تحليق في ديوان فلسطين في أناشيد محمد نصيف/ زياد جيوسي


   محمد نصيف شاعر وصديق أكن له كل مودة واحترام، عرفته اعلاميا قبل أن أعرفه شاعرا على هامش معرض تراثي يوثق ذكرى نكبة فلسطين في أيار 2008م، وكنت قد قدمت إلى عمَّان بعد غياب قسري بحكم الاحتلال الصهيوني زاد عن عقد من الزمان، وبعدها عرفته محلقا في فضاء شعر البحور الذي يشدني أكثر من غيره، فأصبحت حريصا كلما كنت في عمَّان أن أحضر أية أمسية شعرية سواء له أو مشاركا فيها، ومن بين خمس دواوين شعر من أشعاره تفرغت لها وقرأتها، أحببت أن يكون تحليقي الأول بقلمي بهذا الديوان، وإن كنت قد سجلت ملاحظات عن ديوان "عشتار تشرق من جديد" وديوان "عشتار وجراح الأندلس"، والتي آمل بمشيئة الله أن يكون لي تحليق خاص بهما، والشاعر محمد نصيف شاعر من العراق الذي يسكن القلب، وشاعر على مستوى الساحات العربية والمشاركة بالمهرجانات الشعرية والأمسيات على امتداد الساحات الشعرية العربية.

   الديوان صدر في عمَّان من 86 صفحة من القطع المتوسط، وثلاثة عشر قصيدة اضافة للمقدمة وتعريف بالشاعر في النهاية، صمم الغلاف الفنان التشكيلي عمر البدور وفي الغلاف الأول مشهد للأقصى وقبة الصخرة والأقصى يمتد الى الغلاف الأخير اضافة لصورة الشاعر، والغلاف الأخير يحمل خمسة أبيات شعرية عن القدس، وأهدى الشاعر ديوانه "إلى كل قلب ينبض بحب فلسطين ويؤمن بأن المقاومة طريقنا الوحيد للحرية، وقدم للديوان الشاعر نفسه بدأها بقوله: "فلسطين القضية والإنتماء والحب والجرح والنكبات والنكسات"، وأنهى بالقول عن القصائد: "بعضها اختص بجرح فلسطين بالكامل وبعضها الآخر كتب لجراح أمتنا ولكن فلسطين كانت حاضرة في تفاصيل الوجع".


   ومن هنا سأشير في هذا المقال إلى ما وجدته من محاور في الديوان مستشهدا ببعض الأبيات الشعرية:

   المحور الأول هو فلسطين بأقصاها وقدسها وغزتها: فكما اشار الشاعر وجدت فلسطين والقدس وجراح أمتنا محور أساس في الديوان، والأقصى والقدس أخذا مساحة ملحوظة من قصائد الشاعر، فهو وكما أشار في المقدمة "فلسطين القضية والإنتماء والحب والجرح والنكبات والنكسات" فيشعر القارئ أن فلسطين تسكنه وإن لم يسكنها، وهذا ناتج بالتأكيد عن النفس العروبي القوي في العراق، وعن الانتماء القومي العام للوطن العربي ولفلسطين بشكل خاص بتربيته الفكرية، حيث سنلاحظ أن الديوان بدأ بقصيدة مهمة كتبت يوم ملحمة طوفان الأقصى تحت عنوان "طوفان الأقصى في تشرين"، وبدأها بالبيت: "آتون نحوك يا أقصى على لهب.. آتون نزحف طوفانا من الغضب"، وهي قصيدة طويلة امتدت على مساحة ستة صفحات من الشعر الحماسي العابق بالأمل والثقة بالنصر، وفي قصيدة "القدس وجرح النكسة" يقول أيضا: "تنوح في المسجد الأقصى قصائدنا.. نوح الحمام بنجوى حزنه سجعا"، ويستمر التحليق في عشق الأقصى في قصائد الشاعر، فنرى روحه تبوح بنص "أرجوزة للمسجد الأقصى، أرجوزة لغزة" بالقول: "فالمسجد الأقصى لنا..نبينا به ركع".

   ويخاطب القدس بنفس القصيدة "طوفان الأقصى في تشرين" بالقول: "يا قدس أنت العروس اليوم فابتهجي.. تبختري في فساتين السنا القشب/ يا قدس يا مريم العذراء دانية.. لك القطوف فقري في حمى خصب"، ويتجلى الأمل واليقين بحرية الأقصى بقوله في أواخر القصيدة: "سندخل المسجد الأقصى كدخلتنا.. الأولى نتبر ما تبنون من قبب"، وتبقى القدس تسكن روح الشاعر وقصائده فنراه في قصيدة "القدس وجرح النكسة" يتألق من جديد فيقول: "خمسون عاما وجرح القدس ما هجعا.. وصمتنا عن أذاها زادها وجعا"، وفي"أرجوزة للمسجد الأقصى، أرجوزة لغزة" أيضا يخاطب القدس بالقول: "للقدس سيف مشرع.. به نعيد ما انتزع"، ويواصل التحليق في قصيدة " القدس ترف بأجنحة الجرح" فيقول: "يا قدس ردي، أجيبي صوت من نزفا.. ومن يئن على شكوى هواكِ غفا"، ويقول في نفس القصيدة: "القدس مذبوحة تعتاد آسرها.. تعاقر الحزن حتى أدمنت دنفا"، ويقول أيضا عبر هذه القصيدة الجميلة واصفا ما جرى للقدس: "جاءتك يا قدس من شتى الدنا زمر.. ملعونة تحمل الأوهام والخرفا" وينهي القصيدة بالقول: "يا قدس إن كؤوس الحزن تدمننا.. وحلمنا قبل أن يرويْ الظما خُطفا".

   وفي قصيدة "طوفان الأقصى في تشرين" نراه يخاطب فلسطين بالقول: "هذي فلسطين درب الحق فانتسبوا.. تاجا من العز تهدي كل منتسب/ هي فلسطين أرض الأكرمين حمى.. والمصلحين اعوجاج العالم الخرب"، ونرى غزة في قصيدة "مواقد الجرح" التي يقول فيها: "اليوم يا غزةُ، التاريخ يكتبهم.. على صمودك سطرا كله خجل"، ويخاطب غزة في آخر بيت من نفس القصيدة بالقول: "ولترفلي بالسنا يا غزة انفرجت.. يليق بالثابتين الزهو والرفل"، وفي قصيدة "الذئب يبتسم" يقول: "تستنجد العرب قدس دونما أمل.. كالشاة صارخة والذئب يبتسم"، ويكمل القول عن فلسطين: "ترنو فلسطين للأعراب يائسة.. وأهلها بعد عزَّ دورهم خيم"، ويعود للقدس بالقول: "نامت سكارى جموع النفط أرهقهم..لهوٌ إذ القدس لا نوم ولا حلم"،

   المحور الثاني هو العروبة: ورغم التمزق العربي ورغم خذلان الدول العربية للعراق ولفلسطين إلا أن الحسن القومي لم يضعف لدى الشاعر، فهو يميز بين الأنظمة وبين الشعب المغلوب والمقهور بقوة السلاح والتجويع والقمع، فيقول في قصيدة "ذاكرة الألق والجرح": "بنو العروبة في البلوى لنا سند.. ولن تخيب نفوس هم أمانيها"، وكذلك في قصيدة "شكوى الحروف" التي رثى بها الشاعر الأردني إدوارد عويس حيث قال: "حروفك البكر كم أشعلتها شغفا.. هوى العروبة من أركانها اندفقا"، بينما في قصائد أخرى ينفطر قلبه الما من الأنظمة العربية وما آلت اليه العروبة، فنراه في قصيدة "القدس وجرح النكسة" يقول: "خمسون عاما وبعض العرب في سفه.. يستلطفون من الأفعال ما شنعا"، بينما في قصيدة "القدس ترف بأجنحة الجرح" يصف حال العروبة ويشخصها بقوله: "حال العروبة يا جرحا يحار به.. وصفُ الدواء فأعيا طب من وصفا"، وهو يتألم كما نتألم مما وصلت له الأمة من انحدار فيقول في قصيدة "الذئب يبتسم": آه على أمتي من شر ما صنعوا.. لم ينج من حقدهم قدس ولا حرم"، ويقول أيضا مخاطبا الشهيد سليمان خاطر: "آه سليمان إن العرب في وسن.. ناموا على خور حفت بهم سُدم".

   وفي هذه القصيدة يتنقل بين مدن وعواصم عربية فيذكر بيروت بالقول: "بيروت يحرقها أبناؤها فغدت.. على جوانحها الآهات تلتطم/ آه.. لكم بت يا بيروت خائفة.. غطت شوارعك الأحقاد والظلم"، ويذكر الشهيد في مصر العروبة سليمان خاطر فيقول:"إن الشهيد في مصر شيَّعه.. فخر مضى وانطفت في إثره الهمم/ يا أهل (أكيادَ)، يا نيلا ويا هرما.. إن غِيل فذ فكيف العرب تحترم" وأكياد قرية الشهيد، ويواصل التجوال في قصيدة "الفارس الأبهى" فيقول: "دمشق تنزف لا قلبٌ يحن لها.. وكفها الأهلين تختضب"، ليعرج على صنعاء بالقول: "صنعاء ترسف في أصفاد آسرها.. نهارها مثل وجه الليل مكتئب"، ويمر على مكة بالقول: "ومكة الآن حيرى قاتم غدها.. حلم المجوس على أسوارها يثب"، ويعود لمصر ثانية بالقول: "ومصر مغلولة الكفين مثقلة.. بقيدها وهي بالآمال ترتقب".

   ويفرد الصفحات بقصيدة كاملة لمصر  في قصيدته "يا مصر عودي" فيقول في مطلعها: "ظمئنا إلى غيث العروبة هاطلا.. فيا مصر فيضي وابلا فاض وابلا"، ويشتد ألمه على ما آلت اليه العروبة في قصيدة "عذرا أيها العرب" بالقول: "في كل يوم لنا دمع نكفكفه.. على العروبة نبكي زهوها الفاني"، ويشتد المه بنفس القصيدة بالقول: "يا عُرب معذرة فالهم أقعدني.. وأثقل القهر بالأقذاء أجفاني"، ويزداد الألم بتساؤل مؤلم: "يممت يأسي للأنساب اسألها.. هل يعلم العُرب ما يجري ببغدان؟"، وفي قصيدة "الفارس الأبهى" يقول: "والقدس جرح تناسينا مواجعه.. ما عاد ينبض في اعراقِنا غضب"، وفي قصيدة "يا مصر عودي"يتجلى ألمه بالقول: "لقد أطفأوا شمس العراق لآمة.. أبى حاكموك العيش إلا اراذلا/ وقد حطموا للقدس أسوار حلمها.. فكانوا بأيدي الغاصبين معاولا".

   المحور الثالث هو العراق: وسيلاحظ القارئ للديوان أن الشاعر يربط في العديد من أبيات قصائده بين فلسطين والعراق، وبين بغداد والقدس، وبين الفلوجة وغزة، وقد أشار لذلك بالقول: "عندما أنظر إلى بغداد أرى القدس بجراحها، وعندما أنظر إلى غزة، أرى الفلوجة وهي تخضب التاريخ بحناء البطولة"، وقد وضع هذه العبارات أعلى قصيدة كتبها أثناء العدوان الصهيوني على غزة عام 2008، وقصيدته المعنونة "مواقد الجرح" يقول فيها: "بغداد والقدس والأشعار والفشل.. مواقد الجرح فيها الروح تشتعل"، ويخاطب القدس وألم بغداد يجتاح روحه بالقول: "يا قدس لا تيأسي فالمر في فمنا.. وأنَّ حزنك في بغداد متصل"، ويربط نكبات فلسطين بالعراق بالقول: "حتى ابتلينا بجرح في العراق وما.. للنائحات على أوجاعه قِبل"، ويكتمل الألم بالقول: "هناك قدس هنا بغداد نازفةٌ.. هنا دماء هنا موتى هنا وجل".

   ويكمل الربط بين فلسطين والعراق بنفس القصيدة بمخاطبة غزة وخيانة الأعراب لها فيقول: "هنا العراق هنا في غزة ذبحت.. كل المروءات والأقوال والمثل/ خانتك يا غزة الأعراب وارتهنوا.. سيوفهم، عند حانات الأسى ثملوا/ يا غزة الصبر ما في القوم من مدد.. فمن تسلح صبرا ليس ينخذل"، وهذا الذي يتكرر الآن منذ قرابة العام بكل ما تتعرض له غزة بدون أية نصرة من أنظمة العرب، فما أشبه اليوم في البارحة، ويربط ببن الفلوجة وغزة بقوله: "يا أخت فلوجة تلك التي عبرت.. على الردى لم يشاغل جرحها ملل"، وفي قصيدة "من وحي المشانق"  يقول: "ظلت فلسطين صيحات ترددها.. على المشانق حتى أخرسوا الودجا".

   وفي قصيدة "الذئب يبتسم" يخاطب بغداد: "بغداد فوق الذرى تزدان فاخرة.. في ظل أسادها بالعز تتسم/ بغداد تغفو بحضن المجد آمنة.. هيهات يفزعها من نومها قزم"، لكن ألمه يتجلى في قصيدة "عذرا أيها العرب" فيقول: "ماذا سأحكي إذا حدثت عن وطني.. وهو العراق الذي ما مثله ثانِ"، ويقول أيضا: "قد أحرقوا كل شيء فيك يا وطني.. عشقي وشِعري وأحلامي وألحاني"، ويكمل القول: "مشى العراق على حمى خناجرهم.. ما بين مستهزئ فيه وطعَان"، ويتصاعد ألمه في قصيدة "الفارس الأبهى" فيصرخ: "جرح العراق بوسع الآه محترق.. ويصطلي بلظاه النخلُ والقصبُ"، ويتألم مع بغداد في نفس القصيدة بالقول: "تئن بغداد لا حلمٌ يطوف بها.. والبؤس يسكنها والأمن مستلب"، وهوى بغداد والعراق يتجليا في قصيدة "ذاكرة الألق والجرح" وأستشهد منها بالبيت الأخير حين يقول: "هذي قبور العراقيين شاهدة.. والأرض تعرف منهم صدق فاديها"، فمثلث الشهداء في مدينة جنين الذي اقف دوما لقراءة الفاتحة على ارواح شهداء العراق وفلسطين، تنطق فيه قبور شهداء العراق.

   وأيضا أخذ الرئيس الشهيد عدة قصائد في الديوان منها قصيدة "من وحي المشانق" ومن ابياتها: "في حضرة الموت يهتز الورى هلعا.. وأنت كالرمح لم نلمع به عِوجا"، وأيضا قصيدة "الفارس الأبهى" فيقول: "تضيق عن وصف ما نلقاه أحرفنا.. ينوح نوح الثكالى بعدك العرب"، وتألق الشاعر بوفائه ومحبته للرئيس الشهيد في قصيدة "وظل وجهك فينا ساطعا قمرا" ويقول فيها: "تخط فوق جبين الشمس منزلة.. لأمة سكنت بعد العلا حُفرا".

   وفي النهاية سعدت بالتحليق في ديوان كان عابقا بالمشاعر الجياشة والعواطف المختلفة المتراوحة بين الحزن والفخر والألم والأمل، وأحاسيس حب ووطنية وانتماء عروبي، جال بنا الشاعر فيه من خلال شعر البحور مع المحافظة على الجرس الموسيقي، بأحلام وطن ومشاعر انسان رابطا بين التراث والتاريخ، حيث اشار لذلك اكثر من مرة ومنها اشارة لهارون الرشيد وبابل، وبين الحاضر وحلم الغد، ولعل ما يشد المستمع والقارئ لشعر محمد نصيف قوة اللغة وتكثيفها واستخدام الفصحى القوية بأشعاره، إضافة للوحات المرسومة بألوان الحروف، فمنحني الشاعر وشعره لحظات من الجمال لا تنسى.

