مُقْتطفات من أحكام وعادات - اِسألِ الرّاب - أ- / ترجمة حسيب شحادة



جامعة هلسنكي


في ما يلي، ترجمة من العبريّة بتصرّف لمقتطفات من أسئلة، يطرحُها المهتمّون من رجال ونساء، على الراب وإجاباته عليها. وهذه النصوص متاحة على الشابكة في الموقع المثبت أدناه. في بعض الحالات، أضفتُ بعض العبارات التوضيحيّة داخل القوسين []. أسماء السائلين أو السائلات غير مذكور، أمّا أسماء المجيبين فمذكورة. ويبدو أن مثل هذه الخِدمة الاستشاريّة، يمكن الحصول عليها هاتفيًّا أيضًا.

س. سلام وتحيّة،

هل يوجد في اليهوديّة أساس للاعتقاد، بأنّ كسْر المِرآة علامةٌ على حظّ سيّء؟ مع الشكر.

ج. بعد التحيّة،

إذا كُسرت المرآة في المنزل، فلا توجد أيّة علامة لحظّ سيّء بالمرّة؛ ولا يوجد أيّ قلق آخر. 

بُشرى سارّة،

هيليل مايرز


س. هل يجوز الكذبُ بغيةَ الحصول على مكان عمل؟ شكرًا سلفًا.

ج. بعد التحيّة،

لا يجوز الكذب أبدًا من أجل التوظيف.

بالتوفيق،

هيليل مايرز


س. تحيّة وبعد،

هل يُمكنني شراءُ ملابس للطفل قبل الوِلادة؟

مع الشكر سلفًا.


ج. يجوز شِراءُ أشياءَ جديدة للطفل قبل ولادته؛ وهناك من يتجنّبون ذلك تفاديًا للعين الشرّيرة (إصابة بالعين). وهناك من قال إنّ سببَ ذلك الامتناع، على ما يبدو،  ناجمٌ عن الخوف من حُدوث أمرٍ ما مثل، لا سمح الله، الإجهاض وغيره، وحينما يرى الوالدان تلك الملابس يشعرون بالحسرة والأسى.

مع أطيب التحيّات،

هيليل مايرز


س. لا أستطيع النوم؛ وهذا صعب بالنسبة لي؛ أهنالك ما قد يُساعدني على النوم؟ شكرًا!

ج. ثمّة بعض النصائح والوسائل للذي يُعاني من الأرَق.

أ) التفكير في قيامة الموتى وفي أمواج البحر.

ب) تِلاوة الآيات التالية عدّة مرّات: ”أمرنا موسى بالشريعة ميراثًا لبني يعقوب“ (سفر التثنية ٣٣: ٤)؛ ”تبقى النار متّقدةً دائمًا على المذبج لا تُطفأ“ (سفر اللاويين ٦: ٦)؛ ”أبغض المتقلّبين يا ربُّ وأُحبّ أحكام شريعتك“ (المزامير ١١٩: ١١٣)؛ ”النور يشرق على الصديق، والفرح على مستقيم القلب“ (المزامير ٩٧: ١١).

ت) تناولُ حبّة بندورة حمراءَ والنوم يحِلّ على الجفون.

ث) تناولُ كوبٍ من الحليب قبل النوم.


تحيّاتي،

هيليل مايرز


س. تحيّة لك يا حضرة الراب؛ ما حُكم الطعام الذي سقطت فيه حشرة/ ذُبابة، أيُحرَّم ؟ مع جزيل الشكر.

ج. تحيّة وبعد، يجب إخراج الحشرة، ويجوز تناول الطعام.

تحيّاتي،

بنيامين شموئيلي


س. هل يجوز إجراء التجارب على الحيوانات؟ أنا طالبة في مختبر طبّي، وفي دراستي جزء لاكتساب التجارب في مختبر في المستشفى. سؤالي: أيجوز قتل الحيوان لإجراء التجارب، أم أنّ هناك قسوة على الحيوانات وهذا عمل غير أخلاقيّ؟

مع الشكر الجزيل


ج. بعد التحيّة،

بحَسب الشريعة (الهالاخاه) يُسمح بإجراء تجارب علميّة على الحيوانات، طالما أنّ ذلك مفيد للإنسان. ينبغي القيام بهذه التجارب بدون إلحاق الأذى والألم، وذلك عن طريق التخدير. وبعد التجربة لا بدّ من التخلّص من الحيوان بأسرع ما يمكن منعًا للعذاب. 


تحيّاتي، 

هيليل مايرز


س. إذا كنتُ معنيّةً بإجراء عمليّة قيصريّة، وليس ولادة عاديّة، فهل يُمكنني الاختيار سلفًا؟

ج. تحيّة وبعد،

عادة التوصية الطّبّيّة تنصَح بالذات بالولادة العاديّة الطبيعيّة؛ ولكن إذا كانت لديك أسباب خاصّة للولادة القيصريّة، فلا مانع لذلك.

تمنّياتي بولادة سهلة،


بنيامين شموئيلي


س. تحيّاتي حضرة الراب،

هل جزء من روح المتوفّي يبقى في القبر؟ شكرًا، دانييلا

ج. تحيّة وبعد،

الروح ذاتها تصعَد إلى الأعلى، وجزء فقط منها يبقى على القبر. في الواقع، في أيّام السبت والموعد ورأس الشهر، يعلو ذلك الجزء من الروح إلى الأعلى، وتبقى داخل القبر حيوانات معيّنة مع عظام القبر. 


أخبار سارّة،

هيليل مايرز


س. أريد أن أعرف عن موضوع الإعالة وبيع شَقّة؛ أشعر بأنّ لا شيءَ يسير على ما يُرام؛ كيف يمكن تحسينُ الحظّ؟

ج. بعد التحيّة،

إنّ السبتَ مصدرُ البركة؛ الحِفاظ عليه كما ينبغي، وتكريمه بالشكل الصحيح بوَجَبات فاخرة دسمة؛ كلّ هذا يُساعدك جدًّا في الخروج من الضائقة إلى الفرج بصدد لقمة العيش.

بالتوفيق،

بنيامين شموئيلي


س. تحيّة لك يا حضرة الراب،

هل يحظُر وضع السِوار على القدم؟

ج. السلام والبركة،

عادة، هذا يجذب العين ولذلك يجب تجنّبُه.

تحيّاتي،

بنيامين شموئيلي


س. هل هناك مشكلة في إعطاء حِذاء ٱنتعلته لآخرَ محتاج؟ لقد سمعت عنِ اعتقادات متنوّعة، مثل أن ذلك يعني انتقال الحظّ إلخ.

ج. تحيّة وبعد،

يجوز إعطاءُ الحذاء لآخرَ؛ وعلى ضُوء معرفتي، لا وجودَ لمصدر يقول بنقل الحظّ، ويبدو أن ذلك خُرافة.

تحيّاتي،

هيليل مايرز


س. ١) أيجوز عمل بالون بالعلكة في الفم يومَ السبت؟

٢) أيجوز ضخّ فُقاعات الصابون في يوم السبت؟

ج. تحيّة وبعد،

الأمران جائزان.

تحيّاتي،

هيليل مايرز


س. بعد التحيّة،

أُريد أن أسأل عن أمرٍ يَهمُّني منذ زمن طويل، بحثته لتفادي الشكوك: أعلم يقينًا بوجود خالق للعالم، خلق هذا العالمَ بحكمة غير متناهية. أردت أن أسأل ”ماذا حدث“ أنّ الله تبارك، قرّر فجأة خلق العالم؟ وكما يقال ”من أين بدأ كلُّ شيء“؟ لا وجودَ لأيّ واقع ناجح ما عدا وجود خالِق للعالَم، ولكن بغية استكمال ”اللغز“ في فهمي بقي عندي هذا السؤال. الله فوق الزمن، كان هنا دومًا وعندها، فمن الغريب لي أن أفهم كيف بدأ كلّ شيء، على حين غِرّة؟ أعلم أن الله أراد أن يعطينا أجرًا بحقّ وليس منّة ولذلك أعطانا برحماته هذا الواقع، وثانيًا لماذا هو بدأ ذلك قبل ٢٠١٩ عامًا؟

شكرًا سلفًا.

ج. بعون الله، بعد التحيّة،

أرجو الاطّلاع على مقالتي ”هل لله تقدّس اسمه إرادة؟“، https://www.hidabroot.org/article/218147

ردًّا على سؤالك، لا زمن عند الله كما عندنا، وهو لا يتغيّر، وعليه فلا تبديلَ في إرادته، كما ورد في الآية ”مَن عمِل هذه الأعمال وخاطب الأجيال من البدء: أنا الربّ . أنا الأوّل والآخِر“ (إشعياء ٤١: ٤). منذ بدء الخليقة رأى الله آخرتَها، لأنّه بالنسبة له، لا وجودَ لهذا التقسيم: ماضٍ، حاضر ومستقبل، ”ألف سنة في عينيك! كيوم أمس الذي مضى، أو كهُنيهة من الليل“ (المزامير ٩٠: ٤). معنى ذلك، بالنسبة له، أنّ الله أراد دائمًا أن يخلُق العالم وحقًّا فعل، ولكن بالنسبة لنا تسير الأمور بتسلسل وَفق مستوى إدراكنا لسلسلة الأمكنة والأزمنة الكثيرة. كما أنّ الشرّ ينجُم عنِ النقصان، هكذا ينبُع الخير من الكمال. الله تبارك وتعالى، كامل، غير متناهٍ وعليه فهو خير تامّ؛ إرادة الخير هي لعمل الخير وهذه طبيعة من يملِك الكلّ، إغداق الخير العميم العظيم على الآخرين. 

شبّه الكثير من الحُكماء هذا بالشمس المنيرة، التي يصل نورها حتّى الأرض، وتحظى المخلوقات بها وَفق درجاتها (الخُلْد لا يتمتّع مثل الإنسان بنور الشمس). وفي المقابل خلق الخير الإلهيّ المخلوقاتِ ويُحسن لها بدرجات مختلفة بحسب مقدرتها، حيث يقف الإنسان في رأس الهرم - لأنّه تلقّى حريّة الاختيار، لذلك من الممكن الإحسان له أكثر من أيّ مخلوق آخر. 

لقد خلق الله تبارك وتعالى البشر من أجل إفادتهم، ولكي يكونوا مشابهين له وقريبين منه في الآخرة. وجاء في التوراة ”فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلق البشر، ذكرًا وأنثى خلقهم“ (سفر التكوين ١: ٢٧). الإنسان هو تاج الخليقة، ومن هذه الناحية نحن شبيهون لأبناء وبنات الله تبارك وتعالى ”أنتم أبناء الرب إلهكم“ (سفر التثنية ١٤: ١).

أفضل ما في الوجود هو السموّ الروحيّ، البطولة التي تتحقّق من خلال المحاولات ومحاربة الغريزة في الدنيا، وهذا شبيه بالرياضيّ الذي يحصُل على ميدالية بعد إحراز الفوز في مباراة عسيرة فقط. وهكذا فإنّ تجاربَنا واختياراتِنا في هذه الدنيا، معدّة للسموّ بنا ولإيصالنا لدرجة روحيّة عالية، حيث نكون فيها شبيهين بخالق العالم، وذلك بفضل اختياراتنا وأفعالنا.

إنّ الهدف من الحياة هو تحقيق إرادة خالق العالم، وذلك عن طريق إصلاح الصفات والتغلّب على شهواتنا، وهكذا ننمّي روحنا أكثر وأكثر، ونقرّبها من خالقها. وفي الآخرة، تكون الروح قريبةً من الله تعالى وتبارك في جنّة عدن، وَفقًا لقدسيّة ومستوى أفعالنا في الدنيا. والتوراة هي سِفر تعليمات الخالق، المرشد لنا بغية الحصول على هذه النعمة العظيمة، وكيفية تحقيق إرادة خالق العالم.

من أجل فهم هذه النقطة بجلاء، يُرجى الاطّلاع على هذا الجواب: http://www.hidabroot.org/he/article/109596

كما نوصي البحث في غوغل عن إضبارة باسم  שיחה גורלית/محادثة مصيريّة، تعالج ذلك بإسهاب.

تحيّاتي،

دانيئيل  بلاس

س. أتجوز صلاةُ منتعلةِ القَبْقاب في الكنيس، مع الشكر الجزيل.

ج. لا تجوز حتّى في البيت، إذ أنّكِ لن تظهري هكذا أمام رجل هامّ.

تحيّاتي، 

هيليل مايرز

س. السلام عليك يا حضرة الراب. 

نحن زوجان حريديّان/متزمّتان دينيًّا في سنّ الأربعين. رُزقنا بأربع بنات فاتنات، والآن أنا حامل ببنت خامسة. أردنا جدًا ابنًا، صلّينا لذلك في كلّ مكان ولدى الحاخامين، وقمنا بتجاربَ من أجل زيادة فُرص ولادة الابن (مثل الامتناع عن تناول منتوجات الألبان مدّة سنة). يُشار إلى أنّني حبِلت بعد عامين من الصلوات وبُشّرنا بابنة. 

١) هل قمنا بفريضة ”أُنموا واكثروا“؟ (تكوين ١: ٢٨)

٢) نحن معنيان بمزيد من الأطفال، أنصلّي من أجل ابن أو من أجل جنين معافى وحَمْل؟

ج. تحيّة وبعد،

١) فريضة ”أُنموا واكثروا“ تسري فقط عند وجود ابن وابنة، ولذلك يتعيّن عليكما السعي من أجل إنجاب الابن.

النتيجة ليست بمقدورنا، ولكن السعي واجب بحسب التوراة، ما دام الأمر ممكنًا. بالتأكيد يجب أن تصلّيا من أجل الابن لتأدية فريضة ”أُنموا واكثروا“.

مع تمنياتي لصبي،

بنيامين شموئيلي


بَائِعَةُ الْوَرْد/ محمد محمد علي جنيدي



بَائِعَةُ الْوَرْدِ تُصَبِّحُنِى

بِعَبِيرٍ وَوِرُودِ حِسانِ

تَمْشِى بِزِحامٍ تَحْسَبُها

خُلِقَتْ مِنْ عُودِ الرَّيْحانِ

وقَوامُ الْحُسْنِ عُذُوبَتُهُ

يَدْعُوكَ لِذِكْرِ الرَّحْمَنِ

أنْوارُ الْفِتْنَةِ فى يَدِها

وخُطاها زَلْزَلَ بُنْيانِى

وصَفاءُ الْقَوْلِ إذا نَطَقَتْ

تَسْتَلْهِمُ رِقَّةَ وِجْدانِى

والشَّعْرُ كَطَيْرٍ خَفَّاقٍ

قَدْ زَفَّ الْبَدْرَ بألْحانِ

وبَرِيقُ الْعَيْنِ إذا نَظَرَتْ

قِصَّةُ أشْجانِ الْإِنْسَانِ

أجَمَالاً رَاعَيْتَ بقَلْبِي

رَيْحانَةَ كُلِّ الشُّطْآنِ

أَجِناناً زَانَتْ كَوْثَرَها

حَوْرَاءُ الْخُلْدِ بِتِيجانِ

أهْدَاها اللهُ وقَدْ حَضَرَتْ

واخْتَصَرَتْ كُلَّ الْأزْمانِ

فَلَمَسْتُ الْوَرْدَ عَلَى يَدِها

وشَمَمْتُ عَبِيراً أشْجانِى

بَاعَتْ لِى الْحُبَّ عَلَى سَفَرٍ

ما كان الْحُبُّ بِحُسْبانِى

باللهِ لَباكِرِ أسْأَلُها

إنْ شاء اللهُ وَأحْيانِى

يا خَدَّ الْوَرْدِ وحُمْرَتِهِ

أيُّكُمَا قَدْ بَاعَ الثَّانِى


 - مصرَ

m_mohamed_genedy@yahoo.com

الدولة الحديثة وأزمتها/ د زهير الخويلدي



تمهيد

الدولة الحديثة وأزمتها تسبق عمل سانتي رومانو، النظام القانوني، بحوالي عشر سنوات. يضع الفقيه الإيطالي الأسس الأيديولوجية لنظريته التعددية. بعد الإبلاغ عن الأزمة الإيديولوجية والاجتماعية التي يعتقد أن الدولة الحديثة تمر بها ، والتي تتنازع أسبقيتها كل من الحركات الاجتماعية والتيارات الإيديولوجية ، يقترح سانتي رومانو مخرجًا من الأزمة من خلال إعادة التأكيد على الخصائص الرئيسية للدولة الحديثة ، هذا "الخلق الرائع للحق" ،مع الاعتراف بوجود ضغوط تنظيمية مشروعة في المجتمع المدني ، مع دعوات للمشاركة في تشكيل الحق والاندماج في عمل الدولة.


