموسى ”اذ/ان ممتحن الله الهكم اياكم ليعلم/ليظهر هل كنتم محبّين لله ...“  [ سفر التثنية ١٣: ٤، أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلد الثاني: سفر اللاويين، سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب. ٢٠٠١، ص. ٤٨٦-٤٨٧]. 

بنفس القدْر من الأعاجيب التي نحظى بها علينا عدم الاتّكال عليها. قيل ”بعرق جبينك/وجهك تأكل خبزً/قوتًا/غدا“ [سفر التكوين ٣: ١٩، أنظر حسيب شحادة، المجلد الأوّل، ص. ١٤-١٥]. لا أحد منّا توقّف عن العمل راجيًا أن يفوز في كل الأحوال باليانصيب في آخر الأسبوع. ولكن ماذا، يقول الكثيرون إنّ العجائب حدثت لآبائنا فقط لأنّهم ربّما كانوا أكثرَ استحقاقًا، أمّا أنا فأقول: العجائب تحصُل اليوم أيضًا، ولكن اليوم يكون ذلك لمن يستحقّ. إنّي لا أقول ذلك جِزافًا، بل من تجربتي بها غير مرّة، إذ أنّ العجائب حصلت لأبي يوسف/لطفي رحمة الله عليه. أحيانًا تسمعون عن عجائبَ حدثت في أماكن شتّى في العالَم، وعندها تقولون في معظم الحالات، لا، هذا غير ممكن لا شكّ هناك مبالغة. لكن عدد الشهود على حدوث الأعجوبة كبير لدرجة أنّه لا يُبقي حيزًا للشكّ.
عندما تحصل معك الأعجوبة يزداد إيمانك بذلك. من الصعوبة بمكان مقارعة الحقائق. كلّ ما يبدو وكأنّه من عالم الأسطورة، ينقلب لواقع معاش أمام ناظريك. طوبى للمؤمن، كما يقولون دائمًا حين السماع عن أعجوبة ما. ما أقصّه عليكم، آمنتم أم لا، قد حدث أمام عينيّ هاتين. لم أكن عندها ولدًا يُطلق العِنان لخياله الخصب، كنت فتى يعرف ما يراه، ومن الصعب الاحتيال عليه، كما يقول شبابنا. 

كان ذلك في بيت أبي في نابلس، في أيّام القلّة والعوز، أواخر ثلاثينات القرن العشرين، بداية الحرب الكونية الثانية، بُعيد قمع الإنجليز لثورة (في الأصل: تمرّد) الفلاحين العرب. شاع الجوع والفقر في بيوت كلّ السامريين من جرّاء البِطالة. بالكاد كنّا نحصل على لقمة خبز واحدة في اليوم، وعن وجبات كاملة حلَمنا فقط. احتوت قائمة الطعام على القليل من الطحين والزيت والسكّر، وما عدا ذلك كان في الخيال، المهمّ البقاء بلا ثمن. دأب أبي على الخروج من البيت باكرًا للبحث عن لقمة عيش، لإعالة أفراد عائلته وأبناء شقيقه الصغار، كان عليه أن يُطعم أفواهًا كثيرة. القول ”ليس على الخبز وحده يحيا الانسان“ [سفر التثنية ٨: ٣؛ أنظر حسيب شحادة، المجلد الثاني، ص. ٤٥٦-٤٥٧] لم يُقنع بطنهم الخاوي النحيل. الأفواه تطالب بالخبز، والأب  وفّر هذا النزر بشقّ الأنفس. كان الوضع صعبًا بشكل خاصّ قبل العيدين الكبيرين الفسح والمظالّ، فالاستهلاك يزيد عن المعتاد في التواجد على جبل جريزيم ونصب العريشة. ما أقصّه عليك جرى في أيّام عادية. 

جرّة الزيت الضخمة

الزيت كان أكثرَ المواد الاستهلاكية طلبًا، أيمكن تحضير أية أكلة بدون الزيت؟ إلّا أن ّ ذلك كان من الكماليات بالنسبة لمن لا مال عنده. ذات يوم، فاجأ أبي أمّي التي رأته يجرّ إلى داخل البيت جرة فَخّار ضخمة ملأها زيتًا من بعض الجرار الصغيرة التي جلبها معه. أخبر أمّي أنّه حصل على الزيت في صفقة تبادل. لم تجرؤ أمّي على الاستفسار عمّا كان لديه لمقايضته بالزيت. كانت تعرف أنّه لو نوى إخبارها لفعل. اتّكلت على فطنته وهزّت رأسها إلى الأسفل، عندما قال إنّه حصل على جرّة الفَخّار الضخمة بدون مقابل، بمثابة ربح إضافي على الصفقة التي أبرم. 

هذا لم يهُمّ أمّي، المهمّ وجود الزيت في البيت، قالت. أضاف أبي إنّ الزيت مخصّص أيضًا لأبناء شقيقه عفيف رحمة الله عليه، جميل، رضوان (يفت، رتسون) ويوسف وينبغي عدم التقتير عليهم فهو يحبّهم كأبنائه. سألت أمّي فقط من سيُميل الجرّة الضخمة كلما احتاجت زيتًا؟ ضحك أبي من سؤالها وناولها مغرفة خشبية كبيرة أحضرها معه في معطفه. كلّما ٱحتجت زيتًا اغرفي بهذه المغرفة قدر المطلوب، قال وانصرف لأعماله. 

زيت زيتون جيّد

كان هذا الزيت جيّدًا، من أشجار الزيتون العتيقة/العمّاري التي تُزيّن سفوح جبل جريزيم ومحيطه. إنّه زيت زيتون قطف بالشقاشيق، ساقط على شبكة مستديرة دقيقة تحت الشجرة. حبّات زيتون كبيرة شديدة الخضرة جمعت من الشبكة، وضعت في صناديق خشبية كبيرة، ونقلت إلى المعصرة. هناك نقل الزيتون بسلال مطّاطية كلّ منها ذات أذنين، وصبّ في مكان الهرس الثقيل البطيء. رُكّب برغي ضخم بجهد كبير بغية تحقيق عصر أكبر. حِماران مغطاة أعينهما أدارا حجرَي الرحى والزيت الجيّد يُحفظ في الآنية، جرار فخارية صغيرة وتنقل إلى السوق المحلي في نابلس للبيع، ذي الشهرة في أرجاء فلسطين ومصر وسوريا. الزيت الأخضر والغامق لقطعة الخبز، اللبنة الخضراء والمكبوسة (زقاليط)؛ الزيت الأخضر الفاتح للطبخ، للقلي ولبّ الزيتون لانتاج الصابون النابلسي المعروف بجودته. الزيت الذي أحضره أبي كان أخضر فاتحًا، ويمكن القول أنّه صافٍ كالنبيذ وصالح لكل أنواع المعجّنات والطبخ والقلي. كانت أمّي تستيقظ  باكرًا، في كل صباح تغطّس المغرفة البنية الكبيرة في الجرة الضخمة، تغرف زيتًا جيدًا، وتسكبه في المقلاة أو في إناء آخرَ وَفق ما كانت تنوي طبخه في ذلك اليوم. 