كلمات محنطة/ بن يونس ماجن



1

اخرج من مسامات 

قصيدة لا تشبهني

ولا تقاسمني 

قوافي الهواجس

ولا بحور المتاهات

2

في جيب معطفي القديم

مدية حادة

متقلبة المزاج

لم تكتمل نمو شفرتها

3

بعض القصائد

كأنها نسخة رديئة

من البضائع الصينية المقلدة

4

العالم يتناسل

سوءات وعورات

ينبت فوقها ريش غراب

يأكل من راس الحرباء

5

قناديل العتمة

تلاحق مسافات الظل

أخر شعاع

سينحر نفسه

6

رقع مسروقة

من كفن مستعمل

ليتامى في معتقل "اسرائيلي"

7

وقد فأجتهم غزة

بالحجارة والبندقية

وسيف مسلول 

على رقاب الطغاة والخونة

8

في سلة القمامة

منفضة السجائر

تحتضر

حزينة تلك الأعقاب

9

تخرج خيوط الشمس

من فتحات الشفق

وتغازل المصابيح الليزيرية

10

سبعة مليارات انسان

مصابون بمرض عضال  

اسمه "اسرائيل"      

11

دائما تخشى الغمامة المطر

أن يفض بكارتها

فتصبح سرابا مبللا

12

أكتب الشعر في وقت فراغي

وأملأ قراطيس ودفاتر بخربشات تافهة

وقد ارتقي شهيدا

عندما اقتل قصيدة رديئة

الفضيلة والتخويف/ دارين المساعد



ما الذي يجبر الإنسان على الصمت وتجاهل السؤال إذا كان يملك الاجابة ؟  إنهما الحياء والجهل  لأنهما صفتان لا تلتقيان بالمعنى إنما تشتركان بالحاجة الى المعرفة والتطوير . فإن تسليط الضوء بالتوعية على كل جوانب الحياة يغلق المسافات بينهما فلا تشتركان في شيء . لكن في موضوع الثقافة الجنسية بالتأكيد يتولّد الجهل من الحياء والحرج من السؤال وطلب الفهم للمعاني والرغبات  والاطلاع على الحاجات ومسبباتها . أما القلق من حكم الآخرين هو قناع تشكل رغما عنّا في الطفولة و ارتديناه طوال سنوات حياتنا . بتفعيل الوالدين لثقافة العيب والحرام هذا مما جعل من الأجيال الناشئة على مر عقود يشعرون بالغرابة من أنفسهم ومما يحدث في داخلهم من استعداد لاتخاذ الدور المادي في عملية الخلق . الكُل في مجتمعاتنا بلا استثناء نشأ على معتقدات العار من غريزته الطبيعية . مرّت عقود وعاش البعض ومات الاكثرية دون فهم لهذه المشاعر وتوجيهها بالطريقة السليمة . تحقيقاً للضوابط الاجتماعية فإن التوعية الأولية مهمة الوالدين لكنهما أيضاً يحملون نفس المعتقد بأن الجنس مرتبط بالعار ويبثون هذا الموروث من خلال التخويف والتهديد بالعواقب والأمراض والموت الى ابنائهم ظناً منهم أن هذا هو أنسب سلوك لتعزيز العفة  . 

وتبعاً لذلك فإن الخوف لم يمنع الشباب من الممارسات العابرة وتفعيل التعلق بها لسريّتها بل حرر طاقات سيئة للمجتمع من قضايا اغتصاب وتحرش لا يردعها قانون أو عرف .  صورة عن انفجار غريزة وتمرّد يَجُبُ ما قبله . وهو نتيجة حتمية للكبت الطويل تحت حراسة الجهل والخزي  . لأن إخفاء المشاعر والتعامل معها بسريّة يساهم في تدفق الأفكار الظلامية وينمّي الشيطان من خلال هذا التدفق كل حزن وألم  ويقود الإنسان إلى الرغبة في تفريغ اوجاعه بالآخرين واعتبارهم أجساد لتلقي الملامة بحجة اللذة  لا اشخاص يتشاركون معه العاطفة والسلام . السلوكيات الشاذة و العنيفة  نشأت من الصمت وانعدام التنوير والحوار . 

 عمود النور والمكان المقدس تعبر عن الأعضاء التناسلية للجنسين باللغة السنسكريتية وهي لغة قديمة من اللغات الأربعة بعد الثمانين في الهند  . ونلاحظ الإشارة هنا إلى أهمية نقاوة التعبير عن هذه الأعضاء وذكرها بطريقة مُلهمة  يحفز انتمائنا لها وارتباطها بمشاركتنا الفعالة في حفظ النوع البشري . الكلمة أداة تعبر الى القلب والعقل دون تصريح مسبق حسب ماتحمله من معنى . والتعبير السليم برمجة لغوية من ركائز التوعية بالثقافة الجنسية . ثم من خلال التعبير يفهم الفرد من مرحلة الطفولة المتقدمة  بأن الجسد ملكية خاصة لا يجوز لمخلوق التعدّي عليه او التنمر على شكله  او تهميش مهمته السامية الممنوحة له من الخالق سبحانه وتعالى . الجسد مادة نتعامل بها مع الأشياء والأشخاص ، ويؤثر بالآخرين مادياً ومعنوياً من خلالنا ، ويتأثر بنا بطريقة تفكيرنا ، يخزن مشاعرنا في العظام والعضلات و في القلب والأعصاب والشرايين . وهذا يفعل الانسجام الفكري بين الشريكين عند اللقاء ويعزز الارتباط ويفعّل لغة تواصل أكثر حميمية وألفة يمكن استغلالها في توطيد العلاقة وفهم الذات وتحرير المشاعر والتعبير عن المحبة والانسجام وهي لغة مباشرة من الخافية _ العقل الباطن _ تستقبل وترسل الترسبات والموروثات والتوجهات الفكرية والأحاسيس الوجدانية وتتعامل معها باللذة والاستمتاع . 

وهذه التأثيرات القريبة يجب أن تكون واضحة لكل البالغين حتى يختار كل منهم شريكه دون خوض للعلاقات المتعددة وانتقال الكثير من الصدمات والأفكار عبرها حتى يرهق الجسد والوجدان معاً وتتكرر عليهما البصمات من خوض التجارب العشوائية . العلاقات العابرة  تجعل من الألم رغبة ومن الحزن احتياج ، تختلط المفاهيم وتغيب الحقيقة عن العقل . ويقود القلب طوال المرحلة أعمى البصيرة يجر أذيال الخيبة بعد كل استغلال ،  يبحث الفرد عن نفسه في الآخرين ،  ويتعلق الإشباع الغريزي تحت مسمى الحب دون توافق فكري تبنى على أساسه علاقة صحيّة يدرك أطرافها واجباتهم وحقوقهم ،  تتفشّى التسليّة بالقلوب والوعود وتعظم صغائر التصرفات وتصغر الكبائر في عين المذنب العاشق ،  وكل الكلمات و ما يعقبها من احساس مشروط بالجنس ويتفرع عنه باعتباره نواة العلاقة . إنقاذ هذا الجيل يبدأ من التوعية ومن انفتاح العائلة على الحديث الصريح وتخطي الاحراج ومتابعة الأبناء وتنقية مكتسباتهم العلمية . العفة جزء من مصفوفة القيم التي تبدأ من معرفة الفرد لحقوقه الإنسانية والاجتماعية والوعي بحاجاته وكيف يلبيها باستحقاق عالي ومنزه عن الخطأ والاستغلال والحرام ، الفضيلة لا يمكن فرضها بالتخويف لكنها تنبت حيث يجد المرء قيمته الإنسانية .

وجعُ الرَّحيل/ جورج عازار



 إلى روح فارس النقد المبدع الَّذي ترجل قبل الآوان، إلى فقيد الأدب والفكر والنقد، الصديق الراحل الدكتور: عاطف الدرابسة أقدم هذا النص.    


تَدُقُّ السَّاعةُ السَّابعةَ

والصَّمتُ مُطبَقٌ

تَدُقُّ السَّاعةُ الثَّامِنةَ

والسُّكونُ مُخيمٌ

على الأرجاء

وفي التَّاسعةِ أبداً لا تَكُفُّ

عن النِّداء

بلهاءٌ تِلك السَّاعةُ

ما أدركتْ

أنَّك أبداً بعد اليومِ

لن تَحضرَ

كيف نبدأُ من غيرِكَ

بلا دُعابةٍ أو طَرافةِ

ومن دونِ مناوشاتٍ

قُلْ إنَّكَ تُمازِحُنا

وقُلْ إنَّ تلكَ الأنباءَ

تَضليلٌ واِفتراء

أو هو اختبارٌ

كي تعلمَ

مقاييسَ الوَفاءِ

ما كُنتَ يوماً عابرَ سبيلٍ

ولا ورقةً مَطويةً

في دفترٍ قديمٍ

ربَّما تلكَ السَّاعةُ ما كانتْ بلهاءَ

فهي تُدركُ

أنَّ بعضَ الغيابِ حُضورٌ

حتَّى في الغيابِ

وأن بعضَ الحُضورِ

حين الحضورِ غيابٌ

أيُّها الحاضرُ الغائبُ

وإنْ ترحلْ فلا تغيبُ

أوراقٌ مُتعبةٌ أرهقَها

عَبثُ الانتظارِ

لفافةُ تَبغٍ تفتقدُ أصابعَ

ولهبٌ يوقدُ طقوسَ الحنينِ

حين يحينُ زمنُ الِّلقاءِ

سُحبُ الدُّخانِ بالأمسِ

تَصَاعدَتْ وحَلَّقَت بَعيداً

فصارتْ رَفرفةَ أجنحةٍ

وترانيمَ لا تكفُّ عن النَّواحِ

في السَّماءِ

سيجارةٌ مُطفأةٌ

وبقايا رَمادٍ

وأوراقٌ مَطويَّةٌ

على منضدةٍ يتيمةٍ

وخيالاتٌ مَنسيَّةٌ

كيف نبدأُ مِن غيرِ أنْ تظهرَ

كيف نبدأُ

ودخانُ التَّبغِ صامتٌ

لا يطالُ السَّماء

لماذا بقيتْ تلكَ المنفضةُ

خاويةً تفتقدُ الأعقابَ والرَّماد؟

قد أخطأ الحُكماءُ

ومعاجمُ الُّلغةِ، يا سيِّدي

فالرَّحيلُ أبداً لا يعني الغياب


ستوكهولم-السويد


اسرائيل وحروبها على أربع جبهات/ جواد بولس

 


لم يكن القرار الاسرائيلي بنقل الجبهة اللبنانية الى مرحلة عسكرية جديدة مفاجئًا ؛ فإبقاء المواجهة مع حزب الله وفق تعريفه لها  "كجبهة اسناد لغزة" فقط، لم يعد يتماشى ومخطط حكومة اسرائيل الكبير واهدافها الرامية الى تدمير القطاع وتهجير سكانه والقضاء على قوة "حركة المقاومة الاسلامية" العسكرية في غزة، ومع القضاء على قوة حزب الله العسكرية؛ أو على الأقل تحييد الحزب واجبار عناصره على التراجع الى مواقع لبنانية جديدة، لتضمن اسرائيل وجود شريط حدودي آمن لها، وخلق واقع سياسي جديد يؤدي إلى اضعاف مكانة حزب الله على الساحة اللبنانية الداخلية وخلخلة دوره كعضو بارز ضمن قوى "محور الممانعة" الناشطة تحت الراية الايرانية.

من الصعب، في هذه الأيام، التكهن بشأن التداعيات المحتملة لهذا التصعيد، الذي بدأ ، من دون شك، بعد أن وافقت عليه الادارة الأمريكية بعد أن ضمنت عدم معارضة حلفائها في المنطقة وداخل لبنان نفسه للخطوة الاسرائيلية، في حين تمتنع ايران لغاية الآن من التدخل، بينما لا تتحرك الدول الكبرى التي لها مصالح استراتيجية كبرى في المنطقة، بل تكتفي بشجب الفعل الاسرائيلي وبانتقاده.  

يحاول نتنياهو أن يرسم بواسطة نيران حروبه الحالية "خارطة جديدة للمنطقة" كما صرح في أكثر من مناسبة؛ ويستهدف بالطبع، أوّل ما يستهدف بقرارة نفسه، نسف امكانية اقامة الدولة الفلسطينية، واحياء "حلف ابراهيمي" جديد أو ما يشبهه، بحيث تتوسطه اسرائيل وترعاه الولايات المتحدة كقوة مناهضة للنفوذ الايراني في بعض دول المنطقة. 

أمّا على الصعيد الاسرائيلي الداخلي فنتنياهو يستغل، من جهة، مسألة التصعيد الحربي على الجبهة اللبنانية لتعزيز مكانته السياسية داخل الأوساط الغوغائية الشعبوية الاسرائيلية، ومن جهة أخرى يستغلها من أجل اجهاض محاولات أحزاب المعارضة ضعضعة استقرار حكومته، ولضبط بعض ظواهر الفوضى والانفلات التي بدأت تظهر داخل توليفة إئتلاف حكومته وتؤثر على صورته كقائد سياسي محنك وقوي يجب ألا يجرؤ أحد من داخل حزبه وحكومته أن يتحدى زعامته أو أن يتمرد عليها. 

لقد بدأ نتنياهو يشعر بأنه لا يستطيع الاستمرار بتسويق وبتبرير مشهد الهزيمة المتمثل بنزوح أهل بلدات شمال اسرائيل عن منازلهم، وبشل جميع أشكال الحركة والحياة في المنطقة الشمالية؛ ولم يعد محتملا، بعد مرور ما يقارب العام، الابقاء على حالة اللا حرب واللا سلم مع حزب الله، خاصة بعد عودة الاحتجاجات الشعبية الى شوارع المدن الاسرائيلية وعودة الانتقادات معها لسياساته التي فشلت باستعادة المخطوفين من غزة، وفشلت بالقضاء على حماس، وفشلت أيضا بطرح أي رؤية سياسية واضحة لما بعد انتهاء الحرب ومصير مستعمرات غلاف غزة ومستعمرات الشريط الشمالي وأمنهم في المستقبل. 

من المستفز أن نرى كيف تستغل القوى والحركات اليمينية وحكومة نتنياهو عملية السابع من اكتوبر وتداعيات حالة الحرب من أجل تنفيذ مخططاتها السياسية على مستوى الساحة الداخلية الاسرائيلية وتأليب الرأي العام ضد مواطني الدولة العرب ومن لا يدعم سياستها الحربية أو من يعلن معارضته أو تحفظه منها. 

فخلال العام المنصرم استمرت القوى الانقلابية التي تشكل الحكومة الحالية، بتنفيذ مخططها وتشديد سيطرتها  على مؤسسات الدولة. ومن أهم انجازاتهم وأخطرها يمكننا أن نسجل: اخضاع وزارة الأمن الوطني بالكامل لارادة وسياسة الوزير ايتمار بن غفير، والسيطرة على مؤسسة "مراقب الدولة"، وعلى "مجلس التعليم العالي"، وعلى وزارة المالية، وعلى هياكل الادارات التنفيذية في معظم الوزارات. ولعل أبرز المعارك التي تدور حاليا داخل إسرائيل، في نفس الوقت مع استمرار حربي الحكومة على غزة وعلى لبنان، هي المعركة ضد المحكمة العليا وتمرد معظم وزراء حكومة نتنياهو، بدعمه شخصيا، على قراراتها وأحكامها، وإعلان إصرارهم على "احتلالها" وإخضاعها لارادتهم ضمن مشروع بناء الدولة التوراتية الفاشية الجديدة. 