الترجمة

"يقدم كل علم، في طبيعته أو في العمليات التي ينفذها، خطرًا محتملاً لخطأ معين. ومع ذلك، لا يوجد مجال من مجالات المعرفة البشرية يركز فيه على العديد من مصادر الأوهام، والمتعددة والدائمة، مثل تلك التي تأخذ المؤسسات السياسية كموضوع للدراسة. إن وصف هذه الظواهر بالذات صعب للغاية، لأن شكلها يخفي أو يخون محتواها، ولأنها نتيجة صراع مستمر وغير محسوم بين مبادئ لا يمكن التوفيق بينها، فإنها تقدم نفسها بأشكال متعددة ومراوغة. علاوة على ذلك، فإن التوقعات التي تبدو أكثر منطقية، غالبًا ما تكون مخيبة للآمال بسبب ظهور عناصر جديدة تظهر بشكل غير متوقع، حتى عندما يتعلق الأمر بتتويج العمليات العلمانية. قد يتخذ شكل اجتماع واندماج بين تيارات بعيدة جدًا، أو تكرار تاريخي غير متوقع، أو سراب مخادع يدفعنا إلى الاعتراف بالمؤسسات التي حياتها وهمية فقط أو التي موتها، على العكس من ذلك، ظاهر فقط. ومع ذلك، فإن هذه الظواهر تحكمها القوانين أيضًا.

* يأتي على رأس هذه القوانين مبدأ أن حق ودستور الشعب يمثلان دائمًا المنتج الأصيل لحياته وطبيعته العميقة. لقد كان، كما يعلم الجميع، مؤسس المدرسة التاريخية للحق هو الذي صاغ هذا القانون، في نفس اللحظة التي ولد فيها ، بعد الانقلاب غير المتوقع لجميع العلاقات السياسية والصدام الهائل الذي حطم العالم بأسره ، كما لو اقتلع من الماضي وأوجد دولة حديثة. لقد دمرت الصدمة العنيفة للثورة الفرنسية وتداعياتها المؤسسات التي طورتها بلا شك الروح العلمانية لمختلف الدول. بدت المؤسسات الجديدة التي أقيمت على أنقاضها وكأنها تأتي من العصا السحرية للمشرعين المتقلبين، كما لو وُلدت تحت رعاية وتحت أمر آلهة العقل: آلهة كانت تستحق الاسم منذ البداية. آلهة الخيال التي استطاع الشعراء أن ينسبوا إليها هالة سماوية.

* عقل أقل عمقًا من عقل سافيني كان سيصاب بالارتباك بسبب الملاحظة التالية (التي خدمت على وجه التحديد، مؤخرًا، لبناء نقد لنظريته): في أغلب الأحيان، الحق العام، وكذلك في بعض الأحيان الحق الخاص، ليسا كذلك. هما نتاج عفوي لتطور الشعب، ولكنه ينشأ من صراع يتم تحديد نتائجه بالقوة المادية فقط، سواء كان ذلك صراعًا داخليًا لدولة ما أو صراعًا بين الدول من المتوقع أن يفرض الفائز على الخاسر، بطريقة غامضة إلى حد ما، فهذا حقه. وفقًا لهذا المنهج، فإن عقيدة سافيني، التي أكدت نفسها في نفس اللحظة التي انتصر فيها العرضي والمُصادف، لن يكون أصلها إلا في الشعور الرومانسي: الرغبة في العثور في الكارثة المعممة على نقطة دعم قادرة على إقناع العقول الحائرة. أن كل معرفة الماضي لم تذهب سدى، وأن الجديد لا يزال من الممكن ربطه بالنظام القديم - وهو نظام قديم كانت العاصفة بالتأكيد قد حلته، ولكنه لم يكن مع كل ما تم اقتلاعه من جذوره.

* بهذه الطريقة، أثبت سافيني مرة أخرى أن البشر لا يرون أبدًا ما هو الأقرب إليهم وما يتكشف أمام أعينهم، غير قادرين على تحويل نظرهم عن مشهد النجوم الأكثر إغراءًا بلا شك. لقد وبخ روسو غروتيوس لاعتماده على الشعراء. يمكن انتقاد سافيني لأنه كان شاعرا هو نفسه. ومع ذلك، لم يكن اتهامًا أبدًا غير مستحق أكثر من هذا. يبدو أن تسليط الضوء عليه مفيد بشكل خاص في سياق حيث يمكن لمثل هذا الاتهام أن يأخذ معنى معينًا ويؤدي إلى ظهور حجة جديدة لاستخدامها، جنبًا إلى جنب مع الحجج العقائدية والعملية، لاقتحام الصرح الذي تشكله الدولة الحديثة.


مبدأ الدولة الحديثة

إذا كان من الممكن تقسيم المؤسسات السياسية التي تشكل الحق العام المشترك بين غالبية الدول المتحضرة الحالية إلى عناصر مختلفة، يمكننا تقسيمها إلى ثلاث مقولات متميزة. من بينها، سيكون من الضروري بالتأكيد تضمين، بمعنى سنحدده لاحقًا، الفئة التي تجمع معًا ظواهر تلقي حق أجنبي بالإضافة إلى التأثيرات التي تمارسها التيارات النظرية الرئيسية. ومع ذلك، يجب أن تشمل المقولة الأولى جميع المبادئ وجميع المؤسسات التي تنبثق بشكل مباشر وفوري من الأشكال الجديدة للبنية الاجتماعية التي، بالتأكيد، تجلت وفرضت نفسها بوسائل ثورية، ولكنها مع ذلك تظل ثمرة قرون- عملية قديمة لم تكن الثورة فيها سوى لحظة الذروة والحاسمة. السمة الرئيسية للدولة الحديثة - ونأمل أن تكون الأكثر ديمومة، وهي تقديم نفسها على أنها المصدر الوحيد لجميع السلطات العامة، هي بالضبط هذا الأصل. المادة 3 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 الذي يعلن هذا المبدأ قد اعترف، في الواقع، ببساطة بالوضع القانوني الذي ظهر بالفعل بطريقة واضحة وفرض نفسه بشكل قاطع. كانت دولة القرون الوسطى بعيدة بالفعل، وكذلك صراعاتها الداخلية التي منعت اندماج مكوناتها المختلفة، حتى أن كل واحدة أعلنت نفسها، بحكم حقها الأصلي، وديعًا لجزء بسيط من السيادة العامة.


* في سياق الدولة البوليسية، لا بد أن المبدأ، الذي لم يكن ناضجًا تمامًا بعد، قد بدا قويًا بالفعل: لقد تم تعزيزه تدريجياً بعد سلسلة طويلة من الأحداث، مما أدى إلى تعديلات اقتصادية أو أخلاقية لا نهاية لها وخفية في النسيج الداخلي لـ المجتمع، مما أدى إلى نموذج الدولة الحديثة. هذا هو المبدأ القائل بأن الدولة كيان في حد ذاته بالنسبة للأفراد والمجتمعات التي تتكون منها؛ يوحد العناصر المختلفة التي يتكون منها، لكن لا يتم الخلط بينه وبين أي منها. في مواجهة العناصر المكونة لها، فإنها تقف مع شخصيتها وتتمتع بقوة تجد مصدرها في طبيعتها الخاصة وقوتها الخاصة، أي قوة الحق. بهذه الطريقة فقط يمكنها تجاوز الوجود العابر للأفراد، على الرغم من أنها تتألف من البشر؛ تعلو فوق مصالحهم غير العامة، وتخففها تنسقها؛ إنها لا تتعامل مع الأجيال الحالية فحسب، بل تتعامل أيضًا مع الأجيال القادمة أيضًا، وتربط بين اللحظات والطاقات المتنوعة في سلسلة متصلة من الوقت والعمل والغرض.

* حققت كمونة ريسورجيمنتو، بفضل سلسلة من المؤسسات وباسمها، هذا الهدف المتمثل في تمثيل مصالح المجتمع المفهومة بالمعنى الواسع، لكنها لم تنجح في تجسيد هذا المفهوم، ومع ذلك صاغه الرومانيون والشرعيون في العصور الوسطى، حيث يمكن أن تكون الجماعة شيئًا مختلفًا عن الأفراد الذين يؤلفونها. وبالتالي، فإن النظام المجتمعي لم يؤد إلى ظهور كيان أعلى من الجماعية نفسها، مفهومة بالمعنى الملموس. وبالمثل، لم تصل الدولة البوليسية إلى مثل هذا المفهوم المجرد، وعلى الرغم من أن الاندماج بدا أكثر تقدمًا، إلا أنه حافظ على نوع من الازدواجية بين الدولة والأمير - أعلن الأخير نفسه راعيًا أو خادمًا للدولة بالتناوب، اعتمادًا على الآثار. أن التأكيد على المبدأ القديم أو الجديد يمكن أن يكون.

* يمكن تعريف المبدأ الأساسي للحق العام الحديث على أنه غياب إضفاء الطابع الشخصي على السلطة العامة أو، بشكل أكثر دقة، باعتباره تجسيدًا للسلطة من قبل الدولة المتصورة كشخص، شخص لامادي، ولكنه واقعي مع ذلك، كيان ليس وهميًا ولا خياليًا، والذي، على الرغم من خلوه من الجسد، ينجح، بفضل التركيبات القانونية الدقيقة والرائعة، في تحديد وتأكيد وفرض إرادته. إنها ليست مسألة ظل أو شبح بل هي مظهر من مظاهر مبدأ الحياة، والعمل، إن لم يكن عن طريق كائن حي مفهوم بالمعنى الدقيق للكلمة، على الأقل بفضل مساعدة مجموعة من المؤسسات المنظمة والمنسقة لهذا الغرض. الخلق الرائع للحق، الذي بدا، وفقًا لبعض النقاد الوهميين، أنه ليس له أي تناسق آخر غير ذلك الناتج عن الخيال الشعري، ولكنه، في الواقع، ولّد شعورًا بالعظمة الاجتماعية، وشعورًا - لقول الأشياء في الأقل انفتاحًا على النقد - والأهم من أي شيء آخر وقبل كل شيء أكثر نشاطًا وحيوية، ثمرة عملية تاريخية طويلة وثابتة. وبفضل ذلك، يتصرف الأفراد والمجتمعات التي تمارس السيادة، ليس كأصحاب حق من شأنه أن يكون ملكًا لهم، ولكن كأجهزة الدولة، التي يصرحون بها ويطبقونها.

* لاحظ ميرابو أن "صاحب الجلالة ليس له أقدام"، مشيرًا إلى هذا الطابع غير الشخصي عندما ادعت الجمعية التأسيسية إرسال خطاب إلى قدمي الملك. لا الملك ولا أي مجلس، على الرغم من أنه يجد أصله في الشعب، يمكنه تكرار عبارة لويس الرابع عشر الشهيرة: "الدولة هي أنا". وبالمثل، لا يوجد فرد أو مجتمع فوق الدولة أو خارجها. يظهر هذا الأخير ويريد أن يظهر، ليس ككائن للسيطرة، كعضو لطبقة، أو لحزب، أو لفصيل أصبح مهيمنًا لأنه منتصر أو أكثر قوة، ولكن باعتباره توليفًا ناجحًا للقوى الاجتماعية المختلفة، كأعلى تعبير عن هذا التعاون بين الأفراد وبين مجموعات الأفراد الذي بدونه لا يوجد مجتمع منظم جيدًا، باعتبارها السلطة العليا للتنظيم وبالتالي كوسيلة قوية للتوازن. حتى عندما تصبح مؤسساتها، في الممارسة العملية، فاسدة أو متدهورة، والتناقض الحتمي بين القوة الموضوعية للحق والسلطة التعسفية لمن يمتلك السلطة يميل إلى حل نفسه لصالح الأخير، فإن الحقيقة البسيطة المتمثلة في اعتبار هذا هي حالة، بعيدًا عن تكريسها والاعتراف بها من قبل النظام القانوني، فهي في الواقع تتعارض مع هذا النظام، وتشكل بالفعل تقدمًا. ومع ذلك، يبدو، لبعض الوقت الآن، أن هذا المفهوم اللامع للدولة، وكل التطورات التي يستحيل اتباعها هنا، قد تم طمسها أكثر فأكثر كل يوم. عندئذٍ لا يمكن أن يكون استخلاص البشائر السيئة من هذا الموقف خرافة.


معارضو مبدأ الدولة الحديثة

من الممكن، في المقام الأول، استحضار تلك المذاهب التي، على الرغم من أنها تهدف فقط إلى تحديد ووصف بدقة التنظيم الحالي للمؤسسات دون السعي إلى تعديلها وبصرف النظر عن أي هدف سياسي، فإنها تنكر حقيقة أن الدولة، لقد تم تشكيلها اليوم، ويمكن تشبيهها بكيان مجرد، يتمتع بشخصيته الفردية. سيكون، وفقًا لهذه التفسيرات، خيالًا قانونيًا غير مفيد وغير ضروري: ستكشف المراقبة الدقيقة للواقع دائمًا أن هناك تعارض بين الحكام والمحكومين، وأن السلطة العامة تظل مركزة، في الواقع والصحيح، في نطاق أكبر. أو عدد أقل من الأشخاص الطبيعيين، والأمير والناخبين والمسؤولين المنتخبين، إلخ. إن كيان الدولة، وهو برياريوس حقيقي مع مائة سلاح، أو بالأحرى مع عدد لا يحصى من الأجهزة، لن يكون موجودًا إلا في خيال عدد أو أقل من الفقهاء الفلسفيين، ولا يمكن لأي عقيدة وضعية حقًا أن تعترف بوجود واقع آخر غير ذلك من البشر. هذه طريقة غريبة للنظر إلى الأشياء التي، باستخدام تشبيه مشهور، قد تتوافق مع منطق أولئك الذين ينكرون وجودها لمجرد أنه لا يوجد شيء مثلها في العالم الطبيعي، أو تجلي رافائيل لأن الفيزيائي سيفعل ذلك. لا ترى سوى جزء من القماش والألوان فيه. ومع ذلك، فمن المستحيل، ما لم يتم اللجوء إلى الحجج التقنية المفرطة، إظهار حماقة هذه النظريات التي تدعي أنها تجريبية ولكنها ساذجة فقط. من المحتمل أن يكون أي شخص يرغب في الخوض في الموضوع قادرًا على ملاحظة التسلل غير المحسوس واللاواعي للميول التي ليست مجرد تخمينات والتي تعكس تيارات معينة تثير الحياة الاجتماعية الحالية. غالبًا ما يحدث أن الفقيه، حتى الخبير، الذي يقترح وصف الحق الوضعي فقط، مهما كان، يراقب المؤسسات من خلال منظور مشوه للأفكار والطاقات التي تثير الحياة الاجتماعية وتضغط على هذه المؤسسات نفسها. من المناسب بعد ذلك التحرك على أرضية أقل غموضا وأقل صورية، واستحضار كل هذه الحركة التي لا تهدف إلى تقويض الصيغة العلمية التي تحدد الدولة الحديثة، ولكنها تهاجم الأسس التي يقوم عليها مبدأها الجوهري، ذات أهداف عملية أكثر من أهدافها العقائدية، على الرغم من أنها تعتمد أحيانًا على العقيدة. من المحتمل أن الحركة التي نشير إليها تتكون من طاقات عديدة ومتنوعة، بعضها ضعيف لدرجة يصعب تمييزها. ومع ذلك، فإن هذه الطاقات، ربما على وجه التحديد بسبب ضعفها الفردي، تحب أن تتحد بطريقة تجعلها تقدم نفسها، عند النظر إليها معًا، كظاهرة مهمة وجديرة بالملاحظة.

يساهم في هذه الحركة، دون المساهمة بالضرورة في بنائها أو تسريع تطورها، ولكن بإعطائها بعض خصائصها، الشعور المتجدد بالإمبريالية، الذي ينكر سبب وجود القانون وبالتالي الدولة الحديثة - التي هي قبل كل شيء دولة قانونية - ويجعل النظام المؤسسي نوعًا من قانون القوة. "أقول، حقًا، إن العدالة لمصلحة الأقوياء": يمكن أن تكون كلمات السفسطائي ثراسيماشوس هذه بمثابة نقش لكتابات الفلاسفة والسياسيين المعاصرين المعروفين. فالدولة الحالية تتعامل على قدم المساواة، بفضل القانون - وهذا من خصائصه - الضعيف والقوي، والمتواضع والقوي، في حين أنه وفقًا لهذا الموقف يجب أن تدعم وتعكس غرائز الغزو والبطولة والنضال. بين الأفراد وبين الطبقات وبين الأجناس. الهدف المعلن للمؤسسات الحالية - البحث عن الرفاهية الجماعية لمجموعة لا تستحقها - سيكون عندئذ خطأ. وبالتالي، فإن أي دستور لم يكن أرستقراطيًا حصريًا أو، بشكل أكثر دقة، حكم الأقلية، سيكون أيضًا خطأ.

