فرانك كابريو لم يكنْ قاضيًا وحسب، بل محاميًّا/ الأب يوسف جزراوي


ذاكَ الّذي وُلِدَ تحتَ سقفٍ شيدته محن الحياة، فوالده الإيطالي المولد، الذي امتهن بيع الفاكهة في أمريكا،علمهُ كيفَ يكونَ فاكهةً طازجةً، طيبة المذاقِ في المجتمعِ الأمريكي.

"فرنشسكو" القاضي الأمريكي المحبوب، قد فاه ذاتَ مرّةٍ مُبتسمًا في نهاية رحلةِ علاجٍٍ:" الأيامُ السّعيدة قادمة مرّة أُخرى". لكنَّ المرضَ لم يمهله سوى أيامٍ؛ فمضى إلى السعادة الأبديّةِ  في ملكوت السّماءِ..

فأيُّ امْرِئٍ لا يعرفُ قاضٍ عُرفَ باحكامهِ النبيلة وحكمه النبيل، أو قد وقعَ على مسامعه مواقفه المسيحيّة والإنسانيّة...وانحيازه للضعفاء وانتصاره  للفقراءِ وللمظلومينَ.

هُو قاضٍ لطيفٍ ومتعاطفٍ مع شجونٍحكاياتٍ  انهمرت مِن أفواهِ مرتكبي المخالفات. دخلَ وجدان النّاس مِن أوسعِ الأبوابِ وتربع فيها. إنسانٌ عُرفَ بوسعِ ذاتهِ، فكانت ذاتهُ أوسع مِن أن يحتويها القليلون؛ فرأيناه يُنشفُ " بمنشفةِ" روحِ القانون وسماحة الرحمة والطيبةِ عرقَ جبينَ متهمين مثلوا أمام منصته طلبًا للعفوِ، فكانَ خيرَ مثالٍ لمسيحٍ تمثّل به. وزناتُ ميزانهِ، تضامن عدلٍ ومحبّة برقةِ النسيم، أما أوزانُ  أحكامهِ دموعًا وعبارات رجاء بِجمالِ الزهرةِ وكلماتِ عفوٍ تستطيبها الأسماع: " حُجبت المخالفة عنكَ... أعلمُ أنَّكَ لم تكن متقصدًا...رجاءًا لا تكرر الأمر نفسه...أذهب بسلامٍ الرّبّ يبارككَ".

فإنّي الحقَّ أقولُ لكم: 

إنّهُ حاكمٌ، حاكمَ المُتهمينَ في محكمةِ الحُبِّ والغفران والانصاف، حاورهم بحنو صوتٍ خفيضٍ على سجيتهِ، لهُ وقعٌ مؤثر في نفس المتهمِ، كصوتِ ناقوسِ الكنائسِ. كُلّمَا طلَّ في الفيديوهات تلقى بين يديه مطرقةٍ يمسكها مِنَ المنتصفِ حياديّة، وَكيفَ فتحَ حوارًا  مُثنيًا على أبوةِ رجلٍ "تسعيني العمر" جاشت عيناه بِالدّموع، ارتكب مخالفةٍ  اثناء اصطحاب ابنه " الستيني العمر"  إلى المشفى للعلاجِ مِن داء عضالٍ!.

هكذا أولى للرأفةِ أمر اِطلالته على الآخرينَ، فأولم في مأدب مرافعاته  النكات والقشفات، حتّى ينقشع القلق مِن أرواح المَاثِلين أمام منصته. لقد طلَّ في فيديو أخيرًا مِن على سرير المرض، يطلب مِن محبيه الصّلاة،  فحصد ما زرعه، وتعاطف معه الجميعِ.

تعجبهُ المبادئ ولا تستهويه الحديّة في الأحكامِ، هو واحدٌ ممّن أضاؤوا  بجانبهِ الإنسانيّ ظلمة الحياة وأثاروا فينا الحنينَ إلى التضامنِ والرحمةِ والحُبِّ، حمَل منارة التنوير، واستضاء بشموسِ المحبّة، فغرسَ أحاكمه الرحومة في بستان الدنيا خيرًا وسلامًا للنفوسِ.

يتيمةٌ  هي منصةُ القضاءِ الأمريكي مِنْ دونكَ يَا ( فرانك)، فَقَدْ كُنتَ فيها رمانة الخلاص في ميزانِ العدالة.

يا زينة القضاء ووردة العدلِ الفواحةِ، أدريكَ لا تدري أنَّ شِموسَ أمريكا ظلّت في يوم وفاتكَ 19/8/2025  بِلَا شعاعٍٍ، ومنصات عدلها  غابت عنها روح النكتة والدعابة في الجلسات!؛ فَكَمْ غريبٌ أمرُ الموت، وقد أقنعَكَ بالرّحيلِ مَعَهُ إلى حيث لا يعود النّاس!  فَمَا بالُكَ  هذه المرّة يا كابريو اتّفقتَ مَعَ المرضِ عَلَى مفارقةِ الحَيَاةِ الأرضية للأبد؟!.

يَا "كابريو"، طُيُورُ الْفَجْر الأمريكيِ كَانت تبكي، وَلَا أحدَ مِنْ مُحبِّيكَ ومتابعيكَ كانَ يدري عَلاَمَ تبكي!، لكَنَّ الشَّمْسَ أبلغتنا أنّها اِقْتَفَت أثرَ  قاضٍ رحومٍ حَلَّقَتْ رُوحهُ إِلَى السَّماءِ!، فرَثَتْكِ بِالدّموعِِ عَلَى طولِ طريقٍ بحجمِ رافتكِ..رقتكَ.. رحمتكِ.. طيبتكَ..تأثركَ والتماس الاعذار للمتهمينَ.

لَقَدْ رحلتَ كَالْوَمِيضِ تاركًا أعماقَ مُحبيكَ مُتَّشِحَةً بِالسَّوَادِ؛ فمَنْ ذا سيُجَفِّفُ دموعَ حُزنِهم عليكَ؟، سِوَى صلواتٍ  وأَدْعِيَةِ .. وشموعٍ حُبٍّ أوقدت على نيتكَ وَكلمات رثاء كُتبت في غيابكَ ومطرقة عدلٍ وروب- بدلة- قضاءٍ وأقلامٍ عفوٍ وْمَنَصَّاتِ رددت : لَا أريدُني مِنْ بعدِكَ يَا فرانكو. 

أرقدْ بسلامٍ يَا " أبا مارسيا" لرُوحِكَ النّقيّةِ الرَّحَمَةُ والسّلامُ الأبديّان .

لم تكن قاضيًا وحسب، بل محاميًّا  دمث الخلق ...نقيَّ السّريرةِ.. اشتراكيَّ الابتسامة..إنساني التضامن مدافعًا عن المظلومين والمتهمين لَا يُشَقُّ لرحمتكَ غبارٌ. لقد أحبّبت مهنتكَ كرسالةٍ والنّاس أجمعين، فبادلوكَ بحبٍّ أكبر. 

بقي لي أن أُضيف في ختامِ الحديث: سيبقى "فرانكو" مشعلاً مِن مشاعل الإنسانيّة الوضّاءة، فلا يختلف الجميع على أنَّهُ كالفنارِ، تهتدي به بواخر الإنسان مهما كانَ شكله، عرقه، قومه، دينه، انتماؤه...وهي تمخرُ عباب بحار الوجودِ.

 

إلى القاضي الرحوم أقول: عليكَ كلُّ الْمَرَاحِم، وأسعدكَ الله بفرحِ الأبديّةِ، ونفّعنا بصلاتكَ.   آمين.


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق