كولومبيا وأقدس الهدايا/ مصطفى منيغ



تفوَّقَ على بعض أمراء ورؤساء وملوك العرب ، وغَيَّبَ جامعتهم مِن قاموس المنظمات المؤثرة لتتبدَّدَ مع السراب، ومسح بمقررات مؤتمراتهم أراضي المعروفين أهاليها والأغراب ، وعلَّق حاضرهم وسط عوسج البراري الموحشة لا يطرقها مستقبل إلا بفأل غُراب ، لا يأتي مِن تجسُّمِهِ خير بل بالشؤم المُضَاعَف والكرب ، قالها جُمَلاً لتصبح شمعة أضاءت رُبَى الأحرار في كل مكان تستوطنه سلالة إنسان شمالاً جنوباً شرقاً كما في الغَرب ، جهر بها غير مختبئ وراء جدران أسمنتية محصَّنة ولا داخل مكتبه المحاط  بحراسة مشدَّدة بل من فوق أشهر منصة لهيأة الأمم المتحدة ليسمعها واضحة الأعداء فبل الأحباب والأصحاب ، مِن ممثلي حكومات البشرية دون استثناء ليفرح منهم الكثير والأقل فيهم مِن القليل يغضب ، قالها بصوت الواثق صاحبه أنه على حق غير خائف من عصابة الاغتيالات ولا نفوذ جامعة كل القوات ولا زارعة الفتن حاصدة أرواح الأبرياء الواصلة غيّها ليلاً ونهاراً بالتعذيب والاغتصاب ، قالها بلغة اسبانية سليمة النطق صحيحة القواعد النحوية تتسارع لتخرجها الأحبال الصوتية في رنة تطرب وجدان سامعيها وتراقص الضمائر الحية وتنعش ما كانت الإنسانية في حاجة اليه لتصحيح مسارها نحو إحقاق الحق و دحر الباطل ، ومع تعابيرها النيرة صاح بهدوء منطق الحكماء ، وقد حطَّ رحال نتاجهم الفكري ، فوق قمة الحل المطلوب ، يداوي غرور رؤوس ، ظن أصحابها بما في أيديهم من وسائل الشاملة الدمار ، أنهم فوق أخيار البشر ، وعلى سحق الحق أقدر ، وبعجرفتهم الكل يتغير ، حتى الأمل الأخضر ، بأطماعهم يجعل اليأس ملطَّخ بدم القتل الظالم الأحمر ، فجاءت المفاهيم السامية من بين حروفها المنبعثة بتنسيق متقن عن إيمان ذاك المسؤول انطلاقا من رتبة منصبه كرئيس لدولة كولومبيا الجنوب أمريكية (Gustavo Francisco Petro  )   غوستافو فرانسيسكو بيترو ، لتؤكد أن فلسطين في قلوب غير العرب مكانة لا تُقارَن من المعزة والاحترام ، لصمودها أمام أعثى الأنظمة التي فاقت الفاشية في همجيتها غير المسبوقة ، حيث قال ما ملخصه : "المطلوب تأسيس جيشاً عالمياً موحدا من المتطوعين الشباب الراغبين في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية ، وفي بلدي كولومبيا سأفتح مجال التطوع لنفس الغاية وسأكون الأول في القائمة " . إنها الفكرة الواجب اتخاذها بعين الاعتبار  كوسيلة من الممكن تحقيقها ما دامت القضية منتقلة في المراحل المقبلة إلى مسؤوليةٍ ، الشعوب العالمية كفيلة بتحمُّلها ، ما دامت الحكومات العربية دون استثناء ، أصبحت عاجزة تماماً عن القيام بما كان عليها القيام به منذ عقود ، تلك الحكومات المساهمة في إطلاق يد إسرائيل للعبث بكرامة الفلسطينيين التي هي جزء لا يتجزأ من الكرامة العربية . وكما نرى انتقل العمل الجدي لإطراف أبعد ما تكون عن المنطقة قادها ضميرها الإنساني لتبنِّي أشرف مشاركة ميدانية مباشرة لإنقاذ شعب عربي من الضياع والانقراض بتسلط صهيوني تباركه الولايات المتحدة الأمريكية علانية ، وكان على المسؤولين العرب انتظار المبادرة الكولومبية لقياس مدى تقصيرهم الواضح في القيام بواجبهم تجاه مَن جعلوها لعقودٍ قضيتهم الأولى لتمرير مصالح سياسية عراها الزمن ، لتظهر الخدمة المجانية المقدمة سراً لإسرائيل ، إرضاء لسياسة أمريكية كارهة للعرب وفي نفس الوقت مستغلة خيراتهم بالتحايل والقوة . 

قراءة عباس علي مراد لكتاب جرائم بالذاكرة للدكتور أنس الراهب



ما أشبه اليوم بالبارحة، الكتاب الصادر في العام 2018 عن دار الفرابي في بيروت لبنان يقدم عرض تاريخي للمنطقة العربية وخصوصاً لمنطقة الهلال الخصيب من نهاية الحرب العالمية الأولى وصولاً الى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ويتألف الكتاب من تسعة فصول.

التاريخ قد لا يعيد نفسه، لكن من يقرأ الكتاب يدرك أن الجغرافيا تحكم التطورات التاريخية ومع لاعبين جدد، فبعد الهيمنة البريطانية الفرنسية والتي تحكمت بمفاصل العمل السياسية تحت شعار تأهيل السكان لحكم انفسهم بعد ان التفويض بالانتداب من عصبة الامم والتي اسست لخدمة المنتصرين في الحرب.

 كما هو معروف عملت قوى الانتداب على تفكيك الجغرافيا في ما عُرف باتفاقية سايكس بيكو، لفرض أرادتها على شعوب تلك المنطقة بعد أن خدعت قادتها  (الشريف حسين) ووعدتهم بالأستقلال في حال الانقلاب على العثمانيين، وأصح معروفاً كيف انقلب البريطانيزن والفرنسيون ونكثوا بوعودهم.

بعد الحرب العالمية الثانية برز دور الولايات المتحدة الاميركية كلاعب أساسي ووريث للقوتين الأوربيتين, لم يكن الحال أفضل مع الأميركيين الذين كانوا يعدون بتحرير الشعوب ولكنهم عملوا على تمكين أسرائيل الكيان ألذي أسسه الانتداب البريطاني مخالفاً كل المبادئ التي أقيم عليها الانتداب بعد أقتطاع أو تسليم البلاد لغير أهلها.

يقول الكاتب في الصفحة 193: لقد كان الشغل الشاغل للولايات المتحدة الأميركية هو تمكين أسرائيل من السيطرة على المناطقالمحيطة بها، ومساندتها لتحقيق مشاريعها، وكانت تسعى دائماً، وفي كل مناسبة على توطين اللجئين الفلسطينين في مناطق وجودهم خارج فلسطين، وإقناع حوكوات الدول العربية بذلك وتقديم مئات الملايين من الدولارات من أجل إقرار التوطين".



في كل فصل من فصول الكتاب يعرض الكاتب حقائق من خارج سرديات المنتدبين وكيف كانت الحكومات الغربية تروج لسرديتها ففي الفصل الثاني المخصص لسوريا الطبيعية بعد الحرب العالمية الأولى يحدث الكاتب عن جرائم التآمر على سوريا وتقسيمها والثورات التي قامت ضد المنتدبين والتعاون والتأمر الصهيوني الفرنسي في المنطقة، والمؤامرات العربية على فلسطين ويذكر الكاتب في 74و75 دور الدول العربية في أجهاض ثورة 1936 ويقول:" وبالفعل لم يخذل الحكام العرب مطالب بريطانيا لهم وتآمرها على فلسطين، إذ سارعت الهيئة العربية العليا إلى إعلان إنهاء الاضطرابات  دون قيد أو شرط إبتداء من 12/10/1936، بناء على نداء الرؤساء العرب الموقع من الملك "عبد العزيز آل سعود" ملك السعودية،  والملك "غازي" ملك العراق، والإمام "يحي حميدالدين" ملك اليمن، والامير "عبدالله " أمير شرق الأردن ، وذلك إمتثالاً لإرادة أصحاب الجلالة والسمو... والنزول على إرادته واعتبار هذه الإرادة من التقاليد الموروثة متذرعين بأن ذلك من مصلحة الشعب وصون لحقوقه..."

وفي سوريا لم يكن الوضع اضل مع الانتداب الفرنسي حيث تم إقتطاع لواء الإسكندرون ومنحه لتركيا بتواطؤ من جماعة الأخوان المسلمين والمسؤولين السوريين ذوي الاصول التركية ، يصفها الكاتب الإقطاع بالجريمة الكبرى (ص 76).

الفصل الثالث مخصص للوعود التي قدمها المنتصرون بالحوب وامانبي الشعوب وتشكيل الجامعة العربية بديلاً عن الوحدة العربية.

الفصل الرابع، يتصدى للوضع في سوريا خلال الاستقلال والحرب في فلسطين وانتهاء الانتداب البريطاني وتوجه القوات العربية الى فلسطين واتفاقيات الهدنة سنة 1949.

وفي هذا الفصل يعرض الكاتب للقاءات قادة الحركة الصيهيونية مع الزعماء اللبنانيين ويسمي منهم "خير الدين الأحدب، وحسين حمادة، وجورج مشحور، ونور الدين الرفاعي، وبشارة الخورينن والياس حرفوش، وفريد الخازن، واميل إدة، ومحمد الحاج عبدالله الذي أقترح شراء اليهود أراضي جبل عامل وتعهده بإفراغها من سكانها.

ويذكر الكاتب ان لقاءان تما بين وايزمن مع البطريرك الماروني أنطوان عريضة سنة 1937 وأكد ويزمان في اللقاء انه إذا قامت دولة يهودية في فلسطين فيجب ألا يكون أي حاجز بينهما، وبين لبنان كأن تبقى مناطق إسلامية تفصل بينهما. ( ص131)

الفصل الخامس، يعرض لمرحلة الانقلابات في سوريا والثورة المصرية التي أطاحت بالملكية. وفي هذا الفصل يورد الكاتب كيف تىمر حسني الزعيم على زعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي أنطون سعادة الذي كان تحت حمايته والغدر به وتسليمه للسلطات اللبنانية التي حكمت يإعدامه لقاء صفقة سياسية إقتصادية بينه وبين رياض الصلح رئيس وزراء لبنان وكان نتاجها اتفاقية إقتصادية في 6/7/1949 كرشوة مقابل تسليم سعادة (ص171-172)

الفصل السادس، عودة الحكم المدني الى سوريا وحلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر والمؤامرات التي أحاطت بسوريا.

الفصل السابع يتكلم الكاتب عن الوحدة بين مصر وسوريا 1958-1961 ويتابع في الفصل الثامن يتحدث عن الانفصال وانفراط عقد الوحدة.

الفصل التاسع مخصص لحركة 8 آذار 1963 التحضير واحداث الحركة وبعد قيام الحركة ومحاولات التقارب مع العراق.

الكتاب وثيقة تاريخية مهمة وتشرح بالتفصيل لجوانب مطمورة من تاريخ سوريا الطبيعية لا تريد القوى الغربية والقوى المتواطئة معها من ال"لاطلاع عليها.



استعادة الفكر التنويري في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين المعرفي والنسبية المعيارية واللاوضوح السياسي، مقاربة تواصلية/ د زهير الخويلدي



مقدمة

" "ليس الأنوار الذي ينقص رؤيتنا، بل رؤيتنا هي التي تنقصها الأنوار."


في عصر يتسم بالفراغ الأكسيولوجي (فقدان القيم المرجعية)، واللايقين المعرفي (التشكك في مصادر المعرفة)، والنسبية المعيارية (تعدد المعايير الأخلاقية)، واللاوضوح السياسي (غياب الإجماع حول الأطر الحاكمة)، يبرز السؤال حول إمكانية استعادة الفكر التنويري كإطار فلسفي وثقافي لمواجهة هذه التحديات. يهدف هذا البحث إلى استكشاف كيفية إعادة إحياء مبادئ التنوير - العقلانية، الحرية الفردية، التقدم، والعدالة - في سياق معاصر يعاني من تفكك الروايات الكبرى وتصاعد التعددية الثقافية والتشكك المعرفي، من خلال مقاربة تواصلية تركز على الحوار والتفاعل الاجتماعي.فكيف يمكن للفكر التنويري، بمبادئه العقلانية والإنسانية، أن يواجه تحديات الفراغ الأكسيولوجي، اللايقين المعرفي، النسبية المعيارية، واللاوضوح السياسي؟ وما دور المقاربة التواصلية في إعادة صياغة هذا الفكر ليكون أداة فعالة في بناء إجماع معرفي وقيمي في مجتمعات ما بعد الحداثة؟


 الفكر التنويري: المبادئ والسياق


"الحقيقة والصباح يصبحان نورًا مع مرور الوقت."

التنوير، كحركة فكرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أكد على العقل كأداة لفهم العالم، وروّج للحرية الفردية، المساواة، والتقدم العلمي والاجتماعي. فلاسفة مثل كانط، فولتير، وروسو دعوا إلى تحرير الفرد من سلطة التقاليد والدين غير العقلاني، وإلى بناء مجتمعات تقوم على العقد الاجتماعي والعدالة.ومع ذلك، فقد واجه الفكر التنويري انتقادات في العصر الحديث، حيث اعتبره البعض (مثل أدورنو وهوركهايمر في "جدل التنوير") أداة للهيمنة والاستعمار، متهمين إياه بالتركيز المفرط على العقل الأداتي على حساب القيم الإنسانية. في المقابل، يرى آخرون (مثل يورغن هابرماس) أن التنوير يحمل في طياته إمكانيات للحوار العقلاني والتواصلي الذي يمكن أن يعالج تحديات العصر الحديث.


 التحديات المعاصرة

"من المستحيل تقدير النور بشكل صحيح دون معرفة الظلام."

الفراغ الأكسيولوجي: يشير إلى فقدان القيم المشتركة التي تجمع المجتمعات، نتيجة العولمة، التعددية الثقافية، وتفكك الأطر الأخلاقية التقليدية.

اللايقين المعرفي: يتجلى في التشكك في المعرفة العلمية، انتشار نظريات المؤامرة، والتضارب في مصادر المعلومات في عصر الإنترنت.