* بينما قدمنا هذه المذاهب في صيغتها الأكثر تطرفًا ووحشية، فلا ينبغي أن ننسى أنها لم تكن مصدر إلهام للفلاسفة الديونيزيين فحسب، بل وُجدت أيضًا في شكل ضعيف وأكثر إيجابية على ما يبدو في مفاهيم اجتماعية معينة، بالتأكيد متواضع ولكن مع ذلك منتشر. بغض النظر عن أي تأثير نظري، فإن الشعور المتفاقم بالأنانية وغياب مفهوم العدالة في أصل هذه المقاربات موجودان بالفعل في بعض مظاهر الحياة الحديثة، بطريقة غير واعية ولكن ليست أقل خطورة، وبالتالي فهي ليست كذلك. لا فائدة من توجيه أصابع الاتهام إليهم. إذا كان عصرنا قد شهد بالفعل تطورًا لمشاعر الإنصاف والإنسانية والتضامن التي ينظر إليها بازدراء من قبل المدافعين عن الأخلاق البطولية، فإن الخطر يظل يتمثل في أن هذه الظواهر ستثبت عدم جدواها على وجه التحديد في الوقت الذي تكون في أمس الحاجة إليه، أي قل عندما يتم إبراز التناقضات الاجتماعية، كما هو الحال حاليًا. في غضون ذلك، تستمد الحركة التي هي أصل نوع من أزمة الدولة الحديثة معظم قوتها تحديدًا من هذه التناقضات أو بالأحرى من الطريقة التي تعبر بها عن نفسها. داخل الدولة، وفي كثير من الأحيان، كما سنرى، ضدها، المنظمات والجمعيات التي تميل بدورها إلى الاتحاد والارتباط والتكاثر والازدهار. إنهم يقترحون السعي وراء أهداف محددة شديدة التباين، لكن لديهم جميعًا خاصية مشتركة: تجميع الأفراد وفقًا لمهنتهم أو، في أفضل الأحوال، وفقًا لمصلحتهم الاقتصادية. هذه هي اتحادات أو نقابات العمال، واتحادات أرباب العمل، والنقابات الصناعية والتجارية والزراعية، ونقابات موظفي الخدمة المدنية، والجمعيات التعاونية، ومؤسسات المنفعة المتبادلة، وغرف العمل، ورابطات المقاومة أو الرعاية الاجتماعية، وجميعها تشكلت انطلاقا من هذا المبدأ الذي يمنحها علم الفراسة المشترك. وبطبيعة الحال، فإن عودة الميول المهنية القائمة على الاحتراف، والتي كانت ذات يوم مزدهرة ولكنها اختفت تقريبًا مع صعود الدولة الحديثة، تعتبر حقيقة رئيسية في العصر المعاصر: إنها على الأقل أهم ظاهرة التي تبدو الأكثر أمانًا ويمكن التعرف عليها بسهولة.


الدولة الحديثة في مواجهة ظاهرة الجماعيين

لا نعتزم تتبع الأصول التاريخية أو الأساس الاقتصادي الغالب لهذه الظاهرة. إنها تهمنا فقط بسبب العواقب التي تنتجها مباشرة على البنية الدستورية للدولة. ومع ذلك، فإن تأكيدها يعني بالضرورة قبول افتراض مسبق: الحاجة إلى منظمات جديدة تكمل منظمة الدولة الحالية تكشف عن عيب. الملاحظة الآن قديمة وواضحة. إن التنظيم السياسي الذي ولد من الثورة الفرنسية، مثله مثل أي نتاج لاضطراب كارثي، يحمل في طياته خطيئته الأصلية: أن تكون مفرط البساطة. نتيجة لرد الفعل الذي تم تنفيذه إلى أقصى عواقبه، يهمل هذا التنظيم السياسي قدرًا كبيرًا من القوى الاجتماعية، التي تُعتبر ناجيات تاريخية بسيطة لا أهمية لها والتي من شأنها أن تختفي في وقت قصير جدًا أو قد تختفي بالفعل. والأسوأ من ذلك، أنها لم ترغب في الاعتراف بوجود قوى لا تزال تظهر حيوية لا يمكن تدميرها، فقط خوفا من أن هذا الاعتراف يمكن أن يشجع ويخدم كذريعة لإعادة بناء الماضي. لقد تم قمع واختفاء المراكز الاجتماعية والشركات، واختُزلت البلديات إلى أبسط تعبير لها، فقط الفرد الذي تأخذه الدولة حقًا في الاعتبار: فرد يبدو مسلحًا بعدد لا حصر له من الحقوق المعلنة بشكل قاطع وبسخاء، ولكن حقوقه المشروعة نادرا ما تتم حماية المصالح.

* الدولة الحديثة، التي أكدت نفسها على أنها القوة السيادية الوحيدة، وبالتالي، بدون شك، عكست بأمانة البنية الاجتماعية الجديدة، أظهرت نفسها بسرعة غير قادرة تمامًا على تنظيم التجمعات الاجتماعية، وفشلت حتى في الاعتراف بوجود هذه المجموعات، التي هي ومع ذلك فهي ضرورية في أي مجتمع وصل إلى مستوى عالٍ من التطور. ثم نفهم بعد ذلك أن الحياة الاجتماعية، التي لا تهيمن عليها القواعد القانونية أبدًا، استمرت في التطور من تلقاء نفسها، حتى تتعارض مع نظام غير مناسب، وربما تزيد من حدة ما هو ضروري، كما يحدث غالبًا، الصراع بين الحياة الاجتماعية والنظام المؤسساتي.

علاوة على ذلك، إذا كان من الممكن في إطار هذه المساهمة الموجزة، لكان من المثير للاهتمام إلقاء الضوء على الطريقة التي أسفر عنها الحق الحديث، شيئًا فشيئًا وأحيانًا بشكل غير محسوس، هنا وهناك - من خلال التعديلات أو التفسيرات الغامضة. الأحكام التي، في بعض الأحيان على حساب الدقة اللازمة، تعمل على تجنب استمرار القتال الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالدولة. في هذا الموضوع، يمكننا أن نتذكر الخلافات حول شرعية الاتحادات الصناعية، التي تخضع للحق الخاص ولكنها مدفوعة بمسائل النظام العام، والتي يتم حلها اليوم لصالح الاعتراف بشرعية النقابات. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن جمعيات الموظفين العموميين في إيطاليا، بما في ذلك، على سبيل المثال، القضاة، يتم تشكيلها وتطويرها بهدوء، على الرغم من أنه يبدو أن هناك مبررًا للتشكيك في شرعيتها. في كثير من النواحي، يعتبر موقف الحق الوضعي الفرنسي تجاه النقابات العمالية نموذجيًا ومميزًا.

لقد احتفظ الحق الفرنسي، كما هو معروف جيدًا ، حتى وقت قريب بالمبادئ التي بررت في وقت مبكر من عام 1791 تفكيك نقابات الحرفيين والتجار وحظر إعادة تشكيلها بأي شكل من الأشكال. ومع ذلك، فإن حقيقة أن المنظمات العمالية تطورت بسرعة كبيرة كان لها تأثير تخفيف نطاق هذه الأحكام التقييدية، والتي كان من المستحيل تطبيقها دون معاقبة عدد كبير جدًا من الناس. عندما لا يتصرف المشرع، فإن السوابق القضائية هي التي تدخلت تدريجياً من خلال تفسيرات واسعة ولكنها مشكوك فيها. وهكذا، في حين أن الرأي العقائدي المؤثر يعتبر أن نقابات موظفي الخدمة المدنية غير مصرح بها بموجب قانون 1 يوليو 1901، فإنها تزدهر بأعداد كبيرة، وتعترف الحكومة بطابعها القانوني داخل البرلمان ومجلس الدولة يذهب إلى أبعد من ذلك الاعتراف بأن هذه الجمعيات لديها القدرة على اتخاذ إجراءات قانونية ضد قرار السلطة العامة فيما يتعلق بالوضع القانوني لأحد أعضائها.

لذلك لا يهيمن الحق العام الحديث، بل على العكس من ذلك، تسيطر عليه حركة اجتماعية تتكيف معها بشكل مؤلم وتنظم نفسها في هذه الأثناء وفقًا لقوانينها الخاصة. بينما يسلم الكتاب السياسيون أنفسهم، وفقًا لميولهم الخاصة، للرؤى أو المناقشات النقدية، بينما يتساءل المرء ما إذا كان هذا نوعًا من العودة التاريخية لشركات العصور الوسطى، بينما نتردد في إمكانية قيام النقابات الحديثة بإطلاق العنان للنضال الاجتماعي ومن أجل ذلك. تتكاثر المنظمات من مختلف الطبقات بشكل هائل. ومع ذلك، تتبنى العديد من المنظمات، في الخفاء أو بشكل أكثر انفتاحًا، موقفًا عدائيًا تجاه الدولة. إن التيار الأكثر اعتدالًا وتحفظًا، الذي يؤكد على أن الهيئات المهنية يجب أن تتطور بضمان الدولة وسيطرتها، يعتبر أيضًا أنه يجب ألا تصبح أبدًا أدوات صورية، وبالتالي يزيد في، إن لم يكن معارضته، استقلاليته على الأقل. في إطار جوانب أخرى، فيما يتعلق بموقفها العملي، من غير الضروري ملاحظة أنه في جميع الجمعيات من هذا النوع، على سبيل المثال تلك الخاصة بموظفي الخدمة المدنية، ترتكز فكرة أنه يجب عليها اكتساب القوة المادية الكافية للضغط على السلطات العامة، وذلك للحصول، بفضل قوة الاتحاد، على ما لم تستطع الدولة، بالاستماع إلى صوت العدالة الوحيد، التنازل عنه. في بعض الأحيان، حتى دون أي تحفظات أو تداعيات، يتعلق الأمر بتشجيع استبدال الدولة بالاتحاد. إنه بالضبط هذا البرنامج، المقدم في أكثر أشكاله راديكالية وثورية، والذي تدافع عنه النقابات العمالية بالمعنى الضيق للمصطلح. وهكذا، في فرنسا، تطالب نقابات الموظفين العموميين بإصرار بالمشاركة في الاتحاد العمالي العام، وذلك على وجه التحديد لأنها، على الرغم من أن لديها مصالح متباينة، إلا أنها تشترك في نفس التوجه المناهض للدولة. يكفي التذكير بالبيان الشهير لنقابات المعلمين في 24 نوفمبر 1905، والذي يؤكد أنه "يجب أن تستعد النقابات العمالية لتشكيل أطر المنظمات المستقلة المستقبلية التي ستعهد إليها الدولة بضمانها وتحت سيطرتها وتحت إشرافها سيطرتها المتبادلة، الخدمات الاجتماعية بشكل تدريجي ". ومع ذلك، إذا كان من المثير للاهتمام تحديد نقاط التقاء الحركة الجماعية ، فمن الخطأ أيضًا عدم التمييز داخلها بين تيارين يغذيان ، كما لاحظنا بالفعل ، بحقائق النظام الاقتصادي. ومع ذلك، فإن التيار الأول يبرزها ويضخمها بما يتجاوز كل المقاييس من أجل استخلاص عواقب وخيمة منها، بينما يستند الثاني إلى المثالية الصحية ولا ينسى أنه - بخلاف العناصر الاقتصادية - تحدد العوامل الأخرى وتوطد كل من فتوحات البشرية. التيار الأول، بطبيعة الحال، هو الأبسط، وحتى الأكثر بساطة، وفي منطقه، فإنه لا يأخذ في الاعتبار مبدأ الكهف المترتب على ذلك. بعبارة أخرى، إنه مفهوم برودون عن "الحق الاقتصادي"، الذي يتم فرضه على "الحق السياسي" الذي يدعي فيه نوعًا من البكورة لم يلاحظه أحد إلا بسبب الوهم التاريخي. سيكون مبدأ وغاية جميع المنظمات الاجتماعية هو الاقتصاد العام. عندئذٍ لن يكون الاهتمام بهذه الأسئلة ضروريًا فقط - وهو ما لا يجادل فيه أحد - ولكنه سيكون ضروريًا. وبالتالي، فإن هذا المنهج سيؤدي إلى تفكك الدولة الحديثة، كما هو واضح من قبل مؤيدي هذه النظريات. لن يكون لوحدة الدولة الحديثة وسيادتها أي سبب للوجود وسيكون مصيرها الزوال. مجموعة كاملة من الأصوات، خاصة في فرنسا، ترتفع في هذا الاتجاه وتتولى الصرخة التي أطلقها برودون منذ زمن بعيد. وقد أوصى الأخير باستبدال السيادة المجردة للدولة بـالسيادة الفعلية للجماهير العاملة، التي تتحكم وتحكم أولاً وقبل كل شيء في الاجتماعات الخيرية، وفي الغرف التجارية، وفي شركات الفنون والحرف، وفي شركات العمل؛ في البورصات، في الأسواق، في الأكاديميات، في المدارس، في الاجتماعات الزراعية؛ وأخيرا في الدعوات الانتخابية، في المجالس النيابية ومجالس الدولة، في الحرس الوطني، وحتى في الكنائس والمعابد ". سوف يتشكل التنظيم الاجتماعي، من ناحية، من قبل اتحاد هذه المجموعات التبادلية، ومن ناحية أخرى، من قبل الكوميونات والمحافظات.

* نود اليوم أن نذهب إلى أبعد من ذلك، ويجب ألا يفلت المجتمع نفسه، هذا الارتباط السياسي الأولي الذي اعتبرناه دائمًا ضروريًا وغريزيًا والذي نرتبط به بعلاقات متينة وطبيعية، يجب ألا يفلت من الدمار. وبالتالي، وفقًا لدوغيت، لم تعد "مجموعة اجتماعية متماسكة". وبالتالي، لا ينبغي أن تتطور النقابات المهنية جنبًا إلى جنب مع المنظمات التي تحددها الروابط الإقليمية أو الجنسية - بعبارة أخرى جنبًا إلى جنب مع المنظمات السياسية، المفهومة بالمعنى الاشتقاقي الدقيق للمصطلح - ولكن يمكنها ويجب أن تحل محل الأخيرة التي سيكون لها فقط قيمة جغرافية. ليس مكان الميلاد أو وجود نهر أو جبل هو الذي يجب أن يحدد وجود المجتمع وبالتالي التماسك بين الأفراد. يجب أن يقوم المجتمع على القوة المنتجة، التجارة، النشاط الاقتصادي. إذا ظلت السلطة المركزية ضرورية، فسوف يتم تقليصها، في المستقبل القريب، إلى نشاط بسيط من السيطرة والمراقبة. سيكون هذا ممكنا من خلال حقيقة أن الحركة النقابية، بعد فترة طويلة أو أقل من الاضطرابات وربما النزاعات، ستمكن المجتمع السياسي والاقتصادي في الغد من الوصول إلى مستوى من التماسك لم يكن مجتمعنا موجودًا فيه بشكل معروف منذ قرون. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأفكار يشترك فيها أولئك الذين يقصرون ظاهرة النقابات العمالية على الطبقات العاملة، ولكن أيضًا من قبل أولئك الذين لديهم مفهوم أكثر تعقيدًا وتكاملاً للنقابات العمالية، يمتد ليشمل جميع الطبقات، أي للجميع. المجموعات المكونة من الأفراد المنتمين إلى مجتمع معين والتي، لأنها تؤدي نفس الوظيفة في نظام التقسيم الاجتماعي للعمل، ترتبط ببعضها البعض بدرجة قوية بشكل خاص من الاعتماد المتبادل.

يمكننا بسهولة متابعة هذا العرض التقديمي، المثير للاهتمام بالتأكيد، للتنبؤات المختلفة، ثمار التخيلات الخصبة إلى حد ما، والتي تتراكم يومًا بعد يوم حول التنظيم المشترك لمجتمع المستقبل. إذا أعلن مؤلفون معينون، حريصون على عدم إعادة بناء مدينة اليوتوبيا، أنهم لا يريدون المبالغة في دقة تفاصيل مثل هذه المنظمة، فإن آخرين ينسون دروس التجربة، التي تعلم أن حياة أي حركة اجتماعية لا يتبع أبدًا المسار الذي تم تتبعه في الأصل، ولكنه ينمو مع تطوره، ومن المستحيل التنبؤ بنهايته. ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن الحقيقة هي آلهة متقلبة إلى حد ما تحب في كثير من الأحيان إخفاء نفسها تحت أكثر المظاهر الرائعة والتي لا تفوت فرصة الظهور خلسة، حتى للحظة قصيرة جدًا، في خضم التخيلات والأوهام. لذلك من الأفضل عدم إهمال هؤلاء لمحاولة رؤية ما يخفونه.

 إذا كانت هناك حقيقة لا جدال فيها في أصل الميول الحديثة لتطوير النظام المؤسساتي، فإنها تتمثل في الاعتراف بأن العلاقات بين الأفراد من جهة، والدولة والجماعات الإقليمية الصغرى من جهة أخرى، ليست هي العلاقات الوحيدة. العلاقات الاجتماعية تهتم مباشرة بالحق العام. إذا لم نتمكن من إهمال السلطات المحلية دون أن يبدو هذا في تناقض تام مع العمليات التاريخية التي تقوم عليها حضارتنا، فهذا ينطبق أيضًا على الحاجة إلى مراعاة المنظمات الاجتماعية التي تنبثق من روابط أخرى غير الإقليمية. من بين هذه الأخيرة، يتم تعريف اليوم الأكثر صلابة وتلقائية، أو بالأحرى الأكثر ضرورية، من خلال المصلحة الاقتصادية للأفراد الذين يؤلفونها. علاوة على ذلك، فإن تقسيم المجتمع إلى طبقات هو ظاهرة يتم إضعافها فقط خلال الفترات الانتقالية، ولكنها لا تختفي تمامًا أبدًا. ربما بدا هذا الانقسام خطيرًا ومخالفًا للنظام العام في بعض الأوقات عندما بدا الصراع بين الطبقات المختلفة، من ناحية، حيويًا، ومن ناحية أخرى ، عندما تم اعتبار أسس كل طبقة مدمرة. ومع ذلك، فإن تقسيم المجتمع إلى طبقات هو إحدى تلك الظواهر الضرورية التي تتجدد نفسها حتمًا، ذات أغراض مختلفة. إنها، إلى حد كبير، مرحلة جديدة من تأكيد مطلب اجتماعي قديم ودائم. من وجهة النظر هذه، فإن نظام الشركات، الذي يُنظر إليه في تطوره الطبيعي ويتجاهل هذه الانحرافات، يبدو طبيعيًا. يمكن أن يعمل على الحد من العواقب الضارة للفردانية المفرطة، مصدر التناقضات والصراعات، لتنمية الشعور بالتضامن بين الأفراد والشعور بالاحترام المتبادل بين مجموعات مختلفة من الأفراد، وبالتالي المساهمة في تكامل وترابط أكثر.

