أصدرت محكمة العدل العليا الاسرائيلية في الثامن من الشهر الجاري قرارها النهائي فيما يعرف بقضية "قانون القومية" ؛ وذلك بعد أن كانت قد استمعت، في الجلسة التي انعقدت يوم 22/12/2020، بهيئة من أحد عشر قاضيًا، الى مواقف وادعاءات جميع الملتمسين والى ردود الكنيست وحكومة اسرائيل عليها.
وكما حصل ويحصل في معظم المفارق القضائية الهامة في حياة الجماهير العربية، لم يحظ القرار إلا بنتف متطايرة من أخبار سطحية شعبوية؛ في حين غابت عن المشهد، أصوات أكثرية المثقفين والحقوقيين والخبراء من العرب، كما وغابت مشاعر التوجس الشعبي من عواقب القانون ومن تبعاته.
لا أوافق رأي من اعتبر القرار هدية لنا من هذه المحكمة بادعاء انها، او هكذا اعتبر هؤلاء، قد عرّت أمام مجتمعات العالم، قبحها، وشرعنت القانون رغم ما ينضح به من "أبرتهادية" صارخة.
لا أوافق هؤلاء لأننا، أولًا، لسنا بحاجة لمثل هذا البرهان كي نتحقق من دور المحكمة العليا الاسرائيلية التاريخي المثبت في تسويغ وتبرير وشرعنة سياسات القهر والقمع العنصريين بحقنا كمواطنين في الدولة؛ وثانيًا، لأن القرار، لمن يقرأه بجدية وبعمق، يتضمن خلاصات قضائية خبيثة محسّنة ومطوّرة وخطيرة لما سيصبح قواعد سلوكية عملية راسخة وملزمة لجميع مؤسسات الدولة وفي طليعتها جهازها القضائي. ومع العلم بأن هذا الجهاز، رغم قبحه المتوارث، قد "نعِمَ" بهوامش ضيقة لطالما أتاحت له التصرف في منع محاولات المؤسسة الحاكمة من الاسراف بعنصريتها القومية العرقية الفوقية، والزامها، ولو بأشكال محدودة وبحالات فردية قليلة، بما يمليه تعريفها لنفسها كدولة ديموقراطية ويهودية، لا سيما ازاء مبدأ مساواة جميع مواطنيها في بعض الميادين.
لقد كتبت رئيسة المحكمة العليا، استر حايوت، متن القرار الأساسي؛ رافضة جميع الالتماسات، وقامت، بعد تفنيد رخيص للادعاءات الجدية التي أوردها الملتمسون ضد القانون، بتسويغه ، معتمدة على بعض الفذلكات السياسية المبطنة وشبه القضائية، وعلى التحليلات العنصرية المموهة بموضوعية كاذبة.
ثم انضم اليها تسعة من زملائها القضاة، ففتح كل واحد منهم، وبينهم قاضيان مستوطنان، شهيته، وأضاف "دررًا وحكمًا" خاصة به، وكأنهم يتسابقون على حفر أسمائهم على دروع نصر دولتهم في مسيرتها العنصرية وفي سجلّات القهر والظلم.
لست في معرض التطرق لما جاء في قرار المحكمة العليا، الذي امتد على أكثر من مائتي صفحة؛ لكنني سألفت نظر المعنيين والقراء لموقف ولرأي الأقلية الوحيد للقاضي العربي جورج قرا، الذي عارض أراء زملائه جملة وتفصيلا، وفنّد، بحصافة مؤثرة وبمهنية عالية، جميع الادعاءات التي دفع بها المستشارون القضائيون الذين مثّلوا الكنيست والحكومة؛ وقضى، في مستهل قراره، "بأن قانون القومية يمس بقيم الديموقراطية، لا سيما على خلفية عدم وجود مساواة للاقلية العربية في الممارسة العملية" ؛ ثم راح يقارع حججهم بلا أية مواربة، الى أن خلص وقال بشكل قاطع: "قانون القومية هو قانون عنصري ومجزوء، ويعاني من نواقص جوهرية كثيرة، مثل عدم تطرقه للاقلية العربية التي يصل عددها الى اكثر من 20٪ من تعداد السكان العام، وعدم اشتماله على مبدأ المساواة وهوية الدولة الديمقراطية، وهو لذلك يعطي لمؤسسات الحكم حرية واسعة جدًا أثناء تطبيقه".