قائمة منفردة بأكلة يومية

لُعاب الشرهين من سامعي القصّة وقرّائها لن يسيل، لأنّه لم تكن عندنا آنذاك قائمة غنية بألوان الطعام، كما هي الحال اليوم، حتى قسّموها على كلّ يوم من أيّام الأسبوع. آونتها، في تلك الأيّام الصعبة، لم تكن أيّة مفاجآت خاصّة بخصوص قائمة الطعام. عرفنا أنّ ما تناولناه البارحة وقبل البارحة سنتناوله غدًا وبعد غد أيضا. كما أسلفنا، لأبي، مثله مثل الكثيرين من أبناء الطائفة الصغيرة، لم يتوفّر المال الكافي لتحسين قائمة الطعام. هذا ما اعتادت عليه أمّي كل يوم، عادت وغطّست المغرفة أكثر في الجرّة وأصعدت زيتًا يكفيها للطبخ والمعجّنات، كما أنّها لم تنسَ إرسال الزيت في زُِبدية صغيرة من الخشب لأُسر أبناء عمّي عفيف. 

مضى أسبوع، أسبوعان، ثلاثة أسابيع، شهر وأسبوع ومغرفة الزيت تخرج مليئة دوما. أمّي لم تهتمّ طالما أنّ المغرفة  تخرج مليئة بالزيت في كل مرة ترفعها من قعر الجرّة. أبي كان منشغلًا بشؤونه، همّه توفير لقمة عيش تكفي عائلته وأبناء شقيقه عفيف، حرمه من النوم أكثر من مرة. الأيّام التي كان يعود فيها من السوق صِفرَ اليدين كانت أكثر من تلك التي حصل فيها على ما سدّ رمق أهل بيته. في تلك الأيّام لم نجرؤ على رفع الصوت في البيت. أبي كان عابسًا متجّهمًا، بعبارة أخرى غضب على كل الدنيا. تفادينا إغضابه أكثر إذ عندها كان يصبّ كلّ جام غضبه  علينا. غضبه لم يدم لأنه سُرعان ما وجد أملًا في أن الغد سيكون يومًا جديدًا، والله تبارك وتعالى يؤمِّن له رزقه. في الأيام الجيّدة التي تمكّن فيها من توفير الطعام كان مزاجه مرحًا، كنّا نجلس قُبالته ونستمتع بسماع أحلى قصص آبائنا.

إغاظة واستفزاز الأعجوبة

في أحد الأيّام الحلوة هذه من العام ١٩٤٢، بعد مرور شهرين بالتقريب على إحضار جرّة الزيت الضخمة، تذكّر أبي فجأة بالجرّة، والدهشة ارتسمت على محيّاه. يا زوجتي، أم أولادي الطيّبين، فياض وشكري ورفقة (زبولن، موده ربقه)، كيف من الممكن أن يكون عندك زيت، لنا ولأبناء شقيقي والكمية التي جلبتها لا تكفي لأكثرَ من أسبوع؟ علمي علمك (لا أعلم أنا أيضا) ردّت أمّي، لكنّي كل صباح أملأ المغرفة مراتٍ تكفينا جميعا، لم أنظر داخل الجرّة لأرى كم تبقّى من الزيت، قد تكون من بركة الله.

هذا غير جائز! قال أبي وأخذ الارتياب يتفاقم من ثانية لأخرى. توجّه حالًا نحو الجرّة، نزع الغطاء ونظر حتى القعر؛ الجرّة كانت جافّة كليًّا، لا قطرة زيت بقيت هناك. هذه أجرة من يُغيط ويستفزّ الأعجوبة، تمتمت أمّي بجفاف ولم تُضف شيئًا. “

أهمية تدريس الفلسفة للأطفال/ د زهير الخويلدي

" الطفل الفيلسوف هو مستقبل البشرية حيث تنقله الفلسفة من الطفل الموضوع إلى الطفل الذات وتجعله يفكر قبل أن يفعل"

لئن كانت الفلسفة حكرا على الراشد والرجل والسوي والمتحضر وفق الوصفة الإغريقية للتفلسف فإن عصر الأنوار قلب الموازين وجعل رسالة الفيلسوف تصل إلى الغريب والمرأة وغير السوي وتتيح للإنسان في بعده الكوني أن يتعلم التفكير الفلسفي ويتأمل في الوجود ويغوص في ذاته ويتدبر به حياته.

بعد ذلك تمخض عن ثورة مابعد الحداثة الكثير من الممارسات الجديدة للتفلسف تنبهت إلى الفيلسوف الصغير وأهمية تدريس الفلسفة للأطفال وبينت أن الطفل الفلسفي أكثر ذكاء من الشاب وأكثر جرأة على إثارة الإشكاليات وطرح الأسئلة الشائكة من الكهل وأكثر حكمة وتدبيرا وبراءة أصلية من الشيخ الحكيم.

فإلى مدى تصح مثل هذا الادعاءات؟ وهل يجوز رفع الوصاية على الطفولة والقول بالأهلية الفلسفية لها؟ وماذا يمكن أن يفيد تعليم الفلسفة للأطفال طالما أنها تلاقي العديد من الصعوبات عندما يتم تعليمها للكبار؟ كيف تساهم الفلسفة في تعليم الإنسان الصغير؟ وماهي المهارات التي تساعد الطفل على الحصول عليها؟ وماهي الراهنية المرجوة من ذلك؟ وهل توجد مخاطر من هذا التدريب على التفلسف في سن مبكرة؟ وكيف يمكن مواجهتها؟ ألا تساعد الفلسفة على نبض روح التعصب وتنسيب الموقف المعرفي من العالم؟

من المعلوم أن الطفل يولد صفحة بيضاء على حد قول جون لوك ومثلما يسهل تعليمه عدة لغات في سنواته الأولى يمكن تعليمه أصول التفكير المنطقي وإرشاده إلى المناهج المعرفية والقضايا العلمية العامة والانتقال بعالم الطفولة من مجرد عالم منظور من طرف الآخر إلى ذات ناظرة في الكون ومتسائلة عنه.

إذا كان سقراط قد دعا إلى ضرورة الاعتناء بالمولود الجديد ووضعه على محك التجربة وتدريبه على السلوك وإذا كان ديكارت قد جعل الشك المنجي مواجهة شاملة مع الطفولة وصرح بأن مأساة الإنسان أنه ولد طفلا فإن نيتشه نظر إلى الطفل اللاعب على أنه المعبر عن الفكر الحر والقادر على خلق العالم وقيمه.

المهارة الأولى التي يكتسبها الطفل من تعلمه للتفلسف هو امتلاك اللغة الفلسفية واشتغاله على المعاني والمفاهيم وتمكنه من التفريق بين اللغة العادية والكلام المتداول واللغة المعرفية والعلمية التي يجدها في النصوص ويكتب بها في الأوراق ويبدأ في التعامل معها بنوع من الهيبة والاحترام والتقدير والتبجيل وإنتاج خطاب خاص به من خلال الكلمات التي ينتقيها وفق ميولاته وذوقه ويسمي بها الظواهر الموجودة.