النسبية المعيارية: تتمثل في غياب معايير أخلاقية عالمية، حيث تتصارع القيم المحلية والعالمية دون إجماع.

اللاوضوح السياسي: يعكس الاستقطاب السياسي، تراجع الثقة في المؤسسات، وصعود الشعبوية.


 المقاربة التواصلية

تستند المقاربة التواصلية، كما صاغها هابرماس في "نظرية الفعل التواصلي"، إلى فكرة أن الحوار العقلاني بين الأفراد يمكن أن يؤدي إلى إجماع حول القيم والمعايير من خلال التواصل الخالي من الهيمنة. هذه المقاربة ترى أن العقل التواصلي، على عكس العقل الأداتي، يركز على التفاهم المتبادل بدلاً من تحقيق أهداف فردية.

من هذا المنطلق يعتمد البحث على المنهج التحليلي النقدي، مع التركيز على المقاربة التواصلية كإطار لتحليل إمكانيات استعادة الفكر التنويري. سيتم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسية:

تحليل التحديات المعاصرة وتأثيرها على المجتمعات.

استعراض مبادئ الفكر التنويري وإمكانيات تكييفها مع السياق الحديث.

تطبيق المقاربة التواصلية كأداة لإعادة صياغة الفكر التنويري.


تحليل التحديات المعاصرة


 الفراغ الأكسيولوجي

في عصر العولمة، تواجه المجتمعات تحدي فقدان القيم المشتركة. التعددية الثقافية، بينما تثري المجتمعات، تؤدي أحيانًا إلى صراعات قيمية. على سبيل المثال، القيم الليبرالية الغربية قد تتعارض مع القيم التقليدية في مجتمعات أخرى، مما يخلق فراغًا أكسيولوجيًا يصعب ملؤه.


اللايقين المعرفي

انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى المعلومات أديا إلى تضارب الروايات المعرفية. على سبيل المثال، تنتشر نظريات المؤامرة حول قضايا مثل التغير المناخي أو اللقاحات، مما يقوض الثقة في العلم. هذا اللايقين يعيق بناء إجماع معرفي يمكن أن يوجه السياسات العامة.


 النسبية المعيارية

النسبية الأخلاقية تجعل من الصعب التوصل إلى معايير مشتركة للحكم على الأفعال. على سبيل المثال، قضايا مثل حقوق الإنسان قد تُفسر بشكل مختلف عبر الثقافات، مما يعقد الحوار العالمي حول هذه القضايا.


 اللاوضوح السياسي

يظهر اللاوضوح السياسي في صعود الشعبوية، تراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية، والاستقطاب السياسي. هذا الوضع يجعل من الصعب بناء إجماع حول القضايا الجوهرية مثل العدالة الاجتماعية أو التغير المناخي.


إعادة صياغة الفكر التنويري


 العقلانية التواصلية

بدلاً من العقل الأداتي، يمكن للعقلانية التواصلية، كما يقترحها هابرماس، أن تكون أداة لإعادة إحياء الفكر التنويري. هذه العقلانية تركز على الحوار العقلاني بين الأفراد للوصول إلى تفاهم مشترك. على سبيل المثال، يمكن استخدام هذه المقاربة في مناقشات حول التغير المناخي لتجاوز الاستقطاب وتحقيق إجماع حول الحلول.


 الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية

الفكر التنويري أكد على الحرية الفردية، لكنه في السياق المعاصر يحتاج إلى إعادة صياغة لتضمين المسؤولية الجماعية. على سبيل المثال، يمكن أن يُعاد تعريف الحرية لتشمل التزام الأفراد بالمساهمة في حلول للتحديات العالمية مثل الفقر أو التغير المناخي.


التقدم كمشروع مشترك

بدلاً من رؤية التقدم كمسار خطي يقوده العلم والتكنولوجيا، يمكن إعادة تعريفه كمشروع مشترك يعتمد على الحوار بين الثقافات والمجتمعات. هذا يتطلب إشراك أصوات متنوعة في صياغة أهداف التقدم.


المقاربة التواصلية كأداة للاستعادة

المقاربة التواصلية تقدم إطارًا عمليًا لإعادة إحياء الفكر التنويري. يمكن تطبيقها من خلال:

إنشاء فضاءات حوارية: إنشاء منصات للحوار العام تشجع على التواصل الخالي من الهيمنة، مثل المنتديات العامة أو منصات التواصل الاجتماعي الموجهة نحو الحوار البناء.

تعزيز التعليم التواصلي: تطوير مناهج تعليمية تركز على التفكير النقدي والحوار العقلاني لمواجهة اللايقين المعرفي.

إعادة بناء الثقة في المؤسسات: استخدام الحوار التواصلي لبناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات من خلال الشفافية والمشاركة.

مواجهة النسبية المعيارية: تشجيع الحوار بين الثقافات للوصول إلى قيم مشتركة دون فرض نموذج ثقافي واحد.


النتائج والتوصيات

النتائج: يمكن للفكر التنويري، بمبادئه العقلانية والإنسانية، أن يقدم إطارًا لمواجهة تحديات العصر الحديث، ولكن يتطلب إعادة صياغة ليتوافق مع التعددية والتعقيدات المعاصرة. المقاربة التواصلية توفر أداة فعالة لتحقيق هذا الهدف من خلال تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل.


التوصيات:

تعزيز الحوار العام من خلال منصات تشجع على التفاهم المتبادل.

تطوير سياسات تعليمية تركز على التفكير النقدي والتواصل العقلاني.

دعم المبادرات التي تعزز الشفافية والمشاركة في المؤسسات السياسية.

تشجيع الحوار بين الثقافات للوصول إلى قيم مشتركة تحترم التعددية.


خاتمة

" عندما ينطفئ اللهب، يتوقف أيضًا عن الإضاءة. الحياة شعلة."

في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين المعرفي، يمكن للفكر التنويري أن يقدم إطارًا لتجاوز هذه التحديات، بشرط إعادة صياغته بما يتناسب مع السياق المعاصر. المقاربة التواصلية، بتركيزها على الحوار العقلاني والتفاهم المتبادل، تمثل أداة فعالة لإعادة إحياء مبادئ التنوير وتوجيهها نحو بناء مجتمعات أكثر عدالة وتضامنًا. إن استعادة الفكر التنويري ليست مجرد عملية فكرية، بل مشروع اجتماعي وسياسي يتطلب إشراك جميع أطراف المجتمع في حوار مفتوح وبناء.


المصادر والمراجع

هابرماس، يورغن. (1981). نظرية الفعل التواصلي.

أدورنو، تيودور، وهوركهايمر، ماكس. (1944). جدلية التنوير.

كانط، إيمانويل. (1784). ما هو التنوير؟.

فولتير. (1764). المعجم الفلسفي.


كاتب فلسفي

الاستعمار الاستيطاني والصراع غير المتكافئ: فلسطين نموذجاً/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


في سياق التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبرز الصراعات غير المتكافئة كواحدة من أكثر الظواهر تعقيدًا وإثارة للجدل في الدراسات السياسية والاستراتيجية المعاصرة. إذ لا تنحصر هذه الصراعات في المواجهات العسكرية بين أطراف غير متساوية في القوة والموارد، بل تمتد لتشمل الأبعاد الثقافية، والرمزية، والتكنولوجية، والاقتصادية، التي تعيد تشكيل مفهوم الهيمنة والمقاومة خارج الأطر التقليدية للحرب النظامية. فالصراع غير المتكافئ لا يُعرّف فقط بغياب التوازن العددي أو التسليحي، بل يتجلى في تفاوت القدرة على التأثير، وفي اختلاف أنماط التنظيم، وأهداف الفعل، وشرعية الخطاب.

يتناول المقال مفهوم الصراعات غير المتكافئة من منظور متعدد التخصصات، يجمع بين السياسة، ودراسات القوة الرمزية، لفهم كيف تُدار المواجهات بين دول وجماعات، أو بين سلطات مركزية وحركات هامشية، في ظل اختلالات بنيوية في موازين القوة. كما تسعى إلى تحليل الاستراتيجيات التي تعتمدها الأطراف الأضعف لتجاوز الفجوة المادية، من خلال توظيف أدوات غير تقليدية كالحرب الإعلامية، والتكتيكات غير المتماثلة، والرموز الثقافية، والشرعية الأخلاقية.

إن دراسة الصراعات غير المتكافئة تقتضي تجاوز النماذج الكلاسيكية التي تفترض مركزية الدولة، والانتقال نحو فهم ديناميات الفعل السياسي والاجتماعي في سياقات تتسم بالتشظي، والتعدد، والانزياح عن المركز. ومن هنا، فإن هذا المقال يطرح تساؤلات حول طبيعة الفاعلية في ظل اللامساواة، وحول إمكانيات المقاومة وإعادة التشكيل الرمزي للسلطة، في عالم تتداخل فيه أدوات الهيمنة مع آليات التفكيك والمناورة.


تجليات الصراع غير المتكافئ في السياقات المعاصرة

تتجلّى الصراعات غير المتكافئة في عدد من السياقات المعاصرة التي تكشف عن اختلالات بنيوية في موازين القوة، وتُبرز قدرة الأطراف الأضعف على المناورة والتأثير رغم محدودية الموارد. من أبرز هذه الأمثلة، المواجهات بين حركات المقاومة المحلية والقوى العسكرية النظامية، كما في حالة المقاومة الفلسطينية في غزة، حيث تُوظّف تكتيكات غير تقليدية مثل الأنفاق، والطائرات المسيّرة البدائية، والحرب الإعلامية، في مواجهة قوة عسكرية متفوقة تقنياً وتسليحياً. ورغم الفارق الهائل في القدرات، فإن هذه الحركات تنجح في فرض معادلات سياسية ورمزية تتجاوز منطق الانتصار العسكري.

وفي سياق آخر، تُعدّ حركات الاحتجاج الشعبية في دول الجنوب العالمي مثالاً حياً على الصراع غير المتكافئ بين المواطنين العاديين وأنظمة سلطوية مدعومة بأجهزة أمنية وتقنية متقدمة. فحراك "السترات الصفراء" في فرنسا، واحتجاجات "انتفاضة تشرين" في العراق، و"ثورة 17 تشرين" في لبنان، كلها نماذج تُظهر كيف يمكن للحشود غير المنظمة أن تُربك السلطة، وتُعيد تشكيل الخطاب العام، من خلال أدوات بسيطة كوسائل التواصل الاجتماعي، والشعارات الرمزية، والاحتلال السلمي للمجال العام.

أما في المجال الرقمي، فتُعدّ حروب المعلومات والتضليل الإعلامي شكلاً جديداً من الصراعات غير المتكافئة، حيث تتمكن جهات غير حكومية أو دول صغيرة من التأثير على الرأي العام العالمي، وزعزعة استقرار دول كبرى، عبر حملات إلكترونية دقيقة ومنخفضة التكلفة. وقد كشفت تقارير عديدة عن تدخلات رقمية في الانتخابات، وتوجيهات خفية للرأي العام، باستخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، ما يفتح الباب أمام إعادة تعريف القوة في العصر الرقمي.

هذه الأمثلة وغيرها تُظهر أن الصراع غير المتكافئ ليس مجرد خلل في التوازن العسكري، بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد، تتطلب أدوات تحليلية جديدة لفهم منطق الفاعلية، وإعادة التفكير في مفاهيم النصر، والهزيمة، والشرعية.


أنماط عدم التماثل في الصراعات المعاصرة

يُعتبر عدم التكافؤ من أهم السمات في صراعات اليوم. نتناول نوعاً محدداً من عدم التكافؤ هو عدم التكافؤ الهيكلي. بعد عرض الخصائص الرئيسية والمراحل المختلفة لهذه الأنواع من الصراعات، أي الوعي، والمواجهة، والتفاوض، والسلام المستدام، نتناول خصوصية الحالة الإسرائيلية الفلسطينية المعروضة هنا كحالة نموذجية لصراع غير متماثل هيكلياً. الهدف هو توضيح سبب عدم نجاح أي منها في تحقيق سلام مستدام، على الرغم من مراحل التفاوض العديدة التي مر بها هذا الصراع. على العكس من ذلك، فقد جلبت كل مفاوضات مرحلة مواجهة جديدة، في سلسلة لا تنتهي من الحلقات المتشابكة. ويمثل الاختلال الشديد بين الجانبين وغياب الوعي المتبادل بالصراع السببين الرئيسيين لتفسير هذا النمط.

مع نهاية الحرب الباردة وظهور الحروب داخل الدول وبين الأعراق، برز مفهوم الصراع "غير المتكافئ" في نظرية الصراع. في الواقع، يتميز عدد كبير من صراعات اليوم بتفاوتات حادة. يُستخدم مصطلح "الصراع غير المتكافئ" بطرق مختلفة للإشارة إلى مواقف، وإن كانت تشترك في بعض القواسم المشتركة، إلا أنها غالباً ما تكون شديدة التنوع. مع أننا نعلم أن أي محاولة لتأطير الظواهر الاجتماعية في تصنيفات جامدة أمرٌ قابل للنقاش، إلا أنه من أجل الوضوح وتوفير إطار تحليلي لدراسة هذه الصراعات، نقترح التمييز بين ثلاثة أنواع من عدم التماثل: 1: عدم تماثل القوة. 2: عدم التماثل الاستراتيجي. 3: وعدم التماثل الهيكلي.

غالباً ما يكون الحد الفاصل بين هذه الأنواع المختلفة من عدم التماثل غير واضح تماماً، وفي معظم الحالات يتواجد أكثر من نوع واحد في نفس الوقت. ومع ذلك، يمكن أن يكون هذا التمييز مفيداً في تحليل وفهم تطور الصراع. في كثير من الحالات، يكون عدم التماثل بين أطراف الصراع - أو بالأحرى تصورهم لهذا التماثل - أمراً بالغ الأهمية في تفسير سلوكياتهم ومواقفهم المختلفة. أنا أصنف أنواع عدم التماثل هنا، وليس أنواع الصراع: غالباً ما يشترك الصراع في أكثر من نوع واحد من عدم التماثل، ربما بدرجات متفاوتة من الشدة.

