القبائل العربية أبناء بغايا إلاّ الهواشم/ زِياد مُحَمّد السَبعَاوِي الحُسينِي

 


هَالَني ما أسمَع وأنا أتابِعُ حَديث د. علي نشمي وَوَصفِه للقبائل العربية بأنها كانت تُتَاجِر بأجسادِ نسائها وتَتَكسبُ مِنَ العُهر لا سيما في موسِم الحَج وكتحصيلِ حاصِل يكونُ العَربُ أبناء عواهرٍ إختلطت أنسابُهُم كما إختلط ماء الرجال بفروج نساءِ العرب ؛ ثُمَّ إستَشهَد بمقالة لــــ أسامة أنور عُكاشة في جريدة الإهرام بعنوان " أبناءُ البَغَايا أصبحوا قادة الإسِلام " ولئلا يُقال بأني قد تَقولتُ على د. علي سأنقل ما قاله بالنص وإليكم  : 

( كُل القبائل العربية كانت بإستثناء الهواشِم يسمونهم أهل عِفَّة ، إلا بني هاشم كانوا ما يدزون نسوانهم للبِغاء والباقي كلهم جانوا يدزون نسوانهم كُل ؛ لذلك في مرة أسامة أنور عُكاشة رحمه الله هذا الرجُل صاحب مسلسلات كثيرة من ضمنها يعني كثيرة معروفة ليالي الحلمية وغيرها وغيرها رجل عندما قال كِتبها مرة في صحيفة الإهرام في القاهرة في نهاية الثمانينات كتب مقالة قال : أبناءُ البغايا أصبحوا قادة الإسلام مقالة معروفة أكتبوا أرجوكم أرجوكم أتوسلُ إليكم مقالة أسامة أنور عُكاشة بعنوان أبناء البغايا أصبحوا قادة الإسلام فيذكر مَنْ هيَّ أم عمرو بن العاص من هي أم مروان  من هي أم هذا كولــــــــــــــــــــــــهن يحطهن ولذلك أأأ رفعوا عليه قضية قالهم والله روحوا ادرسوا التأريخ يعني ومُنعت مسلسلاته في السعودية حتى هو طلع في تعليق أنا أتذكره قال : وسامَ شرفٍ أضعه على صَدري أن تُمنع برامجي في المملكة العربية السعودية نص ... الرجل قال إقرؤا أنا ما جايب شي من عندي التأريخ فأأأأأ العرب كانوا عندما يصير الحج حتى يستفادون يدزون نسوانهم يصيرن من ذوات الرايات الحمراء لأنه عندهم البِغاء طبعاً هسة واحد يِستَغرِب يكُلك الشرف ...... ) أكتفي بهذا القدر

وأستأذنكم بالرد على د. علي الذي كنُت أنظرُ إليه بالعينِ الكبيرة وأتابعه ، ولا يخفى أن الشهادة والدرجة العلمية إما أن تكون حجةٌ لصاحبها أو حُجةٌ عليه ويقيناً نحنُ بشر نُخطئ ونُصِيب لكن حسناتُ الأبرار سيئاتُ المُقربين ؛ وغلطةُ الشاطِر بألف ....

قبل أن أسترسل في حديثي أقول : الحمد لله الذي شرفني بأن أكون من ذرية الحُسين بن علي بن أبي طالب "عليهم السلام" فأنا موسويٌ حسينيٌ علويٌ طالبيٌ مطالبيٌ هاشميٌ قٌرشي ولكن مَن أبطأ بهِ عَملهُ لَم يُسرعْ به نسبه ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

(مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه) (أخرجه أبو داود 3643 / والدارمي 344 /  وابن حبان 84 )

أولاً : تَكذِيب الوصف الرَباني لأمةَّ العرب :

زَميلي العزيز د. علي هل دارَ في خَلَدك أنك كَذَّبت آيات القرآن الكريمِ فقد وصف الله جل في عليائه أمةَّ العرب بهذا الوصفِ الخَالد : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران : 110]

لك أن تقارن بين وصف الله لأمة العَرب وبين وصفك حين قُلت :

(كُل القبائل العربية كانوا يدزون نسوانهم للبِغاء كلهم / كُل العرب كانوا عندما يصير الحج حتى يستفادون يدزون نسوانهم يصيرن من ذوات الرايات الحمراء لأنه عندهم البِغاء ...)

{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ} [التكوير : 8]

والموءودة هي الطِفلة المدفونة حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيئدها ، أي يثقلها حتى تموت ، وكانت العرب تدفن البنات حية مخافة العار والحاجة خشية أن تكبر وتتعرض للسبي فتكون وصمةُ عارٍ على أهلها وعشيرته ؛ هذه غيرةُ العَربِ على شرفهم لئلا يُدَنّس ولعله فاتك المثل القائل (الموت ولا العار)

دعني أذكرك زميلي العزيز د. علي المحترم بالمادة 409 من قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 وتعديلاته :

«جريمة غسل العار التي تتيح أن تُقتل المرأة وفق المادة 409 من قانون العقوبات إذا فاجأها أحد محارمهما في حالة الزنا، وتكون العقوبة مخففة، بل وحتى إيقاف التنفيذ (أي البراءة المشروطة) أتمنى عليك مراجعة الأمر والوقوف بتأني على علةِ تخفيف الحكم ... إنها الغيرة على الشَرف

ثَانِياً : تَكذِيبُ أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وآله : 

لا نُفشِي سِراً إنْ قُلنا أنَّ العَرب هُم حملةُ الرِسالة المحمدية ومنطقتنا العربية بعزّها الإسلامي هي التي مرّغت أنوف الأمم في مشارق الأرض ومغاربها وحل الذلّ وكستهم ثوب الإحتقار وأرغمتهم أن يعودوا أدراجهم وينكفئوا نحو أخلاقهم البالية ومروءتهم المتهرأة وآلهتهم الواهية وأجبرتهم على توحيد الله وإفراده بالعبودية لتكون راية لا إله إلاّ الله خفاقةٌ ما تعاقب الليل والنهار وأكاد أجزم أنّ جميع التهم الكيدية والإدعاءات التشويهية ، والتخرّصات الخرافية ، والطعنُ في الأنساب والإساءة للشرف العربي هي نتيجة حتمية ورد فعل لمن أذاقهم العَربُ المسلمون ويلات الهزيمة وأدخلوهم الإسلام مرغمين فإما الإسلام وإما الجِزية والآن هلمَّ معي إلى الصادِق المصدوق محمد صلى الله عليه وآله وسلم :

أ : قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : (إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) البخاري في (الأدب المفرد) 273 ؛ وهذا الحديث من أروع ما قيل في الإنصاف ، فرغم أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم جاء لهدم الجاهلية بمعول الإسلام ، إلا أنه يُشيد بما كان للعرب من أخلاق حسنة وإن كانوا قوم جاهلية .