المهارة الثانية التي يمتلكها الطفل الفيلسوف هي التمكن من التفكيك والهدم والإلغاء للأشياء الموضوعة أمامه وبعد ذلك الانتقال إلى مرحلة البناء والتشييد والتركيب والتأليف والتأسيس لأشياء جديدة وعوالم مغايرة وتشكيل عالم خيالي يسمح له برؤية التجارب التي يجريها كل يوم بصورة واضحة ومنظمة ويعمل على تمثل الكون وفق مرآته الخاصة وضمن العلاقات التي يسطرها مع نفسه والآخرين والعالم الخارجي.

المهارة الثالثة التي يشرع في الحصول عليها هي تدشينه لرحلة البحث عن الحقيقة من خلال شحذ ملكة الفهم لديه وتفعليه لمسلكية إنتاج المعنى دون الاكتفاء بالتلقي السلبي والاستقبلال الانفعالي والتأثر بالأجوبة المتراكمة حوله وتمسكه بطزاجة الأسئلة التي يوقعها بنفسه والإشكاليات التي يحرص على طرحها لوحده.

المهارة الرابعة التي ينخرط فيها دون أن يشرع ويبدأ في مراكمتها تتمثل في امتلاكه لأدوات بدئية للتحرر من الموجود والقطع مع السائد والاستقلالية عن الاكراهات والارتحال نحو المنشود والهجرة إلى المجهول والمغامرة بالذهاب من المعتاد والمألوف إلى الغامض والملغز والإقدام على السفر والتجول في الطبيعة.

المهارة الخامسة هي اقتداره على استخدام أدوات التفكير الفلسفي بعد تمرسه على التعبير واستثمراه لأحوال الدهشة والتعجب والاستفهام والاستغراب والشك والحيرة الوجودية التي يمر بها لحظة صعوبة الإدراك واكتشافه الوقوع في الأخطاء وحرصه على تفادي تجارب التيه وتجنب تكرار هذه السخافات.

لكن كيف تصبح الفلسفة التي يتعلمها الأطفال فن بناء القدرة على التصور والاستنباط والتحليل والنقد؟

لا خوف على إدخال الفلسفة إلى المدرسة بعد الاستقرار الذي حصل لها في المعهد والجامعات والكليات ولا يمكن الانزعاج من تعليم الأطفال المبادئ الأولى للأنساق الفلسفية والسماح لهم باستعمال عقلوهم في التفكير والاستطلاع والمقارنة والتمييز والتحديد ومساعدتهم على ممارسة التجربة التفسيرية  للأحداث.

تمنح الفلسفة الطفل لكي يعيش في مغامرة الفكر ويتخلي عن تلقي المعلومات ومعرفة الأشياء بثقة تامة وامتلاكها على وجه اليقين ويعول على إدخال الفلسفة إلى المدرسة لكي يطلع على المعارف المتراكمة والمعلومات الحيوية التي يقدر على تقاسمها مع غيره والاستفادة منها في حياته اليومية وتغييرها للأفضل.

لم يعد مدرس الفلسفة يمثل المحور المركزي في العملية البيداغوجية بل يكتفي بإعادة توزيع السلطة والمعرفة والإيثار بالتساوي على المتعلمين والمريدين للحكمة ويقتصر على مساعدة الأطفال على امتلاك الثقافة الفلسفية والتفكير بأنفسهم دون وصاية وهيمنة من غيرهم ويوفر لهم أجوبة مؤقتة وظرفية عن التساؤلات المحيرة التي بذلوا جهود لطرحها ويجعلهم يسعون إلى تغيير  قناعاتهم ونظرتهم بأنفسهم.

تساعد الفلسفة الأطفال على البحث والتجريب والتشكيل والإنشاء وتخليص التجارب التي يقومون بها وتقديم وسائل إدراكية وتصور واضح للأشياء وتخزين مواقف محددة في الذاكرة يستعملونها في إصدار أحكام مطابقة وإبداء آراء رصينة وتدعمهم في عملية التصحيح الذاتي للأخطاء وحيازة قدرة على الفهم.

خلاصة القول أن تعليم الفلسفة للأطفال هو تكريس للحق العالمي في التفلسف الذي ينبغي أن يحصل عليه كل إنسان مهما كان بلده وثقافته ودون تمييز على أساس جنسه أو لونه أو دينه أو عرقه أو لغته أو عمره.

كما يتضمن برنامج تدريس الفلسفة للأطفال في المدرسة من حيث المبدأ ومن جهة الطموح أرضية تربوية منفتحة وخلفية أخلاقية متحررة ومشروع ثوري تنويري ويعتمد على اللين والرفق والسلم والإصلاح التدريجي ويرتقي إلى تقريب المفاهيم والأفكار والتصورات إلى الأذهان وشحذ الهمم والإرادة نحو الحق. فمتى نرى الفلسفة قريبة المنال من الطفل؟ ولماذا لا يتم إدراجها في مناهج التعليم في المدرسة العمومية؟ ألا تساعد الفلسفة الطفل على احترام الاختلافات واكتساب القدرة على صناعة مستقبله بنفسه متفتح الذهن؟

المراجع:

L’enfant philosophe, avenir de l’humanité, Jacque lévine et autres, Ateliers AGSAS de réflexion sur la condition humain, ARCH, ESF, 2008.

Frédéric Lenoir, Philosopher, méditer avec les enfants, édition Albin Michel,2016.

Michel Tozzi, Faire philosopher les enfants constats, questions vives , enjeux et propositions, dans revue Diogène 2008-4 N°224 pages 60 à 73/