يحدث عدم التماثل في القوة كلما وُجد اختلال كبير في توازن القوة؛ وهو نوع من عدم التماثل شائع جداً في الصراعات. غالباً ما يحدث هذا النوع من عدم التماثل في نفس الوقت مع الأنواع الأخرى من عدم التماثل. ومع ذلك، هناك صراعات تتميز بشكل فريد تقريباً بعدم التماثل في القوة. هذا هو الحال، على سبيل المثال، في الصراعات التي تبدأ فيها الدول الأضعف الصراع. من الأمثلة المتطرفة والواضحة على صراع عدم تكافؤ القوة حرب الخليج الأولى بين تحالف قوي بقيادة الولايات المتحدة من جهة والعراق وحده من جهة أخرى. كانت الولايات المتحدة والعراق دولتين لهما حكومتان معترف بهما وجيش نظامي وهيئة سياسية قادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها. من هذه المنظور، كان الوضع متوازناً إلى حد ما. كان عدم التكافؤ في الفارق الهائل في القوة العسكرية، مسألة كمية لا نوعية.

يحدث عدم التكافؤ الاستراتيجي عندما يكون الطرفان غير متماثلين في نهجهما التكتيكي و/أو الاستراتيجي للصراع. وعادةً ما يتضمن هذا النوع من عدم التكافؤ أيضاً اختلالاً كبيراً في توازن القوة. ومن الأمثلة النموذجية حروب العصابات والإرهاب. هذه الأنواع من الحروب ليست جديدة بالتأكيد. في العصر الحديث، يعود تاريخ حرب العصابات إلى الثورة الأمريكية. على الرغم من كثرة الدراسات حول الحرب غير المتكافئة، لا يزال التفكير الاستراتيجي لمعظم الجيوش في الدول الغربية قائماً بشكل أساسي على "التكنولوجيا" و"القوة النارية"، بينما يتكون المقاتلون المتمردون أو المقاومون، أو الإرهابيون من خلايا لامركزية قادرة على الاندماج في المجتمع متى شاءت. ترتبط هذه الحقيقة بتطور تكنولوجيا المعلومات. إن ثورة المعلومات تُفضّل وتُقوّي أشكال التنظيم الشبكي، مما يمنحها غالباً ميزة على الأشكال الهرمية. ومن الأمثلة الشائعة ما يُسمى "الحرب على الإرهاب". تتصرف بعض المنظمات كشبكة، حيث تُمثّل كل عقدة فيها مجموعة صغيرة من المسلحين، مع اتصالات أفقية متعددة فيما بينها.


عدم التماثل الهيكلي في الصراعات

ينشأ عدم التماثل الهيكلي عندما يكون هناك اختلال كبير في المكانة بين الأطراف، يكمن جوهر هذه الصراعات في بنية العلاقة بين الخصوم. وهذا ما يجعل هذا النوع من عدم التكافؤ غريباً ومختلفاً عن غيره. في صراع يتسم بعدم التكافؤ الهيكلي، يكون الهدف الحقيقي من القتال هو تغيير بنية العلاقات بين الخصوم. عادةً ما يسعى أحد الطرفين إلى تغييرها، بينما يكافح الآخر لتجنب أي تغيير. أحياناً يكون أحد الطرفين مؤسسة حكومية والآخر منظمة غير حكومية، ولكن هذا ليس الحال دائماً. على سبيل المثال، عدم التكافؤ الهيكلي هو ما يميز معظم "الصراعات على الوصول إلى الأراضي والسيطرة عليها، والتي كانت متفشية في المجتمعات الزراعية في الماضي ولا تزال تلوح في الأفق في عالم يعتمد فيه 45% من السكان على الأرض لكسب عيشهم مباشرة. في هذه الحالات، يكون الطرفان المتنافسان منظمتين غير حكوميتين، على الرغم من أن إحداهما غالباً ما تحظى بدعم المؤسسات الحكومية. ومن الحالات النموذجية الأخرى صراعات إنهاء الاستعمار. هنا، تقع العلاقة بين المستعمر والمستعمَر في قلب الصراع. في هذا النوع من الصراع، يكون أحد الطرفين دولةً والآخر جهةً فاعلةً غير حكومية، مثل منظمة سياسية أو حركة تحرير.

تتعلق إحدى السمات المهمة التي تُميّز أنواع عدم التماثل الثلاثة بسلوكها على مر الزمن. فعدم تماثل القوة ثابتٌ تماماً، ومن غير المرجح أن يتغير بسرعة: فلا يمكن لدولة ضعيفة أن تصبح قويةً بين عشية وضحاها. أما عدم التماثل الاستراتيجي فهو مسألة اختيار، ويعتمد على قرارات الأطراف؛ فمن حيث المبدأ، يمكن إجراء تغيير في الاستراتيجية في وقت قصير نسبياً. ومع ذلك فإن لأطراف ليست حرةً تماماً في اختيار الاستراتيجية المثالية. وأخيراً، يُمثّل عدم التماثل الهيكلي السلوك الأكثر ديناميكية. ويمكن أن تتغير بنية العلاقات بين الأطراف وخصائصها بشكل كبير أثناء تطور الصراع. على سبيل المثال، في نزاع على ملكية الأراضي، يمكن لحركات الفلاحين المعدمين، في مرحلة معينة، الحصول على موافقة على قانون إصلاح زراعي يُغيّر الإطار التشريعي، لكنه لا يُنهي الصراع. القضية المطروحة الآن هي التطبيق العملي لهذا الإصلاح. لا يزال عدم التكافؤ قائماً، وإن كان قد تضاءل. هذا ما حدث في البرازيل مع الخطة الوطنية للإصلاح الزراعي لعام 1985


إهمال الصراعات غير المتكافئة هيكليًا في أدبيات العلاقات الدولية

على الرغم من أن الصراعات غير المتكافئة تُعد من أكثر أنماط النزاعات شيوعاً في العالم المعاصر، إلا أنها لا تحظى بالاهتمام الكافي في أدبيات العلاقات الدولية، خصوصاً من حيث التناول النظري والتحليل المنهجي. ويزداد هذا الإهمال وضوحاً عندما يتعلق الأمر بنمط محدد من عدم التماثل، وهو عدم التماثل الهيكلي، الذي يُشكّل أحد أكثر أشكال الاختلال تعقيداً وتأثيراً في ديناميات الصراع، دون أن يُستخدم كإطار تحليلي مستقل في معظم الدراسات الأكاديمية.

لقد شهدت الساحة الدولية عبر العقود العديد من النزاعات التي تنطوي على تفاوتات هيكلية عميقة بين الأطراف المتنازعة، سواء من حيث البنية السياسية، أو الشرعية القانونية، أو القدرة على الوصول إلى الموارد والمؤسسات الدولية. ومع ذلك، فإن معظم التحليلات تركز على عدم التماثل في القوة أو الاستراتيجية، متجاهلة البنية التحتية للصراع التي تُحدد بشكل كبير طبيعة المواجهة، واستمراريتها، وإمكانية حلّها. فعدم التماثل الهيكلي لا يتعلق فقط بتفاوت القدرات، بل يتصل بجذور الصراع في التكوينات السياسية والاجتماعية والرمزية التي تُنتج علاقات غير متوازنة يصعب تعديلها عبر التفاوض التقليدي.

في هذا السياق، يهدف المقال إلى تسليط الضوء على السمات الأساسية التي تُميز الصراعات غير المتكافئة هيكلياً، من حيث مراحلها المتوقعة، وآليات تطورها، وحدود إمكانيات التسوية فيها. وسأعتمد هذا الإطار النظري لتحليل حالة نموذجية تُجسّد هذا النوع من الصراع، وهي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي يُعد من أكثر النزاعات تعقيداً واستعصاءً على الحل، نظرًا لطبيعته الهيكلية العميقة.

من خلال هذا التحليل، سأناقش كيف أن دورة التفاوض والمواجهة المتكررة التي ميّزت هذا الصراع منذ انهيار عملية أوسلو، لا يمكن فهمها فقط من خلال ميزان القوة أو التكتيك، بل يجب قراءتها في ضوء عدم التماثل الهيكلي بين الطرفين، والذي يتجلى في غياب التوازن المؤسسي، وتفاوت الشرعية الدولية، وانعدام الوعي المتبادل بطبيعة الصراع. وسأبيّن كيف أن كل جولة تفاوضية لم تكن خطوة نحو السلام، بل كانت مقدمة لمرحلة جديدة من المواجهة، في سلسلة متشابكة من الحلقات التي تُعيد إنتاج الصراع بدلاً من تفكيكه.


السمات البنيوية للصراعات غير المتكافئة: قراءة في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية

يُعدّ عدم التماثل الهيكلي أحد أكثر أشكال الاختلال تعقيداً في الصراعات المعاصرة، إذ يتجاوز الفوارق الظاهرة في القوة العسكرية أو التكتيك الاستراتيجي، ليغوص في البنية العميقة التي تُشكّل العلاقة بين الأطراف المتنازعة. هذا النوع من عدم التماثل لا يُقاس فقط بتفاوت الموارد أو النفوذ، بل يتجلى في التفاوت المؤسسي، والشرعي، والرمزي، الذي يُنتج علاقات غير متوازنة يصعب تعديلها عبر أدوات التفاوض التقليدية أو الحلول المرحلية.


من أبرز السمات التي تُميز الصراعات غير المتكافئة هيكليًاً:

اختلال الشرعية الدولية: حيث يتمتع أحد الأطراف باعتراف دولي واسع النطاق، ويمتلك أدوات تمثيل دبلوماسي ومؤسساتية، في حين يُعاني الطرف الآخر من تهميش قانوني أو غموض في وضعه السياسي، كما هو الحال في القضية الفلسطينية، حيث تُعاني السلطة الفلسطينية من محدودية الاعتراف الكامل، مقابل تمثيل إسرائيلي راسخ في المنظمات الدولية.

عدم تكافؤ في الوصول إلى الموارد والبنى التحتية: الطرف الأقوى يمتلك سيطرة على الأرض، والمعابر، والمياه، والاقتصاد، بينما يُحرم الطرف الأضعف من أبسط مقومات السيادة، مما يُنتج علاقة تبعية قسرية تُعيق إمكانيات التفاوض المتكافئ.

تفاوت في القدرة على إنتاج الخطاب وتشكيل الرأي العام: يُهيمن الطرف الأقوى على وسائل الإعلام العالمية، ويُعيد صياغة سردية الصراع وفقًا لمصالحه، بينما يُكافح الطرف الأضعف لإيصال روايته، ويُواجه تشكيكاً مستمراً في شرعية مطالبه.

غياب التماثل في البنية السياسية والتنظيمية: في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، نلاحظ وجود دولة ذات مؤسسات مستقرة، مقابل كيان سياسي منقسم، يُعاني من تعدد المرجعيات، وتداخل السلطات، مما يُضعف من قدرته على التفاوض أو فرض شروطه.

انعدام الوعي المتبادل بطبيعة الصراع: حيث يُنظر كل طرف إلى الآخر من خلال عدسة اختزالية، تُغذّيها السرديات التاريخية والمواقف الأيديولوجية، مما يُعيق بناء أرضية مشتركة للحوار أو التفاهم.

في ضوء هذه السمات، يُمكن فهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أنه نموذج مركّب لصراع غير متكافئ هيكليًا، حيث لا يكمن التحدي فقط في اختلال ميزان القوة، بل في البنية العميقة التي تُعيد إنتاج هذا الاختلال عبر الزمن. فكل محاولة للتفاوض، منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم، لم تُفلح في كسر هذا النمط البنيوي، بل غالبًا ما أدّت إلى إعادة إنتاجه بصيغ جديدة، تُكرّس التفاوت بدلاً من تجاوزه.

إن تحليل هذا النوع من الصراعات يتطلب أدوات نظرية تتجاوز المقاربات الكلاسيكية، وتُراعي تعقيدات البنية، والرمز، والشرعية، بوصفها عناصر حاسمة في فهم ديناميات الصراع، وإمكانيات حله أو استمراره.


ديناميكيات التفاوض في الصراعات غير المتكافئة هيكليًا: مأزق التفاهم بين طرفين غير متساويين

تُعدّ ديناميكيات التفاوض في الصراعات غير المتكافئة هيكلياً من أكثر العمليات تعقيداً وإرباكاً في مجال إدارة النزاعات، إذ لا تنطلق من أرضية تفاوضية مشتركة، بل من واقع اختلال بنيوي عميق يُضعف من قدرة أحد الأطراف على فرض شروطه أو حتى التعبير عن مطالبه ضمن إطار تفاوضي متوازن. في هذا النوع من الصراعات، لا يُنظر إلى التفاوض بوصفه وسيلة لحل النزاع، بل غالبًا ما يتحوّل إلى أداة لإعادة إنتاجه، أو لتكريس التفاوت القائم تحت غطاء الحوار.

في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، يُمكن ملاحظة هذا النمط بوضوح منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم. فالمفاوضات التي جرت بين الطرفين لم تكن بين دولتين متكافئتين في السيادة والشرعية، بل بين قوة احتلال تمتلك السيطرة الكاملة على الأرض والموارد، وطرف فلسطيني محدود الصلاحيات، يعاني من انقسام داخلي، وتفتت مؤسساتي، وتقييد في الحركة والتمثيل. هذا الاختلال الهيكلي جعل من كل جولة تفاوضية مناسبة لإعادة تعريف شروط الصراع من قبل الطرف الأقوى، بدلاً من أن تكون خطوة نحو تسوية عادلة.


تتسم ديناميكيات التفاوض في هذا السياق بعدة خصائص:

غياب التوازن في القوة التفاوضية: حيث يُهيمن الطرف الأقوى على جدول الأعمال، ويُحدد الإطار الزمني، ويُمارس ضغطاً دولياً لتقييد خيارات الطرف الأضعف.

تفاوت في القدرة على إنتاج الخطاب التفاوضي: إذ يمتلك الطرف الإسرائيلي أدوات إعلامية ودبلوماسية واسعة لتسويق روايته، بينما يُكافح الطرف الفلسطيني لإثبات شرعية مطالبه في ظل تشكيك مستمر.