ب : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  :

(حُبُ قريش إيمان وبغضهم كفر، وحب العرب إيمان وبغضهم كفر، فمن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني) (المعجم الأوسط للطبراني / باب الألف)

ج : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

(خلق الله الخلق فاختار من الخلق بني آدم ، واختار من بني آدم العرب ، واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشا ، واختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم ، فأنا خيار من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم ) (المعجم الكبير للطبراني / باب الظاء)

د : قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم :

( مَن أحب العرب فقد أحبني ، ومن أبغض العرب فقد أبغضني) (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / المناقب )

قال النبي : (إن الله اختار من الناس العرب) (تاريخ ابن أبي خيثمة / 2 / 2445) والسؤال هنا :

لماذا جعل الله خير الأنبياء من العرب دون غيرهم ؟ هل ذلك يجعل للعرب مزية علي غيرهم ؟ ولماذا إختار الله العرب وفضّلهم في الجملة علي باقي الناس ؟

هـ : عن سلمان المحمدي رضي الله تعالى عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

( يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك . قلت : يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله ؟ قال : تبغض العرب فتبغضني) (سنن الترمذي / المناقب)

ثالِثاً : لمحةٌ عَمَّن تَمَّ الطَعنُ بهم :

يقيناً أنَّ هدير التاريخ الفيّاض لن يغيّر لونه مَن يُحاوِلُ الإساءة لأمة العَرب ولأهل رسول اللهِ ورهطهِ وعشيرته ، ولن يضيق أفق سماء ماضينا المجيد مَن يحاول تَقزيم شخوصه وطعنهم في شرفهم ضارباً عرض الحائط بحديث رسول الله :

أ : (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم) (صحيح البخاري / المناقب)

ب : ( إنَّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين ) (سنن الدارمي / السير)

ج : عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه وقع بقريش فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

( يا قتادة لا تسبن قريشا فإنه لعلك أن ترى منهم رجالا تزدري عملك مع أعمالهم وفعلك مع أفعالهم وتغبطهم إذا رأيتهم، لولا أن تطغى قريش لأخبرتهم الذي لهم عند الله ) (مسند أحمد / من مسند القبائل)       

والآن نتناول من طعن بشرفهم د. علي النشمي :

أ : صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف (الجد الثالث لرسول الله )

ب : هند بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف (الجد الثالث لرسول الله)

كانت هند من النسوة الأربع اللائي أهدر رسول الله دماءهن يوم فتح مكة ولكنه عفا وصفح عنها حينما جاءته مسلمة تائبة حيث أسلمت يوم فتح مكة بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة ؛ جاءت في وفد النساء للمبايعة وقامت بتغطية وجهها لكي لا يعرفها النبيّ  بسبب الذي فعلته بحمزة بن عبد المطلب فهي تتخوف أن يُحاسبها الرسول على فعلها هذا ؛ ولمّا بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمبايعة النساء ، كانت هند وكأنها تتكلم بالنيابة عن النساء ؛ أبايعك على ألاّ تشركي بالله شيئاً ؛ ولا تسرقي؛ ولا تزني ؛  قالت : أوَ تزني الحرة؟ 

قال : ولا تقتلي ولدك ؛ قالت : وهل تركت لنا أولاداً فنقتلهم؟ فبايعت هندٌ رسول الله ؛ وقالت هند بنت عتبة إنها كانت قبل إسلامها تُحبُّ أن يذلّ الله النبيّ وأهل بيته، فلمّا منَّ الله تعالى عليها بالإسلام أصبح أحبُّ أهل الأرض عليها هو أن يعزّ الله النبيّ وأهل بيته .

ج : عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب (الجد السابِع للنبي محمد) بن لؤي

د : أمُ عمرو بن العاص : النابغة بنت خزيمة بن الحارث بن كلثوم بن حريش بن سواءة من بني عمرو بن عبد الله بن خزيمة بن الحارث بن جلان بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نِزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) 

هـ : مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (الجد الثالث للرسول)

و : الزرقاء بنت موهب ، جدة مروان بن الحكم لأبيه ، وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغاء ، فلهذا كانوا يذمون بها ، ولعل هذا كان منها قبل أن يتزوجها أبو العاص بن أميّة والد الحكم ، فإنه كان من أشراف قريش ، لا يكون هذا من إمرأة له وهي عنده والله أعلم  ؛ هذا ما أورده عزالين بن الأثير في كتاب الكامل في التأريخ ص 276 الجزء الثالث . 

وقبلَ أن أختِم دعونا نسأل : هَل سَلِمَ عِرضُ وشَرَفُ رسولِ الله منَ الطعن رغم أن الله أنَزل قرآناً يُتلى إلى يومِ القِيامة ببراءة أمهات المؤمنين ؟ أكتفي بهذا القدَر والله مِن وراء القصد ؛ فكلنا راحلون وسُنحاسَبُ بين يدي أعدل الحاكمين ؛ قال تعالى : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18]

كل شيء قد تغيّر، حتى الاحتلال صار وحشيًا/ جواد بولس



 لم تكن محاكم الاحتلال العسكرية يومًا مكانا مريحًا للمحامين الذين يدافعون عن الاسرى الفلسطينيين، ولا للاسرى انفسهم، وبالطبع ليس لعائلاتهم. فهذه المحاكم التي باشرت عملها منذ اليوم الاول بعد انتهاء حرب حزيران /يونيو 1967 خطط لها أن تكون الذراع التي ستُحكم قبضة المحتل على رقبات الفلسطينيين الذين "يتجرأون"  على مقاومة الاحتلال ويتحدون نتائجه العسكرية المبهرة بعد ستة أيام من حرب لم تنته فعليًا حتى يومنا هذا.  

لم ينفرد جهاز المحاكم العسكرية ومعه المنظومة القضائية العسكرية بمهمة قمع المواطنين الفلسطينيين والامعان في معاقبتهم وردعهم، بل قام بهذه الوظائف الى جانبهم جهاز القضاء الاسرائيلي المدني وعلى رأسه "المحكمة العليا الاسرائيلية" التي حرصت على مهمة تبييض ممارسات الاحتلال وتسويغه كحالة "طبيعية وقانونية" وليس بكونه جريمة بمقتضى المواثيق الدولية وأعرافها.

تاريخ المحاكم الاسرائيلية، العسكرية والمدنية، أسود؛ والحديث عن دَور قُضاتها في صناعة الظلم عبر سنيّ الاحتلال، يحتاج الى كتابة مجلدات كبيرة. لقد كان الاسير الفلسطيني، وما زال، ضحية عزلاء  في قاعات تلك المحاكم، لا يحظى بأية فرصة حقيقية للدفاع عن قضيته ولا ينال اجراءات ما يسمى بقواميس عدل الامم "المحكمة النزيهة". ومثله كنا نحن المحامين، ندافع  في معارك محسومة ضدنا مسبقا او كأننا نقف امام طواحين الهواء او نركض في حقول كان القضاة فيها مجرد "فزاعات" تتحرك بدفع الريح بدون قلوب وبلا أرواح. كان معظم القضاة، وقبلهم المدّعون العسكريون وقبلهم المحققون وقبلهم الجنود الذين اعتقلوا الاسرى، مقتنعين أنهم يقومون بواجبهم المقدس خدمة لدولتهم ودفاعا عن شعبهم ! فالفلسطيني، كل فلسطيني، هو  عدوهم ويصير"ارهابيا" عندما يختار طريق النضال ضد  الاحتلال. أما نحن المحامين، فكانت قطاعات واسعة بين الجنود والمدعين والمحققين والقضاة ينظرون الينا غالبًا، كموكلينا: "ارهابيين" يدافعون عن "ارهابيين"، لا أكثر  ولا أقل. انها حكايتي خلال اكثر من اربعين عاما وقفت فيها في مكاني الطبيعي وعلى ضفة التاريخ الصحيحة، وشاهدت كيف كان يُهزم الاحتلال  فيها في كل مرة كان يقف الأسير الفلسطيني امام سجانه او امام قاضي المحكمة ويبتسم شامخا ، رغم الوجع، في وجوههم كأنه فلقة الصبح ضحّاكًا وساخرا من ذيل عتمتهم الخائبة. أربعون عامًا حاول فيها الاحتلال، بدون كلل، أن يبتلع نواصي الأمل الفلسطيني وأن يئد خلايا افراحهم؛ فكان يجرب ويفشل ويجرب ويفشل. كانت فلسطين تدفع مهورها وتمضي عاقدة ضفائر احلامها على خواصر القدر، وكانت تلد بنات وأبناءً يعشقون منازلة المستحيل ويؤمنون أن غدهم ينام في حدقات امهاتهم ويفيق ينتظرهم عند نواصي البرق. هكذا كان العمر يمضي، وكان كل شيء حولنا يتغير ويتبدل؛ لقد صار الاحتلال أوحش وسار جلاوزته على غرائز الطغاة في اشتهاء الدم واللهو عند سماع حشرجات الفرائس؛ وصارت فلسطين أوهن وأعجز بعد ان خانها "الاخوة" وغدر بها الاشقاء وراحت تفتش عن ميناء لتلقي فيه مرساتها. أما انا فكبرت في الهمّ وشعرت "بوحدي". هرمت احلامي ولم اعد احتمل صلف المحاكم ولا عربدة الجنود ولا نزق القضاة. لقد قالوا : لكل زمن رجاله؛ ربما هكذا كان ولكن ليس في هذا الزمن، زمن الموت الحافي في فلسطين وزمن"لمّ شمل" جثث ابنائها في حفر الضمائر الغائبة. لم انتظر بروز هذا الجحيم منذ السابع من اكتوبر،؛ فعندما احسست أن جهاز القضاء الاسرائيلي قد فسد بالكامل وتعطلت كل مجسّاته وبات مجرد هيكل تستوطنه فيالق الاحتلال، بدأت ابتعد عن ساحات المحاكم، ولا ازورها الا لماما، فكان حتى هذا القليل كثيرا.