قارئة الفنجان/ الاب يوسف جزراوي

من ديوان _ جثة تثأر من قاتلها_...قريبًا

في مقهى بضواحي مدينة الشام
وقفت أمامي فتاة كزهرةِ الأرجوان،
على وسادةِ فمهِا سرُ ينام
وفي عينيها نظرة اِستحسان!
سألتها:
هل ضلّلتِ العنوان؟!
أجابت: كلا...
أنا عرافة المكان.
......
جلستْ على طاولتي دون إستئذان
لتفسر لي أحلام المنام
وبين يديها الصاخبة بالرسومات
مبخرة يتطاير منها الدخان
فراحت تقرّأ لي الفنجان
بصوتٍ خافتٍ بين الزحام!
.......
صَمَّتت؛ تَمَعَّنت وقَرّأت
فشاحَت بوَجهَها عن قعرِ الفنجان 
كمن لدغُه الثعبان!
....... 
حدّقتُ بها مليًا
فلَمَعت عيناها الجميلتان 
بابتسامةٍ تكافح للظهور
ما بين الدموع،
وقالتْ:
تتلقى مكالمة من الغربة
تخَبَرَك أنَّ حياتك مليئة بالاسفار 
فليس من خيارٍ أمامك سوى الترحال 
فالوطن قد طوقته الأسوار.
.......
أكملتْ والخوف في عينيها:
عيناكَ مُلَبّدة بالأحزان 
ِوفنجانكَ يكتَظُّ بالأسرار
  فالأسفار ستمضي بك في مشاوير
ليس لها إقامة ولا استقرار
إلّا بعد حينٍ؛
كثورٍ اِستَلطَفَ حوتًا وتمنى الإبحار
 فترك يابسته وغرق في البحار
أو كطائرٍ بنى عشًا فوق السحاب
فجأةً عطست الغيوم
فسقطَ العشُ مُبَللاً بالأمطار.
.........
لديك من الإرادة والطموح والإصرار
لتجوب البراري والصحارى والوديان
وتَتَودّد لنخلةٍ وتتأمّل بحرًا
 وتداعب وردة الياسمين
لكنك ستشكم جراح غربتك
بملحِ الانتظار!
ولأوّل مرّةٍ سيحلو
 الصبر في عينيك؛
ولكن لا تفرح يا صاح
فالانتظار سيجلس على مقعدٍ بقربكِ
يثرثرُ كثيرًا ببلادةٍ
وينتظر بفارغ الصبر
مكالمة من وطنٍ
يدعى الانتظار!
.......
أسفارك حُبْلّى بالهموم
كجبلٍ على سفوحهِ الغيوم
فتتسكع في طرقٍ تتسعُ للغرباءِ
كعابرِ سبيلٍ ليس له إيابًا
تبحثُ عن مدينة
  نَاءت  عنها الدروب؛
بينما ظلّك المُنهك المسكين
يقتفي أثركَ 
ليمنحكَ ثوبًا
أحاكتُه الغربة على مقاسكِ!

 ........
لكن لا تبالي يا صاحبي
ستنجح ويضيء نجمك 
في سماء النّوى
وستحلّق كتبك بجناح الانتشار 
فوق مكتبات العديد من البلدان.

كما ستصادفك وجوه كثيرة
تبدو لك بريئة كالأزهار
ولكن أحذر؛
الناس نوعان:
أخيارٌ وأشرارٌ
فأوصد في وجوههم أبواب الطيبة
لكي لا تقول مع القائلين:  
إتق شرَّ من أحسنت إليه؛
فبعضهم سيقطف قطوفك الدانية  
 ويلقي بك كالحطبِ في النارِ.

........
يا فتى ما كلّ هذا الأسى 
لم أقرَّأ في عمري
 فنجانًا مثل فنجانك!
فدعني أقرُّأ لك حظًا آخر؟

وراحت يدها تلامس الحصى
فطأطأت رأسها 
كسنبلةٍ صفعها الإعصار
وعلى باب لسانها
تعثرت الكثير من الحكايات
حتّى صار الدمع
في عينيها كالأحجار
وقالت:
ستذهب كلّ ليلةٍ مُقّتاد
 لتقفَ على حافة غربتك 
تلوحُ لها برايتك البيضاء،
وتروي لقلمك رواية
فيها دموع وطنك
ونزف جراح الذات
حتّى يطلُّ الصباح
ليمسح عن ناظريك كحلِ السُهَّاد.
........
أعلمُ  
إنَّ الغربة لا تليق بك
لكنك ستمضي في سفرٍ طويل
ولن تستريح خيول ترحالك
فأحمل معك مبخرة وشموع صلاة
وحقيبة مدبوغة بكتاباتك
ولكن؛
إنْ تفتن بك مدينة
وتمنحك جنسيتها وحق المواطنة
لتسير على أرصفةِ طرقاتهاِ
فهذا يعني
إنَّ وطنكَ قد لفظك
قبل أن يلفظ  أنفاسه الأخيرة 
وإنَّ مدينةً أخرى وقعت في غرامك.
وليس على المغترب حرجًا في ذلك.
.........

نهضتُ من الطاولة وسألتها:
إيتّها العرافة 
ما هو برجك؟
وفي أيّة مدينةٍ تُقيمين؟
فأجابت:
الثور؛ 
ولكن هل تُسأل العرافة عن إقامة؟!.
رحلتْ ومعها الفنجان
تلَمَّلمُ رموشًا تكسرت
فوق  جفونِها النَاعِسة
لتتركني صاخبًا بأحاديثها!
........
نفثتُ دخان سيجارتي على خطواتها
وقلتُ لنفسي:
كذَّب المنجمون ولو صدقوا؛
لكن على ما يبدو
أنّها صَدَقت في قراءتها!!

العرب في اسرائيل بين نارين/ جواد بولس

تتوالى الاخبار علينا كزخات الماء في غابات المطر ؛ فما أن انتهت القوائم من مقابلة رئيس الدولة، حتى انشغلنا بخروج حزب التجمع عن موقف حلفائه في القائمة المشتركة وامتناعه عن ترشيح جانتس لتركيب الحكومة القادمة. دارت النقاشات وتباينت الآراء، فحذّر البعض من إرساء سابقة ستجيز لكل حزب ان يخرج في المستقبل عن إجماع رفاقه مما سيضعف الوحدة ويضعضع متانتها، وذهب آخرون الى ان الخطوة كانت محكمة وتمّت بالتنسيق مع حزب كاحول- لافان. ثم أعلنت لجنة الانتخابات العامة النتائج النهائية فربح حزب الليكود مقعدًا على حساب حزب يهدوات هتوراه.
وفي المقابل بموازاة ذلك كلّه لم تنقطع أخبار سقوط القتلى في قرانا، حتى وصل عددهم الى ثمانية في أربعة أيام فقط.  
كأننا نعيش في عالمين؛ تبني شاشات التلفزيون والحواسيب أوّلهما بينما نواجه الثاني في جميع لحظات حياتنا وفي كل خطوة نخطوها.
لم تنتبه جمانة حينما كانت تفتش مع صديقتها على زاوية آمنة في أحد المقاهي الشهيرة في المركز التجاري الكبير، للرجل الذي كان يجلس إلى الطاولة المجاورة وراءهما. سمعهما تتحدثان بالعربية فقام عن كرسيه واقترب كثيرًا وسألها بلهجة عدائية "هل أنت مع القائمة المشتركة ؟" 
كان رجلًا في الخمسينات من عمره يلبس بنطالًا قصيرًا لونه أزرقًا مخططًا بالأبيض وفوقه سترة بلون صدأ النحاس ؛ لاحظت، عندما رفع يده في وجهها، أن ساعده مطوّق بساعة رياضية لون حزامها أصفر، وقريبًا منها كان خنصره يختنق بخاتم بارز يشبه خواتم سماسرة القمار والرهانات الكبار.
"هل يزعجك انني مع القائمة المشتركة ؟" سألته جمانة دون أن تعرف أنه من "المتحوّلين جنسًا" ومن أولئك الفاقدين لطبيعتهم البشرية. لم يدعها تكمل جملتها وراح يصرخ في وجهها ويشتمها ويطالبها بأن تترك إسرائيل وتعود إلى غزة ؛ "عودي إلى هناك على جمل فأنتم لا يليق بكم إلا الجمال". كان شرسًا ومخيفًا وحين استقام ودفع صدره إلى الأمام بدا لها لون وجهه كالنبيذ الرديء الذي يميل إلى حمرة قانية تخفي سمرة هي لون وجنتيه الشرقيتين الأصلي.
بدأت جمانة وصديقتها تتحركان نحو باب المقهى وهو يلحق بهما. ربما كان في عقده السادس، شعره أبيض خفيف يغطي جانبي رأسه وعيناه مدورتان كعيني ذئب جائع. 
"اذهب أنت من حيث جئت" أجابته بثقة صاحب البيت. غضب حتى صار كلامه أكثر حدة. نظرت جمانه نحو امرأة سألتها عما يحدث فحاول أن يضربها من الخلف ولكن صديقتها مدّت ذراعها وصدته.  
انهت جمانه قصتها الموجعة حين كانت الشاشات تنشر خبرًا عاجلًا عن تكليف رئيس الدولة ريفلن لنتنياهو  بتركيب الحكومة.
 لم يكن الخبر أمرًا مفاجئًا أو قرارًا غريبًا ؛ فبعد أن تبيّن أن الناخبين الإسرائيليين لم يحسموا خياراتهم بشكل قاطع، وبعد أن اتضح أن صناديق الاقتراع أنتجت واقعًا سياسيًا معقدًا وملتبسًا، وبعد أن استرجع نتنياهو هوامش واسعة تساعده على المناورة وتتيح له فرصًا لاستعادة مكانته كالرجل القوي القادر على قيادة معسكر اليمين العنصري والفاشي، بعد كل ذلك فقد صار محتملًا ان نفيق  لنجد أنفسنا، نحن المواطنين العرب، واقفين في نفس محطة القطار السريع التي كنا على رصيفها قبل السابع عشر من أيلول /سبتمبر الجاري.
بدأنا نناقش تداعيات الخبر وفي الجو شعور من الخيية أو ربما الخوف؛ لقد أحسست، هكذا قلت لأصدقائنا، ساعة أعلن الفرقاء عن بناء القائمة المشتركة من جديد أن جميع من سعى في سبيل إنجاح المهمة كان مدفوعا بوازع من ضميره الوطني وبشعوره /خوفه من فداحة الهزيمة الكبرى التي كان سيمنى بها مجتمعنا لو خضنا الانتخابات ونحن على حالة التشرذم التي كانت سائدة وفي أجواء الاقتتال الفصائلي التي خاضتها معسكرات حزبية هرمة وجنود كانوا يبيتون على حافة اليأس والتيه. فهل سيذهب كل ذلك سدى؟ 
لم يخفِ نتنياهو وحلفاؤه، في السنوات الأخيرة، شروطهم المستفزة لقبولنا كمواطنين في الدولة؛ ولم يتركوا لأي عاقل منا أية فسحة للوقوع في الخطأ أو للمغامرة بنزق؛ ففِرق الموت، التي أنعشها تحريضه وتحريض حلفائه، أنجزت رحلات صيدها جهارة ولاحقت فرائسها في الشوارع وفي الحدائق العامة وفي الشطآن وفي المراكز التجارية؛ ولم توفر ، على الجبهات الأخرى، كتائب الأمر بالطاعة وفرض الولاء جهدًا في محاصرتنا في الكنيست وفي الوزارات وفي المحاكم و"قراقيشها" .
 كان المناخ السياسي مقلقًا وخطيرًا وبسببه اختارت الأحزاب والحركات السياسية أن تتبنى نهجًا نضاليًا وحدويًا، فاصطفوا جماعةً وراء شعار الحملة الانتخابية الأبرز والأهم وهو "اسقاط نتنياهو ومعسكره والتصدي لنهجهم"، مؤثرين السير في طريق ضيق يجمعهم بدل أن يتمترسوا آحادا في خنادق الوهم الوسيعة أو التحليق على أجنحة رعودهم المهيضة.  
اجمعنا على أن ما أحرزته القائمة المشتركة يعد انجازًا ، خاصة اذا تخيلنا بدائله وتأثيرها على مستقبلنا. 
تحاول بعض الجماعات التي قاطعت الانتخابات أو بعض الناقدين والمحللين تحميل القائمة المشتركة المسؤولية عن نتائجها، وفي هذا تجنٍّ وتنكر  للمكاسب التي حققت حتى لو اعتبرناها متواضعة ؛ ويهاجم البعض المشتركة متهكمًا على وحدتها الهشة أو شامتًا أو مزايدًا على موقفها بعد الانتخابات. أما المؤسف انهم يفعلون ذلك وهم واقفون على الضفة ويصفقون للسيل رغم انه يجرف نبتهم ويهد قبابهم ؛ فنحن لم نسمع من جميع من تفّه تجربة المشتركة الأخيرة كيف عساهم أن يسعفونا إذا تمكن الجراد الفاشي واستوطن على رقبة الدولة، وما وماذا إذا جاءت جحافله لتستتوبنا، نحن العرب، أو لتأمرنا بطاعتهم أو بدفع الجزية للدولة اليهودية، إما عن رضا واما ونحن صاغرون؛ أو اذا رفضنا، كيف سنقاتلهم وبأية وسائل؟  
 لم يقل أحد أن إسقاط نتنياهو ونهجه قد يفضي إلى دحر اليمين الإسرائيلي أو اختفائه، ولم يدّع طرف بأن حزب "كاحول- لافان" ورئيسه جانتس هم زهرات من مشاتل اليسار.
كان واجبنا ولم يزل ان نتصدى للطرف الأسوأ وأن نحاول صد الأخطر؛ ومن لا يرى بمعسكر نتنياهو انه أخطر الخطرين فهو إما غاف أو حالم ينظر للواقع بعين من زجاج أو من سراب، ومن يستخفّ بما يُعدّونه لنا فليقرأ كيف نجحت كتائب الموت السوداء ببناء أمجادها في برلين من جماجم ناس حالمة ومن نوايا اناس قامروا على طيبة غيب شيمتُه الغدر.  
لم تكن القضية بالنسبة لنا ولن تكون أي اليمينين حليفنا؛ فأمامنا كل الجهات عدم، والواقع كالسيف مشهر إما في حلوقنا أو في ايادينا ؛ ولا خلاص لنا ولا خُلاصات إلا في تعاليم الندى للعطش أو في رقص الديوك أو في العشق على طريق النحل والصدى. كان اغواء الصلاة في الشرق مصلًا مذ سحرت عشتار صدر الفجر  وأرقصت مزامير داهود خواصر العذارى، ومذ أغشت عصا موسى عيون المدى .
الاحلام جميلة لكنها لن تحصل بلا نوم، والنوم في مواقعنا عسير بدون هدأة البال والاستقرار ؛ والأشجار تموت واقفة لكنها أبرك وأفيد وهي خضراء ماوية؛ فلا وقت لدينا للمزايدات ولا لليأس؛ ومن يرى الفاشية غيمة عابرة، فليقنع ويكتف بلعنها من شرفته ولينتظر حبر القمر؛ ومن يراها نزوة عربيد ثمل، فليحاول اغراقها بالبصاق أو فليدع عليها بالبرص.
نحن بين نارين، نار اعدائنا ونارنا، وستكون نجاتنا ممكنة اذا اطعنا عقولنا وتخلينا عن مداعبة القدر.
اتصل مئات الأصدقاء، يهودًا وعربًا،  بجمانة وبنا ليعبروا عن تضامنهم وعن شجبهم للاعتداء عليها وعلى صديقتها. بعضهم حثنا على تقديم شكوى لدى الشرطة مع ان معظمهم أكدوا انها لن تفيد.
كان مريحًا ان نشعر بوجود الأصدقاء والحلفاء بين ركام الحطام، وجميلًا ان نسمع انهم يحبونا وانهم يشعرون مثلنا كضحايا يجب أن تنتفض إزاء فكي وحش لاحق جمانه في المقهى، لا لأنها عربية فحسب، بل ولأنها صوتت للقائمة المشتركة.  