ليس لدي شك بأن المحكمة العليا الاسرائيلية سوف تسقط قريبا، ففي اسرائيل الحالية لا يوجد من يستطيع حماية المحكمة وانقاذها من الهزيمة الاخيرة. اسرائيل اليوم هي مجرد مسخ ولد في حقول من الدماء والرصاص وكبر وصار وحشا في حضن اسرائيل الأم وعلى مستنقعات احتلالها وفي ظل ممارساتها لسياسات القمع والقهر والعنصرية التي احتضنتها ورعتها هذه المحكمة العليا ذاتها منذ أول يوم لانشائها وحتى أيامنا هذه. سوف تسقط المحكمة العليا كآخر رمز من رموز اسرائيل المهزومة، ولن يتبقى على المنتصرين إلا أن يُخضعوا بقايا المنظومة الأمنية القديمة التي يحاول رؤساؤها النجاة بانفسهم وحماية أجهزتهم من سيطرة فقه المنظومات والحركات الغيبية والفاشية. أراهن على أنهم لن يصمدوا وسيسقطون مع اجهزتهم كما سقطت سائر منظومات الحكم ومؤسساته.  

نحن على أعتاب مرحلة سياسية خطيرة جديدة، قد نشهد فيها ولادة خارطة جديدة، سياسية وجغرافية، لمنطقتنا؛ لكننا حتما سنشهد ولادة اسرائيل الجديدة. ستنتهي الحربان الحاليتان ضمن اتفاقات سياسية وشروط ستمليها معطيات النهايات المتشكلة وموازين القوى المحلية والقطرية والعالمية، وسنبقى، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، رهائن لمستقبل مجهول ونواجه مصيرنا في واقع أشد خطورة علينا وداخل دولة يعتبرنا حكامها ومعظم سكانها أعداءهم وخطرا عليهم يتوجب اقتلاعه. أقول ذلك وأعرف أننا بحاجة لمن يزرع الأمل فينا والثقة، لكنني أقوله وأعرف أيضا أننا قوم قد شاخت جباهنا ونحن واقفون على مفارق التاريخ وقد طارت العصافير عن بيادرنا، وصرنا نعدّ في كل صباح أضلاعنا ونداري قلوبنا خشية أن يُسكتها الحنين أو يسقطها الوجع. وفي الليالي نأوي الى صدور "القصب" ولا ننام إلا على قلق النايات ونخاف من الغد ومن الندم.

يجب أن نبقى واقعيين ونرى ما يجري في مواقعنا. فاسرائيل اشعلت حربين على جبهتي غزة ولبنان وتدير حربها الثالثة داخل مناطق الضفة المحتلة وتمارس كل هذا وأعينها علينا وتحريضها ضدنا لم يتوقف ولا للحظة حتى بات استهدافنا اليومي رياضة قومية يهودية، والاعتداءات العنصرية ظاهرة يومية وعادية. فعلى سبيل المثال قرأنا مؤخرا كيف حاولت نقابة الطلاب في جامعة حيفا منع اشتراك الطلاب العرب في الانتخابات العامة للنقابة بقرار عنصري فاشي، وقرأنا أيضا كيف اعتدى جندي احتياط على سائق عربي لمجرد ان السائق كان يستمع لموسيقى عربية داخل سيارته في محطة وقود. وقرأنا عن الاعتداء الخطير الذي تعرضت له طالبة عربية في احدى مدارس مدينة بئر السبع حيث تدرس مع طلاب يهود ادعوا انها صرحت عن تعاطفها مع الفلسطينيين وانها حرضت على الدولة وجيشها. كان هذا الادعاء الذي نفته الطالبة وأبوها، كافيا لملاحقتها من قبل عشرات الطلاب ومحاولتهم الاعتداء الجسدي عليها وامطارها بالشتائم والصراخ والتوعد بحرقها وحرق القرية التي تسكنها. نجت الفتاة بعد تدخل احدى المعلمات وحمايتها، لكن ادارة المدرسة طلبت منها الا تعود الى التعليم، بينما طالب نائب رئيس بلدية بئر السبع بضرورة ابعادها وطرد اهلها من المدينة وسحب المواطنة الاسرائيلية من جميع أفراد اسرتها علما بانه ثبت بان كل ما قالته كان ان الحرب في غزة حصدت أرواح الكثيرين من الابرياء وكان هذا ردها على سؤال من طالب يهودي مستفز حول رأيها في الحرب على غزة. 

لن أعدّ في هذه المقالة قوائم الاعتداءات العنصرية التي تتم على المواطنين العرب بشكل يومي في الشوارع الاسرائيلية وفي الأماكن العامة وأماكن العمل، ولا قائمة الملاحقات السياسية التي تمارسها أجهزة الحكومة بحق جميع من يعارضون سياساتها، من عرب ومن يهود، لكنني أؤكد على أننا نواجه ظاهرة خطيرة للغاية هي في الواقع بمثابة جبهة حرب رابعة علينا نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل. إنها حرب مختلفة، فعندما سيتوصل العالم الى حل بشأن الحربين على غزة وعلى لبنان سيبقى الفلسطينيون في الضفة عُزّلا، ونحن داخل اسرائيل مجرد كائنات مدجّنة ومهددين إما بحرق قرانا وإما بالتهجير كما تطالب سوائب الغوغائيين في ملاعب كرة القدم وفي مظاهرات اليمينيين، أو وهم يطاردون فرائسهم، كما حصل قبل أيام في المدرسة الشاملة على اسم زيلبرمان في مدينة بئر السبع. 

عيسى/ د. عدنان الظاهر

 


مدّتْ وتعرّتْ 

ذهباً تصهَرُها نارُ قناديلِ الشمسِ

جَسَداً يتمدّدُ يقرأُ في الرملِ كتاباً 

لا أعرفُ لي جسداً لا أقرأُ قِرْطاسا 

الكلُّ عَرايا قالتْ

وتخلّتْ عن آخرِ مَحظورٍ في طينةِ حوّاءِ

فالجسدُ الثاوي بين الشمسِ وحبّات الرملِ

يتلوّى والموجُ يُكرِّرُ نوباتِ البحرِ

وأنا أتوسّلُ فيها عيسى :

قالتْ ويلكَ هلْ أنقذُ مخلوقا

مثلكَ عذَّبني أعواما

ورحلتَ بعيدا 

ورحلتَ كباقي الموتى ؟

ماذا أتذكّرُ من حُبٍّ قامَ ليبقى

تمثالَ وليٍّ في داري

مِن ثمَّ تداعى صرحَ نبؤاتٍ مُختَلِّ 

لم نحفلْ بالخَطَرِ المترَبّصِ في بابي 

لم نقبلْ حرفَ عِتابٍ أو لوماً من أهلي

وسلكنا البحرَ عرايا

وسلكناهُ تماما

ماذا تبغي 

يا آخرَ مسمارٍ في صدري

باقٍ ليُذَكّرَني أحباباً غابوا

أحياءً ـــ أمواتا ؟

إرحلْ...

لا تتركْ لي منكَ وليّا

يتقمَّصُ منّي أحشاءَ

ما كانُ الحبُّ وما كُنّا يوماً عُشاقا

إرحلْ وأتركني...

قالتْ ومضتْ تتكسّرُ خجلى

ماذا أتركُ مِنّي فيها

وحياتي ريحٌ فوقَ سطوحِ الأقدارِ

أتعذّبُ لا أدري من أينَ سيأتيني الإنذارُ

أتشرّدُ مخمورا

في الحانةِ أتعسَ مِن شحّاذٍ أعمى 

((أترُكني أترُكني )) 

مَنْ يتركُ مَنْ 

فلقد تركتني أحيا مَؤودا

تحتَ خطوطِ الذُلِ الحمراءِ

أتذكّرُ جوَّ الصيفِ على الساحلِ في الظلِّ 

أتذكّرُ زوراتِ الحانةِ والمسرحِ والمسبحِ والمقهى

ما كانت تهوى بَشَراً إلّا مثلي

بشراً من طينةِ إنسانٍ أخرى

فلماذا قالتْ (( أُتركني ))

ومضتْ تتسوّلُ أجملَ ما في الذكرى ؟

حكايةُ قصيدةٍ وصورةٍ عتيقةٍ/ وهيب نديم وهبة



هي للشِّعرِ الرُّوحُ، للكَلِمَاتِ المَعنَى، للقَلبِ الحُّبُّ. هي حكايةٌ؛ تَعُودُ للزَّمَنِ الغَابِرِ، زَمَنِ الشَّبَابِ. حينَ كانَ الحُّبُّ بِبَدلَتِهِ البَدِيعَةِ، يَدخُلُ مِن بَابِ القَلبِ ويَستَوطِنُ في الصَّالَةِ، بِكُلِّ أناقَةٍ، وَكِتمَانٍ. كَأنَّنَا في مَعرَكَةٍ، نُخفِي أسرَارَنَا عَن العِدا.

في ذَاكَ الزَّمَنِ... كانَ للعِشقِ راَئِحَةٌ وَلَونٌ وَبَرِيقٌ – كَانَت العُيُونُ تُشرِقُ بِالبَشَائِرِ وَتَسبِقُ خَطَوَاتِنَا الرِّيحُ... وَبَعدَ لِقَائِنَا المَسرُوقِ مِن لَحظَاتِ العُمرِ نَسيرُ حَتّى المَحَطَّةِ وَالمِقعَدِ الخَشَبِيِّ العَتيقِ. عِندَهَا هِي مُسَافِرَةٌ وَأنا العَائِدُ لِقَريَتي... يَومَهَا كَانَ المَطَرُ الخَفِيفُ يَجعَلُنَا نَقتَرِبُ مِن بَعضِنَا أَكثَر وَنَبتَعِدُ حَتّى آخِرِ الزَّاوِيَةِ في المَحَطَّةِ – كانَ حُبَّا وَليسَ خَوفًا مِن المَطَرِ. لَكِنَّ عُذرُنَا كَانَ المَطَرُ... 

السَّنَواتُ تَمُرُّ وَالعُمرُ وَتُصبِحُ كُلُّ صُوَرِنا قَدِيمَةً وَتبقَى الذِّكرَى وَحِكَايَةُ قَصِيدَةٍ وَصُورَتِي أَيَّامَ العُمرِ الجَمِيلِ.



فُسْتَانُكِ الأَخضَرُ المَشغُولُ...

خَيَالُ شَاعِرٍ، وَمِقعَدُنَا الخَشَبِيُّ العَتِيقُ

مَحَطَّةُ سَفَرٍ يَلعَبُ فِيهَا الرِّيحُ

وَالسَّمَاءُ تُفَكِّرُ بِالمَطَرِ

وَنِصْفُ يَدِكِ الْيَمَامَةُ 

تُحَاوِلُ أَنْ تَطِيرَ مِنْ يَدِي

وَفُستَانُكِ الرَّبِيعِيُّ يَأْخُذُنِي،

يَسرِقُ لِي مِنْ حَدَائِقِكِ حُلمَ الفَرَاشَاتِ... 

وَتَبتَعِدِينَ...

تُسَافِرِينَ... 

وَرَائِحَةُ عَبِيرِكِ وَرَبِيعِكِ

تُقِيمُ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ

وَتُعلِنُ السَّمَاءُ المَطَرَ



الشاعر والكاتب الحقيقي يُقيَّمُ ويُقاسُ من خلال مستوى كتاباتهِ الإبداعيَّة/ الدكتور حاتم جوعيه

 


       إن الشاعر والكاتب الحقيقي المبدع يُقيَّمُ ويقاسُ من خلال مستوى كتاباته الإبداعية  وليس لأيِّ  إطار ومنتدى  وجسم  ثقافي  ينتمي أو  لأي اتحاد كتاب هو منتسب.. أو إلى كم تكريم وأمسية وإشهار لكتاب وإصدار عملوا وأقاموا له. والشاعرُ والكاتبُ الكبير والمبدع في الأصل يرفضُ أن تقام له أمسات تكريمية من قبل  أطر وجهات ومؤسسات عليها الكثير من علامات السؤال ( وطنيا وإنسانيًّا ونزاهة وموضوعية وغيرها ) ويرفض ان يُقِّيِّمَ كتاباته ويتحدث عنها( نويقدون) هم دون المستوى المطلوب . وأنا شخصيا ( حاتم جوعيه ) الكل يعرفني  - محليا وخارج البلاد -  إنني اول شاعر وكاتب وناقد وإعلامي  محلي وعلى مستوى العالم العربي .. ولكن حتى الآن لم  تُقم  لي أيةُ امسيةٍ تكريمية  لأنني أرفضُ  ولا يشرفني  ولا يرفع من مكانتي هذا الشيء بل ينزل  من مستواي الأدبي والإجتماعي .. وبإحتصار لأنني أرفضُ ان يُقيِّم  كتاباتي الإبداعية - شعرا ونثرا  - وأن يتحدث عنها  إمعاتٌ وحثالاتٌ وأشخاصٌ عملاء  ومأجورون   وخونة  لا يفهمون  شيئا  في النقد  الأدبي  والفني ، وهدفهم  هو العمل على  تشويهِ المشهدِ  الثقافي  والساحة الثقافية  والادبية المحلية  وتدمير  وواد  الأدب والفن والثقافة المحلية الهادفة، وخاصة التي تحملُ البعدَ والطابع الإنساني والوطني ...هؤلاء النويقدون المستكتبون المشبوهون والإمعات والحثالات المتطفلون والدخيليون على المجال والأدبي والثقافي زيفا ... والذين نراهم دائما  موجودين  بشكل  مكثفٍ  على  المنصاتِ  والمنابر في  المؤسسات والجمعيَّات والأطر والمنتديات المأجورة والعميلة، وهم معروفون للجميع ... وبإختصار كل إنسان شريف ونظيف وَحُرّ وأبيٍّ  ووطني  يحبُّ شعبه ومبدع ومتألق في كتاباته يرفضُ  دائما  أن تكرمهُ وتحتفي به وأن تُقيم له امسيات تكريمية مؤسَّساتٌ وجمعياتٌ ومتديات مشبوهة ومأجورة وعميلة ، وأن يتحدث عنه  وعن  كتاباتهِ ويقيمها أشخاصٌ لا توجد لهم ايةُ علاقة مع الادب والنقد ، وهم في  نفس  الوقت إمعات  ومدسوسون  ومأجورون وعملاء ومعادون له ولشعبه ولقضاياه الوطنية والإنسانيّة والحياتيَّة . وهدف ومأرب هؤلاء الحثالات المدسوسون الرئيسي  - كما ذكرَ أعلاه –هو  تدمير وطمس  الثقافة  العربية  الفلسطينة  المحليَّة  الهادفة  والقضاء  عليها وتفريغها من كل شعور وأنتماء وحس وطني وعربي .  

وأريدُ  أن  أضيف أيضا :  هنالك جائزةُ  التفرغ السلطوية التي تُمنحُ  كلَّ سنةٍ لمجموعةٍ  من  الكتاب المحليين أنا مقاطعها ولا أقدِّمُ  لها  إطلاقا مع  ان السوادَ الاعظم من الكتاب المحليِّين يتهافتون ويتسابقون إليها .والسبب هو :لأنها تُعطى أحيانا لأشخاصٍ غريبي الاطوار ولا توجدُ لهم أيةُ علاقةٍ مع الشعرِ والادب والإبداع .. حتى أنهم  لا يعرفون  قواعدَ  اللغةِ العربيةِ وكتابة الإملاء . والهدفُ من منحِ  هذه الجائزةِ  وهو معروف للجميع  كما أظن  : من  الناحية السياسية  والثقافيَّة  وغيرها ... والسببُ الرئيسي  هو  تهجين  وتدجين عرب  الداخل  والقضاء على  أدبِ  المقاومة الفلسطيني  والأدب  الملتزم  وطمس  ووأد  كل  عمل  وكل  فكر  وكل إبداع سياسي  ووطني  يخدمُ  مصالحَ  وقضايا  الأقليةِ  الفلسطينية  العربيَّة  في  الداخل  ويعكس واقعها وحياتها من جميع الجوانب..وقضايا الأمة العربية ككل .


أزمة الحداثة وتحولاتها عند زيجمونت بومان: من الصلبة إلى السائلة/ د. حسن العاصي



 كانت نظرية "الحداثة السائلة" لـعالم الاجتماع والفيلسوف البولندي البريطاني "زيجمونت بومان" Zygmunt Bauman أحد أهم المنظرين الاجتماعيين في القرنين العشرين والحادي والعشرين، موضوعاً للعديد من المجالات. شدد باومان على أن بيئة اليوم التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، ولدت الحداثة السائلة. بومان الذي وجه نقداً لاذعاً للحداثة قبل تنظيره للحداثة السائلة، ذكر في أعماله أنه مع الحداثة. تدير الحكومات العنف فعلياً وأن العنف يمارس على الأفراد الذين يُنظر إليهم على أنهم الآخر في كل مجال. على الرغم من أن فترة ما بعد الحداثة تبدو بمثابة تحرر من الشمولية التي شهدتها الحداثة، إلا أن باومان يعتقد أن فترة ما بعد الحداثة لم تكن مختلفة تماماً عن الحداثة، بل إنها جعلت حياة الأفراد أكثر غموضاً. قام زيجمونت بومان بدراسة العديد من المجتمعات من منظور نقدي في دراساته. قبل دراسة نظرية باومان حول الحداثة السائلة، من المهم للغاية التعرف عليه وفهم أعماله النظرية.

بومان الذي ولد كيهودي في بولندا، واجه صعوبات أن يكون الآخر طوال معظم حياته، فحص هذه الصعوبات في عيون المجتمع في أعماله. أتيحت لباومان، الذي تحولت حياته إلى منفى بعد الاحتلال النازي، فرصة دراسة مجتمعات مختلفة بسبب تواجده في أماكن عديدة. في المرحلة الأولى من الدراسة تم إدراج حياة باومان وأعماله والأسماء التي أثرت فيه وشرح دراساته النظرية. يرى بومان، الذي يطلق على نفسه اسم مؤرخ الحداثة وما بعد الحداثة، أن الحداثة ليست من بقايا البربرية، بل هي نفسها. على الرغم من أن باومان رأى في البداية فترة ما بعد الحداثة بمثابة خلاص للحداثة، إلا أنه أكد لاحقاً في العديد من أعماله أن ما بعد الحداثة لا تختلف عن الحداثة. من الممكن النظر إلى تنظير الحداثة السائلة، كنقد لما بعد الحداثة. يرى باومان أن البيئة المتغيرة التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن اليوم، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، وأكد أنها ولدت الحداثة. وقبل تنظيره للحداثة السائلة، كان من أشد منتقدي الحداثة.


من هو زيجمونت بومان

زيجمونت باومان (19 نوفمبر 1925 - 9 يناير 2017) كان عالم اجتماع وفيلسوف بولندي بريطاني. وُلِد باومان لعائلة يهودية بولندية غير ملتزمة دينياً في "بوزنان" boznan الجمهورية البولندية الثانية، عام 1925. وفي عام 1939، عندما غزت ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي بولندا، هربت عائلته شرقًا إلى الاتحاد السوفييتي. أُجبر على التخلي عن جنسيته البولندية. هاجر إلى إسرائيل؛ وبعد ثلاث سنوات انتقل إلى المملكة المتحدة. أقام في إنجلترا منذ عام 1971، حيث درس في كلية لندن للاقتصاد وأصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في "جامعة ليدز" University of Leeds ثم أصبح أستاذاً فخريًا. كان باومان منظّراً اجتماعياً، وكتب عن قضايا متنوعة مثل الحداثة والمحرقة، والاستهلاك ما بعد الحداثي والحداثة السائلة. خلال الحرب العالمية الثانية، التحق باومان بالجيش البولندي الأول الذي كان خاضعًا لسيطرة السوفييت، وعمل كمدرس سياسي. وشارك في معركة "كولبرج" Kohlberg (1945). في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" The Guardian أكد بومان أنه كان شيوعياً ملتزماً أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية ولم يخف ذلك أبداً.

باومان لم يشارك والده في الميول الصهيونية وكان مناهضاً للصهيونية بشدة. أكمل درجة الماجستير وفي عام 1954 أصبح محاضراً في "جامعة وارسو" University of Warsaw حيث بقي حتى عام 1968. أثناء وجوده في "كلية لندن للاقتصاد" London School of Economics حيث كان مشرفه "روبرت ماكنزي" Robert Mackenzie أعد دراسة شاملة عن الحركة الاشتراكية البريطانية، وهي أول كتاب رئيسي له. في مواجهة الضغوط السياسية المتزايدة المرتبطة بالتطهير السياسي تخلى بومان عن عضويته في حزب العمال البولندي الموحد الحاكم في يناير 1968. بلغت الأزمة السياسية البولندية عام 1968 ذروتها في التطهير الذي دفع العديد من البولنديين الشيوعيين المتبقين من أصل يهودي إلى مغادرة البلاد. كان عليه التخلي عن الجنسية البولندية للسماح له بمغادرة البلاد. في عام 1968، ذهب إلى إسرائيل للتدريس في جامعة تل أبيب. في عام 1970، انتقل إلى بريطانيا، حيث قبل منصب رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز. هناك عمل أيضاً بشكل متقطع كرئيس للقسم. بعد تعيينه، نشر حصريًا تقريبًا باللغة الإنجليزية، لغته الثالثة، ونمت شهرته. ومنذ أواخر التسعينيات، مارس باومان تأثيراً كبيراً على الحركة المناهضة للعولمة أو المغايرة لها.

في مقابلة عام 2011 في الأسبوعية البولندية "بوليتيكا" Politics انتقد باومان الصهيونية وإسرائيل، قائلاً إن إسرائيل غير مهتمة بالسلام وأنها "تستغل الهولوكوست لإضفاء الشرعية على الأفعال غير العادلة". وقارن الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية بجدران غيتو وارسو، حيث مات الآلاف من اليهود في الهولوكوست.

تزوج باومان من الكاتبة "جانينا باومان" Janina Baumann توفي زيجمونت بومان في ليدز في 9 يناير/كانون ثاني 2017. قام بتأليف ونشر 57 كتاباً وأكثر من مئة مقال. تتناول معظم هذه الأعمال عددًا من الموضوعات المشتركة، من بينها العولمة والحداثة وما بعد الحداثة والاستهلاك والأخلاق. أقدم منشورات باومان باللغة الإنجليزية هي دراسة لحركة العمال البريطانية وعلاقتها بالطبقة والطبقية الاجتماعية. استمر في النشر حول موضوع الطبقة والصراع الاجتماعي حتى أوائل الثمانينيات. كان آخر كتاب له حول موضوع ذكريات الطبقة. في حين أن كتبه اللاحقة لا تتناول قضايا الطبقة بشكل مباشر، فقد استمر في وصف نفسه بأنه اشتراكي، ولم يرفض الماركسية تماماً. ظل المنظر الماركسي الجديد والفيلسوف الإيطالي "أنطونيو جرامشي" Antonio Gramsci على وجه الخصوص أحد أعمق مؤثراته، إلى جانب عالم الاجتماع والفيلسوف الكانطي الجديد الألماني "جورج سيميل".


الحداثة والعقلانية

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات نشر باومان عدداً من الكتب التي تناولت العلاقة بين الحداثة والبيروقراطية والعقلانية والاستبعاد الاجتماعي. وتبعاً لعالم النفس النمساوي "سيجموند فرويد" Sigmund Freud توصل باومان إلى اعتبار الحداثة الأوروبية بمثابة مقايضة: فقد زعم أن المجتمع الأوروبي وافق على التنازل عن مستوى من الحرية لتلقي فوائد زيادة الأمن الفردي. وزعم باومان أن الحداثة، فيما أطلق عليه لاحقاً شكلها "الصلبة"، تنطوي على إزالة المجهول وعدم اليقين. كما تنطوي على السيطرة على الطبيعة، والبيروقراطية الهرمية، والقواعد واللوائح، والسيطرة والتصنيف - وكلها حاولت إزالة انعدام الأمن الشخصي تدريجياً، مما يجعل الجوانب الفوضوية للحياة البشرية تبدو منظمة ومألوفة. وفي وقت لاحق في عدد من الكتب بدأ باومان في تطوير موقف مفاده أن مثل هذا التنظيم لا ينجح أبداً في تحقيق النتائج المرجوة.

لقد زعم باومان أن الحياة حين تنظم إلى فئات مألوفة وقابلة للإدارة، فإنها تُنشأ دوماً مجموعات اجتماعية لا يمكن إدارتها، ولا يمكن فصلها أو السيطرة عليها. وفي كتابه "الحداثة والتناقض" بدأ باومان في صياغة نظريات حول مثل هؤلاء الأشخاص غير المحددين من خلال شخصية رمزية أطلق عليها "الغريب". واستعان باومان بعلم اجتماع الألماني "جورج سيميل" Georg Simmel وفلسفة الفرنسي "جاك دريدا" Jacques Derrida فوصف الغريب بأنه الشخص الحاضر غير المألوف، الذي لا يمكن للمجتمع أن يقرره. وفي كتابه "الحداثة والتناقض" حاول باومان أن يقدم وصفاً للمناهج المختلفة التي يتبناها المجتمع الحديث في التعامل مع الغريب. فقد زعم من ناحية أن الغريب وغير المألوف في الاقتصاد الموجه نحو الاستهلاك يكون دائماً مغرياً؛ ومن ناحية أخرى، في أنماط الطعام المختلفة، والأزياء المختلفة، وفي السياحة، من الممكن أن نختبر جاذبية ما هو غير مألوف. ولكن هذه الغرابة لها أيضاً جانب أكثر سلبية. فالغريب، لأنه لا يمكن السيطرة عليه أو إصدار الأوامر له، يكون دائماً موضعاً للخوف؛ إنه اللص المحتمل، الشخص خارج حدود المجتمع الذي يشكل تهديدًا دائمًا.

كتاب باومان الأكثر شهرة، "الحداثة والهولوكوست" Modernity and the Holocaust هو محاولة لإعطاء حساب كامل لمخاطر هذا النوع من المخاوف. بالاستعانة بكتب الفيلسوفة الألمانية الأمريكية "هانا أرندت" Hannah Arendt، وعالم الاجتماع الألماني "ثيودور دبليو أدورنو" عن الشمولية والتنوير، طور باومان الحجة القائلة بأن الهولوكوست لا ينبغي اعتباره مجرد حدث في التاريخ اليهودي، ولا تراجعاً إلى البربرية ما قبل الحديثة. بدلاً من ذلك، جادل بأنه يجب النظر إلى الهولوكوست على أنه مرتبط ارتباطاً عميقاً بالحداثة وجهودها في صنع النظام. العقلانية الإجرائية، وتقسيم العمل إلى مهام أصغر وأصغر، والفرز التصنيفي للأنواع المختلفة، والميل إلى النظر إلى الطاعة للقواعد على أنها جيدة أخلاقياً، قد لعبت جميعها دورها في حدوث الهولوكوست. لقد جادل بأن المجتمعات الحديثة لهذا السبب لم تستوعب تماماً دروس الهولوكوست؛ يميل الأمر إلى أن يُنظر إليه - لاستخدام استعارة باومان - مثل صورة معلقة على الحائط، لا تقدم سوى القليل من الدروس. في تحليل باومان، أصبح اليهود "غرباء" بامتياز في أوروبا. وقد صور الحل النهائي من قبله كمثال متطرف لمحاولة المجتمع لاستئصال العناصر غير المريحة وغير المحددة الموجودة داخله. زعم باومان، مثل الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أجامبين" Giorgio Agamben أن نفس عمليات الإقصاء التي كانت تعمل في الهولوكوست يمكن أن تلعب دوراً اليوم، وإلى حد ما تفعل ذلك.


ما بعد الحداثة والاستهلاك

في منتصف إلى أواخر التسعينيات، بدأ باومان في استكشاف ما بعد الحداثة والاستهلاك. افترض أن تحولاً حدث في المجتمع الحديث في النصف الأخير من القرن العشرين. لقد تغير من مجتمع المنتجين إلى مجتمع المستهلكين. وبحسب باومان، فإن هذا التغيير عكس المقايضة "الحديثة" التي طرحها فرويد ـ أي التخلي عن الأمن في مقابل المزيد من الحرية، حرية الشراء والاستهلاك والاستمتاع بالحياة. وفي كتبه التي صدرت في تسعينيات القرن العشرين، وصف باومان هذا التحول بأنه تحول من "الحداثة" إلى "ما بعد الحداثة". ومنذ مطلع الألفية الثالثة، كان الناس في عصر ما بعد الحداثة يتطلعون إلى الحرية، ولكنهم لم يعودوا قادرين على تحمل المسؤولية.

منذ عام 1990، حاول باومان في كتبه تجنب الارتباك المحيط بمصطلح "ما بعد الحداثة" باستخدام استعارات الحداثة "السائلة" و"الصلبة". في كتبه عن الاستهلاك الحديث، لا يزال باومان يكتب عن نفس الشكوك التي صورها في كتاباته عن الحداثة "الصلبة"؛ لكنه في هذه الكتب يكتب عن المخاوف التي أصبحت أكثر انتشاراً وأصعب تحديداً. في الواقع إنها باستخدام عنوان أحد كتبه، "مخاوف سائلة" - مخاوف بشأن الاعتداء الجنسي على الأطفال، على سبيل المثال، والتي هي غير متبلورة ولا يوجد لها مرجع يمكن التعرف عليه بسهولة.

يُنسب إلى باومان صياغة مصطلح "الألوسامية" Alosamia ليشمل كل من المواقف المحبة للسامية والمعادية للسامية تجاه اليهود باعتبارهم الآخرين. يُقال إن باومان تنبأ بالتأثير السياسي السلبي الذي تخلفه وسائل التواصل الاجتماعي على اختيار الناخبين من خلال إدانتها باعتبارها "فخاً" حيث "يرى الناس فقط انعكاسات وجوههم".


الفرد والمجتمع في الحداثة السائلة

انطلاقًا مما بعد الحداثة، والتأمل الفلسفي والاجتماعي لزيجمونت باومان، يفتح - من خلال تحليل ظاهرة العولمة - على المستوى الفوقي للحياة، ثم يحدد أحدث الأفكار حول الحياة السياسية، حتى يصل إلى الحداثة السائلة: التغلب على ما بعد الحداثة نفسها. ونتيجة لذلك، يصبح الفرد والمجتمع والأخلاق والسلطة والدين تلك الكلمات المشبعة بسيولة قادرة على تكثيف الجوانب الأكثر أهمية في الواقع الحالي: البعد الذي يفسح فيه الدائم المجال للعابر، والحاجة للرغبة، والضرورة للمنفعة.