ومع ان المقام هنا غير ملائم للوقوف على التفاصيل التي تعرّض لها القاضي جورج قرّ ا بالكامل، لكنني سألقي الضوء على بعض المحطات البارزة في قراره، مثل اعتراضه على موقف زملائه واصراره على ضرورة احتفاظ المحكمة العليا بحقها في مراقبة عملية التشريعات، وحقها بالتدخل في مضامينها اذا ما تجاوزت الكنيست حدودها ومست في أحد تشريعاتها، كما في قانون القومية الحالي، بقيم الديمقراطية الأساسية،على حساب اعلاء يهودية الدولة، وما تعنيه هذه المفاضلة في تاريخ السياسية العصرية.
ومن اللافت أن نقرأ دفاع القاضي عن دور المحكمة العليا وضرورة حمايته، خاصة في الواقعين السياسي والاجتماعي الذين تعيشهما الدولة وما ينذران به من مخاطر تتربص بقيم الديموقراطية وبمكانة المواطنة السليمة المتساوية؛ ولذا كتب ، او قد يكون صرخ في وجه زملائه وحذرهم قائلًا: "ان الأقلية (العربية والدرزية) في اسرائيل هي أقلية أصلانية وليست مجموعة أغيار أو غرباء؛ وهي ترى بدولة اسرائيل وطنها وتريد أن تعيش فيه كمتساوية بين متساوين. وهي أقلية تنتفض ضد اقصائها وضد المحاولات لمنع دولة اسرائيل أن تكون دولتها ايضًا. ان المبادرين والمتبنين لهذا التشريع، لمجرد كونهم من معسكر الاغلبية في الدولة، لا يشعرون على "جلودهم" بالأذى المريع الذي يتسببون به للاقليات في الدولة. أو كما قال المثل العربي" اللي ايده في المي مش زي اللي ايده في النار".
لم يتوصل القاضي جورج قرّا، الى قراره بضرورة الغاء القانون أو تعديله بشكل جذري وجوهري، الا بعد أن وقف على استهداف مشرّعيه لحقيقة كون اللغة العربية لغة رسمية معترفًا بها منذ أيام الانتداب البريطاني، رافضًا تطبيبات زملائه القضاة ومحاولاتهم العنصرية للتستر على هدف مشرّعيه الحقيقي، فواجههم بكل وضوح برأيه كاتبًا "على خلفية تشريع قانون القومية وهدفه، وأخذًا بعين الاعتبار عدم تضمين مبدأي المساواة والديمقراطية فيه، يصبح الاستنتاج، بأن التعرض لمكانة اللغة العربية جاء بغرض "حني قامتها" واذلال المتحدثين بها، هو الاستناج القوي الوحيد". ثم ذكّر زملاءه بمقالة للكاتبة"ميطال بينتو" جاء فيها أن : "في الدولة القومية يوجد للغة دور حاسم في خلق وبلورة الهوية القومية، وبسبب هذا الدور يميل افراد معسكر الاغلبية السكانية الى الاعتقاد بأن لغة الأقلية تشكل خطرًا على هوية الاغلبية القومية. فالحضور القوي للعربية في الفضاء العام المشترك مع اليهود يستوعب كتهديد للاغلبية اليهودية، أو كنوع من انتصار ثقافة الاقلية على الاغلبية". قالها ليُفهمهم، اذا نسوا، دروس التاريخ الأسود.
لقد أعجبتني مواجهته لموقف زملائه من المادة التي ألزمت الدولة بضرورة العمل على تشجيع الاستيطان اليهودي في "أرض اسرائيل" وكيف قارعهم، بحنكة قومية غير خجولة، وبوعي مواطني سليم، رافضًا جميع ما سيق من قبلهم، ومستنتجًا بحزم على أن "مادة الاستيطان اليهودي ، التي تسمح بممارسة التميييز العنصري وبتخصيص الأراضي على اساس الانتماء القومي، تمس بشكل متطرف بجوهر هوية الدولة.." فخلاصة القول، هكذا واجههم "بأن قانون القومية يتعارض مع السمات الجوهرية للدولة الديموقراطية وبدرجة تبرر تدخل هذه المحكة فيه."