تحوّل التفاوض إلى أداة إدارة لا حل: غالبًا ما تُستخدم المفاوضات لتأجيل المواجهة أو لاحتواء الغضب الدولي، دون نية حقيقية للوصول إلى اتفاق نهائي، مما يُفرغ العملية التفاوضية من مضمونها.

إعادة إنتاج المواجهة بعد كل جولة تفاوضية: بدلاً من أن تُفضي المفاوضات إلى تهدئة أو تسوية، تؤدي إلى تصعيد جديد، نتيجة الإحباط، أو فرض شروط مجحفة، أو تجاهل المطالب الجوهرية للطرف الأضعف.

انعدام الوعي المتبادل بطبيعة الصراع: حيث يُنظر كل طرف إلى الآخر من خلال عدسة أيديولوجية أو أمنية، مما يُعيق بناء أرضية مشتركة للحوار، ويُحوّل التفاوض إلى عملية تقنية خالية من البُعد الإنساني والسياسي.

إن فهم ديناميكيات التفاوض في الصراعات غير المتكافئة هيكلياً يتطلب تجاوز النماذج التوفيقية التقليدية، والاعتراف بأن التفاوض في هذه الحالات لا يمكن أن يكون فعّالاً ما لم يُعالج الاختلال البنيوي أولاً، ويُعاد تعريف العلاقة بين الأطراف على أساس الاعتراف المتبادل، والعدالة، والتماثل الرمزي والمؤسسي.


  فلسطين كمرآة للاختلالات البنيوية في النظام الدولي

يتضح أن الحالة الفلسطينية الإسرائيلية تمثل نموذجاً صارخاً للاستعمار الاستيطاني الذي يتغذى على اختلالات بنيوية في موازين القوى، ويعيد إنتاج منطق الهيمنة عبر أدوات قانونية، سياسية، وعسكرية غير متكافئة. فالصراع هنا لا يُختزل في مواجهة بين طرفين متنازعين، بل يتجلى كعملية استعمارية مستمرة تسعى إلى نفي وجود الآخر، وتفكيك روايته، ومصادرة حقه في الأرض والتاريخ. إن الاستيطان لا يكتفي بالسيطرة المادية، بل يتسلل إلى البنية الرمزية للخطاب الدولي، حيث تُعاد صياغة مفاهيم مثل "الأمن" و"الشرعية" و"السلام" بما يخدم الطرف الأقوى ويُهمّش الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

ومع تصاعد أدوات المقاومة الشعبية، وتنامي الوعي العالمي بطبيعة هذا الصراع غير المتكافئ، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في المفاهيم التقليدية للصراع، والانتقال من مقاربات توازن القوى إلى مقاربات تفكيك البنية الاستعمارية ذاتها. ففلسطين، بما تحمله من تعقيدات تاريخية وجيوسياسية، ليست مجرد ساحة مواجهة، بل مرآة تعكس أزمة النظام الدولي في التعامل مع قضايا التحرر والعدالة. ومن هنا، فإن تفكيك الاستعمار الاستيطاني لا يُعدّ خياراً فكرياً فحسب، بل ضرورة أخلاقية وسياسية تفرضها استمرارية النفي والاقتلاع، وتستدعي تضامناً نقدياً عابراً للحدود، يعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في تقرير المصير، والوجود، والكرامة. 

فريد الأطرش/ د. عدنان الظاهر

  



فكّرتُ كثيراً وفكّرتُ طويلاً حتى تجمّعت لديَّ مادة تستحق الكتابة عن الفنان فريد الأطرش كما أحسبُ. قسّمتُ الموضوعَ إلى ثلاثة أجزاء هي 1ـ فريد فنان الحزن 2ـ فريد فنان الحب و 3ـ فريد فنان البهجة والطرب.

أولاً / فريد سيّد الحزن :

أتناولُ في هذا الباب أغنية فريد الأطرش ( بتبكي يا عين على الغايبين ودمعكْ عالخدود سطرين ). قيل في حينه إنها في رثاء شقيقة فريد أسمهان غناها بعد موتها غَرَقاً في ترعة وهي في طريقها نحو الإسكندرية. لحنُ هذه الأغنية لا مثيلَ له سواء في المقدمة أوفي المقاطع الثلاثة التي تكوّنت الأغنية منها. المقاطع الثلاثة هي : ( بتبكي عاللي راح منك ومن إمتى اللي راح بيعود يا خوفي يذبّلك حُزنك وما تلقيش للدموع دي خدود خدود زاهية طفيتها وذبّلتِ  الحياه فيها .. ) يليه مع تبدّل المقام الموسيقي ( يا عين شفتي وحبّتي وقُلتِ لقلبي ميلْ واعشقْ طوعتك لمّا خليتي خيالي عمرو ما يصدّقْ بإنْ اللي هواه قلبي حينساني ويغدرْ بي .. ) أما المقطع الثالث والأخير فيقول فيه فريد مع مقام جديد ( بتبكي علّلي هجروكِ وخانوا العِشرةْ وفاتوكِ وذول لو كانوا حبّوكِ ما كانوا فيوم يُبكّوكِ يا عينْ بيعي اللي باعوك يا عين إنسي اللي نسيوكِ .. ). عدا المقطع الأول، وهو موضع تساؤل ونقاش، فالمقطعان الآخران لا علاقة لهما بالرثاء فهما في رومانس خائب وبكاء ودموع وهجر وخيانة ودعوى للنسيان. قلتُ المقطع موضوع قابل للنقاش فهو يصلح للرثاء كما يصلح للعتاب. كذلك الأمر في مقدمة الأغنية فهل كذلك ذات وجهين تصلح كرثاء كما تصلح للحزن على فراق وغياب الأحبّة. مجملاً أرى هذه الألحان المتحرّكة بعبقرية غير مسبوقة  وهذه الأُغنية بصوت فريد سمفونية حزن كوني لا مثيل لها لا في الأولين ولا في الآخرين. لا مليون عبد الوهاب يستطيع تلحين مثيلاً لهذا اللحن ولا مليار حليم حافظ بقادر على أداء هذه الأُغنية. تبقى رمزاً ومثالاً لعبقرية فريد يفخر بها عالم فني التلحين والغناء لقرون وقرون وقرون.

ما قدّم محمد عبد الوهاب بهذا الخصوص وما قدّم عبد الحليم ؟ غنّى عبد الوهاب أُغنية ( أيها الراقدون تحت التُراب ) وغنى حليم أُغنية ( ظلموه ) وأغنية ( بعد إيه بعد إيه ) ثم أُغنية ( أي دمعة حزن لا لا ) وجميع هذه الأغاني لا تساوي شيئاً إذا ما قورنتْ بسمفونية فريد.

ثانياً /  فريد فنّان الحب الوحيد في زمانه :

فاق فريد جميع معاصريه في عدد الأغاني التي غناها للحب منذ بداياته الأولى في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين حيث غنّى من تلحينه أُغنية ( بحبِّ من غير أملْ وقلبي راضي وسعيد وان طال عليَّ الأجلْ إنتَ الحبيب الوحيدْ ) ثم أجاد في أداء أُغنية يا ريتني طير لطير حواليك وهي ليست من تلحينه إنما تلحين فريد غُصنْ كما أظن وغنّاها قبله إيليا بيضا لكنَّ فريد حوّر فيها وطوّرَ حتى استقامت بالشكل المعروف. ثم غنّى الأغنية الأعجوبة تلحيناً وأداءً وأظنها من تلحين الشيخ زكريا أو محمد القصبجي أو ربما مدحت عاصم أو محمود الشريف .. أعني اُغنية ( من يوم ما حبّك فؤادي من يوم حفظتِ ودادي وزاد سُهادي وأنيني الدنيا حليتْ في عيني ). في كلمات هذه الأغنية تناقض واضح فمرة يُغرّدُ عالياً للحب المطلق ليعود بعد قليل فيقلب ظهرالمِجن متنكّراً للحب كافراً وزاهداً به. مثلاً ( ميمي مين زيي شاف الهنا مين زيي نال المُنى من يوم ما حبّك فؤادي من يوم هجرتِ ودادي وزاد سُهادي وانيني الدنيا حليت في عيني ). ثم أنكى الجميع يقول فريد ( كِرِهت حبِّكْ من كثرِ صدكْ وكرهتِ فيكِ كثر الدلال على أيه ححبكْ ولا أودك مش عايز أشوفكْ ولا في الخيالْ ). اللحن كما أحسب غير مسبوق بعذوبته وتفرّده ومطابقته لطبيعة أوتار حُنجرة فريد في شبابه المبكر إذْ لو غناها في سنوات عمره المتأخرة لما نالت ذلك النجاح المنقطع النظير. تبقى هذه الأُغنية من أغاني الحب الراقيات جداً تجلّى وأبدع فيها مُغنيّا وليس مُلحِّناً فاللحنُ لغيره. أُغنية أخرى غناها فريد للحب الحي في فلم إنتصار الشباب أدّاها تلفونيّاً كمحاورة ثنائية مع طرف آخر مثّلته الفنانة روحية خالد. يقول فريد فيها ( وحياتك تقولي لي الحقْ بتحبيني ولّا لا .. تقول له روحية خالد كلاماً لم نسمعه فيرد : دي أحلى كلمة يا مُنايَ لما تقولي لي أحبّك قوليها تاني .. ) أبدع فريد في أداء هذه الأُغنية البسيطة والعميقة المغازي والرفيعة اللحن البرئ. 

في ذهني أغانيه القديمة التي لم يضمّنها في أفلامه يحضرني منها أغنية ( بتسأليني عن حالي وانتِ السبب في اللي جرا لي ) وأغينة ( يا ريت تذوقي اللي في قلبي وتعرفي مقدار حُلّي يا ريت يا ريت تذوقي اللي في قلبي ) أو أُغنية ( يا فرحتي يوم ما تجيني بعد الخصام وتصالحيني يا فرحتي يوم ما تجيني ). غنّى فريد هذه الأغاني للحب بشتى تنوّعاته وطبقاته فالحب طبقات ومدارج. لم يجاره أو يضاههِ أحد من مطربي زمانه وزماننا فيما قال فريد في هذه الأغاني التي طواها النسيان ولا يتذكرها أحدٌ للأسف الشديد. نعم، فريد فريد زمانه فيما غنّى للحب سبق وفاق الجميع بلا استثناء. ثم حلَّ العام 1953 حيث مثّل فريد فلم لحن الخلود وغنّى في آخره فريدته الرائعة ( بنادي عليك ). إنها ملحمة سيذكرها عالم اللحن والطرب إلى ما شاءَ الزمانُ. فريد بارع في الإنتقال بأغانيه من مقام لآخر حسبَ ما تقتضيه أحوال كلمات الأُغنية فالمُلحّن يحول الكلام المنطوق إلى لحن يؤدّى على آلات موسيقية يُشجي أو يُطرب أو حتّي يُبكي. مَن غنّى في العالمين أُغنية كهذه .. مَنْ ؟ الأغاني التي كرّسها فريد للحب كثيرة لا تُعد ولا تُحصى منها أغنية ( ختم الصبرُ بُعدنا بالتلاقي ) ولا ادري مَن وضع كلاماتها. وأغنية ( عشْ أنتَ إني مُتُّ بعدكْ وأطلْ ما شئتَ صدّكْ ) كلمات الشاعر اللبناني الأخطل الصغير بشارة الخوري. والأغاني الأُخَر التي غنّاها في آخر فلمين له قبل وفاته مثل أغنية ( يا حبايبي يا غايبين وحشيني يا حلوين لو أغمّضْ وأفتّحْ ألاقيكم جايين ) ثم الأغنية الأروع ( زمان يا حُب ) التي ختم بها فلمه ( زمان يا حب ) مثّله مع زُبيدة ثروت وليلى طاهر ويوسف وهبي في لُبنان. فضلاً عن أغاني الحب والطرب والفرح والبهجة مثل أغنية ( حبّينا حبينا حبيناكِ حبّيني ) وأُغنية ( فوق غصنك يا لامونة ) وأغنية ( لكتب عاوراق الشجر سافر حبيبي وهجر يا حبيبي دخلك عود بيكفّي غياب وسفر .. ). مَن غنّى مثل هذه الأغاني التي جمع فيها فريد جمال طبيعة لبنان والفرح الغامر والحب الشفيف الراقي ورقصات الفنانين اللبنانيين... مَنْ ؟ غنّى حليم حافظ أُغنية ( جانا الهوى جانا ورمانا الهوى رمانا ) برفقة الفنانة نادية لطفي وصورها كذلك في لبنان محاولاً تقليد فريد ولكن هيهات هيهات فالثرى غير الثريا. رقصت نادية في مرقص وحانة بملابس الراقصات المحترفات وتبادلت الكأس مع حليم وأكثرا من تبادل القُبل الحقيقية وليس القُبل السينمائية وهذا بحد ذاته أمر مُثير ومُدهش ولا اعتراض عليه ولكن ... يبقى فريد متفوّقاً وفريداً فالأصل الأصلُ غير المنسوخ والتقليد.

الكل يُركّز على اُغنية ( الربيع ) لفريد لكني أجد أغنية ( أول همسة ) أفضل منها وأسيغُ سماعها المرة تلوَ المرة. أغنية الربيع ليست خالصة للحب إنما هي خليط متجانس من الرومانس والبهجة حالها حال ( بساط الريح ) وأوبريت ( إنتصار الشباب ).

ثالثاً /  فريد والبهجة والطرب :

كلما خطر في بالي موضوع الأنس والبهجة والطرب لدى فريد أجد أمامي القول [ ويرقصُ الطيرُ مذبوحاً من الألمِ ]. غنّى فريد للبهجة والإنتشاء ما لا يُحصى من الأغاني في مختلف مراحل عمره غير الطويل. الأمرالذي قصّر فيه الباقون وعجزوا عن الإتيان بمثله. الأمثلة كثيرة لكني أُركّز على أُغنية ( يا زهرةً في خيالي ) على إيقاع التنكو و ( ليالي الأُنس في فيينا ) والربيع التي بنى لحنها على إيقاع الفالس و( بساط الريح ) وأُغنية ( يا بنت بلدي ) وأغنية ( مرّة يهنيني ومرّة يبكّيني ) غناها على رقص هند رُستم ثم ثنائيته الرائعة مع شادية ( يا سلام على حبّي وحبّك ) وثنائياته مع صباح ونور الهُدى وثنائيته مع أسمهان في فلم إنتصار الشباب ( الشمس غابت أنوارها ) والأخرى أوبريت إنتصار الشباب كذلك مع أسمهان كلها مُترعة بالبهجة والتفاؤل وبشائر الخير تشيع المرح والمسرة في قلوب سامعيها. وفي هذا الفلم بالذات لحّن فريد أروع الأغاني لشقيقته أسمهان مثل ( ياللي هواكْ شاغل بالي ) و ( أيها النائمُ عن ليلي سلاما ) وأغنية ( الورد ) التي تسمعها بأداء أسمهان فيُخال إليك أنَّ ترى ربيع كل الدنيا شاخصاً أمامك مسحوراً والعينان نحو السماء.

بخصوص الهوى والرومانس نجح محمد عبد الوهاب بأغنيته ( الجندول ) ولعبت كلمات الأغنية دوراً فعّالاً في نجاح هذه الأُغنية. كما نجحت له أغانٍ أُخرولكن بأصوات أخرى مثل أغنية كل ده كان ليه وأغنية لا تكذبي وأغنية أنت عمري. إذا سرق فريد الأطرش مقدّمة لحن أُغنية ( فردا لونا ) بصوت ريتا هايوارث في فلم رملٌ ودم وغنّاها في أُغنية ( عينيَ بتضحك وقلبي بيبكي ) فإنَّ عبد الوهاب كان في غاية السذاجة حين لطش جزءاً من السمفونية الخامسة لبيتهوفن ووضعه مقدمة لأغنيته ( أحب عيشة الحرية ). فضيحتان بجلاجل.


الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة - مقاربة استراتيجية/ د زهير الخويلدي



مقدمة


"الترجمة هي إحداث تأثيرات مماثلة بوسائل مختلفة" بول فاليري

تُعتبر الترجمة الفلسفية مجالًا معقدًا يتجاوز مجرد نقل النصوص الفلسفية من لغة إلى أخرى، إذ تتطلب فهمًا عميقًا للسياقات الثقافية، اللغوية، والمفاهيمية التي تشكل الأفكار الفلسفية. أما فلسفة الترجمة فهي التأمل النظري في طبيعة الترجمة، أهدافها، وتحدياتها، مع التركيز على كيفية تأثير اللغة على إنتاج المعرفة ونقلها. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل معمق للترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة من خلال مقاربة استراتيجية ترتكز على استكشاف التحديات الإبستيمولوجية، اللغوية، والثقافية، مع اقتراح استراتيجيات للتعامل مع هذه التحديات. سيتم تناول الموضوع عبر أربعة محاور رئيسية: (1) تعريف الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة، (2) التحديات الإبستيمولوجية واللغوية، (3) السياقات الثقافية والتاريخية، و(4) استراتيجيات الترجمة الفلسفية. فكيف تستفيد الترجمة الفلسفية من فلسفة ترجمة؟


 تعريف الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة

"يتعين على المترجم الفلسفي أن يواجه صعوبة في جعل النص الأصلي مفهومًا دون تشويهه، مع السعي إلى الحفاظ على ثراء المفاهيم والفروق الدقيقة."


 الترجمة الفلسفية

الترجمة الفلسفية هي عملية نقل النصوص الفلسفية من لغة مصدر إلى لغة هدف، مع الحفاظ على الدقة المفاهيمية والسياق الفكري للنص الأصلي. تختلف الترجمة الفلسفية عن الترجمة الأدبية أو التقنية بسبب طبيعة النصوص الفلسفية التي تتسم بالتجريد، الغموض المقصود أحيانًا، والاعتماد على مفاهيم ثقافية ولغوية محددة. على سبيل المثال، ترجمة مصطلحات مثل "Dasein" عند هيدغر أو "ἐπιστήμη" (episteme) عند أرسطو تتطلب فهمًا عميقًا للسياق الفلسفي واللغوي.


 فلسفة الترجمة

فلسفة الترجمة هي التأمل النقدي في طبيعة الترجمة، أهدافها، وحدودها. تشمل هذه الفلسفة أسئلة حول إمكانية نقل المعاني عبر اللغات، تأثير اللغة على الفكر، وعلاقة الترجمة بالهوية الثقافية. فلاسفة مثل والتر بنيامين، في مقاله "مهمة المترجم" (1923)، وجاك دريدا، في أعماله حول التفكيك، قدموا رؤى عميقة حول الترجمة كعملية إبداعية وإشكالية في آن واحد. يرى بنيامين أن الترجمة لا تهدف إلى إعادة إنتاج النص الأصلي بشكل مطابق، بل إلى خلق "حياة جديدة" للنص في لغة أخرى، بينما يركز جاك دريدا على استحالة الترجمة الكاملة بسبب تعدد المعاني المتأصل في اللغة.

 التحديات الإبستيمولوجية واللغوية في الترجمة الفلسفية


التحديات الإبستيمولوجية

تتعلق التحديات الإبستيمولوجية بطبيعة المعرفة الفلسفية وكيفية نقلها عبر اللغات. النصوص الفلسفية غالبًا ما تكون مشبعة بمفاهيم تعتمد على إطار معرفي معين. على سبيل المثال:

تعدد المعاني: مصطلحات مثل "Being" في الفلسفة الغربية أو "Tao" في الفلسفة الصينية تحمل دلالات متعددة لا يمكن اختزالها في كلمة واحدة في لغة أخرى.

السياق المعرفي: النصوص الفلسفية تُكتب ضمن سياقات إبستيمولوجية محددة (مثل المثالية الألمانية أو الوجودية). المترجم بحاجة إلى فهم هذا السياق لنقل المعنى بدقة.


 التحديات اللغوية

اللغة هي أداة الفلسفة، وبالتالي فإن أي تغيير في اللغة يؤثر على المعنى. من بين التحديات اللغوية:

عدم التكافؤ اللغوي: لا توجد دائمًا كلمات مقابلة دقيقة بين اللغات. على سبيل المثال، ترجمة مصطلح "Geist" (الروح/العقل) في فلسفة هيغل إلى العربية تتطلب اختيارًا بين "روح" أو "عقل"، وكلاهما قد يحمل دلالات مختلفة.

البنية النحوية: اختلاف قواعد اللغة بين المصدر والهدف قد يؤثر على التعبير عن الأفكار. على سبيل المثال، اللغة العربية تميل إلى التراكيب الاستعارية، بينما الإنجليزية قد تكون أكثر مباشراتية.

التاريخية اللغوية: المصطلحات الفلسفية غالبًا ما تكتسب معانيها من تاريخ اللغة. ترجمة نصوص أفلاطون، مثلًا، تتطلب فهم اليونانية القديمة وسياقها الثقافي.

 السياقات الثقافية والتاريخية في الترجمة الفلسفية


 السياق الثقافي

الترجمة الفلسفية لا تقتصر على نقل الكلمات، بل تشمل نقل الثقافة التي أنتجت النص. على سبيل المثال:

ترجمة نصوص ابن رشد إلى اللاتينية في العصور الوسطى لم تكن مجرد نقل لغوي، بل كانت عملية تفاعل ثقافي بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية.

ترجمة الفلسفة الصينية (مثل الكونفوشيوسية) إلى اللغات الغربية غالبًا ما تواجه صعوبات بسبب الفروق في القيم الثقافية، مثل التركيز على الجماعة في مقابل الفردية.


السياق التاريخي

النصوص الفلسفية غالبًا ما تكون مرتبطة بفترات تاريخية محددة. على سبيل المثال:

ترجمة نصوص كانط في القرن الحادي والعشرين تتطلب فهم السياق التاريخي للمثالية الألمانية في القرن الثامن عشر.

التغيرات في المعاني عبر الزمن قد تجعل الترجمة الحرفية مضللة. على سبيل المثال، كلمة "علم" في العربية القديمة كانت تشير إلى المعرفة بشكل عام، بينما تحمل اليوم دلالات مرتبطة بالعلم الحديث.


 التأثير المتبادل

الترجمة الفلسفية ليست عملية أحادية الاتجاه، بل تؤثر في كل من اللغة المصدر والهدف. على سبيل المثال، ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية في العصر العباسي أثرت في تطور اللغة العربية، حيث ظهرت مصطلحات جديدة مثل "جوهر" و"عرض" لنقل المفاهيم الأرسطية.


 استراتيجيات الترجمة الفلسفية

للتغلب على التحديات المذكورة، يمكن للمترجمين اعتماد استراتيجيات محددة لضمان نقل دقيق وفعّال للنصوص الفلسفية. تشمل هذه الاستراتيجيات:


 الاستراتيجية السياقية

فهم السياق الفلسفي: يجب على المترجم دراسة الإطار الفلسفي للنص. على سبيل المثال، ترجمة نصوص نيتشه تتطلب فهم السياق الوجودي والنقدي للحداثة.

التعليقات التوضيحية: إضافة حواشي أو مقدمات توضح المفاهيم والسياقات الثقافية للنص الأصلي.


 الاستراتيجية اللغوية

الاحتفاظ بالمصطلحات الأصلية: في بعض الحالات، قد يكون من الأفضل الاحتفاظ بالمصطلح الأصلي مع شرح معناه (مثل ترجمة "logos" كما هي مع تعليق توضيحي).

التكيف اللغوي: تكييف النص مع اللغة الهدف مع الحفاظ على المعنى. على سبيل المثال، ترجمة "Weltanschauung" (رؤية العالم) إلى العربية قد تتطلب عبارة مثل "النظرة الكونية" مع توضيح الدلالات.


 الاستراتيجية الثقافية

التوسط الثقافي: المترجم يعمل كوسيط ثقافي، حيث يسعى لنقل القيم والافتراضات الثقافية المرتبطة بالنص. على سبيل المثال، ترجمة نصوص بوذا إلى العربية تتطلب مراعاة الفروق بين القيم الشرقية والإسلامية.

الحوار مع القراء: تقديم النص بطريقة تجعل القارئ الهدف يشعر بأنه جزء من الحوار الفلسفي، من خلال استخدام لغة مألوفة أو أمثلة ذات صلة.


 الاستراتيجية الإبداعية

إعادة الخلق: كما اقترح بنيامين، يمكن للترجمة أن تكون عملية إبداعية تهدف إلى إحياء النص في سياق جديد، بدلاً من السعي إلى التطابق الحرفي.

التفكيك والتأويل: مستوحاة من دريدا، يمكن للمترجم أن يتبنى منهجًا تفكيكيًا يركز على تعدد المعاني ويسمح للنص بالاحتفاظ بغموضه الفلسفي.


 الاستراتيجية التكنولوجية

استخدام الأدوات الرقمية: الاستفادة من قواعد البيانات اللغوية والفلسفية لفهم المصطلحات وتاريخها.

التعاون متعدد التخصصات: العمل مع فلاسفة، لغويين، ومؤرخين لضمان دقة الترجمة.


النقد

النسبية اللغوية: يرى البعض أن الترجمة الفلسفية قد تؤدي إلى نسبية معرفية، حيث تتغير المعاني بشكل جذري بين اللغات.

فقدان الأصالة: ينتقد البعض الترجمة الفلسفية لأنها قد تفقد النص الأصلي بعضًا من عمقه أو خصوصيته الثقافية.

التحديات الأخلاقية: المترجم قد يواجه اتهامات بالتحيز إذا اختار تفسيرات معينة على حساب أخرى.


 التأثير

ساهمت الترجمة الفلسفية في بناء جسور بين الثقافات، مثل نقل الفلسفة اليونانية إلى العالم العربي الإسلامي، مما أثر في الفكر الأوروبي الغربي لاحقًا.

ألهمت فلسفة الترجمة تيارات جديدة في الدراسات الثقافية وما بعد الاستعمارية، حيث أصبحت الترجمة أداة لفهم الهوية والاختلاف.


خاتمة

"إن الترجمات توسع أفق الإنسان، وفي الوقت نفسه، العالم وتساعد على فهم الشعوب البعيدة"

الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة تمثلان مجالين متداخلين يتطلبان مقاربة استراتيجية تأخذ في الاعتبار التحديات الإبستيمولوجية، اللغوية، والثقافية. من خلال اعتماد استراتيجيات سياقية، لغوية، ثقافية، وإبداعية، يمكن للمترجمين التغلب على هذه التحديات وخلق ترجمات تحافظ على روح النص الأصلي مع جعله متاحًا وذو معنى في سياقات جديدة. تظل الترجمة الفلسفية عملية إبداعية ونقدية في آن واحد، تساهم في إثراء الحوار الفلسفي عبر الثقافات واللغات. هذه الدراسة تؤكد على أهمية الوعي بالتعقيدات المتأصلة في الترجمة الفلسفية وضرورة تطوير استراتيجيات مبتكرة لمواجهة هذه التعقيدات. فهل مكن الاستعانة بالفلسفة الترجمة من التغلب على صعوباتها؟


المصادر والمراجع:


Benjamin, W. (1923). The Task of the Translator. In Selected Writings, Volume 1. Harvard University Press.

Derrida, J. (1985). Des Tours de Babel. In Difference in Translation. Cornell University Press.

Venuti, L. (1995). The Translator’s Invisibility: A History of Translation. Routledge.

Eco, U. (2001). Experiences in Translation. University of Toronto Press.


كاتب فلسفي

أَمَّا حكايةُ العشقِ الأُخرى... فهي مِصْرُ الحبيبةُ/ الأب يوسف جزراوي


 

مِصرُ الّتي لها مِن اسمِها نصيبٌ في الأمصارِ

هي عَلمٌ فوق السّارياتِ يُرفرفُ

فإنّي أشتاقُ لزيارةِ أرِض الكنانةِ شوقُ الضِّرِيرِ للبَصرِ!

فآهٍ  لَوْ تعلمينَ ...كَمْ اِستبدَّ بِي الشّوقُ

والشّوقُ للمُشتَاقِ ذابحٌ

 فهُو أشوقُ مِنّي إِليْكِ!

لَكِنّّي أَدريّكِ لَا تدرينَ

كَمْ تاقتِ لرؤيتكِ المُقلُ

وكَمْ تصبو لمعالمكِ الحدقُ!.