قبل أيام قدمت الى محكمة عوفر العسكرية لامثل أبا وابنه من سكان مدينة رام الله، كان الجيش قد اعتقلهما بشبهة تقديم خدمات الى حركة حماس من مكان عملهما. 

وصلت باب المحكمة الرئيسي فادخلني الحارس مستهجنًا قدومي بعد طول غياب. فاجبته مؤكدا انه ليس الشوق لهم، بل عساها رغبتي بمقاومة اليأس والاطمئنان عمّن واكبت تاريخهم منذ ايام صباي. ادخلني معتذرا مني اذ كان عليه ان يفتشني لان كل شيء تغير، هكذا قال بخجل ظاهر. دخلت في ممر طويل على جانبيه شريط عال من الاسلاك الشائكة فمشيت بينها بهدوء محاولا ان اطرد من رأسي صورة الشياة وهي تدفع في مثل هذه الممرات قبل ذبحها.

وصلت ساحة صغيرة تحدها نفس الاسلاك الشائكة من جميع الجهات، وفيها غرفة انتظار معدّة لاحتواء عائلات الاسرى التي تنجح بالوصول الى ساحة المحكمة. منها دلفت الى ساحة اصغر محاطة بالاسلاك الشائكة، وضع فيها "كرڤان"، مكون من غرفتين صغيرتين كان الجنود يستعملونه "فتبرعوا" به للمحامين ليزجوا داخله، وهو المكان الوحيد الذي يسمح للمحامين ان يمكثوا فيه ريثما ينادى على اسمائهم للدخول الى قاعة المحكمة. تعودت بسرعة على المكان بصحبة الزملاء وبعد ان أفهمت بان أيام كنا نستطيع دخول ساحات المحكمة الداخلية ونجوب في وبين قاعاتها او نزور غرف السكرتارية او المدعين العسكريين، قد ولت؛ فكل شي قد تغير، افهمني زملائي!

حاولت ان استفسر عن موعد جلسة موكليّ، فضحك المحامون بشفقة ظاهرة، وقالوا يا استاذنا هذه مهمة مستحيلة. انتظر فسيأتيك جندي مترجم ويدعوك. ولكن لا احد يستطيع ان يضمن لك متى سيحدث هذا، وقالوا: كان يا ما كان، فكل شيء في هذا المكان قد تغير يا استاذنا! 

 لم يحالفني الحظ قبل استراحة الظهر، فانتظرت حتى انهى الجنود والقضاة غذاءهم؛ وجاء المترجم وصاح باسم موكلي سائلا مَن من المحامين يمثله فقفزت ودخلت مسرعا قاعة المحكمة. انتظرت في القاعة باجواء كلها فوضى وصراخ. كان الجندي يحاول ان يجد مكان اعتقال موكلي ،الاب، كي يعرضه على شاشة الفيديو ، فالاسرى لا يُحضرون الى قاعات المحاكم.   بعد نصف ساعة من الفوضى واشتباك اصوات حرس السجون  الذين كانوا يفتشون عن امكنة اعتقال الاسرى مع اصوات الجنود المترجمين والجنود الحراس بدأت الجلسة. طلب المحقق تمديد توقيف الاب وابنه بثمانية ايام اضافية بعد العشرة التي كانا قد قضياها. اعترضت وطلبت اطلاق سراحيهما، الا ان القاضي قرر تمديد التوقيف بحجة اعطاء فرصة للمحققين لانهاء التحقيق منوّها الى ان المادة التي عاينها لا تحمل خطورة كما كان ادعى المحقق. حاولت ان اصرخ في القاعة لاشرح لموكليّ من خلال شاشة الفيديو ماذا جرى بشأنهما ، الا ان السجان الذي كان يرافقهما من بعيد قرر قطع الاتصال. خرجت مذهولا من المشهد ، لا باكيا ولا ضاحكا بل مصدومًا. كنت انظر باتجاه القاضي، رآني من فوق رؤوس الجنود والمترجمين والمحامين فقلب كفي يديه بحركة المهرج، وقال: هي الدنيا سيد بولس، فكل شيء هنا قد تغير!  قال وانتقل ليكمل الفصل التالي في مسرحية العبث. 

انتهت مدة التحقيق التي اقرّتها المحكمة فاخبرتني النيابة العسكرية انهم قرروا عدم تقديم لائحتي اتهام بحق موكليّ. فرحت وقلت في نفسي: معقول ان يكون فعلا كل شيء قد تغير ؟  اتصلت مع سكرتارية المحكمة لاستوضح كيف ومن اين سيفرج عن موكليّ، فاجابتني المجندة: لن يفرج عنهما؛  اذ اصدرت المخابرات بحقهما امري اعتقال اداريّين: للابن لمدة ستة شهور وللاب لمدة اربعة شهور. سمعتها وتمتمت: على ما يبدو لا شيء قد تغير. هو الاحتلال يخاف ويحن ويتوحش عامًا بعد عام فيبدل عصيّه ووجوهه واقفاصه معنا وحسب. 

انتظرت عشرة ايام حتى عينت لهما سكرتارية المحكمة في عوفر جلستين للنظر  في صحة الامرين. 

وصلت في الموعد المحدد الى باب المحكمة فسالني الحارس بدعابة "يبدو انك قد عدت الى عشيقتك، فانت محام مشهور ولا تستطيع ان تتركها/ مهنتك." قالها بلهجة محترمة وجدية، فاجبته: "لكل زمن رجاله، وهذا زمن الندم والهباء الذي لم يعد زمني؛ اما معشوقتي فسابقى أنا  خادمها ما دام يطلع فوق سمائها القمر" ؛ قلت ولم اتحقق اذا فهم مرادي. مشيت مرة اخرى في تلك المسارب وبين الاسلاك الشائكة حتى وصلت قفص المحامين؛ وأخبرتهم بما حصل معي فلم يستغربوا. ثم فهمت ان مع جميعهم حصل مثلما حصل معي والا كيف وصل عدد المعتقلين الاداريين في ايامنا الى 3400 معتقل اداري ؟!  

ثم أضاف احدهم وكان من محامي الجيل الجديد: على ما يبدو يا استاذنا، ان كل شيء قد تغير عن زمانكم. قالها واستمر وزملاؤه في مزاولة شعائر يومهم وانا معهم في ذلك القفص الصغير. 

الجندي المصري شهيد الحدود/ صبحة بغورة



عندما استشعر الجندي المصري عبد الله رمضان 22 سنة، واجب اتخاذ اجراءات الحماية على إثر حادث الحدود في محور صلاح الدين بين قوات الاحتلال وعناصر المقاومة الفلسطينية واجه تطور الموقف برجولة وتعامل بشجاعة مع مصادر النيران بشكل قانوني وفقا لقواعد الاشتباك حتى لقي وجه ربه الكريم رحمه الله ويده على السلاح ظهيرة الاثنين 27 مايو الجاري.