يرى زيجمونت باومان وهو أحد أعظم مفسري عصرنا، أن العصر الذي يتحول إلى كتلة بلا شكل يميل إلى التغيير المستمر الذي لا هوادة فيه. إن هذه ليس العصر الحديث، ولا العصر ما بعد الحداثي، إن كان هناك أي شيء، فإن هذه الفترة يمكن تحديدها جيداً على أنها فترة الحداثة السائلة: وهو مفهوم قادر على التركيز على التحولات التي تؤثر على حياة الإنسان فيما يتعلق بتحديدات السياسة العامة للحياة. وعلاوة على ذلك، فإن الحداثة السائلة لبومان هو مصطلح يمكنه التغلب على مفهوم ما بعد الحداثة، لأنه يميل بشكل أساسي نحو العالم المعاصر: الواقع الذي تنظر فيه الحياة إلى ما هو عابر وليس دائماً، والمباشر وليس طويل الأمد؛ وتعتبر المنفعة سابقة لأي قيمة أخرى. وبالتالي فمن الأساسي أن نفهم مسبقاً وبعمق مفهوم السيولة الذي ينسج باومان حوله أحدث تأملاته الفلسفية والاجتماعية. إن الصلابة والسيولة هما السمتان المميزتان لعصرين: الحداثة وما بعد الحداثة، التي أصبحت حداثة سائلة فيما يتصل بالوجود المعاصر. إنها وجود حيث تفسح الحاجة المجال للرغبة التي تفتت الرجال في ظل التغيرات والتحولات المستمرة التي تؤثر على حياتهم، والتي تحول الهوية من حقيقة إلى مهمة: كل واحد منا يركض إلى بناء الذات، الذي يحل محل المشروع نفسه. والواقع أن العلاقة بين الفرد والمجتمع تتغير في عصرنا المعاصر لأن مفاهيم الهوية والفرد والفردية أصبحت بلا معنى.

يطالب العالم الفرد بالبحث المستمر والمثير للجدل على نحو متزايد عن الهوية وتتبع المعايير لتوحيد المعايير من أجل الحصول على "دور" الأفراد، لأن الهوية اليوم أصبحت مهمة. إن كون الفرد فرداً في المجتمع السائل لا يعني ببساطة أن يكون مستهلكاً جيداً، بل يعني أيضاً أن يكون سلعاً قادرة على المنافسة في السوق العالمية. ولا تتطلب هذه الحالة شراء "سلع الموضة" فحسب، بل وأيضاً شراء "جسد عصري" يساعد في الانتقال الكامل من التلاعب الذاتي بجسدنا، إلى الاختيار المباشر والمستقل الحقيقي للجسد الذي نريده لأطفالنا. وبناءً على هذا النمط، تؤكد رؤية باومان المستقبلية أن "كون المرء ملائماً للعالم" لن يكتفي لفترة طويلة بالجراحة التجميلية وإعادة التشكيل على أساس الطوبولوجيا التي تولدها باستمرار سياسات السوق العالمية.

ومن المهم ليس فقط شراء ما يجعلنا "ملائمين" للعالم المعاصر، بل وقبل كل شيء تغيير أنفسنا، الجزء الأقرب إلى إمكانية التلاعب والتدخل: الجسد. يصبح ذلك مساحة حرة لتشكيل الذات المرئية، لأنه إذا لم نكن قادرين على تزيين أجسادنا، فهذا يعني أننا نفتقر إلى شيء ما. إن الإدارة المستقلة لجسدنا، والمسؤولية الشخصية، التي تحمل "مسؤولية كوننا أفراداً"، تنبع من مفهوم التملك وعدم الوجود. أن يكون لديك يعني أن تمتلك لأن بعض أشكال التحكم قادرة على توليد الأمن في عالم يفتقر إلى نقاط مرجعيته الصلبة. ولهذا السبب فإن شروط التملك تقع أيضاً على جسد الإنسان المعاصر، الذي يجد فيه شكلاً من أشكال اليقين: التلاعب والسيطرة.

إن الوسائل المادية التي تعمل على ما أنت متأكد من أنه إن الاستهلاك هو وسيلة مادية تعمل على ما أنت متأكد من امتلاكه. إن الدمج والامتلاك يشكلان جزءًا من الامتلاك، والذي يتم في عصرنا من خلال الاستهلاك كما يقول "إن فعل الاستهلاك هو شكل من أشكال الامتلاك، وربما يكون الأكثر أهمية بالنسبة للمجتمع الصناعي المترف اليوم. إن الاستهلاك له سمات متناقضة: فهو يخفف من القلق، لأن ما يملكه المرء لا يمكن استعادته، ولكنه يتطلب أيضاً أن يستهلك المستهلكون بشكل متزايد، لأن الاستهلاك السابق يفقد قريباً ميزته المجزية"".


الاستهلاك الجامح

هذه الدوامة الخبيثة، التي تجري بين الامتلاك والاستهلاك، هي التأثير الأكثر وضوحاً لما يسميه باومان بالحداثة السائلة، والتي - على عكس ما بعد الحداثة - لها علاقة مستمرة بعملية التحديث، التي لها أصولها في العصر الحديث - لكنها تطول وتتكثف حتى تصل إلى سيولة عصرنا، التي تتميز بالاستهلاك الجامح. وفي التقارب بين الهوية والاستهلاك تكمن إحدى السمات الرئيسية لعصرنا، لأن المجتمع المعاصر يتعامل مع أعضائه في المقام الأول كمستهلكين، وفي المرتبة الثانية فقط، وجزئياً يشركهم أيضاً كمنتجين. وللوفاء بمعايير الحياة الطبيعية والاعتراف بنا كأعضاء ناضجين ومحترمين في المجتمع، يجب أن نستجيب بسرعة وفعالية لإغراءات سوق السلع الاستهلاكية. إننا في حاجة إلى تقديم مساهمة منتظمة للطلب تصلح لاستيعاب العرض، وفي مراحل انعكاس أو ركود الاقتصاد، يتعين علينا أن نشارك في التعافي الذي يقوده المستهلكون. إن الفقراء والعاطلين عن العمل، أولئك الذين لا يملكون دخلاً لائقاً، أو بطاقات ائتمان، أو أملاً في أيام أفضل، ليسوا على قدر هذه المتطلبات. وبالتالي فإن القاعدة التي يكسرها الفقراء اليوم، وانتهاك هذه القاعدة يميزهم ويضعهم في خانة غير الطبيعيين، هي معيار الكفاءة أو اللياقة كمستهلكين، وليس معيار التوظيف. إن الفقراء اليوم (أي أولئك الذين يشكلون مشكلة للآخرين) هم في المقام الأول مستهلكون وليسوا عاطلين عن العمل. إنهم يتحددون في المقام الأول بحقيقة كونهم مستهلكين سيئين: والواقع أن أبسط الالتزامات الاجتماعية، التي لا يلتزمون بها، هي واجب كونهم مشترين نشطين وفعالين للسلع والخدمات التي تقدمها السوق".

وهذا يعني أنه إذا كان الاستهلاك في العصر الحديث يؤدي وظيفة نشاط ثانوي مقارنة بالإنتاج، فإن قدرة الشخص على الاستهلاك في العالم المعاصر تحدد اندماجه الاجتماعي في مجتمع لم يعد يقتصر على السياق المحلي أو على حجم الوجود اليومي، بل في مجتمع كلي يتطلب متطلبات دخول دقيقة ومحددة. ويقع الوصول مباشرة على عاتق الفرد، الذي يفضل، من أجل بناء فرديته، استثمار موارده الاقتصادية المتاحة لشراء تلك الوسائل المناسبة لتصنيف وتحديث وإدخال من يهمه الأمر في قائمة من يهمه الأمر.

 وعلاوة على ذلك، في فترة الأزمة الاقتصادية الحادة تظهر إحصاءات أخرى بأن الاستهلاك الأولي، الذي يشير إلى الضروريات الأساسية، يتم وضعه جانباً لشراء منتجات التكنولوجيا المتقدمة والملابس ومستحضرات التجميل. إن هذه المنتجات تهدف إلى تحديث الجسد وفقاً للمعايير الدنيا المطلوبة ليكون "داخلياً"، أي اكتساب وضع اجتماعي لا يميز، إن وجد، بين كل أولئك الذين يبدو أنهم قادرون على تحديث أنفسهم، بغض النظر عن القدرة الإنتاجية الاجتماعية والدور الذي يمكن أن يلعبه كل فرد.

يبدو أن الاستهلاك اليوم نشاط متجانس، ووفقاً لبومان، فهو وسيلة لقياس مدى قدرة الشخص - في المجتمع السائل - على أن يكون فرداً. وعلى هذا المفهوم، يبني بومان فكره حول الفرد والمجتمع، والذي يسير على خطين رئيسيين. يتجسد الأول في فكرة مفادها أن غزو الهوية في العالم السائل يسير جنباً إلى جنب مع الالتزام بقواعد مجتمع المستهلكين الذي توجهه سياسات السوق العالمية: فكون المرء فرداً يعادل كونه مستهلكاً. ولكن الخط الثاني، الذي يذهب إلى أبعد من ذلك الاعتبار، يتوسع ليشمل الفرد في المنتجات.

إن العلاقة بين الفرد والذات، وكذلك بين الفرد والآخرين، تكتسب من خلال فكر باومان معنى جديداً، يقوم على تحول أنثروبولوجي حقيقي. إن كون المرء فرداً وكونه مستهلكاً يصبحان في الواقع أكثر التحديدات عمومية للفرد الذي يتأثر بالآثار الأكثر إشكالية لعملية إزالة الطابع الاجتماعي، التي بدأت بالعولمة، والتي وصلت الآن إلى واحدة من أكثر مراحلها حدة وتطرفاً. إن التجميع والتنظيم الاجتماعيين محرومان من مهامهما التقليدية: فهما يتوقفان عن أن يكونا أبعاداً هوية للذات قادرة على توفير مجموعة من المعايير والنقاط المرجعية. ويصبح الفرد وحدة معزولة تبحث دائماً عن أشكال جديدة من الحياة.

إن التنشئة الاجتماعية، التي تعمل بدلاً من توفير الأمان والرفاهية، على توسيع الفجوة بين الإنسان والذات وبين الإنسان والآخر. إنها نظام اجتماعي ـ على الرغم من امتلاكه لوسائل مبتكرة بشكل متزايد للتواصل والتفاعل ـ مع زملائه ـ يولد عدم الراحة والوحدة، ـ ويرجع هذا في الأساس إلى أن نجل الفردية الشبكية ـ "نموذج اجتماعي، وليس مجموعة من الأفراد المنعزلين"، وذلك لأن "الدور الأكثر أهمية للإنترنت في هيكلة العلاقات الاجتماعية هو المساهمة في النموذج الجديد للتواصل الاجتماعي القائم على الفردية. ويتزايد عدد الأشخاص المنظمين في شبكات اجتماعية، يتواصلون عبر الحاسوب. وبالتالي، فليس الإنترنت هو الذي يخلق ـ نموذجاً للفردية الشبكية، بل إن تطوير الإنترنت هو الذي يوفر الدعم المادي الكافي ـ لنشر الفردية في الشبكة باعتبارها الشكل السائد ـ من أشكال التنشئة الاجتماعية عبر الإنترنت".

وينشأ هذا الشكل الجديد كمصفوفة لتحديث الهوية المطلوب من قبل العالم العالمي من أجل "الشمول"، حيث إن الحاجة إلى الشمول ليست أكثر من إرث التخلي عن الشعور الأصيل بالانتماء. والواقع أن الانتماء يتسم بأنه شعور إنساني طبيعي، والذي، بعد قمعه في الوقت الحاضر - يتجلى في أشكال بديلة من التجمع الاجتماعي الافتراضي التي تمثل محاولة لإشباع القدرة الطبيعية على الاختلاط البشري. والواقع أن مجتمع المستهلكين لا يتجمع، على أي حال، بل يتفكك ويتحول الجماعات إلى وحدات منعزلة، ذات روابط ضعيفة ومجزأة، حيث يتبلور الفرد بين البحث عن الذات والفوضى في اللا-ذات. إن فكرة المجتمع لا تزال باقية من حيث الاتجاهات المشتركة التي يجب اتباعها، حيث يتم توجيه المجموعات بشكل مجهول تقريباً في السعي وراء تلك "السعادة"، والتي تم تصميم آثارها من قبل جهات خارجية. وفقاً لبومان، فإن هذا هو مراجعة وتنقيح "التضامن الميكانيكي" عند دوركهايم، والذي تميزه خصائصه عن التضامن "العضوي". يتم استبدال تفرد الفرد وتميزه بتدفق احتياجات المجموعة، والتي - في عالمنا المعاصر - تبدو وكأنها تتخذ مظهر سرب.


أسراب استهلاكية

 في التمييز بين السرب والمجموعة، يحدد بومان التغييرات الجذرية التي تؤثر على الفرد والمجتمع في الواقع الاستهلاكي السائل، حيث "يميل السرب إلى استبدال المجموعة وقادتها وتسلسلها الهرمي و"ترتيبها الهرمي". "إن السرب يستطيع الاستغناء عن كل الطقوس والحيل التي لولاها لما تمكن من التشكل أو البقاء. فهو يتجمع ويتفرق ويتجمع من جديد من مناسبة إلى أخرى، وفي كل مرة لا محالة لسبب مختلف، وينجذب إلى أهداف متغيرة. إن القوة المغرية للأهداف المتحركة تشكل قاعدة كافية لتنسيق الحركات، وهذا يكفي لجعل أي أمر آخر أو فرض من أعلى غير ضروري. والواقع أن الأسراب لا تملك حتى أعلى وأسفل: بل لديها فقط اتجاه لحظي للطيران لوضع وحدات السرب (التي تعمل بالدفع الذاتي) في موضع القائد أو التابع، وعادة ما يكون ذلك لمدة طيران معينة، أو حتى جزء منها. وحتى التسلسلات الهرمية التقليدية التي تولد النظام تذوب وتصبح نواة قوية لا تنتهك يستطيع الفرد أن يجد نفسه فيها، ويوجه رغباته ويحد منها. وهذا يعني أن كل فرصة لمخاطبة الإنسان تنهار. وبالتالي يُنظَر إلى الفرد باعتباره وحدة لحظية من السرب العابر ويحركه التيار العابر. وهذا بُعد مشبع بأمن وهمي يتمثل في الاختيار الحر الأمثل لأنه اختيار عدد كبير من الناس. والاختيار هو ما يتجمع في عالم سائل، لأن هذه المساحات لابد أن تُعاد النظر فيها وإعادة تصميمها وفقاً لقواعد معينة قادرة على تشكيل المجتمعات التي يستطيع الفرد ـ المستهلك ـ أن يجد فيها ويحقق شعوره بالانتماء. وتبدو مراكز التسوق وكأنها خلايا أسراب من بومان، باعتبارها تقدم المجتمع المتخيل المثالي: مكاناً حيث تتجمع أغراض الشراء. "وبالتالي فإن ""أماكن التسوق/الاستهلاك تقدم ما لا يمكن لأي "واقع حقيقي" خارجي أن يقدمه: توازن شبه مثالي بين الحرية والأمن. وداخل معابدها قد يجد المشترون/المستهلكون أيضاً ما كانوا يبحثون عنه في الخارج، بلا جدوى وبلا ينضب: الشعور المريح بالانتماء، والانطباع المطمئن بأنهم جزء من مجتمع.

إن المشاركة هي إحدى الطرق التي يصبح بها الاستهلاك نشاطاً أساسياً للإنسان المعاصر، وخاصة مبدأ إدماج واستبعاد الذات. وعلاوة على ذلك، بهذا المعنى، يتتبع باومان استراتيجية أكل الإنسان التي نظّر لها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي " كلود ليفي شتراوس" Claude Levi-Strauss إذ كانت ممارسة القضاء على الاختلافات بين الأفراد، والتي يتم إعادة إنتاجها في السوبر ماركت: الأماكن المميزة للمستهلكين، إن الأماكن التي تتغذى على الإنسان تتناقض في الواقع مع الأماكن "الأنثروبولوجية"، والتي تتألف من تقيؤ وبصق الآخرين، واعتبارهم غرباء لا علاج لهم، ومنع الاتصال الجسدي، والحوار، والعلاقات الاجتماعية، وأي نوع من أنواع التجارة، أو التشارك، أو الزواج. إن المتغيرات المتطرفة لهذه الاستراتيجية الأنثروبولوجية هي، اليوم كما كانت دائماً، السجن، والترحيل، والقمع الجسدي. وهناك شكلان محدثان، ومُحسَّنان هما الفصل المكاني، والأحياء الفقيرة الحضرية، والوصول الانتقائي إلى الفضاءات. وتتألف الاستراتيجية الثانية مما يسمى "نزع الاغتراب" عن المواد الغريبة: "عن طريق البلع" و"أكل" الأجسام والأرواح الغريبة لجعلها، من خلال التمثيل الغذائي، متطابقة ولا يمكن تمييزها عن الجسم الذي يبتلعها". وبالتالي يصبح الاستهلاك وسيلة بديلة للتجمع الاجتماعي، والتي تحل محل الشعور بالانتماء بالحاجة إلى الإدماج. وتستبعد هذه العملية حتماً أولئك الذين لا يمتلكون الوسائل المناسبة لأداء هذا النشاط، والذي يظل في الواقع منعزلاً في الأساس.

هنا في هذه اللعبة من المظاهر والاستنساخ، تفسح المجموعة الطريق للسرب، الذي يفقد في الدوامة الجماعية ذلك الشعور الأصيل بالانتماء الذي يجعل كل إنسان عضواً في المجتمع، حيث يؤدي - على حد قول دوركهايم - الثنائية الطبيعية للموضوع: حيوان بشخصية اجتماعية، واتحاد الغريزة والعقل، والذات والعالم.

بدءاً بالشيوعية ومن ثم الانتقال إلى الغرب، ورؤية الجوانب المختلفة للحداثة عن كثب لم يشعر بومان بأنه في بيته في أي من هذه المراحل. الحداثة هي مكان القتل الجماعي. وبينما كان يقدم مبرراً مشروعاً لتدمير الأمة، كان لديه انطباع بأنه وجد الحل فيما بعد الحداثة. على الرغم من أن بومان رأى في البداية أن ما بعد الحداثة هي الحل، إلا أنه استخدمها لاحقاً في أعماله لينتقد ما بعد الحداثة بقسوة. ما بعد الحداثة، التي يراها نسخة لامعة من الحداثة التي كثيراً ما يذكرها في أعماله مرتبطة بعدم اليقين وانعدام الأمن، وخلق الخوف لدى الأفراد.

مميزات المعرفة العلمية/ د زهير الخويلدي



مقدمة

لقد أصبح العلم جانبًا أساسيًا من جوانب المجتمع الحديث، مما يسمح لنا باكتساب معرفة أكبر بالعالم من حولنا وتطوير تقنيات جديدة لحل المشكلات المعقدة. ومع ذلك، فإن ممارسة العلوم ليست بهذه البساطة كما يبدو. يعتمد العلم على فرضيات وأفكار وإجراءات محددة تتأثر بإطار فلسفي أوسع يعرف بالفلسفة العلمية. تهتم فلسفة العلم بأسس العلم وأساليبه ونتائجه. انها نظام فلسفي يدرس موضوعات مثل ماهية العلم، وكيف يعمل، وما الذي يميز المعرفة العلمية عن أنواع المعرفة الأخرى، وما هي حدود البحث العلمي؟. فلسفة العلم هي أحد الفروع التقليدية للفلسفة. يمكننا تعريف فلسفة العلم، أو نظرية المعرفة، بأنها هذا النظام الذي يسعى للإجابة على السؤال: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وكيف؟ فمن يسعى إلى تحديد حدود المعرفة؟. إنها مسألة استخلاص قوانين من دراسة تاريخ العلم، أو العقل البشري، تسمح لنا بالإجابة على هذا السؤال. ان فلسفة العلم هي دراسة فرضيات وأسس ونتائج البحث العلمي. وتدرس فروع العلوم المختلفة وبنيتها الأساسية. الأسئلة المركزية هي "ما هو العلم؟" و"ما الذي ليس علمًا؟" وكذلك "ما الذي يميز العلم؟" و"كيف نحقق التقدم العلمي؟". فماهي التحولات التاريخية والمعرفية التي حدث في فلسفة العلوم؟


تاريخ فلسفة العلوم

تاريخ فلسفة العلوم له جذوره في الفلسفة وظهر كنظام مستقل خلال القرن التاسع عشر. يعتبر أوغست كونت وجون ستيوارت ميل من الأفراد المهمينين في ظهور هذا التخصص، على الرغم من أن فلاسفة مثل كوبرنيك وبيكون وجاليلي وكبلر طوروا أفكارًا مهمة وحاسمة في موضوعات ذات صلة.


الحقيقة والواقع

يمكن اعتبار فلسفة العلم وسيلة لوصف ممارسة البحث وطريقة لتحديد كيفية تنفيذها. كيف يرتبط العالم الحقيقي والبيانات التجريبية والنماذج والنظريات ببعضها البعض، وما الذي يمكن فعله لتحسين علاقتها؟

ان العلاقة بين الحقيقة والنظرية هي جوهر العلم، فهي تحدد ما إذا كانت النظرية مقبولة كواقع. إن الجدل بين الواقعية واللاواقعية هو جدل فلسفي علمي، فهو يستكشف أسس الحقائق العلمية المقبولة بشكل عام.  الاختزال العلمي فكرة مثيرة للجدل في فلسفة العلم. في هذا النموذج، يختزل العلم التفاعلات والكيانات المعقدة إلى مجموع الأجزاء المكونة لها. فما هي فلسفة العلم؟

فلسفة العلم هي نظام فلسفي يهدف إلى فهم طبيعة العلم وأساليبه وعواقبه. يدرس العلاقة بين الأفكار والنماذج والبيانات العلمية، والافتراضات والمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها النشاط العلمي. في جوهرها، تدرس فلسفة العلم الاهتمامات الأساسية حول طبيعة المعرفة العلمية من خلال طرح أسئلة مثل هذه:


• ما هو العلم وكيف يختلف عن أنواع المعرفة الأخرى؟

• ما هي المتطلبات الأساسية للمعرفة العلمية وكيف يتم تبرير الادعاءات العلمية؟

• لماذا يستمر العلماء في الاعتماد على النماذج والمفاهيم التي يعرفون أنها خاطئة جزئياً على الأقل؟ فيزياء نيوتن مثلا.

• ما هي حدود البحث العلمي؟ وكيف نستخدم البيانات التجريبية لاختبار الفرضيات العلمية؟

• كيف تؤثر الجوانب الاجتماعية والسياسية والتاريخية على البحث العلمي؟ وكيف تحدد هذه العناصر تطور المعرفة العلمية؟


• ما هو القانون الطبيعي؟ هل هناك تخصصات غير مادية مثل علم الأحياء وعلم النفس؟

تعتمد فلسفة العلم على تقاليد فلسفية مختلفة لمعالجة هذه القضايا، بما في ذلك نظرية المعرفة والتجريبية والأخلاق وغيرها. كما أنها تشارك أيضًا في الممارسة العلمية، وتتعاون بشكل متكرر مع العلماء لإنشاء وتحسين الأفكار والمنهجيات. لذلك تعد العلاقة بين النظرية والبرهان موضوعًا مهمًا للدراسة في فلسفة العلوم. تسعى النظريات والنماذج العلمية إلى تفسير الأحداث التي يمكن ملاحظتها، ولكن قيمتها النهائية تتحدد من خلال قدرتها على تقديم تنبؤات دقيقة وتحمل الاختبارات التجريبية. كما تدرس فلسفة العلوم كيفية تطوير الفرضيات واختبارها وتقييمها لتحديد ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة بناءً على الأدلة التجريبية. تعد أهمية الجوانب الاجتماعية والتاريخية والنفسية في الدراسة العلمية موضوعًا بحثيًا مهمًا آخر في فلسفة العلوم. وبعيدًا عن الحقائق العلمية البحتة، يتأثر العلماء بالتحيزات الثقافية، والأعراف الاجتماعية، والظروف التاريخية والعوامل النفسية. وتحلل فلسفة العلم تأثير هذه العناصر على البحث العلمي وكيف يمكن أن تؤثر على إنتاج المعرفة العلمية وقبولها في المجتمع.


فروع فلسفة العلوم

فلسفة العلوم هي مجال واسع يتضمن مجموعة من التخصصات الفرعية والأساليب الجزئية. والآن بعد أن أجاب المقال على السؤال الأساسي "ما هي فلسفة العلم؟"، حان وقت التطرق إلى فروعها:


نظرية المعرفة او الابستيمولوجيا

نظرية المعرفة هي مجال فلسفي يدرس طبيعة المعرفة وكيفية الحصول عليها. تهتم نظرية المعرفة بالمسائل المتعلقة بطبيعة المعرفة العلمية، والتقنيات المستخدمة للحصول عليها، والمعايير المستخدمة لتقييم الادعاءات العلمية.


التجريبية

وهو منهج فلسفي يؤكد على أهمية الأدلة التجريبية في تطوير المعرفة. تهتم التجريبية بأهمية الملاحظة والتجريب في البحث العلمي، فضلا عن مدى إمكانية تبرير الفرضيات العلمية على أساس الأدلة التجريبية.


المعيارية

يتناول هذا النوع من الفلسفة القضايا المتعلقة بالصواب والخطأ، والمثل الأخلاقية التي توجه العمل البشري، وبشكل أساسي الآثار الأخلاقية للبحث العلمي والواجبات المجتمعية للعلماء.


الاستقراء

تُعرف عملية الاستدلال من ملاحظات محددة إلى استنتاجات أوسع باسم الاستقراء، وهو مشكلة تبرير الاستدلال من ملاحظات محددة إلى قواعد أو فرضيات كونية. يعد الاستدلال الاستقرائي جانبًا حاسمًا من جوانب البحث العلمي، ولكنه يخضع أيضًا للنقد والنقاش.  


الاستنتاج

الاستنتاج يشبه إلى حد كبير الاستدلال الاستقرائي، على الرغم من أنه غالبًا ما يعتبر أكثر صرامة من الأخير. يستخدم الاستنباط لاختبار الأفكار العلمية عن طريق وضع تنبؤات أو فرضيات محددة بناءً على تلك الأفكار.


التحولات النموذجية والثورات العلمية

اقترح توماس كون مفاهيم التحول النموذجي والثورة العلمية في كتابه "بنية الثورات العلمية".

اقترح كون أن التطور العلمي يحدث على مرحلتين: العلم العادي، حيث يعمل العلماء ضمن إطار نظري أو نموذج معين، والثورة العلمية، حيث ينشأ نموذج جديد ليحل محل النموذج السابق.

تؤدي التحولات النموذجية والثورات العلمية إلى تغييرات في الافتراضات والمفاهيم والمنهجيات الأساسية للتخصص العلمي.


النماذج العلمية

النموذج العلمي هو إطار يحتوي على جميع الأفكار المقبولة بشكل عام حول موضوع ما. اقترح الفيلسوف توماس كون أن البحث العلمي لا يتقدم نحو الحقيقة ولكنه يخضع للعقيدة والسعي العقيم للنظريات القديمة.


الثورة العلمية

إن الثورة العلمية، وهي التغيير الذي يغير تماما الطريقة التي ينظر بها العلم إلى العالم، غالبا ما يشار إليها على أنها نقلة نوعية. ومن الأمثلة على التحول النموذجي اكتشاف النظرية النسبية مع اينشتاين التي أحدثت ثورة في فهم الفيزياء المعاصرة بين البشر.


التنظير

غالبًا ما توصف شفرة أوكام بأنها "أبسط إجابة هي الصحيحة في أغلب الأحيان". يتعلق الأمر بتجريد المعلومات لتسهيل اكتشاف الحقيقة. يتيح استخدام شفرة أوكام للباحث دراسة أبسط النظريات أولاً. من الطبيعي جمع البيانات التي تدعم النظرية عند إجراء البحوث. في بعض الأحيان يكون الباحثون مشغولين باختبار نظريتهم لدرجة أنهم ينسون أخذ الملاحظات التي تتعارض مع النظرية بعين الاعتبار. يُشار إلى هذا غالبًا على أنه خطأ في التحقق. يمكن أن يحدث هذا عندما يكون أحد العلماء مرتبطًا بشكل مفرط بنظرية ما، غالبًا لأنه "اخترعها". غالبًا ما يُفضل تزييف النظرية. يحاول العالم التوسع في النظرية بتنبؤات جريئة وقابلة للاختبار. العلماء أكثر عرضة لتزييف نظريتهم ويميلون إلى تكييف النظرية مع الواقع، بدلا من تكييف الواقع مع نظرياتهم. يؤدي القيام بذلك غالبًا إلى صياغة نظريات بطريقة تؤكد "كل شيء". غالبًا ما يستخدم الباحثون فرضية بحثية لجعل علومهم قابلة للاختبار. ومع ذلك، فإن التحليل المخصص هو نوع من الفرضيات الإضافية التي تتم إضافتها إلى نتائج التجربة في محاولة لشرح الأدلة المخالفة. أثناء إجراء بحث، قد يكون من المفيد تذكر أن دقة النظرية لا تعتمد على معتقدات الباحث - فهي ليست أكثر أو أقل صحة، بغض النظر عن مدى الاعتقاد بها.


تعريف العلم وغير العلم

مشكلة ترسيم الحدود، التي تشير إلى صعوبة التمييز بين المعتقدات والتقنيات والممارسات العلمية وبين تلك التي ليست كذلك، هي معضلة طويلة الأمد في فلسفة العلم. تنشأ هذه المشكلة لأنه لا توجد مجموعة معايير مقبولة بشكل عام لتصنيف النظرية أو الممارسة على أنها علمية أو غير علمية. لقد أشار كارل بوبر، فيلسوف العلم الشهير، إلى أن مشكلة ترسيم الحدود كانت من الأسئلة الكبرى في فلسفة العلم. قابلية التكذيب هي معيار استنتاجي لتقييم النظريات والفرضيات العلمية؛ تكون النظرية أو الفرضية قابلة للدحض (أو قابلة للتفنيد) إذا كان من الممكن دحضها منطقيًا عن طريق اختبار تجريبي. يعد هذا المعيار مهمًا لأنه يسمح باختبار الفرضيات العلمية وتقييمها بدقة، فضلاً عن السماح للعلماء بتطوير نظرياتهم وتحسينها بمرور الوقت. ومع ذلك، لا تستوفي جميع النظريات معايير قابلية الدحض. بعض النظريات، على سبيل المثال، قد تعتمد على افتراضات غير قابلة للاختبار أو أحداث غير قابلة للملاحظة، مما يجعل الاختبار التجريبي صعبا أو مستحيلا. وتصنف هذه المعتقدات على أنها علمية زائفة لأنها تدعي أنها علمية ولكنها تفتقر إلى الأساس الدقيق والتجريبي للنظريات العلمية الحقيقية.


التحليل النفسي، وعلم الخلق، والمادية التاريخية هي مجرد أمثلة قليلة من النظريات التي كانت موضوع الجدل العلمي:

• تعرض التحليل النفسي، وهو عمل سيجموند فرويد، للتحدي بسبب تركيزه على التفسيرات الذاتية والادعاءات التي لا يمكن التحقق منها حول العقل البشري.

• رفض المجتمع العلمي علم الخلق الذي يرى أن الكون خلقه كائن إلهي، وذلك لعدم وجود أدلة واقعية عليه وارتباطه بالعقيدة الدينية.

• تعرضت المادية التاريخية، وهي نظرية ماركسية للتاريخ، للانتقاد بسبب منهجها الحتمي والاختزالي في التعامل مع عمليات المجتمع والاقتصاد.

بشكل عام، تظل مشكلة ترسيم الحدود في فلسفة العلم موضوعًا محل خلاف، حيث يستشهد العديد من العلماء بمعايير وتقنيات مختلفة للتمييز بين العلم وغير العلم. ومع ذلك، لا يمكن المبالغة في أهمية هذه القضية، لما لها من عواقب مهمة على صحة وموثوقية المعرفة العلمية، فضلا عن دور العلم في المجتمع.


فلسفة العلوم الخاصة

وفيما يلي نظرة عامة على الفلسفة المتعلقة بعلوم معينة:


فلسفة علم الأحياء

يدرس هذا المجال من فلسفة العلوم طبيعة الحياة والأنظمة الحية، بالإضافة إلى المنهجيات والمفاهيم البيولوجية. كما يغطي الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالبحوث البيولوجية، فضلا عن العلاقات بين علم الأحياء والتخصصات الأخرى مثل الكيمياء والفيزياء.


فلسفة الطب

فلسفة الطب هي مجال فرعي من فلسفة العلوم التي تدرس الأسس النظرية والمفاهيمية للمعرفة والممارسة الطبية. تدرس طبيعة فلسفة الطب الصحة والمرض، والأهداف الطبية، والعواقب الأخلاقية والاجتماعية للممارسة الطبية، ومنهجيات ومفاهيم البحث الطبي.


فلسفة علم النفس

يهتم هذا المجال من فلسفة العلوم بالأسس الفلسفية لعلم النفس، مثل طبيعة العقل، والوعي، والإدراك. كما يدرس أيضًا الروابط بين علم النفس والتخصصات الأخرى مثل علم الأعصاب والعلوم المعرفية، فضلاً عن الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة بالأبحاث النفسية.


فلسفة الفيزياء

يهتم هذا المجال من الفلسفة العلمية بأسس الفيزياء، مثل طبيعة المكان، والزمان، والمادة، والطاقة. وهو مهتم أيضًا بكيفية تأثير النظريات الفيزيائية مثل النسبية وفيزياء الكم على معرفتنا بالكون.


فلسفة العلوم الاجتماعية

يهتم هذا المجال من فلسفة العلوم بطبيعة الظواهر الاجتماعية وكذلك طرق التحقيق الاجتماعي. ويستكشف الروابط بين العلوم الاجتماعية والعلوم الأخرى مثل علم النفس والاقتصاد، فضلا عن الاهتمامات الأخلاقية والسياسية المتعلقة بالبحث الاجتماعي.


فما هو العلم على وجه الدقة؟

تسعى فلسفة العلم إلى التمييز بين العلم والدين والعلوم الزائفة. الأساليب المذكورة أعلاه (مثل شفرة أوكام، وقابلية التزييف، وقابلية الاختبار) كلها طرق لفصل العلم عن "اللاعلم". هيمنت مناقشة العلم مقابل الدين على الأخبار أكثر من أي وقت مضى في السنوات الأخيرة. بدأ الانقسام بين العلم والدين في القرن السابع عشر وكان خطوة ضرورية في تقدم المعرفة الإنسانية. العلم الهامشي هو فرع من العلوم ينحرف عن النظريات العلمية الراسخة. وعلى عكس العلوم الزائفة، فإنه لا يزال يستخدم المنهج العلمي ولكنه يعتمد على التأمل إلى حد كبير، على الأقل وفقًا لوجهات النظر الشائعة في ذلك الوقت. إن العلوم غير المرغوب فيها هي نقيض العلوم الهامشية، والتي غالبًا ما تمارس عندما تؤثر السياسة والتجارة بشكل مفرط على الأبحاث. ان المفاهيم الخاطئة هي اعتقاد شائع وهو في الواقع نصف حقيقة أو كذبة يتم ترسيخها كحقيقة علمية. بالنسبة لعالم المعرفة كارل بوبر، لا يمكن للنظرية أن تدعي أنها علمية إلا إذا كان من الممكن، بموجب القانون، إبطالها: "لا يمكن أبدًا تبرير النظريات العلمية أو التحقق منها بشكل كامل، ولكن مع ذلك يمكن إخضاعها للاختبارات". وبالتالي فإن درجة صحة النظرية العلمية تعتمد على قدرتها على الصمود أمام الاختبارات التي تحاول إبطالها. النظرية التي لا تقبل اختبار التزوير ستسمى بعد ذلك نظرية علمية زائفة.


قيمة الفلسفة العلمية

اكتشف نظرة عامة واضحة ويمكن الوصول إليها عن المبادئ والخلافات الرئيسية التي تشكل هذا المجال.

إن فلسفة العلم لها هدفها العلم، أو بشكل أكثر دقة، مختلف التخصصات والممارسات العلمية. بالنسبة لفيلسوف العلم، فإن الأمر يتعلق بتحليل التكوين، وأنماط التطور، والأساليب، والمنطق الداخلي، وعمليات الاختراع وتبرير المعرفة العلمية في جميع مجالات تطبيقاتها المتنوعة. وتنطوي مهمتها على اهتمام خاص بالعلاقة المتبادلة بين التخصصات العلمية، وكذلك بالقيم الفكرية والاجتماعية التي تنقلها والتي غالبا ما تحفزها بطريقة غير تأملية، بل ومتناقضة: هذه القيم هي البحث عن الحقيقة، تقدم المعرفة والتطور التكنولوجي وتحول الظروف المعيشية والتنظيم في المجتمع . بعد أخذ كل الأمور بعين الاعتبار، يتركز اهتمام فيلسوف العلم في المقام الأول على النشاط المتعدد الأشكال، النظري والعملي، للعقل البشري، وهو النشاط الذي يتم إنجازه بطريقة متجددة باستمرار في عمل العلم. لقد كانت علاقة الفلسفة بالعلم في كثير من الأحيان، عبر التاريخ، علاقة السلف بنسله. تشكلت العلوم عمومًا ضمن الفلسفة . كانت أغراض كل منهما غير واضحة نسبيًا: كان من الضروري بلا شك تصور طبيعة الكيانات التي تشكل أثاث الكون قبل الانخراط في التحقيق التفصيلي له، وكان من الضروري تحديد الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيق هذه الغاية بعقلانية. وهكذا كان أرسطو فيلسوفًا وعالم أحياء. لقد تصور جاليلي فلسفة ميكانيكية للطبيعة سمحت له بقراءة كتاب العالم العظيم المكتوب باللغة الرياضية. وقد طور ديكارت ميتافيزيقاه ليصل إلى مبادئ فلسفة الطبيعة التي تشكل جذور شجرة تشكل الفيزياء جذعها وتنبثق منها فروع مختلف مجالات تطبيق العلم. لا شك أننا وجدنا الفلسفة حاضرة في مصادر علم اللغة عند دومارسيه وكونديلاك أو علم الاجتماع عند كونت أو دوركهايم أو ماكس فيبر، لإعطاء هذه الأمثلة فقط من بين العديد من الأمثلة الأخرى المحتملة. أما بالنسبة للمسائل الكونية ذات الجوهر الفلسفي، مثل تلك المتعلقة بواقع أو مثالية المكان والزمان، والتي كانت حاضرة بوضوح في الجدل بين لايبنتز والنيوتنيين في بداية القرن الثامن عشر، أفلم تغذي التحليلات التي أدت إلى النظرية النسبية في قلب الفيزياء المعاصرة؟

 لا تزال مثل هذه الأساليب التأسيسية على حدود الأنطولوجيا الفلسفية والعلوم موضحة حتى اليوم في عدد من الأبحاث النظرية المتطورة. ومن المؤكد أن الفيلسوف قد تعامل أحيانًا مع العلم بشكل عام، خاصة من منظور فحص الأساليب العقلانية التي يجب أن تجسدها أي ممارسة علمية. دعونا نفكر في خطاب ديكارت حول المنهج (1637) الذي طور فكرة الرياضيات، أي تطور العقل وترتيب الأشياء التي يجب معرفتها، والتي تنطبق على جميع مجالات المعرفة. يبدو أن طموح الفيلسوف هو تأسيس صرح العلم من خلال تزويده بالمبادئ وطرق التفسير وتحديد موضوع بحثه. دعونا ننظر أيضًا في التحليلات الفلسفية العديدة التي ميزت اختراع وانتقاد الأساليب التجريبية في العلوم، من خلال تعزيز منطق الخبرة والتحقق من صحة المنطق التجريبي المطبق على الظواهر. وهكذا يمكن تتبع المسار المعرفي من فرانسيس بيكون و"الفلاسفة التجريبيين" للجمعية الملكية - بويل ولوك ونيوتن - في القرن السابع عشر، إلى مروجي الحتمية التجريبية في القرن التاسع عشر، مثل كلود برنارد، أو النظرية المنطقية التجريبية في القرن العشرين، مثل كارناب، ورايشنباخ، وهمبل وغيرهم من خلفاء دائرة فيينا. حتى لو استمرت وجهات النظر التأسيسية والمنهجية في البحث الفلسفي المعاصر، فإن الصورة الرئيسية لفلسفة العلم تظهر بشكل مختلف إلى حد ما في البانوراما الحالية. استهل لوك مقالته المتعلقة بالذه، الإنساني (1690) بطرح فكرة أن العلم له مهندسيه الخاصين وأن الفيلسوف يجب أن يُخضع نفسه من الآن فصاعدًا لمشروع التنوير هذا: في الأساس، يجب أن تتكون مهمته من التفكير في وسائل المعرفة المتاحة لنا لتحقيق التمثيل الموضوعي للظواهر وتجنب العقبات الكامنة في التصور العلمي. وبطريقة مختلفة قليلًا، يؤكد مؤلفو ملخص فلسفة العلوم الذي نشر مؤخرًا في عام 2011: "إن مهمة فلسفة العلم هي فهم وتقييم المشروع الهائل الذي هو العلم" . ولذلك سيتم تفصيل هذه الولاية في البحث عن الأهداف والأساليب والمبادئ والعلاقات المتبادلة بين التخصصات العلمية. لكن الأمر الأكثر جوهرية بلا شك هو أن فلسفة العلم ستهدف إلى إقامة علاقة بالواقع للمفاهيم والفرضيات والقوانين والنظريات التي تطورها العلوم المختلفة في منهجها التفسيري لنظام الأشياء، وتحديد كيفية المراجعة والتصحيح والتخريب واستبدال التمثيلات الموجودة في هذا الحوار بين الوكلاء وأشياء المعرفة العلمية. ومن هنا سيتركز اهتمام الفيلسوف، بطريقة تأملية ونقدية، على الخطاب العلمي نفسه وعلى الممارسات التي يدمجها. يهدف هذا الخطاب إلى أن يكون عقلانيًا ومفصلًا منطقيًا وموضوعيًا وتفسيريًا ومحايدًا أيديولوجيًا . ولكن إلى أي مدى وتحت أي ظروف يمكن لفيلسوف العلوم دعم هذا الادعاء؟ كيف وبأي وسيلة داخلية وخارجية تتطور المعرفة النقدية للعلم فعلياً؟


خاتمة

على النقيض من الرأي، أو حتى الإحساس، فإن العلم يشير إلى أي معرفة عقلانية يتم الحصول عليها عن طريق البرهان أو عن طريق الملاحظة والتحقق. اعتمادًا على ما إذا كانت تسبق التجربة أو ما إذا كانت تبدأ منها، يقال إن منهجها إما استنتاجي افتراضي أو استقرائي. يسمى النظام الذي يدرس العلوم نظرية المعرفة. والغرض منه هو التشكيك في مبادئه وتطوره التاريخي؛ وبشكل أكثر دقة، فهي تريد أن تفهم ما الذي يفسر الثورات العلمية (مثل ثورة جاليلي)، والتغيرات في الأساليب (على سبيل المثال استخدام التجريب في الطب) أو حتى ظهور علوم جديدة (مثل العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر). ومن بين المشاكل الكلاسيكية التي تناولتها فلسفة العلوم، يمكننا أن نتذكر ما إذا كان لكل نوع علمه الخاص (كما يقول أرسطو) أو ما إذا كان يمكن استخدام نفس الطريقة لجميع العلوم (كما يعتقد ديكارت). الإيمان بالعلم (أو العلموية)، المنتشر اليوم على نطاق واسع بسبب التقدم في المعرفة، يُدان أحيانًا باعتباره مفرطًا وأيديولوجيًا. ولهذا السبب تحب الفلسفة أن تذكرنا، مع رابليه، بأن "العلم بدون ضمير لا يؤدي إلا إلى تدمير الروح".  ما هي فلسفة العلم من وجهة نظر تاريخية نقدية؟

حَبَّةُ قَمْحٍ/ جورج عازار



لا، أنا لستُ طحيناً

في المَتاهاتِ تَذروهُ الرِّياحُ

ولستُ عَجيناً

كما تَبتغي بأصابِعكَ تُشَكِّلُهُ

ولستُ كِسرةَ خُبزٍ تارةً تَجتَرُّها

وتارةً إلى مُملِقٍ

كي يُسكِتَ جوعَ الرُّوحِ

تُهديها

أنا حَبَّةُ قَمحٍ

كَما أبتغي أَصيرُ

أنا زَغرودةُ السَّنابلِ

أُراقِصُ النَّسيمَ في الفَجرِ

وتَغسِلُ وَجهي في فَرحٍ

حَبَّاتُ المَطرِ

وليسَ في هَوانٍ

حينَ تَقسو الزَّوابِعُ

أنحني

وإنَّما بِتواضِعِ المُقتَدرِ أَميلُ

وحَماقةَ الطَّيشِ

أَتَّقي

أضحكُ لِلشَّمسِ

في غُنجٍ

أتَعلَّمُ مِنها

كيف تَبعثُ الدِّفءَ

لِمحرومٍ يَرتَعِشُ

وكيفَ وجوهَ القُساةِ

حين تَغضَبُ

تُحرِقُ

ليسَ هَباءً ما عليه نَشأْتُ

فالأرضُ أُمِّي

وعَرقُ السَّواعِدِ السَّمراءِ

أبي

مِن التُّرابِ أبلغَ الدُّروسِ حَفِظتُ

فيه حياةُ القُوتِ

وفي غَورِهِ

طَعمُ المَوتِ

وفيه نَعيمُ الطَّيباتِ

ومِن أجلِهِ

سَاحاتُ الوَغى تَتَّقِدُ وتَفورُ

تارةً يشرَبُ دَمَاً

وتَارةً يَثورُ

هو قُدسُ الأقداسِ

في النَّأيِ

ووجَعُ الرُّوحِ

حين عنهُ تَبعُدُ

في أعماقِ القَرارِ

كُنوزٌ وأنينٌ

وفيه أباليسُ وجِنٌّ ودُودٌ

فلا عِنادٌ معهُ ينفَعُ

ولا خَطبُ الوِدِّ يُفيدُ

سَتَبقى وحدَها الأرضُ

والكَلُّ سيَرحلُ

ورُغمَ كُلِّ الغَيِّ

إلى حُضنِها ذاتَ يومٍ

كُلُّهُم لابدَّ أنْ يَعودوا

أنا اِبنَةُ الأرضِ

والطِّينِ

بِقَدري لا تَستَهينوا

وشَأني أبداً لا تَستَصغِروا

أنا حَبَّةُ بُرٍّ

في مَيعةِ الصِّبا سِحرٌ

وفي المَشيبِ

جودٌ ويُمنٌ وإِنعامٌ

أنا حَبَّةُ القَمحِ

كُلُّ الأفواهِ تَطلِبُني

ومِنِّي أبداً لا تَشبَعُ

أنا حينَ أغيبُ

لا أموتُ

مِليونُ فينيقٍ

مِن رُفاتِي يَنبُتُ


رسالة إلى عُميان الواقع الافتراضي/ فراس حج محمد

 



تابعتُ حملة التنمر الإلكتروني التي انطلقت للهجوم على أحد كتب المناهج الأردنية، ويظهر في أحد صفحاتها مربعاً تعريفيا بالفنانة سميرة توفيق. جاء التعريف في سياق الحديث عن الأغنية التراثية الأردنية في الدرس الثامن من الوحدة الثانية "التربية الموسيقية" من كتاب "التربية الفنية والموسيقية والمسرحية". (الطبعة الأولى التجريبية، 2024، ص  66). وبوتيرة أخف انتبهت إلى ما كتبه مدونون تونسيون انتقدوا إدخال نوال السعدواي في أحد كتب المناهج عندهم، وطال هذا التنمر توهم أن الفنانة المصرية إلهام شاهين تتمنى أن تدرّس في الكتب المدرسية، ما نفته صراحة إذ ادعوا أنها قالت: "أتمنى تاريخي يذكر في كتاب مدرسي". وادعى أحد المدونين أن الفنانة إلهام شاهين طلبت من مجددي المناهج في الأردن إضافة اسمها وتاريخها أسوة بغيرها من الفنانين والفنانات الأحياء منهم والأموات.