****

 لِيّ عراقٌ بِعراقتهِ  يحبُّكِ يَا مِصرُ

 ينامُ في عينيه بؤبؤ غرامكِ...

فكيفَ أخفيكِ سرًّا

إنَّ عينيكِ شمسُ الصّباحِ

وطلّتكِ بدرُ اللّيلِ...

أما ضفافُ نيلكِ  نخلةٌ تعانقُ السّماءَ...

ووسادتكِ  مهدُّ حضارةٍ

على اِمتدادِ القاهرة وبغدادَ!.

***

يَا كِنَانة الأمصار عندي بلدٌ محبٌّ

آليتُ إِلّا أن أحُبّهُ...

فهو مَن علّمني حُبّ مِصرَ وشعبها الطيّبُ المَعشَر والمُثقّفُ المُتسامِحُ...

أَوَليسَ"حسنُ للتَّلمِيذِ أن يكونَ مِثل معلمهِ" ( متّى 10: 25)

فإن شاعَ  قولُ كاتبٍ:

"مِصْرُ تكتبُ ولبنانُ تطبعُ والعراقُ يقرأُ"

فكيفَ لكِ لَا تقرأينَ لابنَ العِراق

وَهُوَ حكايةُ ولِهٌ بوَجدكِ وغرامٌ بالإسكندريّة وولعُ بِصعيدِ أريافكِ..

حَيثُ البساطةُ والثَّقافة والفنُّ والإيمان ...

وعن مكتباتها والآثارُ راحَ يُسطّرُ؟!

فقط أجيبيني:

أما كَانَ نبضُ قلبكِ يتماشى مَع وقعِ  خطوات شوقهُ العِراقي؟!.

***

مِصرُ يَا بِلاد الفراعنة

لقد دخلتِ قَلْبي مِن بابِ عقلي مُنذ نعومة أظافري

فكَيفَ لِيَّ أن أُقنّعَ وجداني وأحشِمَ نفسي بِالكَفِّ عن  عشقكِ؟!

وعيناكِ  بحرٌ...والحُسنُ في نيلكَ كحلٌ!

فَلِمَ لَا أسالنَّ ربّي تضرعًا أنْ يزيحَ عَنّكِ كُلَّ همٍّ وكربٍ

ويبعدُ عَن أرِضكِ أَيِّ طامعٍٍٍ وعدوٍ غَاشمٍ!

لقد صلّيتُ لله  لينسجَ لكِ بيدِ محبتهِ ثوبَ سلامٍ وآمان لَا يبلى!.

وَلَئِن العِراقَ يَا كنانتي أبا الوجود وأنتِ أمُّ الدُّنيا..

وقد سطعت منكما شمس الحضارة وبزغ نجم المعرفة على الوجودِ

أجدُّني كُلّمَا أقبلَ اللّيلُ أمتشقُ ريشة قلمٍ سومري...

فأرسمُكِ بِالكلمةِ  للشّرقِ وجدانًا

وأنحتُ لكِ مِن طينِ الرَّافدين تمثالاً!.

***

يَا مِصْرُ يَا رمانة المِيزانِ

يَا مَن حَبَاها الله بِالجمالِ  وَالعَطاءِ...

إن كانتِ الحَياةُ مبتدأً وخبرًا

فَالعِراقُ  جنائنٌ مُعلقةٌ وزقوراتٌ وملويةٌ... وهو أبو الحضارةِ

وأنتِ أمُّها .. ومَا الأهراماتُ وأبي الهول؟ سوى ناطقاتٍ عن عراقتكِ...

فهلّا دَعْينِي اِسْتَحْضَرْ للقاهرةِ وأذّكرها

بِقِدِّيسةِ الْعَواصِمِ بَغْدَادَ الّتي تُحبينَ وتُجلّينَ...

فهي لطَالَمَا تغنت بكِ وصلّت لأجلكِ...

لتُلقي عَلَيْكِ السَّلاَمَ والتّحية بِالمحبّةِ:

أُخْتاه؛

إنّـا تَقاسَمَنا بزوغ الحرف والإبداع...

فلكِ مِنّي الثُّنى مِنَ الشُّكرِ

لأنّكِ غدوتِ وطنًا ومأوئ للعراقيّينَ

 يومَ تاهَ مِنّا بلدنا وأضاع هويته في دجى الاِحتلال...

****

 تعجُ  الحياةُ بشَوَارِعِ  القاهرةَ  يَا بَغْدَادَ

 وَفرحةٌ  في كُلِّ الأفئدةِ حَولَ الْعَالَمِ

 لِما حلَّ بِالكنانةِ مِن أزدهارٍ وعمرانٍ وأمانٍ...

وِبِما لحق بِها مِن تطورٍ وريادةٍ...

ومَا العجبُ؟!

فالطَّيْورُ لَا تُحلِّقُ ولا تُغني إلّا بقربِ الورودِ.

هكذا مِصرُ ستَظَلُّ مَنَارَةً للأممِ.....

كُلّمَا تردد على مسامعِنا طاريها

نشعرُ بِعظمةِ الاسمِ!.

وَكَيفَ لا؟!

والقيامةُ فيها وشمُّ النَّسيم فولٌ وياسمين!.

****

يَا أرض الفراعنة....يَا غزالتي وغزلي

يَا هزجَ الخُلخالُ والحَليّ  

ألاّ تدرينَ فؤاد قلمي يتمرغُ بكتاباتٍ عنكِ

 لمْ تُعدَ تألفها حكاياتُ ألفِ ليلةٍ وليلة....؟!

فلا بُّد لذلكَ النورسُ المُغتربُ أنْ يرصفَ خرزُ الكلماتِ

حَبّة... حَبّة... ويُعلّقها مِسبحة صلاة على عنقِ نيلكِ!

ويعزفُ على كمنجةٍ  بغداديّة ألحانُها  منذورة  لكِ!.

دونَ أن يفوتهُ أن ينسجَ الغزلَ مِن حروفِه نصًا عنكِ

ويكتبُ الكلماتَ لكِ فعل حُبٍّ  وقصيدة صلاة ...

ويُخيّطُ المدرجَ بِالمدرجِ ويلصقُ الغيمة بِالغيمةِ..

عسى الأجواء تسعفهُ للتّحلّيقِ صوبكِ!.

كَما لا بُدّ للكاهنِ البغدادي

أن يهزَّ جذع النخلة العراقيّة في غُربتِه

 عسى السَّعف يغدو بساط سندباد إلى موقعِ اللقاءِ....

هُناكَ سوف يُراقصُ الشّموسَ مَعكِ حَتّى آخرِ ومضةٍ

ويقيمُ لأجل عينيكِ الأماسي الأدبيّة حَتّى أول غسقٍ...

ويُصلي لكِ قداسًا بلغةٍ حنين ولِدت معه...

 حيثُ قببُ الكنائس والمأئذن ونواقيس الأديرة...

ويمرّنَ صوته على أنغام أمواج كورنيش النيل وأغاني الصَّيادينّ في الاسكندريّةِ ومزامير المُرتّلينَ.

****

مِصرُ يَا حبيبتي وغاليتي...

أنتِ للمجدِ عنوانُ حضارةٍ وريادةٍ...

أنتِ شوقٌ قديمٌ... جمرهُ القاهرةُ

 ففيكِ ملامحُ بغداد وجوانحي وجوارحي...

يكويني اللظى فيكِ  والشوق إليّكِ جمرُ

بيدَ أنَّ الرحالَ لا يخشى الأسفارُ...

وَهَلْ يخشى جُرعةُ انتظارٍ الصابرُ!.

لذا لن أرميَّ عليكِ قَسَم النِّسيانِ

ولن أبيعَ قلبي العِراقي في مزادِ البُلدان لِسواكِ...

بل سأُبقي يَا مِصرَ شوقي شاطئ لقاءٍ معكِ على امتداد نهر عمري

حيثُ الفرحُ وطيبة النّاس وعبق الحرف...

أنَا الّذي أتعطرُ بِعطركِ كُلّمَا وقعَ على مسامعي اسمكِ...

أغازلُكِ بِالعراقي الفصيح:

أما زلتِ تُسرّحينَ شعركِ  

قُبالة  موج  غُربتي؟

حسنًا....فقط دعيه سرحًا... طليقًا.. مسدولاً على كتفيكِ

عسى كُلّما حركتهُ الرّيح...أعرفُ الدرب إليكِ!.

إذا ما زالتْ في نفسي غُصّةٌ أو أمنيةٌ لأنّني لم أزركِ...

فأنتِ عشقي يَا مصرُ

والعاشقُ عراقي... في هواكِ مصليٌ...

فكيفَ سيكون بيننا التّلاقي؟!

وأنتِ مدينةٌ تتباهى بينَ الأممِ بِحُسنها

 ووردةٌ فاحَ مِنها شذى عطرها...!.

فإنّني كُلّمَا  اقداتني المُخيلةُ صوبكِ ليلاً

أجِدني أتجولُ في طُرقاتكِ وأعاينُ أهراماتكِ ...

أتفقدُ  عاصمتكِ وتمضي بي الدروب إلى حي المطريّة ...

حَيثُ مرور العائلة المُقدّسة ومعقلُ الأزهر الحنيف...

فأتطلعُ إلى السّماءِ مُصليًّا:

هبِّ الكِنَانةُ نوم الهنا والعوافي يا ربّي. آمين.

رواية "دابة الأرض": قراءة تمهيدية في العتبات/ فراس حج محمد


تثيرني أحياناً في بعض الكتب عتباتها التمهيدية، من الغلاف وتصميمه، وما كتب عليه في الواجهة وفي الخلفية (التظهير)، والعتبات النصيّة التمهيدية: العنوان، والإهداء، والاقتباس الاستهلالي، وأية ملحوظات أخرى، تسبق الدخول إلى عالم الرواية أو بنيتها النصيّة.

تقول هذه العتبات الشيء الكثير، وتدرس ضمن المنهج البنيوي على أنها "نصوص موازية محيطة"، لها ارتباط عضوي بالعمل الإبداعي الذي تحيط به، ويدلّ على تكامل الصنعة الأدبية، وقدرة من يعمل على هذا العمل؛ الكاتب والنشر، والمحرر (إن وجد) على الاهتمام بالتفاصيل الموحية بفنية هذا العمل، ورسائله المباشرة وغير المباشرة، سواء أكانت رسائل وعظية أخلاقية أم سياسية فكرية، وصولا إلى الرسائل الفنية. فلا عمل أدبي أو فني يخلو من نوع واحد على الأقل من هذه الرسائل.

وفي رواية الدكتور أحمد رفيق عوض الجديدة الموسومة بعنوان "دابة الأرض" ستحمل العتبات أفكاراً مهمة، وتدلّ على إشارات لها قيمتها النصية، وهذه العتبات هي: الغلاف بواجهتيه وما اشتمل عليه من كتابات وصور، ثم تأتي الآية المقتبسة، يتلوها "ملاحظة فائقة الأهمية"، وأخيراً الإهداء.

 أولاً الغلاف:

1. الواجهة الأمامية: ينتمي الغلاف إلى تلك "الشخصية البصرية" التي تحافظ على وجودها دار النشر في كل الكتب التي يصممها مصمم الدار، وأصبح "هوية" معروفة، يستطيع الناظر إليه أن يلمسه، والقارئ أن يتحسسه في طبيعة الغلاف الورقي، وسهولة انسيتباته اللونية وتنغماتها، حتى لو احتشد الغلاف بالكثير من "العلامات" أو "الإشارات".

تشتمل الواجهة الأمامية على اسم المؤلف باللغة الإنجليزية في الحافة العليا للغلاف، وعلى يسار الاسم كتب بزخرف مميزة لخط اسم المؤلف الإنجليزي كلمة "رواية" التي تبيّن النوع الأدبي الذي ينتمي إليه الكتاب، وبذلك تؤسس الدار إلى "عقد قراءة" بينها وبين المتلقي، وبين المتلقي وبين الكاتب، وهذا يعني أنها تقدّم له نصّا متخيلاً، مشغولاً بتقنيات الرواية، فسيقرأ إذاً حكاية بشخصياتها وأحداثها وصراعاتها الخارجية والداخلية، هذا الصراع الذي يفترض بيئة روائية وزماناً لهذه الأحداث، لأنه لا رواية دون هذه العناصر الأساسية للفن الروائي، ثم يعاد كتابة اسم الروائي بخط كبير واضح يحتل المسافة العرضية للواجهة الأمامية في جزئها العلوي بخط أسود، وتحافظ الدار كذلك على طبيعة الخط الذي تستخدمه في رسم اسم المؤلف في الأعمال التي تصدر عنها.

وبطبيعة الحال سيحتل العنوان "دابة الأرض" محلّاً ظاهرا تحت اسم المؤلف بلون مغاير أكبر وغامق، بحيث يصبح منافساً في وضوحه البصري لاسم المؤلف نفسه بالنسبة للناظر إلى الغلاف، ما يعني- وهذا من طبيعة الأشياء ومنطقها- أن العنوان هو المقصود أولاً قبل المؤلف، وإن جاء المؤلف أولا في الكتابة، وكتب مرّتين على الغلاف، إلا أن وعي المتلقي يتجه أولا نحو العنوان، ومن ثم يهتمّ بالمؤلف. وسأعود إلى العنوان مرة أخرى لمناقشة دلالته النصية في موضع آخر من هذه المقالة.

يلي العنوان في منتصف المسافة يمينا ويسارا في واجهة الكتاب المثلث الأحمر المقلوب، وكأنه رأس سهم قاعدته إلى أعلى ورأسه إلى أسفل، وقد أصبح هذا المثلث معروفاً في الحياة السياسية الفلسطينية شعاراً لأعمال المقاومة الفلسطينية في غزة، ويظهر في تلك الفيديوهات التي تبثها المقاومة من استهداف جنود الاحتلال ومركباته بعد الاجتياح البري لقطاع غزة في حرب الطوفان الحالية. وسيكتشف القارئ أنّ أحداث السابع من أكتوبر متحكمة في السرد بشكل فاعل ومفصلي، وهذا ما بينتُه في قراءة سياسية أخرى للرواية، فجاء هذا المثلث رمزاً بصريا لهذه الأحداث، رمزا مكثفاً دالا وواضحاً، وله علاقة بمفهوم الدابة كما وضحته عند الحديث عن الخطاب السياسي.

وفي الجزء الأسفل من الواجهة الأمامية للغلاف ثمة لوحة يظهر فيها خمسة أشخاص، أحدهما بعيد يبدو أنه يمشي ومتجه بوجه نحو هدف معين، وأربعة أشخاص آخرين يحتلون اللوحة، واحد منهم مرسوم على مسلة حجرية كأنه نصب تذكاري لا تظهر له ملامح وجه، يبدو النصب شبيها بالأحجار المستطيلة التي يضعها الاحتلال على الطرق لإغلاقها، وهي ليست المكعبات، حجر مستطيل ذو سمك معين متصل فيه من الأعلى حلقة حديدية، لا تبدو واضحة ملامح هذا الشخص المرسوم على الحجر، بل بدا كأنه ظل، وأما الثلاثة الآخرون فبدوا أوضح في ملامح الوجه والملابس، أحدهما يلبس قبعة ويجلس على قطعة حجرية تشبه أيضا السواتر الاحتلالية على الطرقات لكنها تختلف عنها بالحجم، فهذه عرضية، أما الأولى فكانت طولية. يرتدي هذا الشخص ملابس متسخة، أما الآخران فامرأة بلباس عصري مع غطاء الرأس ومشغولة بالتحدث على الهاتف، وتخفي نوعا ما وراءها شاب لا يظهر كامل وجهه، لكنه ليس ظلاً.

هؤلاء الأشخاص الخمسة قد يشيرون إلى شخصيات الرواية الفاعلة وهم أبو الناجي وعائلته، وطبيعة أدوارهم، وهذا تمثيل رمزي للشخصيات لا انعكاس حرفي لوجودهم الروائي، وذلك لأن أبو الناجي وأولاده كانوا "سبعة" وليسوا خمسة.

ربما أشارت صورة الرجل الظل الذي ينتصب على "المسلة الحجرية" إلى الراحل أبو الناجي، فلم يعد موجودا في الرواية وإن افتتحت به، دخل في غيبوبة مرض الموت، وما لبث أن فارق الحياة، لكنه بقي حاضرا في الرواية بشكل كبير، لأن ثمة أبناء له، مثله، يتابعون طريقه بصورة أو بأخرى، ويريدون تقاسم أمواله وما تركه من عقارات، فلم تستطع العائلة التخلص من شبحه الراقد في القبر، كما أنه ظاهر بنصف ظهور على الغلاف؛ كونه ظلاً، فهو بهذا الاعتبار شخصية محورية وأساسية في توجيه الخطاب الروائي برمته، وكونه مرسوماً على حجر ثابت يعطيه هذه المركزية التي ليست لأحد من أبنائه أو بناته.

وربما أيضاً رمز الشخص البعيد عنهم في الخلفية في أقصى الحافة اليمنى للغلاف، السائر نحو هدف بعيد عن الآخرين، الأخ الأصغر في العائلة، المدعو كفاح الذي لم يختر أن يكون "سنّاً في دولاب السلطة" بل اختار نهج المقاومة، واعتباره بعيداً وفي خلفية المشهد البصري يعني أنه لا يحوز الاهتمام نفسه في الرواية على مستوى الأهمية والحدث والفعل على الأرض، كما أنه ظلّ بالفعل بعيدا عن إخوته، ولم يجتمع معهم إلا قليلاً، فظل مشغولا بالمقاومة ومتخفياً، بل انتهت الرواية بمصير مجهول له.

تجمع هؤلاء الأشخاص أرضية للوحة ذات لون قريب من الصفرة، أو ما بين الأصفر والبني، ساكنون في أماكنهم، وثباتهم في المكان ربما أشار إلى عدم الفاعلية، ويحمل نوعا من الانتقاد الأولي لهؤلاء وما يمثلونه من نهج سياسي في الحياة الفلسطينية.

2. الواجهة الأخيرة للغلاف: ثمة عناصر مكررة على هذه الوجهة: اسم الكاتب باللغة الإنجليزية، وتصنيف العمل، والعنوان والمثلث الأحمر، لكنه متجه هذه المرة نحو اليسار، وورد مرة أخرى في أسفل الغلاف مع الإشارة إلى كلمة "الناشر" المكتوبة باللون الأحمر، لقد تحول المثلث الأحمر من رمزيته السياسية إلى مجرد إشارة وعلامة أشبه بعلامة ترقيم تشير إلى غيرها، ولا تستقل بمعنى في ذاتها.

كما يظهر على الواجهة الأخيرة صورة للمؤلف أحمد رفيق عوض، صورة تعريفية، تشبه صورة البطاقة الشخصية، ويحيط بالصورة من اليسار والأسفل نصّ منسوب إلى الناشر يقدم لمحة عن الرواية، تهدف إلى التعريف بالمتن الروائي وتقدم خطوطه العريضة، كما يشير إلى علاقة الدار بالمؤلف، وترتيب الرواية ضمن قائمة الإصدارات التي نشرتها للكاتب، مع تعزيز حضوره مع الدار بشيء من الافتخار والاعتزاز كونه واحدا من الكتاب الذين تنشر لهم الدار إبداعاتهم، بأن تكون هذه الرواية الكتاب الرابع الذي تصدره للمؤلف.

ثانياً: العنوان "دابة الأرض"

يشكل العنوان عتبة مهمة من عتبات العمل الأدبي، وأشرت أعلاه إلى تميّزه في الحضور البصري على الغلاف. أما العنوان ذاته "دابة الأرض" فله إحالات ثقافية متنوعة، أهمها الإحالة القرآنية، وقبل أن يحدد المؤلف مقصوده وإحالته على نص معيّن، فإن المرء قد يستحضر غير الدابة الواسمة بالفضيحة، دابة سيدنا سليمان عليه السلام في قوله تعالى في سورة سبأ الآية الرابعة عشرة: "فما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".

هل كانت هذه الدابة حاضرة أيضا في عقل المؤلف، وما أجمل لو كانت! إن هذه الآية لها أكثر من معنى في السياق الروائي، وما تحمله من هشاشة وسقوط لشيء عظيم، ربما أشارت إلى "حدث الطوفان" صباح السابع من أكتوبر، وما رآه العالم من هشاشة الكيان واختراقه، وكأنه "خرّ" وما دلهم على هشاشته مثل ذلك الحدث، فدابة الأرض رمزيا قد تعني هؤلاء المقتحمين الذي فعلوا في أرض الواقع من كمون واستعداد وما تطلبوه من مدة زمنية، ما قامت به "دابة الأرض السليمانية"، فقد مكثت مدة ليست قصيرة وهي تأكل المنسأة التي يتكأ عليها "حاكم الجن" قبل أن يخر صريعاً، والدليل قول الجن بعد اكتشاف الأمر "أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"، فثمة "عذاب مهين" أصاب المحتلين في ذلك اليوم، ما زالوا إلى الآن يرونه "كارثة" وينذرهم بخطر وجودي.

ربما تبدو المقاربة فيها نوع من التعسف، إلا أن النشوة التي صاحبت كثير من الفلسطينيين والعرب والمسلمين كانت تنظر إلى هشاشة الكيان الغاصب، وتهاويه، لتعود إلى الواجهة أمنيات الزوال وتوقعاته ولعنة العقد الثامن حتى عند بعض المحتلين والصهاينة.

أما الدابة التي حررها المؤلف في النص، وأشار إليها في الاقتباس الاستهلالي فهي "دابة الأرض" التي تسم الناس بميسم الكفر والإيمان، وقد ابتنى عليها النص كله وكانت حاضرة نصاً، ومناقشة في مفاصل متعددة من الرواية، وهي التي تخرج في آخر الزمان الواردة في سورة النمل في الآية الثانية والثمانين.

يشكل هذا العنوان رمزية خاصة، مستلهمة من النص الديني، متوافق تماماً مع مقصود روايته ورسائله المصاحبة، فالكل مفضوح، والكل غير سليم النوايا، ولكن لا ينحاز المؤلف إلى تفسير ديني لهذه الدابة، وإنما اكتفى بدلالتها القرآنية الظاهرة، وهي "دابة تتكلم" ولا توضع مياسم على جباه الناس كما جاء في الرواية، ومفهومها مختلف عن "دابة سيدنا سليمان" حيث كانت تلك "أرضة"، أما هذه فهي ربما كانت دابة عظيمة على شكل حيوان ضخم.

ثالثاً: ملاحظة فائقة الأهمية

يوضح الروائي أحمد رفيق عوض في هذه الملاحظة أن "هذه الرواية من نسج الخيال، لا تمت للواقع بصلة، ولا يمكن لوقائعها أن تتشابه مع وقائع حصلت أو مع أناس حقيقيين، لذا اقتضى التنويه".

تحمل هذه الملاحظة كثيرا من الاعتبارات والإشارات، فهي تنتمي إلى ملحوظات كثيرة ومشابهة أثبتها أدباء عرب وفلسطينيون في مستهل رواياتهم ليحترسوا بها من "الاشتباك" مع المجتمع أو بعض فئاته أو أفراد منه، وسبق للروائي نفسه أن أصابه شيء من اعتراض أو أذى بعد أن أصدر روايته "العذراء والقرية"، فظن البعض أنه يكتب عن أشخاص معينين، "لذا اقتضى التنويه" حتى لا يقع في مشكلة هذه المرة مع أحد المتنفذين في السلطة، فقد يخرج عليه من هو الناجي مثلا أو سامي، ويتهمه بأنه يكتب حالته وقصته وقصة أبيه. على الرغم من أن هذا النوع من الاحتراس يحمي الكاتب قضائيا وقانونيا، لكنه لن يحميه دائما من القراء وأجهزة الدولة وأزلامها المتربصين بأعدائهم أو منتقديهم. والروائيون الذين تعرضوا لمثل هذا الاعتراضات والإشكاليات كثيرون فلسطنيا وعربيا، وحتى في العالم، وبذلك تفقد مثل هذه الاحتراسات أحيانا مفعولها في حالة تم التعامل مع الرواية على أنها وثيقة تحيل على الواقع المعيش نفسه بحذافيره، وأشخاصه وحكاياتهم.

ومهما يكن من أمر، ومن توجيه، فقد سبق أن ناقشت مثل هذه "الاحتراسات" في كتابة خاصة عن "التخييل الذاتي في الرواية الفلسطينية"، فلا داعي لأن أعيده مرة أخرى. لكن قناعتي الشخصية تقول إن مثل هذه الاحتراسات فيها إدانة للمجتمع وللقارئ الذي يضطر الكاتب لأن يكتب مثل هذا، وهو يعي ويعرف أنه يكتب رواية، أي أنه يكتب من منطق "التخييل الروائي" لا يسجل أحداثا حقيقية، وإن كانت واقعية، بمعنى أنها قد تحدث في الواقع، فهي ليست "فنتازيا" الخيال البعيد عن التماثل مع أحداث الواقع الرديء جداً.

كما أنها تحمّل الكاتب جزءا من المسؤولية في أنه لا يحب المواجهة، وربما لا يستطيعها، وهذا أيضا يحيل على منظومة أمنية واجتماعية تجرّم الكاتب ولا تحترم انتقادته لهذا الواقع، فيظل يمارس عمله من وراء "التقية"، ما يضفي على شخصيته شيئا من المداهنة أو الجبن، ويعيد الفكرة من أساسها، بطرفيها السلطوي والمجتمعي، وخاصة السلطوي إلى تلك العلاقة المريبة بين السلطة والمثقف، والدكتور أحمد رفيق عوض يعرف هذه العلاقة وما تحكمها من مشاكل، وهو في غنى عنها، وناقشها بشيء من الحذر في روايته "الصوفي والقصر"، فتوجّه لهذه السلطة المجتمعية والسياسية والدينية إلى أن يقول لهم إنني أكتب "من نسج الخيال" فلا تحاسبوني على ذلك فأنا لم أمس الواقع والوقائع. 

ومن جهة أخرى، ربما أصبح هذا النوع من الاحتراسات أيضاً ذا مفعول عكسي، فكأن الروائي وهو يحترس بالابتعاد عن الواقع يريد أن يقول للقارئ إن هذا هو الواقع بعينه، فلتره كما أراه، لا كما تراه أنت، وهذه مخاتلة فنية محمودة من الكاتب، لأن الاحتراس من الوقوع في الشيء هو مظنة تقترب من اليقين في مواقعته فيما يحذر، ويحذّر منه قارئيه.

رابعاً: الإهداء

يكتب أحمد رفيق عوض إهداء لافتا يقول فيه "إلينا نحن المطمئنون"، ويوقّع باسمه الأول دون اللقب الأكاديمي "أحمد". هذا اللقب الذي يغيب عن الغلاف بواجهتيه أيضاً، إنه يزيل الحاجز بينه وبين القارئ في التخلي عن اللقب العلمي "دكتور"، وعن اسمه الثلاثي مكتفيا بالاسم الأول، ليبدو واحدا من هؤلاء المفترضين في الإهداء الذين هو واحد منهم، إنه يهديها "إلينا" التي تجعله واحدا من المهدى إليهم، فكأنه يقول إنني أكتب لنا جميعا، وأكتب لنفسي باعتباري واحدا منكم.

ويؤكد هذه اللحمة بينه وبين القراء أو الشعب بالضمير "نحن" ضمير الجمع المتكلم، وجعله مرفوعا، لا بدلا من الضمير نفسه "نا" الذي هو في محل جر بحرف الجر، ليبرزه، بوصفه ضمير فصل ذا أهمية نحوية تجعله مستقلاً غير تابع ليؤكد مرة أخرى الجماعية في الإهداء، هذه الجماعية الحاضرة في الوصف "المطمئنون" جمع مذكر سالم. هذه الصياغة اللغوية التي تقدم شبه الجملة "إلينا" على المبتدأ، تصلح وحدها لتكون إهداء قصيرا جدا، لكنه أتبعها بلفظين آخرين، أحدهما يؤكد المعنى الجمعي والثاني يقدم صفة لهذا الجمع.