الآن ، من يجرؤ على تناول خبر الجندي المصري الشجاع تحت عنوان يفيد مقتله سوى هؤلاء العربان الغربان ، أنه " شهيد " الأمة المصرية وليس قتيلا ، ابن ريفها الأصيل ، لم يصبر طويلا على فراق قريته  فعاد إلى تراب أرضه الطيب في نعش يهرول لما رأى كرامة ما ينتظره من ربه كباقي الشهداء المخلصين ، لقد صوّرت الكاميرات هرولة النعش ومئات المشيعين يلهثون حوله نحو مسجد القرية لإقامة صلاة الجنازة عليه.

دأبت بعض قنوات الضلال والتضليل على تسويف الحقائق وتسويق الأكاذيب بشكل فاضح حتى تحرم المواطن العربي من متعة الشعور بعزة الأوطان والانتشاء بعطر التضحيات الغالية في سبيل الله ومن أجل الوطن فانغمست في غيها حتى أنساها شيطانها قواعد وشرف المهنة وصارت لا تميز بين من هو القتيل ، ومن هو الصريع، وبين من هو الشهيد الذي طهّره دمه فيدفن بلباس الفخر والعزة والشرف، ربما هذه أمور لا يفقهها كثيرا أنصاف المثقفين وعملاء الإعلام المعادي، ولكنها ذكرى قد تنفع، أو رفع غطاء الحقيقة لكشف فضيحة قد تردع .

آن الأوان أن تنزوي غربان الإعلام طوعا تنعق بعيدا عن المشهد حتى لا يصمها صدى صوت الحقيقة عندما يصدح بالحق المبين، إن غرابة تناول بعض المواقع والقنوات للأخبار جعلها قميئة في نظر معظم المواطنين، لأن الكثيرين أصبحوا في شك من نواياهم كبير، أما أشباه الرجال الذين مسخ الله وجوههم بريح الخيانة وأشباه النساء اللائي لم يترك تدخين الشيشة لأحبال صوتهن وترا سليما ولا لوجوههن أي مسحة  تشفع لأنوثتهن فلهم الله فهو وحده من يجازي كل يد بما قدمت وكل نفس بما فعلت.

منذ متى أوقفت قوافل الشهداء الشعب المصري عن مواصلة مسيرته في التنمية ، منذ متى عرقلت مؤامرات الأعداء استنهاض همته أو تثبيط وقفته إلى جانب قضايا أمته، فهم للقتال أهله، وإذا طال الأمد عليهم قالوا: والله زمان يا سلاحي اشتقت لك بكفاحي ، يا حرب والله زمان .



الصراع بين التضليل والاستدراج/ صبحة بغورة

 


تحقيق النصر في أي صراع ليس بالأمر الهين، وهدف بلوغ كامل السيطرة على الخصم تمر عبر مراحل تحتاج إلى صبر ومهارة.. و خداع . للخداع ألف شكل وحيلة ولا عزاء فيمن لم يتعظ و لم يأخذ العبرة ويحفظ الدرس.

منذ اندلاع الأحداث في قطاع غزة نظرت العيون واشرأبت الأعناق نحو تأمل الموقف السياسي والعسكري المصري عندما دارت الدائرة وتأججت روح الانتقام لدى الكيان واشتدت سطوته وبلغ عنفه مستوى الإجرام ضد الإنسانية ، وكان ثمة من يستفز الطرف الغربي ليهب هبة صلاح الدين من أجل السند والنصرة ، كان لهم ما أرادوا وأكثر ، قوافل المساعدات عبر المعبر لا تتوقف ولا تهدأ ، وعلاج المصابين التزام متواصل بكل التقدير والاحترام ، والتقدم المدمر لقوات الاحتلال متواصل وانتشار آلة الموت لا تبقي ولا تذر، وما زالت العيون تترقب ردة فعل عنترية حتى وإن كانت على سبيل المخاطرة غير المحسوبة لتشفي صدور قوم مظلومين. الأمر يتطور نحو المناطق الحدودية فيفرك الملاحظون الأكف عساهم يشاهدون فيلما حربيا يحمل بشرى نصر مبين ، أليست هي أم الدنيا التي تملك جيشا عرمرما  يضاهي أقوى عشر جيوش في العالم .

سبق أن جرى تضليل صدام العراق حتى وقع في فخ احتلال الكويت ومن ثمة كانت نهايته ، وتبعه قذافي ليبيا الذي أوهم جيرانه بامتلاك أدوات الشروع في برنامج ذري وأسلحة دمار شامل فقتله شعبه حتى لا يستمر في غيه ، ثم كانت النهاية الأليمة للبائس صالح اليمن الذي توهم أنه يمكنه تحرير فلسطين عن بعد، إن ما يدعو للأسف أن نهاية هؤلاء التعساء قد رافقها انهيار كامل للدولة وفقدانها السيطرة على الوضع الأمني فأصبحت مطمعا لقوى خارجية لم تضع الوقت حتى كانت لها السطوة والغلبة فيها .

لقد  تم استدراج أرض الكنانة نحو آفة الغرور بالتضليل الأكاذيب ، فجعلوا منها قوة عسكرية كبرى سترمي من تحب في البحر فكانت الطامة وكانت الانتكاسة التي كسرت النفس والخاطر وحطمت الثقة والمصداقية ، وهزمت الهيبة لما استسلم البؤساء لطرب الغواني ولان جانبهم للغريب قبل القريب، وصدقوا أنهم بذلك فقط سيكونون خير أمة أخرجت للناس بدون علم ولا عمل !!

 الحذر،ما أشبه اليوم بالأمس ، المبالغة في بث مشاهد الاستعراضات العسكرية والتدريبات المشتركة للقوات المسلحة  بدون تحفظ تجعل المسؤولين يرقدون ملء الجفون ، مطمئنون، حقيقة كبار مسؤولي الدولة قد احترقوا من فرط ما يواجهون من مهام عظيمة ويتحملون المسؤوليات الجسام ، لكن لابد من حملات التوعية المستمرة التي تضمن دوام اليقظة والاحتياط على كافة المستويات، سيكون للغفلة ثمنا باهظا سبق أن دفعه الشعب من أرضه وأبنائه ومقدراته ، لا بأس أن يستشعر البسطاء وكل العامة الكثير من الجدية تجاه خطورة الأوضاع الحالية فيلتزمون الحذر أكثر وأكثر من حملات التضليل ومؤامرات الاستدراج .لابد من مواصلة الأخذ بكل أسباب القوة المسلحة والتمكين الاقتصادي، فطبيعة الظروف المحيطة لا تبعث على الارتياح وتطور الصراعات في المنطقة لا تمنحنا رفاهية الوقت وبذخ الإنفاق .