رافق ذلك ربط المسألة بفكرة هجوم القوى الاستعمارية على المناهج العربية ومحاولة تغييرها، كما هو الحال مع مناهج السلطة الفلسطينية التي طالبت دول أوروبية متعددة في سياق الحرب على غزة (2023/ 2024)، ومن ضمن إصلاحات نظام السلطة الفلسطينية-  طالبت السلطة بضرورة إجراء تعديلات على هذه المناهج، بما يتساوق ويتصل بدعوة الاحتلال بضرورة تغيير مناهج غزة لتكون أكثر اعتدالا حتى لا ينتج عن هذا المنهاج مقاومين يناضلون ضد الاستعمار والاحتلال، وما ينتج عن هذا الاحتلال من مظاهر القسوة والعنف متمثلة بالقتل والتعذيب والسجن والنفي.

هذه الأرضية والذهنية المستفزة- بحق وبباطل كذلك- خلقت أجواء من التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي شارك في صنعها مثقفون وأساتذة ومتعلمون خلال مناقشتهم صفحة الكتاب المدرسي الأردني، حيث سيكون التركيز في الحديث عنه لعدة اعتبارات سأشير إليها في ثنايا هذه المقالة.

استهجن هؤلاء الغيورون على الأمة وثقافتها وأجيالها هذا التوظيف، وهذا الاستعمال التربوي لفنانة أردنية، ولو عاد أحدهم إلى الدرس نفسه لوجد أنه من الطبيعي استدعاء نموذج من الفن الأردني التراثي، إن لم تكن سميرة توفيق، فسيكون غيرها ممن أبدعوا في أداء الأغنية الشعبية الأردنية، سيكون بدلا منها توفيق النمري أو سلوى أو جميل العاص مثلا، وربما إسماعيل خضر أو عبده موسى المشهور بالعزف على الربابة أو ميسون صنّاع، أو متعب الصقار أو عمر العبداللات من الجيل الجديد، أو غيرهم، فكل هؤلاء فنانون أبدعوا في أداء أغاني التراث الأردني، ولا بد من أن يذكر المؤلفون هذا الجانب الحيّ والحيوي للأغنية التراثية، فبناء الوحدات في الكتاب المخصص لهذا الشأن التعليمي لمن يطلع عليه، يدرك أن الدروس مبنية على المعلومات العلمية النظرية ثم ربطها مع واقع الحياة الأردنية، بوصفها بيئة الطالب التي يتعلم فيها، ويتعلم من أجلها، فأين الخلل في هذا لست أدري؟ على الرغم من أن هذا التعريف وهذا التوظيف جاء على هامش الدرس، كمعلومات إثرائية للطالب بوصف أغاني سميرة توفيق مثالا واقعيا على الأغنية التراثية، فلم تكن محل نقاش، وإنما انتقل الكتاب بعدها مباشرة إلى التقويم "أقيّم تعلمّي".

ليس صحيحا ألبتة ما ادّعاه بعض هؤلاء المتنمرين أن المناهج تطرح هذه الشخصيات لتكون محل قدوة، كما كتب أحدهم مثلا في انتقاده حضور نوال السعداوي في المنهاج التونسي وسميرة توفيق في المنهاج الأردني، فهل مثلا عندما يُطرح نص لأبي العلاء المعري سيكون قدوة في أفكاره الإلحادية؟ والأمر نفسه يقال عن أبي الطيب المتنبي النرجسي والمنافق سياسيا، وعن أبي نواس المتهتك أخلاقياً، وعمر بن أبي ربيعة (النسونجي) الذي كان يتابع النساء ويرتحل في طلبهنّ في موسم الحج ليقول فيهن شعرا، وغيرهم الكثير، هل عندما يُطرح هؤلاء الفنانون أو تلك الشخصيات في المناهج والمقررات يكون الهدف من ذلك تنصيبهم قدوات اجتماعية أو فنية؟ إن من يطرح هذه الفكرة لا يفهم ما معنى محتوى تعليمي ولا أهدافه، ولا يعرف كيف تصنع القدوة الحسنة أو السيئة.

إن من ساهموا في هذا التنمر واللمز والهمز من العرب، فلسطينيين وغير فلسطينيين، ضد معلومات هذه الصفحة من كتاب المنهاج الأردني الذي يستدعيها منطقيا وتركيبيا وتعليميا، لم يكونوا اطلعوا- في الغالب- على الكتاب المقرر، ولا حتى اسمه وبعض من مضمونه المتعلق بالتربية الموسيقية. وإنما "مجنون" رمى حجر في بئر، فلحقه آلاف من المجانين رموا وراءه آلاف الحجارة. لم يفكر أحدهم ما السبب وراء ذلك؟ وأين؟ وما السياق العام؟ وإنما مجرد رأوا صورة سميرة توفيق والتعريف بها وببعض أغانيها، حتى أشهروا ألسنتهم الحادة ضدها، وضد هذا التوظيف. وضد المناهج، وحضرت نظريات المؤامرة وتتفيه الأجيال. "وانظروا إلى أين صرنا" و"ربنا يجيرنا من القادم"، وغير ذلك كثير من العبارات التي تصور الأمر على أنه كارثة وطنية وقومية وعقدية، عدا التربوية والتعليمية.

على أية حال، إنها ليست أول مرة يطيش الناس فيها على شبر مياه التشويه ضد كتاب أو كاتب، إنما يكفي أن يحرّض أحدهم أو إحداهنّ على صفحة ما أو فكرة أو أسلوب أو صورة في كتاب، ليندفع الآخرون بالرجم والسباب، وتنتقل الصورة إلى آخرون كما تنتقل فيروسات عدوى الرشح والكورونا، وهكذا حتى يشكلون جوقة من التفاهة، يمارس كل واحد من هؤلاء شغفه في حب الانتقاص من جهود الآخرين وتتفيهها. 

إن للفن موقعه المهم في الحركة الثقافية المجتمعية، فما زلنا إلى الآن ندرس عن المغنين العرب القدماء في العصر العباسي وفي بيئة الأندلس، ونمجّد زرياباً، ومعبداً، ودنانير، وغيرهم الكثير، ويكفي أن أشير إلى كتاب الأغاني الحافل بالأصوات والأدوار التي أبدعها فنانو وفنانات ذلك العصر.

هؤلاء الراجمون الأشاوس، في فلسطين تحديدا، يتغاضون مثلا عن شيء شبيه بهذا، ففي أحد دروس كتاب اللغة العربية في واحدة من طبعات المقررات الدراسية، اشتمل على درس للحكاية الشعبية، وللتراث الشعبي، ليس الدرس في كتاب التربية الوطنية ولا في الموسيقى بل إنه في مادة اللغة العربية، التي- لو عام أحدهم على عوم هؤلاء المجانين- لقال: إن المقصود من هذا الدرس إشاعة اللغة العامية، وتخريب اللغة العربية الفصيحة، وإنقاص من قيمة الأدب المكتوب بتلك اللغة القرآنية العظيمة، وأن هذا مقدمة لضرب العقيدة، وما شابه من هذا الخطاب الممل الساذج، لقد ذكر الكتاب الراحل "أبو عرب" رحمه الله، وهو كما هي سميرة توفيق، فنان شعبي كبير، مهتم بالأغنية التراثية. يبين الكتاب الفلسطيني دور الفنان "أبو عرب" النضالي المهم في سياق الأغنية الشعبية التي حملت هموم الناس الوطنية، كما فعلت سميرة توفيق وغيرها من الفنانات والفنانين العرب، كل في بلده، فلا يمكن أن ننسى أغاني الفنان التونسي لطفي بشناق السياسية والفلسطينية وأغاني جوليا بطرس اللبنانية وأصالة نصري السورية، وأغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم في مصر أيام الحروب، والأسماء كثيرة بل يصعب حصرها وذكرها في هذه العجالة.

هذه مهمة اجتماعية فنية، فيها الكثير من الاعتزاز بالذات والقيم وتفيض في النفس الارتياح وتعزز منظومة الأخلاقيات التي تشيع بين أفراد المجتمع، فهي نتاج وعي جماعي منتمٍ إلى هذه القيم، والفن بدوره يعيدها فنا ملحنا إلى المجتمع ليشعر بالعزة والنخوة، فالأغنية الشعبية تعبر عن هذا المزاج الشعبي في نهاية المطاف. إن الأغنية الشعبية في الأردن وفي فلسطين وفي كل بلاد العالم تسير مع غيرها من المكونات الثقافية المشكّلة لحركة الفن والثقافة، وهذان رافدان مهمان لأي ثقافة حية، موجودة عندنا نحن العرب، وموجودة عند غيرنا. 

هذا أمر مهم، من الضروري فهمه في إدراك مرامي الأغنية الشعبية، ودورها، وخاصة في رسم صورة للشعب أكثر من الأدب الرسمي، فأغاني سميرة توفيق الأردنية المذكورة في مربع التعريف، ساهمت في ترسيخ صورة الشعب الأردني المضياف المحب للغير المعطاء والكريم، ليس في البلاد العربية وحدها، بل في الحفلات التي كانت تحييها في العالم، وهذا الكرم الأردني كنا جربناه نحن الفلسطينيين على امتداد عمر نكبتنا الأليمة والعميقة والمستمرة، فكانوا لنا الأنصار، على الرغم أننا لم نكن دوما مهاجرين جيدين!

وهذا الحديث لا أسوقه إقحاما إنما لأن أغاني الفن الشعبي الأردني تحث عليه وتؤكده في كثير من الأعمال الفنية، فوجدت في أغاني الفنان الأردني الأصل والمنشأ والتاريخ عمر العبداللات، فقد أبدع كثيرا في ترسيخ هذه اللحمة الحقيقية بين الأردنيين والفلسطينيين الذين شكلوا شعبا واحدا، وليسوا شعبين اثنين، لا فرق بيننا، ولا يمكن أن يكون هناك فرق.

إن من كتب الأغنية الشعبية الأردنية، وركّبها على الألحان التراثية شعراء معدودون من شعراء الصف الأول، عربيا وأردنيا من أمثال حيدر محمود وحبيب الزيودي وسليمان عويس، وغيرهم بطبيعة الحال، ممن كتبوا فأبدعوا، فماذا سيقول هؤلاء المتنمرون عن تلك الأغاني الشعبية التي كتبها شاعر من هؤلاء الكبار؟ وهل عند هؤلاء سيكون للأغنية الوطنية المكتوبة باللغة الفصيحة الحكم نفسه عندهم؟ فهل الاعتراض على شخص الفنانة أم على الموضوع؟ وإذا كان التنمر على شخص الفنانة، لماذا لم يتنمروا على فيروز، وقد وجدت يوما في أحد مقررات التعليم المدرسي في اللغة الإنجليزية، فهي أيضا أدت أغاني شعبية وغزلية؟ إنهم لن يجدوا أجوبة مناسبة منطقية لكل تلك الأسئلة، وسيسقط في أيديهم.

على هؤلاء قبل أن ينتقدوا المناهج العربية، أن ينتقدوا مناهجهم هم الوطنية، وتحديدا نحن الفلسطينيين، فقد اشتملت أحد كتب اللغة العربية على أغنية لكاظم الساهر، عدا ما في تلك الكتب من هنات وضعف بنيوي، وما تحتويه من نماذج أدبية ومقالات سقيمة ولا تصلح للتعليم. ولا أريد أن أعيد كلاما قلته في ذلك، وأنا أحد أبناء هذا النظام التعليمي، فهو منشور يمكن لأي منصف باحث عن الحقيقة أن يقرأه أو يقرأ المقررات الفلسطينية ذاتها ليلوم صانعيها، قبل أن (يحذف) الطوب على زجاج الآخرين ليحاول كسره، فلا يستطيع، إنما يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه مجرد شخص أعمى، يخبط في تيه الأفكار دون أن يكون له أثارة من علم.

إنني هنا، ولا أخجل من ذلك- أدافع عن الخبرة الأردنية التربوية في صناعة مناهج ومقررات دراسية غاية في التنظيم والعمق والدراية، وأحمد الله أنني كنت من ذلك الجيل، بل الأجيال من الطلاب الفلسطينيين الذين تلقوا العلم على مقاعد الدراسة منذ الصف الأول الابتدائي وحتى التوجيهي بكتب المناهج الأردنية، فكانت لنا عونا وتركت فينا أثرا لا يمحى إلى الآن، في كل تلك المواد الدراسية، من التربية الإسلامية إلى التربية الفنية، مرورا باللغة العربية والإنجليزية والعلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافيا. فما زلت إلى الآن أتذكر كثيرا من المعلومات التي تغذّى بها عقلي من تلك المرحلة. 

هذه الخبرة المتراكمة الواعية الجليلة هي التي صنعت مقررات ومنهاج الأردن للعام الدراسي الحالي 2024/ 2025. وجاء كتاب التربية الفنية والموسيقية والمسرحية الذي أورد ذكر الفنانة العظيمة سميرة توفيق، نتاج هذه الخبرة، في معالجة المادة التعليمية أسوة بغيره من الكتب التي تنهل من هذه الخبرة، وما على المغرضين المتنمرين الجهلاء التافهين إلا أن يديروا أصابعهم ويشغّلوها لتبحث عن موقع تلك المناهج على الإنترنت ليتمتعوا- عدا جمالية التصميم الفني- بجمال الخبرة العقلية والتربوية والتعليمية والتقويمية التي يتمتع بها الكتاب الأردني التعليمي.

وأخيرا أقول: أطال الله في عمر الفنانة سميرة توفيق حقيقةً، ومجازاً في الوعي الجمعي العربي بحضور أغانيها، وكل عام وطلاب وطالبات العلم في الأردن وفلسطين والبلاد العربية والعالم بألف خير. وشكرا لهؤلاء المتنمرين الذين جعلوني أبحث وأنتبه للطبعة الجديدة- وكنت على اطلاع دائم على الطبعة القديمة- جعلوني أنتبه إلى مناهج التعليم الأردنية لهذا العام، داعيا المجتمع التربوي الفلسطيني إلى الانتباه إليه والاستفادة منه، ففيه الكثير من الخير والفائدة، فليس عيبا أن نتعلم من خبرةٍ قارب عمرها قرنا كاملاً أو يكاد، وثبت أن مخرجاتها التعليمية ذات سويّة عالية.