الأحلام الأردوغانية لعودة الخلافة العثمانية/ أشرف حلمى

ما زالت الاحلام الاردوغانية بعودة الخلافة العثمانية تراود الأتراك بعد قرابة المائة عام من سقوطها فى ١٩٢٢ اى بعد ثلاث سنوات من الان للسيطرة على القارة الأوروبية , جزء  كبير من اسيا أضافة الى شمال أفريقيا , أستغل الأتراك الاٍرهاب المتأسلم الذى ضرب العالم فى الآونة الاخيرة نتيجة التعاليم الوهابية التى غيرت عادات , تقاليد , معالم ودساتير  دول العديد من المنطقة , وخطط الأتراك لغزو هذه الدول ففى شمال أفريقيا قامت تركيا بدعم الجماعات الارهابية لوجستياً ومالياً وعلى رأسها جماعة الاخوان المسلمين وتزعمت ثورات الربيع العربى للقفز على حكم البلاد لضمان ولاء حكامها للخليفة المنتظر  , كما دعمت تنظيم داعش الارهابى فى دول اسيا لتغيير الأنظمة الحاكمة ايضاً , اما فى أوروبا بعد فشل تركيا غزو أوروبا عبر بوابة الانضمام الى الاتحاد الأوربي أستغلت الادراة العثمانية قوانين الهجرة الرخوة للدول الأوروبية وقبولها المهاجرين غير الشرعيين الفارين من دول الشرق الاوسط وعملت على تهجير الإسلاميين والدواعش عبر حدودها الى أوروبا انتظاراً لساعة الصفر لإحداث الفوضى أملاً ان يكون الحالم بالخلافة هو المنقذ .

قبل عدة سنوات نجحت ثورات الربيع العربى بداية من تونس بدعم أوردغانى مروراً بمصر نتيجة تغلغل الاسلام السياسى داخل مفاصل دول شمال افريقيا على مدار ٦٠ عاماً تسببت فى فساد انظمتها وتعاونت مع قيادات جماعات الاسلام السياسى ( أخوان وسلفيين ) التى انتقضت فيما بعد على حكم البلاد وجاءت بأنظمة إسلامية اخوانية , وسرعان ما سقطت نتيجة رفض شعوبها وجاءت بانظمة جديدة دون تطهير مؤسساتها ووزاراتها من عملاء أوردغان الذين يتلاعبون بمشاعر المصريين سواء سياسياً او دينياً بواسطة دساتير وقوانين مطاطية عملت على عدم إستقرار البلاد أمنياً وأقتصادياً .

مع كل أزمة تواجه البلاد يتجدد الحلم الاردوغانى  بالتعاون مع قناة الجزيرة القطرية لسقوط الجيش المصرى الوحيد بالشرق الاوسط بعد ضعف باقى الجيوش العربية فعمل النظام الاردوغانى على إعادة المسرحية الهزلية قبيل زيارة السيد عبد الفتاح السيسى لحضور  جلسات الجمعية العامة للامم المتحدة بنيويورك وذلك بإستخدام عملاء الداخل والخارج فى محاولة لنشر الفوضى وتفتيت الجيش المصرى لعودة فرض الهيمنة العثمانية على المنطقة بعد ان امتدت يدة الاثمة الى غاز  البحر المتوسط ومحاولته غزو دولة كامل الاراضى القبرصية .

لقد بدد الفراعنة حلم الفتى الاردوغانى الطائش والحفاظ على مصر بقيادة السيد عبد الفتاح السيسى الذى كشف للعالم خطط أردوغان لغزو الشرق الاوسط فى حديثة لرئيس أقوى دولة فى العالم بعدم السماح لوصول الإسلام السياسى للحكم فى المنطقة , وايضاً حديثة عن المواطنة اثناء اجتماعه مع قيادات الطائفة الإنجيلية الأمريكية واكد خلاله إعلاء مبادئ المواطنة والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أية أسس دينية أو طائفية أو غيرها فضلاً عن ترسيخ ثقافة التعددية وقبول الآخر على ان يتم تنفيذ ذلك من خلال الممارسات الفعلية على أرض الواقع بهدف ترسيخ تلك المبادئ والقيم .

لقد حان الأوان لإتخاذ خطوات هامة قوية على ارض الواقع كما أشار سيادة الرئيس وإصلاح ما أفسدته الأنظمة السابقة التى مهدت الطريق لوصول الاسلام السياسى لحكم البلاد بعد ثورة يناير وسقوطه بعد عام فى ثورة يونية وغلق الباب أمامه للوصول للحكم مرة اخرى ومنها تطهير جميع مؤسسات الدولة من العملاء وإلغاء جميع مواد الدستور والقانون التى بنيت على أسس دينية وطائفية وتفكيك كافة الاحزاب الدينية وحذرها إضافة الى فصل الدين عن السياسية والعكس لإصلاح الخطاب الدينى . 