الشعراء ايضا غاوون/ بن يونس ماجن



الشعراء أيضا غاوون

ثمة رابطة للشعراء الطيبين

الحالمين بضوء القمر المكتمل

والناعسين تحت أهذاب نجمة غجرية

يحسبهم الناس

من الصعاليك والمهرجين

ومن طينة البشر الضالين   

ويحلمون بالعودة الى "يوتيوبيا المجانين"


شاعر مراهق كبير في السن

مصاب بالكآبة

تعب من الركض

وراء  ومضات الالهام الهاربة

يقود حربا ضد تجاعيد الزمن

ويؤكد لمريديه

انه ليس مسؤولا عن تصرفاته الصبيانية

حين يحضر توقيع دواوين

شعراء "السوشيو ميديا"

فهو يؤمن بالتداوي بالشعر

ويقدس الشجرة المصابة 

بداء بول الكلب الذي ينخر جدعها


الشعراء ايضا غاوون

يحسدهم الناس

ويقولون انهم  كالارانب يتناسلون 

وقصائدهم تبور تلقائيا

ومع ذلك لا يستسلمون


قيل  يوما لشاعر أعمى:

لا احد يعرف

لماذا تخشى الغربان

ضوء القمر

وترقص البومات

في الظلام الدامس

فأجاب : 

كل شيء يمكن ان ينقلب رأسا على عقب

فاذا كانت زوجة الواعض

وخليلة رجل الدين

لا يفرقان بين الحلال والحرام 

وبين الجهاد والارهاب

فما بالك بحكام العرب وشعرائهم؟


ويقف الشاعر على المنصة ويقول:

لم يبق للشعر الا الانتحار

لا صوت لا ايقاع لا قضية 

باع كل أمتعته في مزاد علني

ثم انطلق في رحلة بلا عودة

الكاتبة والباحثة السُّوريّة البروفيسورة ريم شطيح تحملُ في عوالمِها آفاقاً شاهقةً في فضاءِ الحداثةِ والتَّنوير


ترعرعَتِ الباحثةُ والكاتبة السُّوريّة ريم شطيح في كَنفِ أسرةٍ عريقةٍ، تهتمُّ بالقراءَةِ والمطالعةِ والثَّقافةِ والتَّحصيلِ العلمي، فقدْ كانَ والدُها يحملُ آفاقاً فكريّةً وفنّيّةً، حيثُ كانَ مُطرباً ومُلحِّناً وعازفَ عودٍ، ومِنْ عُشّاقِ الفَنِّ والطَّربِ الأصيلِ، تأثَّرَتْ ريم بهذِهِ الأجواءِ الثَّقافيّةِ والفنّيّةِ، وعَشقَتِ القراءَةَ والكتابةَ وقرأتِ الكثيرَ مِنَ الكتبِ الأدبيّةِ والفكريّةِ والثّقافيّةِ بمختلفِ أنواعِها، مِمّا عمَّقَتْ هذهِ القراءَاتُ مِنْ آفاقِ طُموحاتِها. عاشَتْ طُفولةً سعيدةً وآمنةً بينَ أحضانِ أُسرةٍ تحتضنُ العلمَ والفنَّ والفكرَ الرَّاقي. قضَتِ الفترةَ الأولى مِنْ طفولتِها في بيروتَ، وتابعَتْ دراستَها في الصَّفِّ الرَّابعِ الابتدائي في سوريا، مدينة حمص، ثمَّ تابعَتْ دراساتِها للمرحلةِ الإعداديّةِ والثَّانويّةِ والتحقَتْ بجامعةِ البعثِ في حمصَ، قسمِ اللُّغةِ الانكليزيّة، وتعمَّقَتْ انكليزيَّتُها باللَّهجةِ الأميريكيّة لتواصلِها مَعَ الجالياتِ السُّوريّةِ المهاجرةِ إلى أميريكا والوافدةِ عبرَ زياراتِها للوطنِ. 


بدأتْ تكتبُ الخواطرَ الأدبيّةَ والقصائدَ الشِّعريّةَ، وهي في مقتبلِ العُمرِ، تُعبِّرُ عَنْ هواجسِها، وجنحَتْ نحوَ فضاءِ التَّمرُّدِ مُنذُ أنْ حَملَتِ القلمَ، فلا تقتنعُ بأيَّةِ عادةٍ أو تقليدٍ لا يتقبَّلُهُ عقلُها وفكرُها، لهذا سرعانَ ما وقفَتَ ضدَّ بعضِ العاداتِ والتَّقاليدِ الموروثةِ الَّتي لا تلائمُ عوالمَها، وظلَّتْ هذهِ الرًّؤيةُ النَّقديّةُ مُستمرّةً معَها إلى أنْ شبَّتْ عَنِ الطَّوقِ، وحملَتْ في آفاقِها روحَ التَّمرُّدِ ضدَّ كلِّ ما هو رجعيٌّ وغيرُ حضاريٍّ، مُركِّزةً على آفاقِ الرُّؤيةِ التَّنويريّةِ والحضاريّةِ، وقَدْ استهوتها تطلُّعاتُ ما كانَتْ تطرحُهُ الدُّكتورة نوال السَّعداوي، واطلعَتْ على أغلبِ كتاباتِها وتأثَّرَتْ بها وبرؤاها التَّنويريّةِ، وانعكسَتْ هذهِ الرُّؤى بشكلٍ ملحوظٍ في مقالاتِها وكتاباتِها فقَدْ سلَّطَتْ قلمَها على كلِّ ما تراهُ غيرَ موائمٍ لتطوُّراتِ العَصرِ، وغيرَ مُناسبٍ لِمَا نحنُ عليهِ، لهذا انبثقَ في فضاءِ مقالاتِها رؤيةٌ عميقةٌ في مسارِ التَّغييرِ والتَّطويرِ، وراحَتْ تنتقدُ الاعوجاجاتِ والفسادَ وكلَّ ما يدفعُ المجتمعَ نحوَ التَّخلُّفِ والتَّراجعِ، مُركِّزةً على إبرازِ الآراءِ التَّنويريَّةِ الخلَّاقةِ الَّتي تُساهِمُ في تقدُّمِ البلادِ والمجتمعِ الَّذي تعيشُ فيهِ أو في أيِّ مُجتمعٍ مِنْ مجتمعاتِ العالمِ، إلى أنْ غدَا ديدنُها تبنِّي الفكرِ التَّنويري الخلّاقِ!  

تجنحُ البروفيسورة ريم شطيح نحوَ فضَاءِ البحثِ والغوصِ عميقاً في الفكرِ الجادِّ والأصيلِ، فهي تقومُ بدراساتٍ وبحوثٍ عميقةٍ في أيِّ مَوضوعٍ تطرحُهُ كي تقدِّمَ رؤاها ووجهاتِ نظرِها بدقَّةٍ فيما تعبِّرُ عَنهُ، فهي باحثةٌ عميقةٌ في هذا المضمارِ، لِما لها مِنْ شغفٍ كبيرٍ للتعبيرِ عَنْ تفاصيلِ الموضوعاتِ الَّتي تكتبُ عنها، وتركِّزُ في بحوثِها عَنْ كلِّ ما هو تنويريٌّ وحداثويٌّ، فكلُّ مواضيعِها ومقالاتِها وكتاباتِها تصبُّ في فضاءِ الحداثةِ والتَّطويرِ، وتقديمِ الحلولِ النّاجعةِ والآراءِ المُفيدةِ لاستنهاضِ الأوضاعِ الَّتي تتطلَّبُ المزيدَ مِنَ الرُّقيِّ والتَّحضُّرِ والتَّقدُّمِ في المجالاتِ الَّتي تُناقِشُها وتطرحُها على بساطِ البحثِ. تكتبُ مواضيعَها عَنِ الإنسانِ، والمرأةِ، وعَنْ قضايا اجتماعيّة وفكريّة متعدِّدةٍ، وعَنِ الدِّيكتاتوريّةِ السِّياسيّةِ والدِّينيّةِ، وعَنِ القضايا المتعلِّقةِ ببناءِ وتطويرِ المجتمعِ. تركِّزُ في دراساتِها وبحوثِها عَلى تحليلِ الظَّاهرةِ الَّتي تُقدِّمُ بحثاً عنها تحليلاً دقيقاً، وتقدِّمُ الحلولَ المناسبةَ للظواهرِ الَّتي تقومُ بدراستِها، وترى أنَّ المصالحَ الضَّيّقةَ تقودُ للكثيرِ مِنَ المواقفِ السِّياسيَّةِ إلى خلافاتٍ وحروبٍ وتؤدِّي إلى كوارثَ ودمارٍ وخرابِ البلادِ في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ، وهذا كلُّهُ ناجمٌ عَنْ عدمِ انفتاحِ الأطرافِ المتصارعةِ والمتناحرةِ مَعَ بعضِها بعضاً، مِمَّا جعلها تصطدمُ مَصالِحُهم وتتفاقمُ الخلافاتُ على هذهِ المصالحِ، إلى أنْ تصلَ إلى مرحلةِ التَّصادُمِ والحربِ فيما بينهم، فهي ترى أنَّ هذهِ المصالحَ يشوبُها الاستغلالُ والانانيّةُ في أغلبِ الأحيانِ، وتؤدِّي إلى حالاتٍ مُدمِّرةٍ على مُعظمِ الأطرافِ المُتصارعةِ، وهذا ما رأيناهُ ونراهُ مُتفاقماً في مُعظمِ البلدانِ الّتي نشبَتْ فيها الحروبُ، كما نشبَتْ في أغلبِ أنحاءِ العالمِ مُنذُ القديمِ حتَّى وقتِنا الرَّاهنِ، بما فيها الصِّراعات السّائدة حاليَّاً في دُنيا الشَّرقِ والعالمِ العربي وفي الكثيرِ مِنْ جغرافيَّاتِ العالمِ الّتي تتأجَّجُ فيها الحروبُ أجيجاً حارقاً كأنَّها على صفيحٍ ملظَّى مِنْ لهيبِ النَّارِ!

تنظرُ الباحثةُ ريم شطيح إلى مَا تراهُ متفشِّياً في سِياساتِ العالمِ مِنْ صِراعاتٍ مُميتَةٍ ومَريرةٍ، وترى أنَّهُ مِنَ الضَّروريِّ أنْ تثورَ هذهِ الشُّعوبُ المضطّهدةُ والمنكوبةُ على الواقعِ المرِّ الَّذي تعيشُ فيهِ، وتطالِبَ بإيقافِ الحروبِ والصِّراعاتِ الدَّائرةِ في بلدانِهم، لعلَّها تستطيعُ تغييرَ واقعَ بلدانِهم نحوَ الأفضلِ، عندئذٍ سيضطّرُ السِّياسيُّونَ إلى تلبيةِ طلباتِ الشُّعوبِ، والرُّضوخِ لها، وإلَّا فإنّها ستثورُ على حكوماتِ بلدانِها، وتطالِبُ بتحقيقِ طلباتِها إلى أنْ يتمَّ تحقيقُها. وترى شطيح، هذهِ الباحثةُ عَنْ حقوقِ الإنسانِ، أنَّ المرأةَ في الشَّرقِ ما تزالُ مقموعةً ومضطّهدةً في الكثيرِ مِنَ المواقعِ، وتحتاجُ إلى المزيدِ مِنَ التَّكافُؤِ والحُرِّياتِ، وإلى تحقيقِ فُرَصٍ جديدةٍ تُتَاحُ لها كي تحقِّقَ المساواةَ مَعَ الرَّجلِ، ولا يُمكِنُ أنْ تُحقِّقَ المرأةُ هذهِ الميِّزاتِ في رحابِ الشَّرقِ والعالمِ العربي، إلَّا بتضافرِ وتضامُنِ جهودِ النِّساءِ في هذهِ البلدانِ، وتدافعُ عَنْ حقوقِها عبرَ الكثيرِ مِنْ مؤسَّساتِ الدَّولةِ المتعلِّقة بحقوقِ المرأةِ، وتنظِّمُ جهودَها ومطالِبَها إلى أنْ تضعَ الحكومةَ في موقفٍ تستجيبُ فيهِ إلى تحقيقِ طلباتِ المرأةِ، وإلّا ستصبحُ الدَّولةُ في حالةِ صِراعٍ مَعَ نصفِ أفرادِ المجتمعِ. ولا تغفلُ الباحثةُ ريم شطيح الوقوفَ عندَ الكثيرِ مِنَ القضايا الاجتماعيّة والفكريّة والحياتيّة، الّتي لا تنصفُ الإنسانَ في المجتمعِ، فتطالبُ بتغييرِ هذهِ الظَّواهرِ غيرِ الدِّيمقراطيّة وغيرِ العادلةِ، فهي دائماً ترصدُ قلمَها للدفاعِ عَنْ حقوقِ المُهمَّشينَ والمَهضومةِ حقوقَهم، وتطالبُ بتحقيقِ حقوقِهم مِثلَما يأخذُ الرَّجلُ حقَّهُ في كافّةِ المواقع.

الباحثةُ والكاتبةُ السُّوريّة ريم شطيح، بروفيسورة مُتخصِّصة في علمِ النَّفسِ مِنْ جامعاتِ أميريكا، وتُدرِّسُ علمَ النَّفسِ في ثلاثِ جامعاتٍ في أميريكا، وحقَّقَتْ نجاحاً كبيراً في تدريسِ مادّتِها، لِما تحملُ مِنْ رؤيةٍ عَميقةٍ في مَجالِ تخصُّصِها ولِمَا لها مِنْ باعٍ شاهقٍ في التَّعليمِ، ورؤيةٍ عَميقةٍ في التَّحليلِ والتَّطويرِ، تغوصُ عميقاً في فضاءَاتِ عِلمِ النَّفسِ مِنْ خلالِ سَبرِها وغوصِها في هذهِ العَوالمِ، لأنَّها تحملُ آفاقاً خلّاقةً في هذا الفضاءِ الرَّحبِ، فقَدْ تخصَّصَتْ في هذا المَجالِ مِنَ العُلومِ النَّفسيّةِ الَّتي تتجذَّرُ في أعماقِ كينونةِ الإنسانِ، وهذا التَّخصُّصُ هو مفتاحُ الماسترِ للعبورِ عميقاً في عوالمِ الإنسانِ مِنْ أغلبِ جوانبِ الحياة، ولهُ أهمِّيّةٌ كبرى في تشكيلِ شخصيّةِ الإنسانِ، وهو حاملُ بُنيةِ الشَّخصيّة بكلِّ ما فيها مِنْ تطلُّعاتٍ وآفاقٍ شاهقةٍ، لتحقيقِ طموحاتِها المتعدِّدةِ. تدرِّسُ موادَّها بمُتعةٍ غامرةٍ، وتتفاعلُ طالباتُها وطلَّابُها في محاضراتِها، لِمَا لها مِنْ طُرقٍ ناجحةٍ وشيّقةٍ في تقديمِها، فهي تعتمدُ على خلقِ حالةِ تفاعلٍ في التَّحليلِ والتَّفكيرِ لدى الطَّلَّابِ والطَّالباتِ، فينجذبُونَ إلى المحاضراتِ بذهنٍ مفتوحٍ وتركيزٍ عالٍ، وتحقِّقُ تفاعلاً بديعاً بينها وبينَ طلّابِها وطالباتِها، خاصّةً أنَّ طريقةَ التَّدريسِ في الغربِ، وفي أميريكا تختلفُ عمّا هو سائدٌ في الشَّرقِ، حيثُ تعتمدُ الطُّرقُ الشَّرقيّة في التَّدريسِ في الجامعاتِ العربيّةِ على تلقينِ المعلوماتِ، بينما في الجامعاتِ الغربيّة ومنها أميريكا، فالأسلوب المتبَّعُ هو تحفيزُ الطَّالبِ والطَّالبةِ على التَّفكير والتَّحليلِ وخلقِ حالةِ تفاعُلٍ بينَ الطُّلَّابِ والمدرِّسينَ، وبالتَّالي يكونُ الطَّالبُ في حالةِ تفاعُلٍ ويقدِّمُ رؤيةً فعَّالة لِمَا يفكِّرُ بِهِ ويحلِّلُهُ، بينما في الجامعاتِ الشَّرقيّةِ يكونُ الطَّالبُ في حالةِ تلقِّي المَعلوماتِ وحفظِها وعرضِها، ونادراً ما يُسْمَحُ لَهُ بالاجتهادِ أو التَّحليلِ والتَّفنيدِ والَّذي أحياناً يكونُ مُخالفاً لِما يدرسُهُ أو يتلقَّاهُ في المحاضراتِ في الجامعاتِ الغربيّةِ، ولهذا هناكَ فرقٌ كبيرٌ في طريقةِ التَّدريسِ ما بينَ الشَّرقِ والغربِ، فيتخرّجُ الطَّالبُ الشَّرقيُّ حافظاً المَنهاجَ وبعدَ فترةٍ ربَّما ينسى القسمَ الأكبرَ مِنَ المعلوماتِ الَّتي حفظَها، بينما الطَّالبُ الغربي يقومُ بعمليَّةٍ تحليليَّةٍ وتفكيرٍ وتفنيدٍ لِما يقرَؤُهُ وبالتَّالي يصبحُ المَنهاجُ لديهِ حالةً تحليليّةً أكثرَ مِنْ أنْ يكونَ حالةً تلقينيّةً وحفظيَّةً! 

ترى الباحثةُ ريم شطيح أنَّ القمعَ وعدمَ توفُّرِ الحرّياتِ هو الذَّي يُعيقُ تحقيقَ آفاقِ التًّنويرِ، والشَّرقُ ضمنَ توجُّهاتِهِ لا يهتمُّ بتطويرِ البُنيةِ التَّحتيّةِ ولا بالبُنيةِ الفوقيّةِ إلَّا على نطاقٍ ضيِّقٍ ومحدودٍ جدَّاً، كما لا يهتمُّ بالتَّطوُّرِ التِّكنولوجي بالمفهومِ العميقِ لهذا التطوُّرِ، والقمعُ السِّياسي هو السَّائدُ، وكذلكَ القمعُ القومي والدِّيني في بعضِ الأحيانِ، وكلُّ هذا القمعِ يؤثِّرُ على عدمِ سطوعِ آفاقِ التَّنويرِ، وإنَّ كلَّ مَنْ يكتبُ في فضاءِ التَّنويرِ، ولَهُ رؤيةٌ تنويريَّةٌ في توجُّهاتِهِ، غالباً ما يُعتبَرُ ضدَّ الأنظمةِ الاستبداديّةِ، لهذا نرى الأنظمةَ الاستبداديّةَ، هي الّتي تقمعُ نشرَ وترويجَ الفكرِ التَّنويري، ولو سمحَتِ الأنظمةُ السِّياسيّةُ بنشرِ الفكرِ التَّنويري في البلادِ، سيؤثِّرُ هذا الفكرُ عليها ويقودُها إلى التَّغييرِ والتَّنويرِ، وهذا ما لا يُناسبُها لأنَّ وجودَها قائمٌ على أنْ لا يسودَ الفكرُ التَّنويريُّ، كي تحافظَ على استمراريّتِها في البقاءِ على عرشِ السُّلطةِ، ولهذا نرى واقعَ العالمِ العربي والبلدانَ القامعةَ لشعوبِها في حالةٍ مُخلخلةٍ مَعَ مواطنيها، وغالباً ما ينجمُ عَنْ هذهِ الحالةِ صراعاتٌ دمويَّةٌ تصلُ إلى حدِّ التَّصفيةِ والقتلِ والحروبِ المجنونةِ، إلى أنْ تصلَ البلادُ إلى بوَّاباتِ الجحيمِ! 


تكتبُ ريم شطيح مقالاتِها مِنْ خلالِ مشاهداتِها ورصدِها للمُتغيِّراتِ الّتي تُصادفُها في رحلةِ الحياةِ، كما تستوحي أفكارَ كتاباتِها مِمَّا لا يُعجبُها، وهي على أُهبةِ الاستعدادِ لتسليطِ الضَّوءِ على ما تراهُ يحملُ طابعاً سَلبيَّاً، فتقومُ بتصدٍّ للظّواهرِ السَّلبيّةِ الَّتي لا تراها مُناسبةً لواقعِ المجتمعِ الَّذي تعيشُ فيهِ، وتنتقدُها بعدَ أنْ تحلِّلَ الظَّاهرةَ منْ جَميعِ جوانبِها وتضعَ الحلولَ المناسبةَ لها. تكتبُ ريم مقالاتِها بشغفٍ عميقٍ في أوقاتِ فراغِها، فلا يوجدُ لديها طقوسٌ معيّنةٌ في الكتابةِ، فهي تكتبُ في المقهى، في المكتبِ، في منزلِها، وتكتبُ الكثيرَ مِنَ الأفكارِ عبرَ هاتفِها، وأكثرُ ما يدفعُها للكتابةِ هو بحثُها الدَّائمُ عَنِ الظَّواهرِ الَّتي لا توائمُ واقعَ المجتمعِ الَّذي تعيشُ فيهِ، فتنتقدُ الظّواهرَ الّتي لا تراها تسيرُ كما يجبُ أنْ تسيرَ، وتضعُ لمساتِها ورؤاها كما يجبُ أنْ تكونَ، لا كما رأتْهُ مِن اعوجاجٍ. تقتنصُ الكاتبةُ مِنَ الزَّمنِ وقتاً لها للكتابةِ، رغمَ أنَّها مشغولةٌ طوالَ الوقتِ في تدريسِ موادِّها المقرَّرةِ في ثلاثِ جامعاتٍ أمريكيّةٍ وهي بعيدةٌ نسبيَّاً عَنْ بعضِها بعضَاًـ  

وفيما يخصُّ الرُّؤية الشَّرقيّة والغربيّة، ترى شطيح أنَّ هناكَ أساسيَّاتٍ مشتركةً بينَ الموروثِ الشَّرقي والغربِي، كالجوانب الإنسانيّة: الرّحمة، العدالة، المساواة، التَّعاون، الصّدق وتشجيعِ الآخرينَ على الرُّؤية الصَّائبة، وتقفُ ضدَّ الموروثِ الّذي يعيقُ التَّطويرَ، فهي تبحثُ عَنْ كلِّ ما هو حداثويٌّ وتنويريٌّ وحضاريٌّ، لكنَّها في الوقتِ نفسِهِ تجدُ أنَّ هناكَ الكثيرَ مِنَ الرُّؤى الجيّدةِ في الشَّرقِ أيضاً، يمكنُ أنْ نعمِّقَها ونسيرَ على خطاها، لهذا توائمُ الباحثة ُبينَ ما هو جيّد في الشَّرقِ والغربِ معاً، وتصطفي ما هو مناسبٌ مِنْ كلا الطَّرفين، وتركِّزُ على تماسُكِ الأسرةِ وانسجامِها، كما تركّزُ على دعمِ الأولادِ، بنينَ وبناتٍ على حدٍّ سواءٍ، وعلى خلقِ حالةِ توازنٍ بينَ تطلُّعاتِ المجتمعِ الشَّرقي وآفاقِ الرُّؤيةِ الغربيّةِ، فهي تعيشُ بكلِّ سلاسةٍ في دُنيا الاغتراب.   