* فيما يتعلق بالدستور السياسي، يمكن للمرء أن يأمل في أن تكون الحركة الجماعية قادرة، ليس على تدمير الدولة التي فرضت نفسها من خلال الحق الحديث، ولكن لتعويض نواقصها وعيوبها التي، كما لدينا، ينظر إليها، هي النتائج الضرورية لتكوين الدولة الحديثة. في الواقع، لا يمكن تجاهل أن العديد من مبادئ الحق العام الحالي ليست الترجمة الدقيقة للمتطلبات الاجتماعية الملحة والواضحة. على العكس من ذلك، فهي نتيجة عدم مراعاة هذه المتطلبات الاجتماعية التي رفضنا الاعتراف بها، أو التي لم تنجح في إثبات نفسها، إما لأنها مخفية، أو لأنها تأتي في أشكال خادعة مثل نتيجة اضطرابات اجتماعية قوية. ولهذا السبب على وجه التحديد، من أجل استكمال صرح الدولة الحديثة، تم اللجوء، من ناحية، إلى تبني المؤسسات الأجنبية - التي تعتقد أنها يمكن أن تزرع أو تقلد الحق العام الإنجليزي - والآخر، إلى الدعم الهش للمبادئ العقائدية التي ظهرت بعد ذلك كمسلمات للعقل الطبيعي الذي لا جدال فيه. لحسن الحظ، بموجب القانون الذي لا يوجد بموجبه حق حقيقي لا يعكس حالة اجتماعية فعالة والذي، على عكس ما قد يعتقده المرء ظاهريًا، لم يفشل في تحقيقه في هذه الحالة أيضًا، لم تكن النتيجة إنشاء مؤسسات تتعارض مع المتطلبات الجديدة والاحتياجات الجديدة، ولكن ببساطة الوهم بولادة مؤسسات قانونية مثالية. في الواقع، لقد حصلنا فقط على أشكال فارغة من المحتوى، مخططات يجب ملؤها دائمًا.

* لقد زعمت الدساتير الحديثة أنها تكرس في النص جميع المبادئ الأساسية للحق العام، لكنها في معظم الحالات لم ترسم سوى المؤسسات دون تنظيمها، وقصرت نفسها على صياغة عناوين الفصول التي لم يتم رسم بنيتها. ونتيجة لذلك، تعاني من سلسلة من النواقص التي هي أكثر أهمية بكثير مما يعتقد عمومًا. هذا أمر جيد لأن النضال الذي يبدو الآن أنه موجه ضد الدساتير يمكن أن يأخذ طابعًا مختلفًا عندما ترى الأطراف المتعارضة أن المعركة تجري على أرض لا توجد فيها خنادق لتدميرها، ولكن فقط دفاعات بناء ضدها. البناء وليس التدمير: هذا، قبل كل شيء، هو الواجب الذي يستطيع مجتمع اليوم ويجب أن يقدمه لنفسه، فيما يتعلق بالنظام السياسي. عندما يتم تشييدها، قد لا تتناقض الصروح الجديدة مع الهندسة المعمارية الصلبة والشديدة للدولة الحديثة، ولكنها تستند إلى نفس الأسس وتشكل جزءًا لا يتجزأ منها.


 التمثيل السياسي

* هناك، على سبيل المثال، في الحق العام للدول الحالية مؤسسة نلاحظها بشعور غريب إلى حد ما: مع الاعتقاد، من ناحية، أنها ضرورية وحيوية، والوعي، من ناحية أخرى، بأن هدفها لن يتحقق أبدا. لا يمكن لأي طرف تقريبًا الاستغناء عنه، لكن الجميع غير سعداء بنفس القدر. هذا هو مفهوم التمثيل السياسي الذي يجب أن نذكره هنا باعتباره المفهوم الذي يتعلق بموضوعنا أكثر من أي مفهوم آخر. والغرض منه على وجه التحديد هو جعل الدولة على اتصال مباشر مع المجتمع، والمؤسسات ذات العناصر المتحركة والمتقلبة للحياة العامة. ينصب اهتمام مؤيدي نظام المجموعات باستمرار على هذه الظاهرة. ومع ذلك، فهم لا يدركون دائمًا المعنى الذي يجب أن يُعطى لهذا الشعور العام الذي أشرنا إليه: التمثيل السياسي لا يحتاج إلى اقتلاع جذوره من الأسس التي يقوم عليها، ولكن لا يزال يجب أن يكتسب مضمونًا إيجابيًا. تضع لنفسها هدفاً يجب أن يكون لها، لكنها لا تستطيع تحقيقه. المبدأ صحيح، لكن المؤسسة ليست منظمة بطريقة عملية وفعالة.

* ربما يكون من المفيد أن نتذكر أن التمثيل السياسي ولد واكتسب ملامح خاصة به في إنجلترا، أي في نظام كان يعرف حتى وقت قريب انقسام المجتمع الطبقي ويحتفظ بآثار عميقة له. ومع ذلك، بعد انتقالها إلى مناخ سياسي مختلف، اختفت تدريجياً هذه الخصائص الحاسمة للتمثيل السياسي. كما هو معروف، يؤكد الرأي الأكثر انتشارًا اليوم أن استخدام مصطلح "التمثيل السياسي" غير دقيق، أو بشكل أدق أنه خيال قانوني، لأن الطريقة التي يتم بها تنظيمه لا تؤدي إلى أي علاقة حقيقية للتمثيل بين المسؤولين المنتخبين والناخبين. قد تكون هذه نظريات مبالغ فيها وغير دقيقة، لكن هذا لا يعني أنها لا تحتوي على قدر كبير من الحقيقة. من حيث الجوهر، نُسب للمبدأ الديمقراطي قيمة سلبية فريدة: فهو يعارض المبدأ الملكي والأرستقراطي من خلال إنكار إمكانية أن يكون الشعب خاضعًا لشخص واحد أو لمجموعة مقيدة. من ناحية أخرى، ظل جانبه الإيجابي دائمًا في الظل، ومن المستحسن الاتفاق على حقيقة أن الأنظمة الانتخابية الحالية هي وسائل متواضعة إلى حد ما، وهي بالتأكيد مفضلة على سحب القرعة الذي تم اعتماده في بعض الديمقراطيات القديمة مثل الديمقراطية الأثينية، ولكن لا يزال بعيدًا جدًا عن الهدف المنشود.

* من غير المحتمل أن تصبح البرلمانات الوحي الصادق للإرادة الشعبية عندما يكون الممثل المنتخب، بين دورتين انتخابيتين، مستقلاً عن ناخبيه، عندما لا يكون التمثيل العضوي للأقليات مضمونًا سواء من خلال الآليات الموضوعة خصيصًا أو بواسطة التقنية التجريبية لتخصص الأشخاص في المعهد، وعندما يكون الممثلون هم آلاف الأشخاص مجتمعين بشكل عشوائي، والذين يفكرون بشكل مختلف ولديهم اهتمامات وثقافات مختلفة وبالتالي إرادات. إن ملاحظة كاتب لامع أنه كلما زاد عدد الناخبين المستنيرين، كلما تطور الوعي المدني والسياسي للأفراد هو أمر صحيح بلا شك. بعبارة أخرى، كلما نمت الحضارة، قلّت إمكانية تمثيل المجموعة المختارة لمثل هذه المجموعات غير المتجانسة والمهمة. هناك شيء مصطنع للغاية وخيالي حول تكوين المجالس الانتخابية. علاوة على ذلك، لا يمكن إنكار أن مجموعة كاملة من الأسباب المختلفة والمتنوعة قد أدت إلى الاعتراف بقوة سياسية في الشعب تتزايد باستمرار: تحسين الظروف الاقتصادية، ونشر الرأي العام وروح النقد والاستقصاء، توسيع الثقافة، والصحافة اليومية، وزيادة سهولة الاجتماع والارتباط، والاتصالات الناتجة عن العمل الصناعي الحديث الذي يجمع العمال معًا حول الآلات، ووسائل الاتصال السريعة التي ألغت الحياة المستقرة وتمثل وسيلة قوية للتقارب. وهكذا، غالبًا ما يحدث أن الصحافة أو غيرها من المظاهر النشطة للقوى الاجتماعية تسبق المنبر البرلماني وعمل الأحزاب، مما يمارس تأثيرًا على العمل التشريعي أكبر بكثير من تأثير الأخير. وصحيح أيضًا أنه إلى جانب المسؤولية القانونية والسياسية للحكومة، طورت نوعًا من المسؤولية الاجتماعية للوزراء أكثر فاعلية من الأشكال القديمة للمسؤولية. يؤدي تجاوز البرلمان إلى إقامة اتصال مباشر بين الشعب والحكومة. ربما يكون وجود الصحافة غير الرسمية أمرًا محزنًا، لكنه يسلط الضوء أيضًا على تطور هذا الجانب غير القانوني للحياة العامة المعاصرة. يمكننا بعد ذلك اعتبار أن أزمة الحالة الراهنة تتميز بتلاقي ظاهرتين متآزرتين: من ناحية، التنظيم التقدمي للمجتمع على أساس المصالح الخاصة التي تتسبب تدريجياً في طابعه الذري للمجتمع؛ من ناحية أخرى، عدم كفاية الوسائل القانونية والمؤسساتية لتعكس هيكلة المجتمع هذه وتعزيزها داخل الدولة. قد يفيد هذا النقص في تفسير السبب في أنه حتى الجمعيات والجماعات التي، بطبيعتها ومصالحها، لا تهدف إلى معارضة الدولة، تميل أحيانًا إلى التوفيق بين أولئك الذين يناضلون من أجل التحول الجذري والحكومة الثورية. ولهذا السبب، من بين أمور أخرى، تبلورت حالة من عدم الثقة، وألحقت ضرراً بالغاً، بإمكانية إيجاد الحل المنشود في المؤسسات التي أنشأتها الدولة وتشرف عليها أوامرها. من قبيل المصادفة الغريبة، بمجرد أن تجمع مؤسسة ما تعاطف وآمال أكبر عدد، ينتشر الرأي تدريجياً بأن هذه المؤسسة تتعارض مع مبادئ الدولة الحديثة، حتى عندما يكون ذلك غير مبرر تمامًا.

* لذلك، على سبيل المثال، على الرغم من أننا لا نعرف ولا نرغب هنا في التحقيق فيما إذا كان التمثيل السياسي يمكن تجديده وتحقيق غرضه من خلال تمثيل المصالح، فهو نظام يبدو للوهلة الأولى أنه يتوافق مع تطور تقسيم مجتمعنا إلى طبقات ومجموعات، والتي يمكن بالتأكيد أن تعيد هذه المؤسسة القديمة إلى معناها الأصلي. ومع ذلك، فمن الرأي السائد أن هذا من شأنه أن يرقى إلى منح جزء من السيادة لكل مجموعة أو طبقة، وأن هذا سيكون، بطبيعته، غير متوافق مع مبدأ التوحيد وإعادة توحيد جميع السلطات العامة. ومع ذلك، إذا استخدم معارضو نظام المجموعات هذه الحجة لمحاربته، فإن بعض مؤيديه يتمسكون برضا عن هذا التناقض المزعوم من أجل تطوير وتعزيز أفكارهم المعادية للدولة. تبدو الحقيقة مختلفة تمامًا، وبغض النظر عن الصعوبة العملية في التوفيق بين المصالح الخاصة لكل مجموعة من المجموعات والمصالح العامة، فإن تمثيل الأولى لا يتعارض مع الدفاع عن الأخيرة، تمامًا مثل التقسيم الحالي إلى هيئات انتخابية ليس نفيًا لوحدة الدولة والطابع العضوي لمصالحها.

* نشهد مؤخرًا إحياء الفكرة التي اقترحها بالفعل جون ستيوارت ميل، وهي إنشاء سلسلة من البرلمانات الخاصة لكل مجال من المجالات التشريعية التي تتعلق مباشرة بفئة اجتماعية معينة. في حين أن البعض يود أن ينسب إليها وظائف استشارية بسيطة، يعتقد البعض الآخر، من ناحية أخرى، أن هذه الهيئات الجديدة يجب أن تتمتع بكفاءة تشريعية حقيقية، قادرة على الحد من اختصاص البرلمان المركزي، وبالتالي تصبح نوعًا من مكاتب الرقابة، والموافقة على أو النقض. لا يزال آخرون يقترحون عدم المساس بالمجلس الانتخابي الحالي، أو تعديله وفقًا لنظام تمثيل الأقليات، ولكن لإصلاح مجلس الشيوخ من خلال تحويله إلى مجلس يتم انتخاب مكوناته من قبل المعاهد المهنية.


إعادة التأكيد الضرورية على مبدأ الدولة الحديثة

أيا كان الخيار الذي يتم اختياره من بين مختلف المقترحات التي تزدهر في الوقت الحاضر، يبدو لنا دائمًا مبدأ واحدًا أكثر ضرورة ولا غنى عنه: وجود منظمة متفوقة قادرة على توحيد وتلطيف وتنسيق المنظمات القُصّر. قد تظل هذه المنظمة المتفوقة لفترة طويلة الدولة الحديثة، القادرة على الحفاظ على الشكل الذي تمتلكه الآن على حاله تقريبًا. بحكم طبيعتها الجوهرية، فهي بالفعل ليست أداة طبقية، كما قد يبدو للبعض أحيانًا؛ إنها ليست نفاقًا وحشيًا يخفي وراءه هيمنة عدد أكبر أو أقل من الناس، وهو وهم لا يركع قبله، وفقًا لتعبير نيتشه، إلا قصير النظر. تم تشييدها، أيًا كان ما قد يقوله المرء، من خلال السعي وراء غرض معاكس؛ لديها القدرة على تأكيد نفسها ككائن يمكن أن يتجاوز المصالح الجزئية والطارئة، لتأكيد الإرادة التي يمكن تصنيفها كإرادة عامة. على أي حال، فهي المؤسسة الوحيدة المعروفة للبشرية التي من المرجح أن تؤدي إلى نظام سياسي حيث لن يكون مجتمع الجماعات في المستقبل مجرد عودة إلى دستور إقطاعي للمجتمع.

* كلما تطورت التباينات، والتي نشأت في انقسام القوى الاجتماعية، وتطور سلطتها وتنظيمها، كلما بدا أنه من الضروري تأكيد المبدأ الذي بموجبه لا يمكن إظهار السلطة العامة على أنها غير قابلة للتجزئة إلا إذا كانت مشاركة الجهات المختلفة. الطبقات الاجتماعية لعملها مهم وكاف. فالدولة ليست فقط الرمز، بل هي أيضًا الكيان الحقيقي الذي من خلاله سيؤكد هذا المبدأ نفسه بقوة أكبر من أي وقت مضى. تصبح الدولة أكثر قوة ونشاطًا، وهي التجسيد الحقيقي لمجتمع واسع ومتكامل يمكن لأزمة مؤقتة أن تحجبه أحيانًا، ومن المقرر أن تكتسب المزيد من التماسك والاتساق بمرور الوقت. بالطبع، لا أحد يستطيع اليوم أن يعتقد أن حياتنا الدستورية قد وجدت الأشكال التي يمكن للدولة من خلالها أن تتطور إلى ما لا نهاية. ستظهر أشكال جديدة وستتحول الأشكال القديمة. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يدعي بجدية أنه يعرف ما يخبئه المستقبل لنا، وعلينا أن نقتصر على التفكير بعين اليقظة والثقة في البذور المزروعة. بالطبع، لن تؤتي جميع البذور ثمارها، ولكن يبدو أن بعضها بدأ يتجذر بالفعل. ولكن في هذه الأثناء، في هذه اللحظات التي يمكن فيها الاستيلاء على الحيرة في مواجهة تراكم العناصر المعاكسة التي يبدو أنها مأخوذة من الجانبين، لا يزال من الممكن إيجاد بعض التهدئة من خلال تنمية الأمل في أن الحبوب الجيدة هي دائمًا، عاجلاً أم آجلاً، مُخصَّبًا بالعمل الإنساني الصبور- عمل بشري، غير مبالٍ بالأوهام الخادعة أو المصالح الأنانية، يعرف كيف يتعرف بشكل حدسي أو بوعي على المُثل العليا النقية والعالية التي يجب أن يولدها."