سوف يقلل البعض من أهمية هذه الصرخات المدوية التي جاءت على لسان قاض عربي في المحكمة العليا الاسرائيلية، وذلك لموقفهم المسبق من الموقع وليس من الشخص تحديدًا. وعلى الرغم من قناعتي بعدم صحة تلك المواقف التي تدمن عملية المعارضة الروبوتية، ادعو الى ضرورة مناقشتها مستقبلًا، لأنها تتعلق بواحدة من معضلاتنا الوطنية/ المواطنية وعلاقتنا بالدولة.
سيبقى عتبي على من تطرق للقرار قبل قراءته، وأكثر على من كان يجب أن يقرأه ولم يفعل؛ فقراءة ما كتبه "مطوّعو الديمقراطية وساحلوها" مهم، والاهم ما كتبه القاضي جورج قرا، الذي كتب بلغة قضائية واضحة و"بدم قلبه" -كما وصف ذلك القاضي ميلتسر ، وهو الوحيد من بين العشرة قضاة اليهود الذي تطرق ببضعة كلمات لموقف زميله الذي كتب بحس سياسي ناضج وكأبن فخور لاقلية عربية لا تسمح باذلالها.
لم تعِر، كما تقدم، أغلبية الاكاديميين العرب أي اهتمام لمضامين القرار، وذلك رغم أهميتها القصوى وتأثيرها المباشر وطويل الأمد على مستقبل علاقاتهم وعلى صور اشتباكها أو تقاطعها مع الدولة. قد يكون السبب وراء هذا العزوف النخبوي والشعبي هو شعور الأكثرية "بتفاهة المسألة" ؛ فمكانة المواطنين العرب في اسرائيل، هكذا يفترض هؤلاء، لن تتغير بسبب هذا القانون، وما كان بالنسبة لهم، كل من موقعه وكرسيه وجمعيته وحقله، سيّئًا أو جيّدًا، سوف يكون؛ وقد يكون هذا دليلًا على حقيقة الهوّة القائمة بين ما يشعر به الناس، كل الناس، وهواجسهم الفردية المستوطنة في صدورهم، وبين حقيقة الخطر الذي استشعرته قلة نخبوية وبعض النشطاء السياسيين من جراء تبني كنيست اسرائيل لقانون توّج جميع التشريعات العنصرية التي سبقته وتفوّق عليها .
وأيًا كانت أسباب هذا العزوف، الشعبي والنخبوي، ستبقى كلمات القاضي العربي جور ج قرا نواقيس ضاجة في سماوات اسرائيل، وستقض مضاجع من يتشدقون فيها بانسانيتهم العاقر وبديموقراطيتهم الكاذبة؛ وستبقى مواقفه، كذلك، همسات ساخنة في آذان من يحترفون فنون الشجاعة الفيسبوكية فقط، أو من ينتظرون الفرج يأتيهم من جيوب السلاطين، أو من يمضون وراء ضجيج هتافاتهم راكضين وراء حلمهم/وهمنا يوم آمنا أن البداية ستكون بتحرير سبتة وثم ساحات الربيع العربي، فالقدس، وأخيرًا سيزخ الخير على حيفا وصفد وفي سائر الميادين.
هنالك أهمية كبرى للمضامين القانونية وللاجتهادات التأويلية الشاملة التي لجأ اليها القاضي جورج قرا في مسعاه لتفنيد مواقف زملائه القضاة، ويا حبذا لو يتم الرجوع اليها وترجمتها ونشرها وتجنيذها في خطابنا السياسي والحقوقي بشكل عام. فلنقرأ ونتناقش، عسانا نخرج من أزمة "القات" التي انهكت وشلّت عقولنا.
ولك، سعادة القاضي جورج قرا، جزيل الشكر؛ وأعلم أنك لا تنتظره من أحد.