ميّ زيادة ومسألة النسوية/ مادونا عسكر

"لا أطلب للمرأة المساواة بالرّجل لاعتقادي أنّها تفوقه سموّاً بقلبها. والنّظريّات الّتي ترمي إلى تسويتها بالرّجل تحول حتماً بينها وبين عالمها الخاصّ الّذي به- به وحده- تظلّ محلّقة فوق كلّ أفق يستطيع الرّجل في جدّه وعبقريّته أن يبلغه. فالمساواة هبوط لها، لا صعود." (ميّ زيادة)
إذا كانت ميّ زيادة قد استحقّت أن تكون رائدة من رائدات النّهضة النّسائيّة العربيّة الحديثة، فلّأنّ ميّاً وعت أنّ ما للمرأة للمرأة وما للرّجل للرّجل. ولئن كانت ميّ على درجة عالية من الثّقافة، مطّلعة على تاريخ المرأة في الفترة الّتي سبقت سجنها، من تّصوّرات وعقائد انتزعتها من مكانها الحقيقيّ الأصيل، فهمت أنّ المساواة هو انحدار للمرأة من ذلك المكان الأصيل لا ارتقاء لها. 
المساواة بين شخصين هي جعلهما متعادلين ومتماثلين. ما لا يحقّق صورة المرأة وذاتيّتها، لأنّها كما أشارت ميّ تفوق الرّجل سموّاً بقلبها. ولا ريب أنّ ميّاً مدركة للتّكوين العميق للمرأة المختلف عن الرّجل على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ، فكيف لها أن تماثل الرّجلّ وتتخلّى عن تلك السّمات الّتي لا يمكن للرّجل مهما فعل أن يبلغها؟ وبإشارتها إلى عالم المرأة الخاصّ تحدّد ميّ للمرأة ملامح حضورها في محيطها ومجتمعها بل في الكون بأسره. هذا العالم الّذي لا يمكن للرّجل أن يخترقه حتّى وإن نادى بتحرير المرأة وتثقيفها وتعليمها. فهو ينظر إلى الموضوع من خارج المرأة، ولا يدخل في تفاصيلها وتكوينها وتركيبتها. لذلك فميّ تقدّر مبادرة الرّجل أمثال المعلّم بطرس البستاني ورفاعة الطّهطاوي وقاسم أمين في المناداة بتعليم المرأة وتثقيفها، إلّا أنّها أدركت أنّ من يحرّر المرأة هي المرأة نفسها، وإلّا وقعت في فخّ قمعٍ من نوع آخر. تقول ميّ في محاضرة لها بعنوان "غاية الحياة" ألقتها في جمعيّة "فتاة مصر الفتاة": "صاح قاسم أمين في القوم يهديهم، ولكنّه لم يفته أنّ تحرير المرأة في يدها أكثر منه في يد الرّجل"، فالمرأة تعرف حاجاتها العميقة وتتبيّن أزمتها المؤلمة الّتي من خلالها تطالب بحريّتها. لكنّ هذه المطالبة لا تثمر ولا تلقى وقعاً مؤثّراً، وقد لا تنجح إلّا إذا تمّ توجيهها بصرامة ووعي واتّزان حتّى لا تنزلق المرأة في مطبّات الفوضى والاستهتار. لذلك نرى ميّاً تحثّ المرأة لا على المطالبة بحقوقها وحسب، بل على إدراك واجباتها والتّمسّك بها وتطوير أساليب التّعامل فيها لكي تتحقّق حقوقها. فمن لا يعرف واجباته ويلتزم بها لا يستطيع أن يطالب بحقوقه. وهذه إشارة مهمّة لكون ميّ تعاملت مع هذا الموضوع إنسانيّاً أكثر منه أنثويّاً. وبهذا تكون قد تناولت حرّيّة المرأة بشكل أكثر عمقاً ورقيّاً. 
في مقال لها عن "الفتاة المصريّة وموقفها اليوم" نُشر في صحيفة "السّياسة" تواجه ميّ بشدّة الصّحافة المتهكّمة على الفتاة والمنتقدة لها باستهتار فتقول: "إنّ موقف الفتاة أهمّ وأعسر من أن يتناوله المتشائمون بالتّشنيع والزّراية والتّنديد ورمي ابنة مصر الحديثة بالغلوّ في التّبرّج، والشّرود عن حدود الاحتشام، وإغفال اللّياقة والكرامة فيما خطت إليه من بسطة الحرّيّة. وموقفها أدقّ وأرفع من أن يغمره المدّاحون بذلك الصّنف الهلاميّ المائع من الثّناء الّذي يخيّل أنّه بضاعة "تحت الطّلب" بالجملة سواء أكان المطلوب منها بعضها، أو ما يختلف على صنفها كلّ الاختلاف؛ ففي الحالين إنّما يفسد من الفتاة ذوقها، ويعكّر عليها وجدانها، ويلتبس أمامها وضوح المعاني والأشياء، ويضاعف في تشويش نفسها الحائرة." وفي هذه السّطور لغة شديدة القوّة، تنطلق فيها ميّ من داخل المرأة إلى خارجها، أيّ من دوافعها الشّخصيّة الكامنة في نفسها إلى المجتمع المحيط بها. وما انتقادها لهؤلاء المتشائمين والمسيئين للفتاة إلّا توجيه للفتاة نفسها في دعوة ضمنيّة لاتّخاذ مسار متّزن حتّى تتحرّر نفسها فلا تتشوّش. فمن جهة تواجه معها الانتقادات المتناولة سلوكها، ومن جهة أخرى تحمل المجتمع على إدراك تفاصيل هذا السّلوك لكي يتفهّم بدل أن ينتقد. فتضيف: "ابنة هذا الجيل كابنة كلّ جيل، لها عيوب ولها حسنات، وإن بدت العيوب مكبّرة لأنّنا نعيش على مقربة منها في حين ضربت بيننا وبين الماضي الحجب. وتشترك في تكوين هذه الميول عوامل شتّى: من وراثة، إلى وسط، إلى ألم، إلى سرور، إلى فرق بين عقليّة هذا الجيل وعقليّة الجيل الّذي تولّى أمره، إلى وحدة الفتاة بين نزعاتها وحاجاتها وحيرتها وسط قوم قلّ أن يعترفوا بأنّ لها شخصيّة غير شخصيّتهم  وأنّها تعيش في زمن غير الّذي كانوا فيه فتياناً". وهنا تكمن أهميّة إدراك كيفيّة نقل المجتمع من عقليّة إلى عقليّة متطوّرة تتيح له استيعاب الفتاة وتفهّم سلوكها وتوجيهه والولوج في تكوينها الذي تأثّر بالتّربية والمجتمع  وتوعيتها  على بناء ذاتها وفهم معنى حرّيّتها. فالانقلاب الحاصل في داخل الفتاة ينبغي ضبطه بالتّفهّم والتّوعية والاستيعاب والتّوجيه. 