المصدر

Santi Romano «L’État moderne et sa crise », Jus Politicum, n° 14 [http://juspoliticum.com/article/L-Etat-moderne-et-sa-crise-968.html

د."بهيّة"أبو حمد وصالونها الأدبي "البهيّ"من منظور العلاقة الجدلية بين الأمكنة وشاغليها!/ د. مصطفى الحلوة



كتب كبير شعراء المُغترَب الأسترالي الصديق شربل بعيني، على صفحته(الفايسبوك 30/12/2022)، موصّفًا، بإعجاب إلى حدّ الدهشة والذهول، صالون صديقتنا الأدبي العزيزة الكاتبة بالعدل والأديبة الشاعرة بهيّة أبو حمد، الذي أُقيم فيه حفلٌ تأبيني لروح نقيب شعراء الزجل اللبناني المرحوم جورج أبو أنطون. وممّا جاء في توصيفه:"عام 2016 إفتتح نقيب شعراء الزجل اللبناني الراحل صالون د.بهية أبو حمد، بحلّته القديمة. وفي آخر يومين من عام 2022، أي بعد وفاته بأربعة أيام، أُفتُتِح، بحلّته الجديدة، بحفل رثاء، أُقيم لتخليده والتعبير عن امتنان جمعية إنماء الشعر والتراث لرحلته الزجليةالعامرة". وفي توصيف ذلك الصالون "البهيّ"، يُتابع الشاعر بعيني:"حِلّةُ الصالون أدهشتنا جميعًا(..) والحقّ أقول، هو تحفة فنّية رائعة، جمعت بين فنون العصور كافة: العربي، البيزنطي، الأندلسي، الايطالي، والفينيقي وغيرها، لدرجة تحتار معها أين تنظر! وبعد انتهاء حفل التأبين، الذي شارك فيه كبار الشعراء، المغتربين والمقيمين، ورعته وزارة الثقافة اللبنانية، بالاشتراك مع نقابة الزجل، أعلنت د.أبو حمد أنّ الصالون سيكون جاهزًا تمامًا، بعد أسبوعين، لاستخدامه مجّانًا من قِبل الشعراء والأدباء والفنانين وسواهم"

...إذْ نترحّم على النقيب أبو أنطون، لما له من أيادٍ بِيْض في تعزيز دور الزجل اللبناني، في لبنان المُقيم ولبنان المغترِب، فإنّ ما يعنينا تعليل تلك الدهشة، التي استبدّت بالصديق شربل بعيني بإزاء ذلك الصالون، الذي سيُمثّلُ مَعْلمًا لحراك نوعي، على الصعيد الأدبي والفكري والفنّي والاجتماعي".

في هذا المجال، فإنّ ما ينبغي التوقّف عنده تلك العلاقة الجدلية بين البشر والأمكنة المختلفة التي تضمّهم، إذْ هي علاقةٌ تفاعلية ، وبالاتجاهين المتعاكسين. فبقدر ما يحمل شاغلو الأمكنة سِمات هذه الأخيرة، فهم يخلعون على الأمكنة ما يختزنون من قِيم وسِمات فكرية وثقافية وحضارية. هكذا فإنّ سكّان الصحارى، في العصور القديمة، دأبوا على الارتحال، من مكان إلى آخر، سعيًا وراء الماء والكلأ. كانت الخيام سكناهم، يحزمونها على ظهور الإبل، ويعيدون نصبها، في مسيرهم، الذي لا أُفق له،  نُشدانًا للأمان، بمختلف أشكاله. كانت الخيمة، لدى البدوى، ذات وظيفة محدّدة، لا تتعدّى الإقامة والمبيت. ولم يكن ثمة عناية بالمقتنيات و"الأثاث". وبكلمة، كان كلّ مكان لديه يُشكّل محطّة للإنتقال إلى مكان آخر، وهكذا دواليك! 

في المقلب الآخر من المسألة، نرى أنّ من سلكوا سبيل المدنيّة من البشر، كانوا إلى جانب اهتمامهم بالفن المعماري، بما يخصّ أماكن سكنهم ومعابدهم ومنشآتهم العمرانية  الأخرى، يُعيرون اهتمامًا أيضًا لتزيين بيوتهم لتغدو في أجمل حِلّة. وكانوا يستدخلون إليها فنونًا شتّى، من النحت، والرسم، إلى الحفر على الخشب وسوى ذلك من عناصر تجميلية. وبذا ينمّون عن مستوى من الذوق رفيع.

إسقاطًا لمعادلتنا المركزية، أي خطاب البشر/الأمكنة، على د."بهية"، وعلى صالونها الأدبي"البهيّ"، فهي، عبر هذا الصالون، استحضرت مختلف الحضارات، من عربية، وبيزنطية، وأندلسية، وإيطالية، وفينيقية وسواها، بحيث جسّدتها في مشهديات، بل آيات رائعات، احتلّت جدرانه وسقفه وأروقته وأرضه. وقد نمّت "البهيّة"عن ذوق راقٍ، لم يأتِ من فراغ. ويكفي أن نستعرض لمامًا ما تتمتّع به من كفاءات متعدّدة، فهي مجامية حائزة دكتوراه في القانون، وتمارس مهنة الكتابة بالعدل، وهي تتقن العربية والإنكليزية والفرنسية بطلاقة، وتكتب بها ثلاثتها بأسلوب رفيع. وقد وفّرت لها اللغتان الأخيرتان الاطلاع على نتاج حضارتيهما من قرب. علمًا أنّ إتقان كل لغة تمنح الإنسان شخصية أُخرى مُضافة! وإلى ذلك، فهي حائزة جائزة الملكة اليزابيث الثانية. وقد تمَّ تكريمها في العام 2022 من قِبل "مجلس السفراء العرب في كانبيرا"، لدورها في تعزيز التراث الثقافي العربي في استراليا.كما أنّ لها نتاجًا أدبيًّا، في عِداده كتابها النقدي، حول الأديب شربل بعيني، عنوانه:"شربل بعيني منارة الحرف"، وقّعته في لبنان ومصر، في العام 2019. كما أنّها بصدد توقيع كتاب في لبنان، بعد شهرين، ينتمي إلى الكتابة الابداعية، عنوانه "رحيق الورود"، وقد شرُفنا بوضع مقدّمة مُسهبة له. وهي رئيسة"جمعية إنماء الشعر والتراث" في سيدني. علمًا أنّ للدكتورة بهيّة كتابات قانونية، تسعى إلى إصدارها في آتٍ قريب!

بكل هذه الصفات، ذات المرتكز المديني الحضاري، والمستوى التعليمي والمخزون الفكري والثقافي، كيف لا يكون صالونها على درجة من الإبهار عظيمة؟

عزيزي شربل، إنّك على دراية بخطاب البشر/الأمكنة، فلا يأخذنّك العجب العُجاب، ولا يتملّككَ الاندهاش أمام ذلك المَعْلَم "البهيّ"، الذي يأتي على صورة صاحبته. فهو مرآة لها، وهي له مرآة! وإذْ يرمقان بعضهما بعضًا، فإنّ "البهاء"يتماهى في "البهيّة" ويتمرّاها، و"البهيّة"تتماهى فيه وتتمرّاه!

من بيوتهم تعرفونهم، وآثارهم تدلُّ عليهم!

(من بيادر الفسابكة/قراءة نقديّة في قضيّة)

رسالة مفتوحة لقوم لم ولا يقرأون/ جواد بولس



كما كان متوقعًا وبناءً على نتائج الانتخابات الاخيرة في اسرائيل، لم يجد بنيامين نتنياهو صعوبات عسيرة حقيقية في تشكيل حكومته التي، من دون شك، سوف تسعى الى تنفيذ ما جاء في خطوطها العريضة ووفق جميع الالتزامات التي اشتملت عليها الاتفاقات الثنائية الموقعة بين كل حزب على حدة وبين رئيس الحكومة القادم.

لن أكتب عن ممارسات الحكومة المقبلة المتوقعة على جميع الجبهات والاصعدة ، لكنني أذكّر بأننا نقف على عتبة عهد ظلامي اسرائيلي جديد لا يشبه ما ألفناه طيلة العقود الماضية.

لقد امتلأت الصحافة العبرية ومنصات الاعلام بآراء أعداد كبيرة من المعقبين والمحللين الذين أبدى معظمهم تخوفًا مما ستنتهي اليه العملية السياسية الجارية التي يقودها بنيامين نتنياهو، واسقاطاتها شبه المؤكدة على تقويض أسس الدولة كما بناها وأرادها مؤسسوها الأوائل. لن أتطرق الى مواقف المئات ممن ابدوا مخاوفهم ومواقفهم جهارة ضد الحكومة القادمة، لكنني سأشير الى موقف رئيسة المحكمة العليا الاسرائيلية السابقة، دوريت بينيش، الذي صرّحت به مؤخرًا في الصحافة العبرية. سأفعل ذلك لسببين ، أوّلهما شخصي، وثانيهما، لأنها تنطق عمليًا باسم آخر المعاقل المطلوب "رأسها" والاجهاز عليها من قبل الحكومة المقبلة، وأعني المنظومة القضائية بكل فروعها، وفي مقدمتها  المحكمة العليا  الاسرائيلية.  

وهذا، في الواقع، ما نوّهَت اليه القاضية بينيش، في مقابلة أجرتها معها يوم الاربعاء المنصرم جريدة "كلكليست" الاسرائيلية، وأعلنت فيها: "اننا، من دون شك، نواجه واقعًا مغايرًا؛ والمهم ألا نصاب بالذعر لكن علينا ألا نستسلم". ثم أردفت مؤكدة على أن "نظام الحكم الذي كان سائدًا بفخر طيلة 75 عامًا يواجه الخطر في هذه الايام. فنحن لسنا ازاء عملية اصلاحات قضائية، كما يقال في تعابير مغرضة ، بل نحن أمام تغييرات جذرية في مبنى السلطة والحكم، وفي المفاهيم السياسية والاجتماعية الخاصة باسرائيل. أنا قلقة جدًا. لقد تخطوا الخطوط. انهم يحطّمون الاطر الاساسية التي بنيت عليها، خلال سنوات طويلة، السلطة ونظام الحكم  في اسرائيل. يتوجب علينا ان نستفيق".

أتمنى سيدتي،  أن تستفيقوا، لكنني أخشى من حكاية  "الثور الابيض" . أتتذكرينها؟ 

لست متأكدًا من أن أقوال القاضية بينيش ستلفت عناية المواطنين العرب في اسرائيل، بالرغم من كونها تصريحات مقلقة جدا، وتشكّل عيّنة من فيض مخاوف مشابهة كان قد أبدتها مئات من الشخصيات الاعتبارية المرموقة اليهودية، التي تمثل شرائح واسعة داخل المجتمع الاسرائيلي، والمنتمين الى مجالات مهنية مختلفة: سياسية وأكاديمية واقتصادية وعسكرية وأمنية وحقوقية وغيرها. أرى أن عربات النار تسير نحو أهلنا وناسنا وهم يحسبونها طيورا من الجنة، أو أنهم نيام.    

أمّا بالنسبة لي فهذه الأقوال تذكّرني بقصتي الطويلة والمؤسفة مع الرئيسة السابقة للمحكمة العليا دوريت بينيش وزملائها القضاة. أتذكّرهم اليوم وأشعر مستفَزًا وحزينًا.   

 لقد تعودّت منذ سنوات أن أكتب مقالي الأخير في نهاية كل عام ميلادي على شكل رسالة مفتوحة معنونة لشخصية كنت اختارها حسب الظروف ولأهمية مضمونها في ذلك الوقت. كانت رسالتي المفتوحة  في نهاية عام 2010 معنونة لرئيسة المحكمة العليا، في حينه، القاضية دوريت بينيش. لقد خاطبتها على أثر قيام مكتب الادارة العامة للمحاكم في اسرائيل بنشر بيان بخصوص قرار حكم أصدرته المحكمة العليا بحق شرطي يهودي كان قد أدين في المحكمة المركزية بقتل شاب عربي. كان اصدار بيان ادارة المحاكم فعلًا غير مسبوق ومفاجئاً للجميع وقد جاء كردة فعل تبريرية ودفاعية من قبل جهاز المحاكم ضد حملة تهجمات شعبوية واسعة قادتها منظمات وشخصيات يمينية واستهدفت قضاة المحكمة العليا بسبب قرار حكمهم في قضية الشرطي الذي قام بقتل العربي دون أن يكون لذلك أي مبرر أو مسوغ، كما جاء في قرار المحكمة.  

لقد حكمت المحكمة المركزية على الشرطي اليهودي بالسجن الفعلي لمدة خمسة عشر شهرًا؛  فقامت نيابة الدولة بتقديم استئناف على الحكم المخفف بشكل غير منطقي، وطالبت بحكم أقسى. قبلت المحكمة العليا استئناف نيابة الدولة وحكمت على الجاني بالسجن الفعلي لمدة ثلاثين شهراً فقط، كما وأوضحت بأن الجاني لم يتقيّد بتعليمات اطلاق النار وقام باطلاق رصاصه من مسافة قريبة جدا، بينما لم يكن في حالة خطر ولا في حالة تستوجب استعمال السلاح أصلا .. أي أن الحادثة، هكذا يفهم، كانت أقرب إلى كونها جريمة قتل مكتملة؛ وعلى الرغم  من ذلك وجدت المحكمة العليا ضرورة لتدافع عن موقفها ولتبرره عن طريق بيان شكّل سابقة وعلامة فارقة في مسيرة تراجعها أمام قوى اليمين وغاراته عليها. 

استهجنتُ وقتها في رسالتي المفتوحة خطوة المحكمة وقلت: "أن تضطروا لاصدار بيان في مثل هذه القضية هو أمر يشير الى اهتزاز مكانة المحاكم والقضاء بشكل عام في هذه الدولة. انها اشارة على ضعفكم ودليل لفهمكم الخاطيء لما يجري منذ أعوام طويلة داخل المجتمع الاسرائيلي وداخل منظومة الحكم. لقد انهارت أسس هذه المنظومة القيمية وتراجعت فيها سلطة القانون لصالح ما نشهده من مظاهر الفساد والعنف واستقواء قوى الشر التي استوطنت في كثير من مواقع القول والفصل والحكم، وباتت أقرب مما تتصورون للاجهاز عليكم، ولاحكام سيطرتها الكاملة على مقاليد الحكم، بعد أن تمكّنت من السلطتين التنفيذية والتشريعية". وأضفت مخاطبًا اياها: "هل تذكرين كم مرة صرخت في آذانكم وأكدت اني اخاف عليكم لأني أريدكم ، انت وزملاءك القضاة، أقوياء وسدنة لسيادة القانون .. وكم مرة صرخت وأكدت على أنني كمواطن أريدكم أقوياء كي يحتمي المواطن المظلوم بقوة عدلكم؛ وكم مرة اكدت أمامكم على أنني، كابن لاقلية قومية، أريدكم أقوياء عساكم تحموننا، ولو مرّة، من ظلم سياف ظالم. هل تذكرين كم مرة عنّفت منكم لأنني تجرأت أن اسمّي ما تفعلونه بحق ابناء شعبي وبنا، المواطنين العرب في اسرائيل، عنصرية وقهرا وظلمًا؟ إن تبريراتكم، كما نص عليها بيانكم، غير صحيحة وغير موفقة وغير لازمة، فالحقيقة هي انكم ضعفاء وتخافون؛ وان بيانكم ما هو إلّا حلقة في مسلسل "قطف رؤوسكم" وفي مسيرة هرولتكم الى الخلف أمام ذلك "الدب" الكاسر الذي لن يكف عن اللحاق بكم. والحقيقة، سيدتي، هي أن جهازًا قضائيا يحتمي بحراس يرافقونه حتى أبواب غرف النوم لن يقوى على مقاومة ظالم أو محاكمة قاتل؛ والحقيقة أيضًا ان محكمة لا يميّز قضاتها بين الضحية وبين جلادها لن تستطيع  في النهاية حماية جلدها، مهما انحنى قضاتها وتراجعوا وبرروا، كما تفعلون في هذه القضية. فإما مواجهة من يهاجمكم أو سوف تهزمون. 

سيدتي ! " أُكِلت يوم أكل الثور الأبيض" كانت قصة من القصص الشعبية المتوارثة في ثقافتنا، والتي كنت أرددها،أحيانًا، في مرافعاتي القانونية أمامكم. لم ترغبوا بسماعها ولا بتذويت حكمتها؛ لكنها كانت وستبقى هي حكمتنا، نحن الضحية الحالية، لضحية المستقبل" . 

هذه  مقتطفات من رسالتي في العام 2010؛ ولم تكن رسالتي المفتوحة الوحيدة لقضاة في المحكمة العليا، فمثلها كتبت كثيرًا .. ولكن من دون جدوى. لقد مضت اثنتا عشرة سنة على ما كتبت وعلى حديثنا صدفة حول مضمونها، وبقيت أنا في موقعي، مدافعًا عن الحق والعدل والأمل، وبقيتم انتم في مواقعكم، جنودًا عند نظام يقدس العنصرية ويمارسها علينا، وخدمًا لدولة تحتل شعبًا آخر ؛ وكقضاة في المحكمة العليا، تسوّغون موبقاته وتفرخون، صغار المحتلين، الذين تكاثروا وكبروا ويطالبون، باسم السماء والقوة والسيف، برؤوسكم وبجلودنا.  

 لقد قرات نصيحتك بضرورة "ألا نصاب  بالذعر وألا نستكين وأن نستفيق"،  فكيف ستصحون وعتمة الاحتلال تملأ قلوبكم؟  ولماذا لم تسمعوا حين نبهتكم، قبل دهور، أنهم قريبون أكثر مما تتصورون للاجهاز عليكم، وماذا سيحصل بعد أن يؤكل الثور الابيض ؟!

صفحةٌ مُضيئةٌ من طرابلس العيش الوطني الواحد!/ د. مصطفى الحلوة



أوردَ الناشط الفايسبوكي نبيل يوسف على صفحته(بلاد البترون/ 26/12/2022) هذا النصّ، باللغة المحكيّة، للطبيب الطرابلسي المقيم حاليًّا في إيطاليا حُسام أزميرلي :"بمناسبة عيد الميلاد المجيد، بدّي عايَدْ على طريقتي أصدقائي من المسيحيين، وخاصة أهلنا بطرابلس. أوّل صديق طفولة كان بسّام إبن الجيران، ما كِنت أعرف إنّو مسيحي، كِنت أعرف إنّو صديق. كنت كل يوم، يا أنا عنده يا هو عندي بالبيت. انتقلت إلى مدرسة الطليان، وتاني صديق طفولة كان جورج أرمني، بس بيحكي عربي متلي متلو، وألله ستر ما كان يعرف أنّو أصل عيلتي تركي!..بمدرسة الطليان كنّا نلتقي بعد الضهر، بتشجيع من الأب كرميللو(..) الأب كرميللو قصة كبيرة، كان صديق لكل تلميذ، وبيعرف كل عيلة من عِيَل تلاميذه. وله فضل كبير على كثير من شباب طرابلس. بالكشّاف عشنا وأكلنا وسهرنا وفرحنا وتعلّمنا من بعض، مسلمين ومسيحيين، بعزّ دين الحرب الأهلية. حتى لمّا بالثمانينات إجِتْ صحوة إسلامية، غيّرت شوي من طابع المدينة(يقصد حركة التوحيد الاسلامي)، معظم الأصدقاء من المسيحيين تفهّموا أنّ المواقف المتطرّفة، من قبل البعض، ليست من طبيعة الاسلام السمح. ولأنهم جزء أصيل من تراث المدينة عرفوا أنّ موجة التشدّد هي موجة عابرة(..)كان عندنا تقليد برمضان، نعمل إفطار جماعي بمدرسة الآباء الكرمليين. كل واحد يجيب أكلة من البيت، ويشارك معنا الرهبان بالافطار، وإذْ بيوصل صدر منسف كبير، فنسأل: مين باعتو؟ قالوا : أم جانيت، بيقوم عبّودة وبيقول: والله أم جانيت صارت بتطبخ أكل إسلام! وهون فرطنا نحنا والرهبان وكل الحضور من الضحك. لكن أجمل ما سمعت، بعد سنين من الغربة، التقيت بصديق الطفولة دانيال المسيحي الطرابلسي، المغترب هو كمان بإيطاليا، قللي: بتعرف يا حكيم، بعد كل سنين الغربة، أكتر شي بشتقلو من طرابلس هو سماع صوت الأذان وتكبيرات العيد!"

...هذا النص، بل هذه الشهادة، من لدُن واحدٍ من أبناء طرابلس-وهو طبيب لامع في إيطاليا- تُغْني عن عشرات المحاضرات وورش العمل  والكتابات الخشبية وفاقدة الروح، حول العيش المشترك، الذي اختاره الاجتماع الطرابلسي، على مرّ العصور، قديمها وراهنها!

ولا شكّ أن هذه الشهادة العفوية الصادقة توجّه صفعة إلى الإعلام الأصفر، المبرمج، الذي يجهد عبثًا في تصوير مدينتنا مدينةً حاضنةً للتطرّف الاسلامي وللارهاب. بل ذهب بعضهم إلى تشبيهها بقندهار!

وإذا كانت مدينتنا قد شهدت أحداثًا دموية، بين منطقتي التبانة وجبل محسن- وقد سمّيتُها حرب الفقراء- فهذه الأحداث كانت مبرمجة، تُدار من أجهزة مخابراتية، مما جعل طرابلس صندوقة بريد لتبادل الرسائل بين قوى متعددة، من محليّة وإقليميّة.

صحيح أنّ الحضور المسيحي في طرابلس إلى تراجع، فليس ذلك لأسباب أمنية فحسب، فثمة عوامل أخرى، أهمها البحث عن فرص عمل خارج المدينة، سواء أكان ذلك في العاصمة بيروت أو الخارج. ناهيك عن أسباب أخرى، لا يتسع لها هذا المقال. علمًا أنً هناك هجرة إسلامية لا تقلّ عن حجم الهجرة المسيحية. وقد كان للحرب الأهلية(1975) أن تؤدّي دورًا أساسيًّا في هجرة اللبنانيين من مختلف الطوائف.

ورغم كل ما قيل عن طرابلس وما سيُقال، فهي باقية مدينة للعيش الواحد بين جميع مكوّناتها وعوائلها الروحية. بل هي مشرِّعةٌ أبوابَها لكل من يُريد السكنى فيها، فتمنحه "جنسيتها"، ولا تشترط سنوات عشرًا لتفعل!

قد يخفتُ "خطاب البشر" بين المسيحيين والمسلمين في طرابلس، ولكنْ ثمّة خطابٌ باقٍ على الزمن ،هو "خطاب الحجر"، خطاب المعالم الدينية ، التي يُذكر فيها اسمُ الله، أطرافَ الليل وآناءَ النهار!

..ففي طرابلس شارع ذو عراقة، هو شارع المطران، يستمدُّ تسميته من مطرانية طرابلس المارونية(قلّاية الصليب)، القائمة في المنطقة الخلفية  لشارع عزمي بك، منذ ما يقرب من مائة عام! وعلى بعد أمتار من قلاية الصليب، تنتصب أجمل كنائس طرابلس، هي كنيسة مار مارون. وها هو شارع الراهبات، الذي اتخذ إسمه من إحدى المدارس المسيحية فيه. وها هو شارع الكنائس، الذي تتراصف على جانبيه كنائس لمختلف الطوائف المسيحية في طرابلس. وها هي حارة السيّدة(العذراء مريم)، يلتصق إسمها بالكنيسة التي بناها القائد الصليبي بوهيموند السابع في العام 1286م. وها هي حارة النصارى، المحاذية للجامع المنصوري الكبير، حيث كان المطران الطرابلسي جورج خضر (أطال الله عمره) يتملّى من صوت الأذان، حين يقصد بيت جدّه، في تلك الحارة. ولنا أن نقرأ كتابه الرائع :"مسرى الطفولة"، لندرك كم أن في كل طرابلسي مسلم شيئًا من المسيحية، وفي كل مسيحي شيئًا من الإسلام!

فيا أيها المُرجفون وكارهو مدينتنا، عبثًا تحاولون "تسويد" وجه طرابلس، بل ستسودّ وجوهكم وتخرس أقلامكم، فطرابلس ستبقى فضاءً، فاتحًا ذراعيه لجميع اللبنانيين! ولكم أن تقرأوا تاريخها الحافل بمواقف العيش المشترك، بل العيش الواحد. وقدر طرابلس المحافظة على نسيجها ، الذي كانته، على مر الحقب التاريخية.

(من بيادر الفسابكة/قراءة نقدية في قضيّة)

المجاهد والقِدّيس مار/ماري بن ثيوفيل بن معنو يعقوب البرادعي/ حسيب شحادة



 (500 -578 Jacob Baradaeus ܝܰܥܩܽܘܒ ܒܽܘܪܥܳܢܳܐ)


جامعة هلسنكي

ولد يعقوب، بعد مدّة من صلاة وصوم والديه، أبيه الكاهن ثيوفيل/ثيئوفيلوس أي ”محبّ الله“ وأمّه، للربّ ليرزقهما بولد، في قرية جاماوا، تل موزل، أي تل الفلك في قسطنطينية الصغرى في ولاية أورفا/الرها في بداية القرن السادس، وتوفّي في مصرَ في الثلاثين من تمّوز عام 578. وقد نذره والداه لخدمة الربّ. يُروى أنّه دخل المدرسة في سنّ الثالثة وبدأ باكتساب العلوم الروحيّة والأدبيّة بالسريانيّة واليونانيّة (دولباني، ص. 19). لبس النذير يعقوب الإسكيم الرهبانيّ في ريعان شبابه في دير فاسيلثا، أي دير المنحوتة/المقطع، لدى الأب مار اسطاثيئوس رئيس الدير. وقد بلغ ذاك الشاب شأوًا عظيمًا في جهاده الروحيّ، وكما ورد ”ما من أحد يضع يده على المِحراث ويلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله“ (لوقا 9: 62). ويُروى أنّ أمّه حاولت مِرارًا أن تعيده إلى البيت ليكون بجوارها وكان جواب ذاك الفتى ”كفى يا أمّاه كفى، ولا تضغطي على عواطفي لأنّني قد خطبت نفسي مرّة واحدة للعريس السماويّ الذي لا يموت، وقد غدوتُ له بكليّتي وليس لك“ (راجع متّى 10: 37). 

درس البرادعي اللاهوت في كليّة نصّيبين، ومكث فيها خمس عشرة سنة، إلى أن أصبح مطرانا. عاش البرادعي في فترة عصيبة، اشتدّ فيها الخلاف العقائديّ حول مسألة الطبيعة الواحدة ليسوع المسيح أو الطبيعتين. وكانت الكنيسة السريانيّة في خطر الاندثار من جرّاء ملاحقة الإمبراطور يوستينوس الأوّل، في بدايات القرن السادس للميلاد، وإقصائه أساقفة أرثوذكس كثيرين، واضطهاده للآخرين في سوريا الكبرى ومصر وأرمينيا. 

يذكر أنّ الاسم ”اليعاقبة“ أطلقه الخلقيدينيّون في القرن التاسع، في المجمع السابع على أتباع كنيسة أنطاكيا. نجح البرادعي في إحياء كنيسته الأرثوذكسيّة وتجديد بطريركيّة أنطاكيا. ومن المعروف أنّ الإيمان الأرثوذكسيّ كانت قد أقرّته المجامع الثلاثة الأولى -نيقية عام 325،  القسطنطينية عام 381، أفسس الأوّل عام 431. ولذلك فالبرادعي قدّيس لدى كافّة الكنائس اللاخلقيدونيّة. الخلقيدونيّون نسبة لمجمع خلقيدون الذي عُقد العام 451م. وأقرّ بوجود طبيعتين ليسوع المسيح، جسديّة وإلهيّة. إزاء ذلك، تقول العقيدة الأرثوذكسيّة بأنّه لا يجوز الاعتقاد بالاثنينيّة لأنّه قد تمّ الاتّحاد الحقيقيّ بين اللاهوت والناسوت، في مخلّصنا يسوع المسيح. وهذا لا يعني أنّ اللاهوت قد أبعد طبيعة الناسوت كما ادّعى أوطاخي، ذلك الأسقف الذي أثار مسألة طبيعة المسيح، لبث بذور التفرقة بين المسيحيّين. الكنيسة الأرثوذكسيّة تؤمن بأنّ للمسيح طبيعة واحدة، ولها خواصّ الطبيعتين اللاهوتيّة والناسوتيّة.  

اتّسمت حياة البرادعي بالورع والتقوى، الغيرة ومحبّة السلام، استشارة الآخرين، ومحبّة أبناء جلدته؛ وقدّم نفسه بكليّتها للربّ يسوع المسيح كما نوّهنا.  كرّس كلّ حياته لرأب الصدع في جسد الكنيسة في عصره، والدفاع عن أصحاب الطبيعة الواحدة . عشق السكينة والخَلْوة في قِلّايته، وغدا رمزًا لهما، وأَمّه الكثيرون من المرضى من مناطقَ شتّى. شفى المرضى وطرد الأرواح الشرّيرة والشياطين، أنزل المطر وفجّر عين ماء، فتح عيني أعمى في الرها، وأقام في الرها ميّتًا. وفي يوم تكريس كنيسة أمد سنة 576 م. شفى امرأة مشلولة، وفي العام ذاته أُصيب أهالي مدن في بلاد ما بين النهرين، مثل الرها وأمد بجنون وشفاهم. وكذلك ردّه لملك الفرس، كِسرى عن احتلال مدينة الرها الشهيرة، كما جرى لسنحاريب وطرده من أورشليم (2 مل 19 :6). هذا ما ذكره تلميذه المؤرّخ مار يوحنّا الأفسسي.

ويحكى أنّ والديه، أورثاه بيتًا وممتلكاتٍ وعبدين، فما كان منه أن أعتقهما ومنحهما البيت وما فيه والميراث.  بسلوكه هذا، عبّر البرادعي عن قناعته الراسخة، بأنّ غِنى المسيح أثمن من كلّ كنوز الأرض (أفسس 3: 8، لوقا 12: 33, 1 يو 2: 17). وقد سمّي بالبرادعي، لأنّه كان يرتدي دائمًا، ما يُشبه البردعة/البرذعة المهترئة، متنقّلًا سيرًا على الأقدام في كلّ أرجاء الإمبراطوريّة البيزنطيّة، وكان يقطع بين الثمانية والأربعين كمًا  والستّين كمًا في اليوم؛ ولقّب بظبي من ظباء الصحراء (اُنظر 2 صم 2: 18) . وهو كان يردّد: ”خير للنفس أن تزدان  بسيرة الفضيلة من أن تخال تيهًا وصلفًا بما يجتذبها إلى الهلاك “. جولاته وتنقّلاته هذه، قد تذكّر القارىء برحلات الرسول بولس، والمطّلع على تاريخ السامريّين، بالزعيم والمصلح بابا ربّا، الباب الكبير، في القرن الثالث للميلاد؛ وهو يشبه القدّيس مارون في الكنيسة المارونيّة وغريغوريوس المنوَّر في الكنيسة الأرمنيّة، أو لقب البابويّة على كنيسة روما. ترقّى بعد أن رُسم قسّيسًا فأصبح رئيس ديره، وفي العام 543 رسم مطرانًا على بلاد الشام وغيرها، بطلب ملك العرب آونتها، الحارث بن جبلة الغسّاني، وأمْر الملكة السريانيّة ثيودورة، ابنة قسّيس منبج، وزوجة الإمبراطور اليونانيّ يوستنيان الأوّل ملك المشرق 527-565. تجوّل في بلدان كثيرة خادمًا الكنيسة الأرثوذكسيّة، وخلّص مؤمنين كُثر من الظلم الفارسيّ والبيزنطيّ. توطّدت العلاقة بين البرادعي والحارث. ومن إنجازات يعقوب الكثيرة التي ذُكرت في سيرته الذاتيّة (لا ريب بوجود مبالغة فيها) رسمه مائة ألف وألفين وسبعة وعشرين قِسّيسًا وعشرين أُسقفًا وبطريركيْن. لاحظ أنّ البرادعي لم يعتلِ الكرسيّ البطريركيّ، إّلا أنّه رسم بطريركيْن. نجاحاته هذه ألّبت عليه الكثيرين من أساقفة وحتّى الملك يوستينيان نفسه، فوعد بمنح ثلاثمائة دينار لمن يُلقي القبض عليه، إلّا أنّ العناية الإلهيّة حالت دون ذلك. في سنة 622 م. في زمن مار زكا، أسقف تلا، أُعيد رُفات/رُفاة البرادعي من دير قسيون بمصر إلى دير فسيلثا في الهيكل الذي بناه البرادعي.

لا عجبَ في أنّ هذا القدّيس، الذي كان شعلة من النشاط والعمل ليلَ نهار، من أجل كنيسته لم يجد وقتًا كافيًا للتأليف. من آثاره القلميّة، مع ذلك، يمكن الإشارة إلى: نافورا (كتاب قُدّاس) نشر رينودوت ترجمتها اللاتينيّة؛  ليتورجيا أوّلها: اللهم يا أبا السلام الكليّ القداسة؛ رسائل عامّة لرجال الدين ولآخرين كتبها باليونانيّة وترجمت للسريانيّة؛ رسائل تحذير لمن سقط في بدعة تثليث الآلهة؛ اشتراكه في وضع أربع وأربعين فتوى؛ ترتيلة لعيد البِشارة؛ ويُنسب إليه تفسير للعقيدة وصلنا بنصّه العربي وترجمته الحبشيّة. 