ولكن، لماذا "المطمئنون" والرواية حافلة بالقلق والتوجس، وعدم اليقين، وترسم أجواء قاتمة على أرض الواقع، فالسياسة وأحداثها لا تبشر بأي خير؟ فمن أين يأتي الاطمئنان؟ ومن هذه "النحن" إذن؟ هل تشير إلى الكُتّاب أو "المؤمنون بنصر الله" الموعودون به في موضع آخر من النص القرآني، فكانوا هم "المطمئنون" له وبه؟ هل يحمل الإهداء نوعا من الطمأنينة للقارئ الذي سيفاجأ بما تحمله الرواية من أجواء الضيق والهزيمة؟ ومع ذلك لا يريد لهذا القارئ أن يشعر بالهزيمة، وليكن مطمئناً، فلا شيء يثبت في هذا العالم، وقد يتغير كل شيء. وعمليا فإن الرواية تقول ذلك، وتقود إلى شيء من الأمل ولو كان خيطا رفيعا جدا، سيلاحظه القارئ في المشهد الأخير من الرواية، حيث تنتهي الرواية والمشهد السياسي والمواجهة بيننا وبين المحتل لم تغلق نهائياً. 

لذا يمكن أن تعتبر هذه الرواية رواية الأمل والاطمئنان أكثر مما هي رواية لليأس، بل إن ما فيها من سوداوية قد تدفع للمحاسبة والنهوض من جديد لعل أقواس النصر ترسم بأيدي الجيل القادم، فالروائي لم يفقد الأمل، والشعب لم يفقد العزيمة، ولا أحد يحق له أن يغرق في اليأس، وهذه هي إحدى مهمات الكتابة الجيدة التي تخفف من مغبة الوقوع في "أسر الحاضر الأسود المقيت".


إستعرَاضٌ لقصَّة "غَادِي الصَّغير والشَّمس"- للأطفال - للكاتبة جاكلين حداد/ الدكتور حاتم جوعيه

 



مُقدِّمةٌ :   قصةُ "غادي الصَّغير والشمس" للأطفال بقلم : الكاتبة والشاعرة جاكلين حداد من قرية الجش - الجليل الأعلى- تقع في 24 صفحة من الحجم الكبير، إصدار: دارالهدى للطباعةِ والنشر كريم، رسومات: الفنان التشكيلي لؤي دوخي .   وتهدي الكاتبة هذه القصّةَ إلى كلَّ طفلٍ ينبشُ الدنيا حوله لإكتشافها على طريقتهِ..إلى الأهالي كنقطة استدلال على طريق التربية .


مدخل :   تتحدّّثُ القصَّةُ عن طفلٍ إسمه غادي، وهوالطفل الصغير المُدَلَّلُ في العائلةِ، والجميعُ يهتمُّ ويعتني بهِ من أفراد العائلة. وهو دائما مُجتهدٌ جدا بدروسِهِ، وعنده كلبٌ في البيت ويُحبُّ ملاعبة كلبِهِ.

    ومن هواياتِهِ المُحبَّذةِ مُراقبة الشَّمس ساعات الأصيل ( أوقات الغروب ) وبالرغمِ من معرفتهِ وإدراكهِ وكما يُشاهد ويرى دائما انَّ الشمسَ ثابتة في مكانِها لا تتحرَّكُ، ولكن كان دائما يتساءَلُ باستغراب : كيف أنَّ الشَّمسَ تذهبُ وتختفي وراءَ التلّةِ كلَّ مساء.  وغادي كان يشعرُ دائما أنه وحيدٌ .

    وفي أحدِ الأيامِ ذهبَ إلى الكروم كي يقطف ويجلبَ ثمارَ التين الناضجة، وفي الطريقِ إلى الكرم يلتقي ببعضِ الأصدقاءِ وهم يلعبون، ويدعونوهُ بدورهم لمشاركتهم في اللعبِ، فيُلبَّى طلبَهم ويكون سعيدا جدا مع أصدقائِهِ. وبعد قليل يتركُهُم ويتابعُ مشوارَهُ وسيرَهُ نحو الكرم لكي يقطفَ ثمارَ التينِ للعائلةِ ، وهنالك يملأ السَّلةَ  بثمارِ التينِ الناضجةِ والشهيّة .  ويخرجُ بعدها ليرى الشَّمسَ ويراقبَها أثناءَ الغروب، ولكن يُحسُّ برغبةٍ جامحةٍ وبدافع قويٍّ مجهول يحُثُّهُ للِّحاقِ بها. وكان يُحسُّ ويشعرُ بحسِهِ وببراءتهِِ الطفوليَّةِ أنه سوفَ  يُمسكُ بها في كلِّ لحظةٍ لأنها ثابةٌ في مكانِها . ولكن عندما ينظرُ إليها يراها أنها ما زالت بعيدةَ المنال... ثمَّ تبدأ الشمسُ بالإختفاءِ بعيدا بعيدا وراءَ التلال .


تحليلُ القصَّةِ :   هذه القصّةُ كُتِبَت بأسلوب سرديٍّ بحت ولا يوجدُ فيها عنصرُ الحوار( ديالوج ) بين الأبطالِ والشَّخصيَّات في القصَّة، والطفل غادي هنا هو بطلُ القصَّةِ ومحورُهَا الأساسي، ولا يوجدُ أسماءٌ لشحصيّاتٍ أخرى غيره في هذه القصَّة، مع انَّ الكاتبةَ ذكرتْ أصدقاءَهُ الذين كانوا يلعبون وطلبوا منه مشاركتهم في اللعب، ولم تذكرْ إسمَ أحدٍ من هؤلاء الأصدقاء. وذكرت عائلته أيضا في بدايةِ القصّة وأنهم يحبُّونه كثيرا ومن دون ذكر إسمٍ لأيِّ شخصٍ من أفرادِ العائلة ( الأخوة والاخوات ) ولم يرد ذكرُ أبيهِ وأمِّهِ، وأنه مجتهدٌ في دروسه كثيرا .

   وبالطبع  هذه القصَّةُ جميلةٌ  وسلسة ومفهومةٌ وواضحة وتُعتبرُ مزيحا بين العنصر الفنتازي الخيالي والعنصر والجانب الواقعي.

   ومما يُميِّزُ هذه القصَّة أنها قصيرةٌ جدا وَجُمَلُهَا قصيرة . ففي كلِّ صفحةٍ  نجدُ جملة واحدةً فقط مكوَّنة من عدَّةِ كلمات ومع  رسمةٍ ولوحةٍ جميلة تُعبِّرُ عن موضوع وفحوى هذه الجملة أو العبارة .لأن معظم قصص الأطفال إن لم يكن جميعها نجدُ كلَّ صفحةٍ فيها تحتوي على عدةِ جملٍ وتتحدَّثُ عن  موضوع ومشهدٍ مُعيَّن أو أكثر مع لوحة ورَسمةٍ مُعبِّرة للموضوع والمشهد  ، وليست الصفحةُ مكونةً من كلمتين أو ثلاثة فقط  وتغطي الصَّفحةَ  بأكملِهَا لوحةٌ تعكسُ وتُجسِّدُ الموضوعَ أوالمشهدَ كما في هذه القصة.  والجديرُ بالذكر أن مفادَ وموضوع هذه القصة والرسالة والهدف الهام المُوَجَّه من خلال تأليفِهَا  هو : ( الرسومات في أدب الأطفال). فالقصَّةُ هي وظيفةٌ وأطروحةٌ جامعية  تتحدَّثُ عن الرسوماتِ في أدبِ الاطفالِ وتعتمدُ على الرسومات وليسَ على النصّ، وتقرأ من خلال الرسومات أكثر من الكلمات. 


    ولهذهِ  القصةِ القصيرةِ والعريضةِ عدّةُ أهدافٍ وأبعادٍ  جوهريّة، وهي :

1 – البعدُ الفلسفي: 

2 – البعد الاجتماعي 

3 – الجانب النفسي 

4– الطابعُ الترفيهي 

5 - العنصرُ الفانتازي الخيالي .

6 - البعدُ الإنسانيِّ وغيرها .

    والشمسُ هنا في القصَّة قد تشيرُ وترمزُ إلى عدَّةِ أشياءٍ وأمور، ومنها : الأملُ والهدف السامي المنشود الذي يريد إخفاءَهُ ولا يبوحُ به الشخصُ الطموحُ والمثابرُ الذي لا يعرفُ اليأسَ أو الملل . والوصول إلى هذا الهدفِ المنشودِ يكونُ صعبًا وبعيدَ المنال كانَّهُ يركضُ وراء خيطٍ من سراب .

  والشمسُ أيضا ترمزُ إلى الإيمان والطهارةِ والنقاء وإلى الشموخ والكبرياء وإلى الحُرّيّةِ والإستقلالِ والتحرُّرمن التبعيَّة، وإلى كلِّ شيءٍ إيجابي وجميل في الحياة .

  وتُدخلُ الكاتبةُ شخصيّة الكلب ( حيوان)  الذي يُحبُّهُ الطفلُ غادي كثيرا وَيُحبُّ أن يلعبَ معهُ دائما. والكلبُ صديقٌ وفيٌّ  للإنسانِ، والاطفالُ الصغار بطبيعتِهم يحبُّون الحيوانات الأليفة وبالذات الكلب . ووجود هذا العُنصرِ في القصَّة ( الحيوان الأليف - الكلب) يُحَفِّزٌ ويجذبُ الطفلَ للإستماَع إلى القصَّةِ أو قراءتها بشكلٍ متواصلٍ دونما انقطاع.

  والقصَّةُ يُترِعُهَا جوُّ الوداعةِ والمحبَّةِ والجمالِ والتفاؤُلِ من بدايتها إلى النهايةِ.   تبداُ القصَّةُ بالطفلِ غادي ومحبة أهلِهِ لهُ والجو العائلي الوديع والسليم  والجميل، وحب غادي لكلبهِ وعلاقته الحميمة مع أصدقائِهِ الذين يحبُّونهُ ويحترمونهُ كثيرا ويطلبون منهُ أن يُرافقهم ويشاركَهم في اللعبِ معهم .ونجد في القصَّة ذكرَ الطبيعة والكروم وقطف ثمار التين، والتين يرمزُ إلى الكثيرِمن الأشياءِ والأمور الهامَّةِ ، وهو من الأشجارِالأصيلةِ والمُباركةِ الموجودةِ في بلادنا منذ القدم كأشجارالزيتون . وقد وردَ  ذكرُهُما في القرآن الكريم ( والتينِ والزيتونِ وطور سنين). وقريةُ "الجِش" - مسقطُ رأسِ الكاتبة جاكلين حداد - والتي تقع  شمال البلاد وفي منظقةِ الجليل الأعلى مشهورةُ بكرومِ التين منذ زمنٍ طول .

       وتنتهي القصّةُ بمراقبةِ الطفلِ غادي للشَّمسِ وهي تغربُ، ويحاولُ          ، بدورِهِ، وبفكرِهِ البريءِ والساذج أن يُمسِكَ بها، ولكن هيهات هيهات .  وتنتهي القصَّة هذه النهاية شبه المفتوحة والتي تحملُ بُعدا نفسيًّا وفلسفيًّا .


الخاتمةُ :  القصَّةُ جميلةٌ ومُوفّقةٌ  كقصِّةٍ مُخصَّصَةٍ وَمُوَجَّهةٍ للأطفال  ولجميع مراحل الطفولةِ، ومفادُهَا وفحواها إيجابيٌّ هادفُ وبنَّاء، وَتُعلِّمُ الطفلَ أشياءً وأمورًا عديدة إيجابيَّة : كالمَحبّةِ بمفهومِهَا الإنساني الشامل، مَحَبّة الأهل والعائلة والأصدقاء والناس. وَتُعلّمُ الطفلَ  حُبَّ العملِ والحيويّة والنشاط ( ذهاب الطفل غادي للكروم والحقول ومشاركة أصدقائهِ في اللعب، وقطف ثمارالتين وجمعها في السلَّة وإيصالِها لأهلِهِ ). وَتُعلمّ الطفلَ أيضا حُبَّ الأرضِ والطبيعة ومناظر ومفاتن الطبيعة الخلَّابة . وهذه القصَّةُ بالإضافةِ إلى العنصرِالتعليمي والإنساني والفانتازي هي تحوي الجانبَ الترفيهي المُسلّي والهام جدا للطفل، لأن كلَّ قصَّة تُكتب للطفلِ إذا لم يكُن فيها الجانبُ الترفيهي والطابع المُسلِّي الذي يُدخلُ البهجةَ والسَّعادةَ والسرور للطفل الصَّغير تُعتبرُ قصَّةً مبتورة وناقصة وغير ناجحة، لأنَّ أهم شيىء يجب أن نقدّمَهُ أوَّلا للطفلِ الصغير هو ترفيهه وإسعاده، وبعدها تعليمه وتثقيفه .

       وأريدُ الإشارةَ هنا أنَّ الكاتبةَ جاكلين حداد درستْ موضوعَ علم النفس وحاصلة على اللقب الثاني ( M.A ) في هذا الموضوع، وتعرفُ نفسيَّةَ الطفلِ جيدا وما هي أفكاره وتطلّعاتهُ، والأشياء التي تنفعُهُ وتُفيدُهُ أو التي  تُسيءُ إليهِ وتضرُّهُ، وما هي الأشياء التي  تنقُصُهُ وهو بحاجةٍ إليها في حياتِهِ .

وأخيرا:     نُهَنِّئُ الشاعرةَ والكاتبةَ القديرةَ الزميلة جاكلين حداد على هذه القصَّةِ الجميلةِ والمُمَيَّزةِ للأطفالِ، ونتمنَّى لها النَّجاحَ والتَّألُّقَ الكبير في عالم الكتابةِ، وأن تُتحِفَنا دائما بالمزيدِ من الإصدارات الأدبية والشعرية الإبداعيّة الجديدة.      وأضيفُ أيضا : إنَّ هذه القصة من أجمل وأحسنِ القصصِ التي كُتبَِتْ للأطفالِ محليًّا وتستحقُّ أن تُتَرجمَ للعديدِ من اللغات العالميّة، وأن يُكتَبَ عنها العديدُ من المقالاتِ والدراساتِ النقديةِ، وتدُرَّسَ وتُعَلَّمَ للأطفالِ ، وتكون موجودةً  في كلِّ مكتبةٍ وفي كلِّ بيتٍ لأهميَّتِها ولمستواها وقيمتها: الأدبيَّة والفنية والتربويّة.