لذلك فالحرّيّة عند المرأة بحسب مي زيادة تتكوّن من عنصرين أساسيّين: التّعليم والعمل. التّعليم الّذي يسهم في تثقيفها وعقلنتها وارتقائها الفكريّ والعلميّ وتهذيب طباعها وتنمية ملكاتها ومواهبها. والعمل الّذي يحقّق حرّيّتها بمعناه العميق لا بالمعنى الّذي جنحت إليه المرأة فأغرقها بنوع من الفوضى. إذ إنّها حين غرقت في العمل، غالباً ما تخلّت عن واجباتها الأساسيّة كأمّ وزوجة ومدبّرة منزل. وتذهب ميّ عميقاً في هذا الموضوع لتشير بدقّة إلى عامل الوقت المهدور حتّى وإن نالت المرأة تعليمها. فالأوقات الّتي تقضيها دون عمل كفيلة بتحطيم قدرتها على التّطوّر والارتقاء. "فماذا تراها تصنع في هذه الفترة من الزّمن الطّويلة كانت أم قصيرة؟ بأيّ الأفكار وأيّ العواطف وأيّ الأعمال تراها تشغل ساعات النّهار والفراغ؟ وكيف تتصرّف في هذا الوقت حساسيّتها الوثّابة النّاضرة الفيّاضة؟"، التّعليم والعمل يسهمان في تكوين الشّخصيّة الإنسانيّة. فالتّعليم الّذي يهدف إلى استنارة العقول يكمّله العمل الّذي يطوّر هذا العقل ويمنحه خبرات عديدة تمكّن المرء من خوض غمار الحياة بعيداً عن التّفاهة والسّخافة والسّطحيّة والاهتمام بما لا ينفع.  
بالمقابل تتحقّق حرّيّة المرأة بالنّسبة لميّ زيادة في واجباتها أوّلاً، فتقول:"يصيحون: علّموا المرأة لتستنير، علّموها لتكون حرّة، علّموها لتشعر بكرامتها ككائن إنسانيّ، علّموها لتتعرّف حقوقها فتخرج مسلّحة بها إلى ميدان الحياة الفسيح... وأنا أقول: علّموا المرأة  فيكون لها شرف الرّجوع إلى داخل المنزل، ففي داخل المنزل الحرّيّة الحقّة والكرامة الإنسانيّة الحقّة، وانتصار الحقّ انتصار الواجب، وفي داخل المنزل ميدان الحياة الفسيح والعمل الأعظم الّذي يذيع النّور في بني الإنسان. إنّ المرأة الّتي لا تدرك عظمة المنزل- سواء أكان قصراً أم كوخاً- ولا تقدّر أهمّيّته وعذوبته ومبلغ تأثيرها فيه فتلك امرأة جاهلة ولو هي فازت بنصف دستة من الشّهادات الدّنيا والعليا والّتي هي بين بين!". 
إنّ ما رنت إليه ميّ حرّيّة مسؤولة وواعية ومتّزنة، فلا حرّيّة من دون هذه العناصر الثّلاثة وإلّا استحال حال المرأة فوضويّاً مدمّراً. ولا شكّ أنّ في قولها توجيهاً للمرأة للحفاظ على مقامها كزوجة وأمّ وبذلك تماهٍ لصورتها مع الرّجل. فالعودة إلى داخل المنزل عودة إلى علاقة أفضل مع الرّجل، تتّسم بالوعي والتّبادل الفكريّ والعاطفي لكن على مستوى ندّين لا يختلف الواحد عن الآخر إلّا بالتّركيبة الإنسانيّة. المرأة الحرّة هي تلك الّتي تجيد إدارة محيطها وتجيد التّأثير فيه من خلال تعاطيها معه. ولقد أشارت ميّ في مكان آخر أنّ المرأة الغارقة في العبوديّة تربّي جيلاً من المستعبدين. وبالتّالي فحريّة المرأة مرتبطة بحرّيّة الأجيال القادمة ولا ترتبط بها فقط. 
إلّا أنّ ميّاً لم تكتفِ بالاهتمام بتحرير المرأة، وإنّما انتقدتها بهدف استفزازها للعودة إلى واجباتها لتؤكّد حرّيّتها الحقّة. فقد آلمها أن ترى الأمّهات منشغلات عن أطفالهنّ ومنصرفات عن مسؤوليّاتهنّ: فخاطبتها قائلة: "صغيرك ينادي فلماذا لا تجيبين، يا أمّ الصّغير؟ لست بالعليلة لأنّي رأيتك منذ حين تميسين بقدّك تحت قبّعتك والجواهر تطوّق العنق منك. أنت صحيحة الجسم، فلماذا لا تسرعين؟ ألا تحرقك دموع الطّفل الّذي لا ترين؟ ألا يوجعك الشّهيق الّذي لا تسمعين؟ عودي من نزهاتك الطّويلة وزياراتك العديدة، وأحاديثك السّخيفة، عودي واركعي أمام الصّغير واستسمحيه عفوا." (بكاء الطّفل- المؤلّفات الكاملة لميّ زيادة- تحقيق سلمى الحفّار الكزبري- ص 306)
يلفت د. جوزيف زيدان النّظر في "الأعمال المجهولة لمي زيادة" إلى قلة كتابة ميّ حول تحرير المرأة إذا قارنّاها مثلاً بباحثة البادية الّتي رغم قصر عمرها، كتبت مجموعة كبيرة من المقالات عن قضيّة المرأة. كما يشير إلى أنّ تلك الكتابات الّتي كتبتها ميّ حول المرأة تتّسم بالاعتدال والتّعميم وتجنّب الخوض في أمور حسّاسة مثيرة للجدل كموقف الإسلام من المرأة. ويعيد ذلك إلى حذر ميّ من الخوض في هذه المواضيع الدّقيقة لأنّه تمّ انتقادها بشدّة من الأديب المصري محمد لطفي جمعة عام 1922 بسبب بعض آرائها. إلّا أنّني أرى ميّاً امرأة كتبت الكثير في القليل الّذي بين أيدينا، وإذا صحّ أنّها توخّت الحذر فلأنّها امرأة لا تحبّ المناداة المتهوّرة والصّراخ الفارغ، وإنّما تسعى إلى بلوغ هدفها بذكاء حادّ. فالقوّة لا تكمن في التّعرّض لمواضيع مثيرة للجدل بقدر ما  تكمن في القدرة على إيصال الفكرة واستفزاز العقل ليبحث فيها وعنها. ومن يقرأ كتاب ميّ زيادة عن ملك حفني (باحثة البادية) يهيّأً إليه أنّ ميّاً مازجت صوتها بصوت باحثة البادية وأكّدت آراءها وتطلّعاتها بما يخصّ المرأة. وبعملها الدّؤوب وتفاعلها الحقيقيّ مع الحركات النّسائيّة  وترصّدها رسائل القرّاء في باب أوجدته في القسم النّسويّ الاجتماعي من "السّياسة الأسبوعيّة" تحت عنوان "خلية النّحل"، لتمكين القرّاء من طرح أسئلتهم وتولّي آخرين الإجابة عنها، استحقّت ميّ أن تكون من رائدات النّهضة النّسائيّة والإنسانيّة. والأهمّ أن من يقرأ اليوم من السّيدات كتابات ميّ زيادة عن تحرير المرأة يعيد النّظر في أمور كثيرة بلبلت المرأة وشوّشت تفكيرها ونفسها ولعلّها أغرقتها في الفوضى دون أن تشعر. ما يعني أنّ حضور ميّ اليوم بحجم حضورها في الماضي، وقوّة تأثيرها في تكوين المرأة يعيد التّوازن إلى من فقدن توازنهنّ ويجدّد فكر من اعتبرنَ أنّ الحرّيّة  خروج عن الواجبات وإفراط في الأنانيّة وغلوّ في الاهتمام بالظّاهر. 
"المرأة امرأة قبل أن تكون حسناء"، تقول ميّ. ولفظ امرأة ينطوي على معانٍ أسمى وأجلّ وأعظم وأعمق من ظاهر يحدّد ملامح الحرّيّة أو مساواة ملتبسة تدخل المجتمع  والأجيال في فوضى مدمّرة. لقد كانت ميّ صاحبة فكر عميق تمسّ صلب المسألة النّسويّة بوعي متقدّم ورؤى ناصحة قبل أن تشيع تلك الحركات ويختلط الحابل فيها بالنابل، ويمتزج الوضوح بالغامض.