ويُروى أنّ البرادعي سافر إلى الإسكندريّة  إلى دير رومانوس الكبير/قسيان ثانية، برفقة ثمانية أساقفة وكاتبه بغية الحفاظ على سلامة الكنيسة ووحدة الصفّ، وممّا قاله هناك ”صلوا أيّها الإخوة فقد اعلن لى الرب انى سأنتقل من الحياة الزمنية“ (چورج، القس آثناسيوس، ص. 30). بعد ذلك بثلاثة أيّام أسلم القدّيس البرادعي روحه لله. وقد وصفه البابا دميان السكندري، الخامس والثلاثون، بهذه الكلمات: ”صاحب الاسم العذب والمأثر الطيّب، القديس يعقوب، تاج الكهنة وإكليل الزهد والفضيلة وناذر البتولية منذ حداثته وأساس المؤمنين وحصن الكنيسة الجامعة“ (ن .م. ص. 31). 

الجدير بالذكر، أنّ اضطهاد الحكم البيزنطيّ لكنيسة السريان، قدِ انتهى في بدايات النصف الأوّل من القرن السابع بواسطة العرب. وتضمّ الكنيسة السريانيّة المشرقيّة اليوم ثمانيًا وعشرين أبرشيّة، ويرأس كلًّا منها مطران وأشهر الأديرة: مار مرقس في القدس (العليّة التي تناول يسوع الفصح فيها مع تلاميذه)؛ مار متّى بالقرب من الموصل؛ مار چبرئيل في طور عبدين بتركيا؛ مار حننيا/الزعفران في تركيا؛ مار أفرام السريانيّ في صيدنايا؛ مار يعقوب البرادعي في العطشانة/لبنان؛ مار يعقوب السروجي في ألمانيا. 


مصادر مختارة


دولباني، يوحنا (1942). المثال الربّاني في ترجمة وأخبار القدّيس ماري يعقوب البرادعي. بوينس ايرس: النادي الافرامي السرياني (70 ص. و 8 صفحات بالإسبانيّة).

القدّيس يعقوب البرادعي من أساقفة أنطاكية الذي سام مائة ألف أسقف وكاهن وشمّاس (1994). إصدار أبناء البابا كيرلس السادس. القاهرة: مدينة النصر (38 ص.). 

يعقوب الثالث، اغناطيوس (1978). المجاهد الرسولي الأكبر مار يعقوب البرادعي. دمشق: مطابع ألف باء-الأديب.

چورج، القس أثناسيوس فهمي (1999). يعقوب البرادعي، من الآباء السريان. دبلن: مطبعة كونكورد (35 ص.).


إطلالة على "سكاكين جاهزة وبالخدمة"/ زياد جيوسي


    من عنوان المجموعة القصصية "سكاكين جاهزة وبالخدمة" تشدنا الكاتبة د. مرام أبو النادي لمجموعتها القصصية، فهو عنوان ملفت للنظر ومثير للتساؤل وخاصة لمن يعرف الكاتبة وهدوئها ورقتها، وفي نفس الوقت يدفع القارئ للبحث عن ماهية هذه السكاكين وخاصة أنها وعلى الغلاف الأخير وتحت صورتها تورد العبارة التالية: "في الحياة أرواح تحفك بالود أشواكا وتفرش لك أزاهير المكر بابتسامة لا تتجلى الا في لحظات خلواتك في غيابهم سكاكين تحز، فحذار من دمك المسفوح على تربة طيبة"، فهل  هي السكاكين المقصودة بالعنوان أم أن هناك سكاكين أخرى داخل النصوص؟ والمجموعة القصصية من اصدار جفرا ناشرون وموزعون مع لوحة غلاف يتناثر الألم في مساحاتها وصورة بالأسود والأبيض قبل كل قصة، والمجموعة من 108 صفحات من القطع الصغير وصدرت هذا العام 2022م مكونة من ثلاثة وعشرين نصا. 

    القصة فن سردي عرفه العرب تاريخيا من خلال الحكايات التي كانت تعتمد السرد القصصي الطويل، ومن يقرأ في تاريخ الأدب العربي يجد أمثلة على ظهور القصة في الأدب العربي ومنها قصص تحدثت عن قصة حب الشاعر عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة الملقب بالمرقش الأكبر مع أسماء بنت عوف ابنة عمه، وقصة زنوبيا والمعروفة بالزباء ملكة تدمر، وقصص وردت في كتاب سراج الملوك لمؤلفه أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف والمعروف بلقب الطرطوشي نسبة لمدينة طرطوشة الأندلسية التي شهدت مولده، وكذلك بعض ما ورد في كتاب التبر المسبوك لأبو حامد الغزالي وكذلك تميز أبو جعفر أحمد بن يوسف والمعروف بإسم ابن الداية بمؤلفه "المكافئة" من إحدى وسبعين قصة. 

   وليس بالامكان تحديد جذور الحكاية والقصة وأين بدأت فهي من تراث لكل الشعوب، وإن تطورت الى شكلها الحالي في مرحلة متقاربة بين أوروبا وبين البلاد العربية، فالقصة كما الحكايات التراثية تقوم على الحدث وخيال الكاتب والواقع المعاش، ورغم ما تعرضت له القصة من هجران حتى أن البعض اعتبر أن القصة ماتت وحلت الرواية مكانها، إلا أني أرى أن القصة كانت وستبقى الأصل في السرد ومن رأيي ورأي العديد من النقاد أن التعامل النقدي مع المجموعات القصصية أصعب بكثير من الرواية ويمثل أزمة بحثية لدى الناقد ولدى القارئ، فالبحث في مجموعة قصصية عن عوامل الترابط بينها وما في ذهن القاص واختلاف الأحداث فيها والأزمنة والأمكنة ليس بالأمر السهل، بينما الرواية تروي حدث بفكرة واضحة يلعب بها خيال الكاتب دوره من خلال شخصية الراوي وهي الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية، وتسلسل الأحداث في مكان وزمان واضحين بعكس المجموعات القصصية ذات التنوع والفضاءات والأمكنة والأزمنة والتأثيرات النفسية على الكاتب خلال فترة كتابة القصص، وهذه المقدمة كان لا بد منها بعد قرائتي الثانية للمجموعة والبحث في المحاور التي رأيت أنها تدور حولها. 


المحور الأول: معاناة المرأة.. 

 نلاحظ ومنذ القصة الأولى أن المحور الأول في مجموعة د. مرام القصصية هو معاناة المرأة في حياتها، وهذا يتجلى بوضوح في قصتها الأولى "حقائب الخذلان" حيث المرأة كانت بالنسبة لزوجها مصدر مالي من خلال عملها، وحين أنجبت طفلين وتفرغت لتربيتهم وفقد زوجها المصدر المالي طلقها وذهب ليبحث عن امرأة أخرى تكون له مصدر مالي، بينما في قصة "خفيف الظل" نجد الزوجة تعاني من شخصية زوجها المرح خارج بيته وخاصة مع النساء مما يثير غيظ الرجال منه، بينما في بيته ينقلب الى العكس فيهمل زوجته وأسرته ونجد ذلك في خاتمة القصة بقول القاصة: "سألته إن كان يرغب بتناول العشاء.. لم يرد عليها.. كررت عليه السؤال.. صرخ في وجهها كعادته بأن كل ما يحتاجه الهدوء.. الهدوء فقط وإغلاق فمها والذهاب للنوم". 

   بينما في قصة "ملكة بالريموت كونترول" نجدها تشير لمدى سطوة الذكر على المرأة في مجتمعاتنا يرفعها متى شاء ويحطمها متى شاء حين يقول لها "أنت عبدة من عبيدي"، ومما يلفت النظر استخدام كلمات أجنبية للعنوان "Remote control" بينما هو في العربية "جهاز تحكم" وهو الأجدر أن يكون العنوان، ونجد نفس السطوة الذكورية بقصة "مقص فضي" من الزوج على زوجته التي يهديها مقص بدلا من أن يأخذها الى "الصالون" لتقص شعرها عندها بعد طول اهمال فهو يعمل مزين ولديه محل لعمله يمارس مهنته فيه وأيضا هنا كان استخدام كلمة "كوافير" للمهنة بدلا من مزين بالعربية وهي كلمة فرنسية  coiffures"، بينما في قصة" فنجان القهوة" والتي أخذت شكل ومضة طويلة نسبيا نرى كيف تبدأ علاقة اثنين مع اثنتين على فنجان قهوة، الأولى تنتهي بالاستغلال والثانية بالفراق، وتشير لمعاناة سلوى في قصة "يوم الحب" مع زوجها الذي يرفض أن يقدم لها وردة ولكنها تتفاجأ حين تراه من بعيد يقدم الشيكولاتة والورود لفتاة عشرينية بمطعم وهي كانت ذاهبة لتفاجئه بأنها حامل. 


المحور الثاني: المشكلات النفسية.. 

   وهذه المشكلات النفسية لدى المرأة مستمدة فعليا من فهم دقيق لنفسية المرأة، فلا نجد الا نادرا نساء لا يعانين من بعض هذه المشكلات النفسية وفي قصة "لو كنت قصيرة" استخدمت القاصة حالة من هذه الحالات لفتاة تتمنى لو أنها كانت قصيرة الطول فهي ترى أن "القصيرات أكثر طفولة ومرحا وكأنهن خلقن الآن" بينما وكما ورد في القصة "لم تكن تعرف أن القصيرات كن يرمقن مجيئها بعيون حاسدة"ويتمنين لو أنهن يمتلكن طولها، وفعليا بالكاد نجد فتاة معجبة بإسمها أو بشكلها أو بملامح جسدها أو غير ذلك، بينما في قصتها "خبز بمذاق لحم بشري" نراها تورد أنموذج لإمرأة تقوم بشراء الخبز للمحتاجين ولكن في نفس اللحظة تبدأ بالنميمة والاستغابة.        

  في قصة "المناصب تحتم" نرى كيف كانت الرغبة النفسية بالحصول على المال تجعل المرأة أن تقبل بالعيش عشيقة  لمسؤول في الخفاء وفي عالم الظلام، بينما في قصة شجرة التين تحدثت عن مشكلة الزوجة وكراهيتها لأخت زوجها، بينما في قصة "يوم عادي وممل" أوردت ثلاثة نماذج لنساء الأولى تريد الزوج الثري وتتخلى عن حبيبها والثانية لا تهتم الا بعمليات التجميل وقصات الشعر والثالثة التي ترى أن كل أيامها عادية ومملة بدون صخب وأحداث ومغامرات، ونرى في قصة "عاملة المسبح" كيف أن النساء "أتين إلى المسبح من كل فج عميق.. ولكل واحدة مأربها.. إلا أن السباحة بحد ذاتها لم تكن من تلك المآرب"، وفي نفس الوقت "يرمقن بعضهن بنظرات الغيرة أو التعالي.. وفي الحديث يجاملن بعضهن بلسان مغموس بالعسل.. والسم يسكن أجوافهن".  


المحور الثالث: المشكلات الإجتماعية: 

   وفي هذا المحور انتقلت الكاتبة إلى بعض من المشكلات الاجتماعية المنتشرة في مجتمعاتنا بشكل واضح وملموس، ففي قصتها "الحذاء ذو الرباط الزهري" تستخدم شخصية ذكر بميول شاذة يتهامس عنها الجميع، ولكنهم يمارسون النفاق له كمسؤول بعد أن دعاهم على الغداء وللمتعة في مزرعته فنرى أن "الجميع بات يقسم بأن لا أحداً سيمثلهم خير تمثيل سواه"، بينما في قصة "مروحة بالسقف" نجد الكاتبة انتقلت لمشكلة الفقر والبطالة وكيف أن زيادة سرعة المروحة أسقطت السقف على الفقير فمات، بينما في قصتها "أنتم السابقون وأنتم اللاحقون" تحدثت عن مشكلة اجتماعية ملموسة وهي المشاركة من الأصدقاء بدفن الميت وقبل مغادرة المقبرة يرتبون أين تكون سهرتهم، وإن كان هناك خطأ فني بطباعة القصة مرتين في نفس الصفحة، وعالجت مشكلة اجتماعية أخرى في قصة "الكبرياء الضال" وهي مشكلة التكبر والعنجهية من بعض الأشخاص وسلوكهم السيء مع الغير. 

  بينما في قصة "طيور تغرد فزعا" استخدمت شخصية الطفلة ياسمين المؤدبة والتي أحسنت أمها تربيتها سلوكا وخلقا، والتي تشاهد وتعاني من اساءات الزميلات في المدرسة لها ولغيرها وهذه من مشكلات الأطفال في المدارس حتى انهاء الثانوية، وفي قصتها "طبيب بعقد نفسية" تناولت كيفية تصرف بعض الأطباء مع المراجعين وردة فعل المراجع للطبيب، أما في قصتها "سكاكين جاهزة وبالخدمة" والتي أعطت المجموعة أسمها فقد بحثت في مشكلة اجتماعية تتلخص كيف كانت تصرفات الأصدقاء وتخليهم عن مأمون الذي لم يقصر مع الأصدقاء حين كان بصحة وعافية، فأصبحوا كما السكاكين حين احتاجهم بعد أن أصبح مقعدا بسبب وقوعه وإصابته بالشلل، وهذه القصة ذكرتني بالمثل التراثي: "حين يقع الجمل تكثر السكاكين"، ونلاحظ أيضا استخدام كلمة "برواز" في نهاية القصة وهي كلمة فارسية وكان الأجدر استخدام كلمة "إطار" العربية، بينما في قصتها "اللص الشريف" كانت تقدم مجموعة من الوصايا لمواجهة النكسات والخيبات حتى يراها القارئ "كحذاء مهترئ.. لا أكثر"، وفي قصة "الراقصة عفيفة" نرى كيف أن الفقر أخرجها من طفولتها من المدرسة لتقف إلى جانب والدها الفقير المقعد لتبيع الفجل والنعناع على بسطة في الشارع، وبعد وفاة والدها لا تجد مصدر رزق سوى أن تصبح راقصة في نادٍ ليلي، وهنا نلاحظ اختيار الكاتبة لإسم الراقصة بشكل معبر، بينما في قصة جهاد نرى أنموذج لمزينة في "صالون" نسائي تبدع بتزيين العرائس ولكنها "تجاهد لتكون عروسا بعد ثلاث زيجات فاشلة"، وفي آخر قصة بالكتاب وتحمل عنوان "ستكون مجنونا جدا" نراها تقول في بداية القصة "ستكون مجنونا جدا إن ظننت أنك ستعيش في عالم يخلو من النفاق والغدر" لتشرح الفكرة من خلال قصة يونس الريفي وما يتعرض له بالمدينة. 

   وهكذا نرى أن الكاتبة وهي دكتورة نقد في جامعة البتراء في العاصمة الأردنية قد امتلكت قدرة جيدة في استخدام القصة من أجل البحث في مشكلات موجودة في المجتمع وفي حياتنا الواقعية بأسلوب سلس ولغة غير معقدة مع التكثيف اللغوي وإيصال الفكرة للقارئ بسلاسة، فأسلوبها بالكتابة يفتح الآفاق للقارئ لفهم مجموعتها القصصية، وأعتقد أن طبيعة عملها ودراستها كان لها تأثير قوي لفهم القصة القصيرة وأساليبها، فتجنبت الكثير من المطبات التي يقع بها غيرها، وقد مازجت الكاتبة أسلوبي القصة الأشهر في عالم القصة المعاصر بعد منتصف القرن التاسع عشر، وهما القصة التي تعتمد على الحبكة القصصية المعتمدة على المقدمة فالذروة فالخاتمة، وبين الأسلوب الثاني الذي ينبذ الحبكة والذي ينسب إلى الكاتب أنطوان تشيخوف 1860-1904 م والذي يوصف بأنه أعظم كاتب قصة وأنه من أحدث ثورة في أسلوب القصة التقليدي، وبالتأكيد أن هذه القراءة النقدية لا يمكن بالتأكيد أن تحيط بكل تفاصيل القصص في الكتاب، وإن كان يمكن أن تعطي إشارات لمن يقرأ الكتاب أن يرى ما أرادته الكاتبة من أهداف في مرحلة بدأ السرد القصصي ينحى نحو التغير والتقليص وإعادة التشكل والرمزية المغرقة. 

مع بدر شاكر السياب في ذكرى الحياة والموت/ فراس حج محمد



يعرف الشاعر في كثير من الأحيان بقصيدة واحدة تصبح علامة دالة عليه، أو ديواناً على أحسن تقدير، فيشيع ذلك بين جمهور القراء، فينسى شعره كله ولا يستعاد إلا في مناسبات البحث والتنقيب عن تلك الجوانب المخفية في الشعر لدراستها، طلباً للجدة والابتعاد عن التكرار. وليس بعيدا عن ذلك الشاعر بدر شاكر السياب الذي يصادف في ديسمبر هذا العام (2021) الذكرى السابعة والخميس لرحيله المبكّر، رحمه الله، حيث رحل شابّا عن عمر ثمانية وثلاثين عاماً، ولعلها مجرد صدفة قدر أن يتقارب يوم مولده في 25 ديسمبر 1926 مع يوم وفاته في 24 ديسمبر 1964، ليكون الاحتفاء بذكرى الرحيل هو استذكار لازم ليوم الميلاد؛ فالذكرى السابعة والخمسين للرحيل هي ذاتها الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده.

لقد عرف السياب أكثر ما عرف بقصيدة "أنشودة المطر"، وجاءت في ديوانٍ، له العنوان ذاته، فنسي القراء الديوان، وعرفوا القصيدة وأشاروا إليها وأشادوا بها، واقتبسوا مقدمتها وتناصّ معها الشعراء، وذكرها أصدقاء الشاعر في أحاديثهم وذكرياتهم معه وعن القصيدة، ومنهم على سبيل المناسبة الشاعرة العراقية "لميعة عباس عمارة" التي جمعتهما علاقة حب فيما يظهر من كتابات النقاد والدارسين وتلميح الشاعرة ذاتها، فقد صرحت في أحد لقاءاتها المتلفزة أن السياب قد أطلعها على قصيدة "أنشودة المطر" قبل أن تنشر، بحكم أنه كان يطلعها على جديده أولا بأول. إذاً، ربما يصح أن نقول إن "أنشودة المطر" قد أكلت شعر الشاعر واختزلته، كما اختُزل غيره بقصائد منفردة. 

خلّف الشاعر بدر شاكر السياب مجموعة من الديواوين طبعت تحت عنوان "ديوان بدر شاكر السياب- الأعمال الشعرية الكاملة"، ويضم أحد عشر ديواناً، ومجموعة قصائد أخرى لم تنشر في تلك الدواوين، وقد قام على هذا الجهد الباحث سمير إبراهيم بسيوني، وصدر في القاهرة عن مكتبة جزيرة الورد عام 2009 في (750) صفحة يضمّها مجلد واحد من جزأين من القطع الكبير بغلاف مقوّى.

تشير هذه المجموعة إلى أن الشاعر غزير الإنتاج؛ فقد كتب الشعر وهو ابن عشرين عاماً كما تشير "قصائد البواكير"، وما بين عامي 1941 وحتى 1964، أنتج في هذه السنوات الثلاث والعشرين عشرات القصائد وولدت فيها آلاف الأفكار والصور الشعرية، وعلى هامشها اشتعلت معارك التجديد في الشكل والمضمون. لقد كان شاعرا استثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

في هذه الاستعادة الخاصة لأبي غيلان في ذكرى الحياة والموت لفتت انتباهي قصيدة "وغداً سألقاها"، وهي قصيدة قصيرة، لكنها تفتح الأفق على كثير من الحديث النصيّ في القصيدة ذاتها، وعلى ما تحيل إليه، وما تربط به من موضوع متشعب ومختلف، وما تومئ إليه في علاقته مع الآخرين، وخاصة تلك المرأة صاحب الضمير الغائب في النص. يقول السياب في القصيدة:

وغداً سألقاها،

سأشدّها شدّاً فتهمس بي

"رحماك" ثم تقول عيناها:

"مزّق نهودي ضمّ- أوّاها-

ردفي.. واطو برعشة اللهبِ

ظهري، كأن جزيرة العربِ

تسري عليه بطيب ريّاها"

ويموج تحت يدي و يرتجفُ

بين التمنع و الرضا ردفُ

وتشبّ عند مفارق الشَّعَرِ

نار تدغدها: هو السعفُ

من قريتي رعشت لدى النهرِ

خوصاته؛ وتلين لا تدري

أيّان تنقذفُ.

ويهيم ثغري و هو منخطفُ

أعمى تلمّس دربه، يقفُ

و يجسّ: نهداها

يتراعشان، جوانب الظهرِ

تصطكُّ، سوف تبلّ بالقطرِ؛

سأذوب فيها حين ألقاها!

هكذا وردت القصيدة في المجموعة الشعرية الكاملة، وتحتل الصفحة (644) من المجموعة، ومؤرّخة ومؤمكنة في "لندن 27/2/1963"، وجاءت في الديوان العاشر "شانشيل ابنة الجلبي" (1964-1965)، وبذلك تكون القصيدة من شعر السياب المتأخر، وهي قصيدة شعر حرّ، لم تحفل بالرموز ولا بالأساطير كعادة السياب، بل جاءت قصيدة سلسة سهلة واضحة، قائمة على المشهدية الموقفية التي يحكمها التمني والفعل في المستقبل. فالقصيدة لا تتحدث عمّا تمّ فعله، وإنما عمّا سيتم فعله في الغد، وهو يوم اللقاء، إذاً، فالقصيدة بنت الأحلام والتمنيات في فكرتها وليست بنت الواقع المعيش والتجربة الحية. فقد كتبها وهو مريض، ولم يكن في كامل صحته. فما الذي يجعل الشاعر يقول مثل هذا النص في ظرف عصيب صحي مرضي مثل هذا الظرف؟

بدت صورة الشاعر في القصيدة صورة الشاب الممتلئ صحة وقوة وعنفواناً وذا قدرة جنسية مجنونة، فقد رسم صورة مشهدية متصورا للقائه بتلك المحبوبة حيث الاتصال الكامل بين حبيبين ينعمان بكل المتع الجسدية المتمناة بين رجل وامرأة. إذ تميل القصيدة في لغتها إلى العنف الجنسي، وليس إلى الرقة والعذوبة والرومانسية الهادئة، ففيها كثير من الثورة والصخب الجنسي اللافت للانتباه بما قد يذكر ببعض مشاهد من روايات الماركيز دوساد أو مشاهد جورج باتاي فيما كتبه من شعر أيروتكي في "القدسي وقصائد أخرى"، أو بعض مشاهد قصصه في "حكاية العين". 

لا أظن أن السياب كان في هذه القصيدة القصيرة متأثرا بأيّ من هذين الكاتبين (دوساد وباتاي)، وإنما هي نزعة فطرية غريزية أحسّ بها فجسدها في هذا النص، متعالياً على مرضه، ومتحدياً ما يمرّ فيه من ألم وتوجع على صحته، فأراد أن يقهر تلك اللحظة بلحظة مشتهاة يفصلها في أحلامه وتمنياته. ولكن هل كان مرضه بالفعل عائقاً أمام إمكانية الاتصال الجنسي مع النساء؟ جاء في وصف مرضه في موقع "الويكيبيديا": "وفي سنة 1961 بدأت صحة السياب بالتدهور حيث بدأ يشعر بثقل في الحركة، وأخذ الألم يزداد في أسفل ظهره، ثم ظهرت بعد ذلك حالة الضمور في جسده وقدميه". إن دراسة النص على هَدْيٍ من حالة الشاعر الصحية أمر ضروري للغاية.

يتحدث في النص صوتان (الشاعر والمرأة صاحبة اللقاء)، وتميل القصيدة في بنيتها إلى التقنيات السردية، وجملها في أغلبها جمل نثرية لا صور بلاغية جزئية فيها، وإنما اكتسبت شعريتها من كليتها القائمة على التصوير المشهدي لذلك اللقاء المرتقب الذي تخلله عدة مشاهد تصويرية تصوريّة.

تبدأ القصيدة بتحديد موعد اللقاء، وكيف سيكون اللقاء، إذ سيكون عنيفاً، وسيشدّها شداً، صورة أولية، لا تحمل سوى الشبق والعجلة، وكأن الشاعر سيلقاها في بار. وستكون من بنات الهوى المتعجلات، هو يريد منها متعتها الحاضرة، وهي جاهزة، وجاء مستعداً، فتناولها أول أن أرأها. هكذا يقول المشهد المتصور. إنها أحلام الشاعر في اليقظة، يتخيل كيف سيكون لقاؤه، إنه سيعد له، ويرسم له سيناريوهات. لا يترك اللحظة تصنع نفسها بعفويتها إنما يريد أن يرسمها مسبقا، فيتجاوز عن كثير من المقدمات. 

هل لهذا التصور الشبقيّ المسبق علاقة بحالة الشاعر ومرضه. ربّما حمل المشهد شيئاً من ذلك، فما زال قادرا على أن يكون "فحلاً" مع نساء "لندن" على الرغم من حالته التي سبق ووضحتها أعلاه، أم أنها مجرد أمنيات لا تحمل أي واقع ولا تشير إليه، فالقصيدة تعتاش على أفعال مضارعة مُسوّفة مستقبلية، وخاتمتها تحمل ملمحا من العجز يكاد يشعر به القارئ في قوله "حين ألقاها". إنها جملة تحيل النص إلى رثائية مستكينة في النص يداريها الشاعر بهذه اللغة الصاخبة الصارخة.

إن بين السياب ومحمود درويش فارقا كبيراً في رسم هذه اللحظة، درويش الذي كان حريصا على الهدوء والرومانسية المبالغ فيها، وغير الواقعية، إلا لشخص قد يوصف أنه "عنّين" أو يعاني من الارتباك في لقاءات النساء. فدرويش في قصيدة "درس من كاموسطرا" يوصي العاشقيْنِ بالانتظار إذا ما جن الليل عليهما، وأصبحا غارقين في هدأة الليل وجمال لحظته:

إلى أَن يقولَ لَكَ الليلُ: 

لم يَبْقَ غير كُما في الوجودِ 

فخُذْها، بِرِفْقٍ إلى موتك المُشْتَهى 

وانتظرها

أما السياب فلم ينتظر؛ فثمة فارق بين عاشقٍ حقيقيّ وطالب متعة متعجل أو طالب متعة متمنٍّ، لعلّ موقف السيّاب هذا أشبه بموقف عمر بن أبي ربيعة طَلّاب المتعة العابرة مع النساء، ففي مقطوعة قصيرة يقع ابن أبي ربيعة في المشهدية ذاتها، إذ يقول:

قالت وعيش أبي وحرمة إخوتي       لأنبهنّ الحي إن لم تخرجِ

فخرجت خيفة قولها فتبسمت       فعلمت أن يمينها لم تحرجِ

فلثمت فاها آخذا بقرونها              شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

يتشابه المشهدان، مشهد بداية قصيدة السياب والبيت الثالث عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة، في أنه لا انتظار، ولا طقوس، وإنما متعة عابرة، إضافة إلى الناحية السرد قصصية لدى الشاعرين والصورة القائمة على التخيّل.

هذا المشهد الافتتاحي عند السياب لم يطلْ كثيراً، فتنتقل القصيدة إلى صوت المرأة، صاحبة اللقاء، عدا أن الشاعر السياب منحها صوتا للحديث، فإن القصيدة ترسم صورة شبقة لتلك المرأة، وجاءت هذه الشبقية متسقة مع المقدمة المغلّفة بالعنف منذ البداية، شبقية مفضوحة واضحة في العينين ولغتها، فما طلبها للرحمة من الشاعر ما هو إلا محض مراوغة أنثوية؛ تمهيديا لإعلان الصخب والعنف الجنسي الذي طالبته فيه، من "تمزيق نهودها، وطيّ ظهرها، وضم ردفيها"، إنها صورة مهدت للشاعر أن يكمل الفعل التخيلي الجنسيّ فيما يأتي من سطور شعرية، وصولا إلى الكناية اللطيفة بانتهاء المشهد بقوله: "وتلين لا تدري أيّان تنقذفُ". 

وهنا يغلق الشاعر النص بعلامة الترقيم النقطة، هذه العلامة التي توحي بانتهاء المشهد الكليّ للقاء من الوصل صاخبٍ، مع أنّ الشاعر جعل خلفيّة هذا المشهد طبيعيّة، حيث النهر والقرية وأجواؤهما. هذه القرية "جيكور" التي لم تفارق شعر الشاعر وظلت تتردد في أشعاره، حتى وهو في آخر البقاع، بُعدا عنها، إلا أنها هي الحاضرة دوما في وجدانه ولب لباب أشعاره.

تتحول القصيدة بعد ذلك إلى الإيقاع الهادئ، وهي ترسم مشهد ما بعد "القذف"، بعد انتهاء الالتحام المتخيّل بينهما، في هذا الجزء من النص، أو هذا "التخيل الاستباقي"، سيلتفت إلى أفعال أخرى أقل صخباً ودرامتيكية؛ فيهيم ثغره وينخطف، ويجسّ نهديها بلطف وهما يتراعشان، وصولا إلى قوله "سأذوب فيها حين ألقاها". 

هذه الجملة- إذا ما تم غض الطرف عن تفسيرها النفسي السابق- منحت النص بعدا روحيا، ورفعت شعرية القصيدة في خاتمتها، بعيدا عن الشبق العابر الذي أوهم به الشاعر قراءه في البداية، فكأنه يعيد إلى أذهان القارئ كثيرا من المقولات الفلسفية حول علاقة الجسد والجنس بالروح والمتعة الروحية المتأتية من العلاقة الجسدية الكاملة، فالجسد حامل للروح، بل هو وعاء للنفس، ولن تولَج الروح إلا من بوابة الجسد.

إن العاشقين جميعا، بل الرجال كلهم، والنساء كذلك، لا بد من أن يكون الجسد حاضرا في العلاقة المركبة المربكة بينهم، ويجب ألا تتحول إلى "شيء" أو "موضوع" مسكوت عنه أو "تابو" محظور الاقتراب منه،  ولذلك فإنني أرى أن ما أعلن عنه الفنان اللبناني مارسيل خليفة عام 2019 في إحدى حلقات برنامج "بيت ياسين" أن هذه القصيدة سيلحنها ويغنيها من بين مجموعة أعمال أخرى- لغير السياب- تحتفي بالجسد، لهو أمر في غاية الجمال والأهمية، ولعل أجمل ما يهدى شاعر في ذكراه أن نحيي شعره ونحيّيه بهذه الالتفاتة الفنية التي يتضافر فيها الشعر مع الموسيقى، تحقيقاً عملياً لمقولة "الشاعر لا يموت برحيل جسده"، إنما هو باق ما دام هناك قراء وفنانون يستعيدون شعره، قراءة وبحثاً وألحاناً.

إنّ في دراستي لهذه القصيدة محاولة للإضاءة على جانب مخفيّ من شعر كثير من الشعراء، ويتحاشى كثيرون الحديث فيه، وأعني بذلك الشعر الأيروسي أو الشعر الحامل لإيحاءات جنسية، إنني معنيّ- على نحو خاص- برصد هذا الجانب لدى كثير من الشعراء، وخصصت له فصلا كاملا في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية". 

هذا أمر، والأمر الآخر الذي يدفعني إلى قراءة السياب واستعادته بقصيدة "هامشية" ذات إيحاء جنسي وغير مصنفة على أنها من عيون أشعاره أن بعض أشعار السياب تدرس للطلاب في المدارس في مناهج اللغة العربية، وبلا شكّ فيه فإن المعلمين والنظام التربوي برمته لن يضيء هذا الجانب في حياة الشعراء وأشعارهم، ولن يدفع الطلاب إلى البحث فيها، ولذا ستظل مخفية، ولن يتعرفوا إلا على "أنشودة المطر" و"غريب على الخليج" و"هل كان حبّا؟"، كما حاصل عندنا في فلسطين، حيث تدرس هذه القصائد للطلاب؛ ما يعني تقديم صورة منقوصة ومشوّهة للشعراء.

على الرغم من أنه لن يجرؤ أحد على تجريم السياب، كما لم يجرؤوا على تجريم نزار قباني أو محمود درويش اللذين يُدرّس شيء من شعرهم أيضاً في مدارسنا. ولكنهم بكل وقاحة وصلافة وقلة أدب يجرمون ويشيطنون شاعراً معاصراً يعيش بينهم، منتمياً إلى المنظومة التربوية ذاتها؛ لأنه قال مثلما قال هؤلاء الشعراء أو أقلّ. لكنّ هؤلاء الشعراء في نظر المسؤولين مبدعون، وهو عاهر ونسونجي وقليل أدب.

لذلك كله- أخلاقيا وجماليا وفكريا- لا بد من استعادة بدر شاكر السياب في هذا النوع من الشعر ومحمود درويش ونزار قباني، كما يجب استعادة كل شعر عربي يحمل هذا الموضوع من امرئ القيس إلى عمرو بن كلثوم إلى أبي نواس والاحتفاء بشعر الشاعرات أمثال ولادة بنت المستكفي ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجية، وكل شعر خارجيّ النزعة يحتفي بالجسد، وخارج عن المألوف، ولا بد من كسر هذا "التابو"، والانفلات من هذه الحلقة التي وضعَنا في سياقها الجهلة والمزيّفون، وأوجدت عند طلابنا نوعا من الاغتراب عن حقيقة الشعر والشعراء، وحقيقة النفس الإنسانية التي لن تشعر بالأمان إلا وهي تحقق حاجتيها: الحسية والروحية، بل يجب أن يفهم "التربويون المتكلسون" أن الجسد وإشباعه ليس خطيئة، وأن الكتابة النقدية فيه وتدريس أدبه؛ شعرا ونثراً ليس جرماً، وأن كتابته، خلقا إبداعيّاً، كذلك ليس جريمة مطلقاً، ولا يستحق عليها "الشاعر الموظف" تهديده بعقوبات الفصل من الوظيفة أو التشهير به، ومحاصرته ونبذه والتنمر عليه على صفحات "الفيسبوك"، وفي الرسائل البينية في "الواتساب". 

إنها محاولة لكسر دائرة الصمت المطبق؛ لعلّ بعض الضوء ينفذ إلى هذا الجدار، فيخلخل حجارته وأساساته، ويحلحل تلك العقول السابحة في محيطات من الظلام، وهي تحسب أنها من دعاة التنوير والحداثة والمعاصرة. أو ربما أنها تحسب أنها تحسن صنعاً.