تسلِّطُ مَجسَّاتِ قلمِها على واقعِ الإعلامِ الشَّرقيِّ والعربيِّ، فتراهُ يتراجعُ عاماً بعدَ آخر، ولا يركِّزُ على الأفكارِ التَّنويريّة في برامجِهِ، ونادراً ما يدعو الإعلامُ المفكرِّينَ الَّذينَ يحملونَ فكراً تنويريَّاً، ولا يضعُ في برامجِهِ خططاً لترويجِ ثقافةِ التَّنويرِ، بقدرِ ما يقدِّمُ برامجَ تخدمُ السِّياسةَ السَّائدةَ في كلِّ بلدٍ، وكأنًّ الإعلامَ هو مرآةٌ عاكسةٌ لسياسةِ هذا البلدِ أو ذاكَ، فكيفَ سيحدثُ التَّطويرُ والتَّحديثُ أمامَ واقعٍ إعلاميٍّ وتعليمي يحملُ في أعماقِ توجُّهاتِهِ آفاقاً سطحيّةً وبعيدةً كلَّ البُعدِ عمّا هو تنويري وحضاري وإنساني، وهو إعلامٌ رسميٌّ غيرُ حرّ، يروِّجُ للسلطةِ وبرامجِها وتوجّهاتِها، وترى أنَّ المستقبلَ هو للفكرِ التَّنويري مهما طمسَهُ الإعلامُ في أيِّ بلدٍ مِنْ العالمِ العربي، ولابدَّ مِنْ تغييرِ مناهِجِهِ ودساتيرِهِ وتقنيات أدواتِهِ في قيادةِ البلادِ على مستوى كافّةِ المراحل التّعليميّةِ والإعلاميّة، للنهوضِ بالبلادِ واللِّحاقِ بالدُّولِ المتقدِّمة لتحقيقِ تطلُّعاتِ الرُّؤية التَّنويريّة والحضاريّة في دنيا الشَّرقِ والعالم العربي أسوةً بما وصلَتْ إليه الدُّولُ المتقدِّمةُ في سائرِ مَجالاتِ الحياة!


ستوكهولم: أيار (مايو) 2024

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم 


بين مذابح جنين وإجهاض الجنين/ صبحة بغورة

 


يقبع الكيان المحتل منذ بدايته في الأرض العربية بزاوية مظلمة في مزبلة التاريخ لا يكاد أحد ينظر إليه سوى من كان على شاكلته القبيحة ويمكنه أن يتحمل شتم رائحة النتن الكريهة.


لم تعد فلسطين مسألة اغتصاب أرض أو احتلال وطن بعدما كشف الكيان الغاصب مجددا وبشكل يدعو حتى لبعض المتفهمين لطبيعة مبرراته الدينية ومزاعمه الكاذبة ودعاويه الخرافية إلى الشك في نزاهة مواقفه والريبة في صدق وجوده بعدما تحول كقوة احتلال إلى أسلوب القتل العشوائي والإبادة الجماعية للمدنيين والتدمير غير المبرر لكل مقومات العيش وكافة مظاهر الحياة، ففي كل مدينة ترك الاحتلال علامة تدينه ولكنه من جهة أخرى وعن غير دراية منه استفز رجال تمكنوا من نصب قلاع مضيئة تحمي الكرامة.

لقد أوقعت مدينة "جنين " قوات الاختلال العقلي في كمائن عدة وألحقت بها خسائر معتبرة ، وحتى إن كان الانتقام الأعمى بلغ درجة من الوحشية الهمجية البدائية بحق الأهالي العزل إلا أنها لم تنل من عزائم الرجال. الذين أحاطوه بهوس الهلاك. مذابح جنين لا تنسينا مآسي باقي مناطق قطاع غزة حيث ضاقت السبل أمام الجهود المضنية لدفن الشهداء ونقل المصابين وعلاج الجرحى والمرضى وأصحاب الحالات الحرجة ، مذابح جنين تجري بحق من يعانون الجوع والعطش والمرض وعدم العلاج ويقاسون البرد وعذاب التشرد في العراء رجالا ونساء شهورا بدون مأوى، هذه هي جرائم الكيان المختل نفسيا يحسبها انتصارا يتباهى به.

سبق أن تباهي المختلون عقليا بقصف المستشفيات والعيادات الصحية ونهب المساعدات الإغاثية من أدوية وأدوات جراحية .. إلخ قبل وصولها إلى مستحقيها ، إنها مساعدات دولية قدمها شعوب العالم وكان أكثرهم عن خصاصة ، لابد أن تحاسب الشعوب الكيان المختل على سرقته هذه ، إنه فعلا كيان لص ، سرق الأرض وسلب الروح ، أرواح الخدج وهم في داخل مخادعهم يستكملون نموهم الطبيعي بعدما استشهدت أمهاتهم وأجهضت أخريات من فزع ما سمعت وهول ما رأت وعايشت القتل والتعذيب ، لم يتركهم المختلون بل قطعوا عنهم كل وسائل الحياة ، ماتوا داخل مخادعهم التي تأويهم بعدما انقطع التيار الكهربائي عنهم وتوقفت أجهزة الإعاشة، جاؤوا إلى الدنيا ولم يستشر أحد منهم ليجدوا أنفسهم وحيدين داخل أطلال مستشفى يواجهون ساعة تلو الساعة مصيرا أسودالا يطيق رؤيته إنسان ذو قلب رحيم أو يتحمله شخص ذو ضمير حي. إنه سلوك سادي، شاذ، بعيد تماما عن كونه مسعي عقابي أو أنه يتعلق برغبة ردعية أو بإرادة انتقامية  بل بدافعية إجرامية تشكلت في نفوس قوم توارثوها منذ القدم فلم يذكرهم التاريخ والأديان بخير والغريب يدعون أنهم خير من غيرهم ، والمصيبة أنهم يصدقون!!

هكذا يبدو الكيان المضطرب عصبيا أمام العالم ، يقف بين الأبرياء العزل ممن تلطخت يداه بدمائهم في مدينة جنين ،وبين ما اقترفت يداه في حياة الجنين،ولا يبالي بأحد في المحافل الدولية، لم تعد القضية الفلسطينية تتعلق فقط بأرض وحدود، لقد أصبحت قضية حياة الإنسان وحق الوجود.     


كَوْنين في البال/ د. نجمة خليل حبيب



بأسلوب شيّق، سهل التناول، يوثّق شوقي مسلماني سيرة القرية اللبنانيّة، ومن ورائها سيرة كلّ قرية عربيّة. وفي كلّ لوحة من لوحات الكتاب هناك كشْفٌ عن ميزة من مزايا شعبنا العربي الطيّب. نصوص  تكشف عن الذات القرويّة، وما تتميّز به من روح سمحة ودعابة وصلابة وإرادة في مواجهة شظف العيش. نصوص ممتعة ومفيدة في حفظ ذاكرة القرية للأجيال القادمة". وفي ما يلي نصوص من "كونين ـ لطائف وطرائف": 


(كلبة حسن طعّان)    

أراد المرحوم حسن علي "أبو ابراهيم" أن يزرع مشاتل تبغ، وكان يُسهسل (يسهّل) الحاكورة (قطعة أرض مجاورة للبيت) جيّداً بواسطة مشط حديد، وفي اليوم التالي يجد المشاتلَ "مدعوسة". وحيث تكرّر الأمر غضبَ رحمه الله وصمّم أنّ يعرف من هو المعتدي الآثم، وأخيراً عرفه. ولعلعَ (ارتفع زاعقاً) صوتُه، فسمعَه جارُه المرحوم سليمان جنيدي فقال: "شو باك يا بُو بْراهيم طالعْ صوتك، إنت ومين علقان"؟، فقال: "كلبة حسن طعّان، كلّ يوم بْتجي وبتجبلي معها شلعة (مجموعة) كلاب، ما بتحلالها إلاّ بالمشاتل"!.  


(شخير "ورِّ" البقر)    

قال عبد طعمة "أبو عبّاس" إنّه أيامَ الشباب اتّفق مع "بنت" أن يلتقيا في حاكورة (قطعة أرض) هي للشيخ عبد، وكانت مزروعة قمحاً أستراليّاً طويلاً، بحيث يختفي بداخله الجمل، كما يُقال تعبيراً عن حال، ومقابل أن "يستمسك" بها وعدها بعلبة "راحة" ـ حلويات ـ وذلك بعد أن يؤذّن الشيخ علي آذان المغرب. وتحمّم عبد طعمة وحلق لحيته وذهب الى الحاكورة وجلس وطال إنتظاره، "وْصارْ يغفلْ وِيفِيقْ"، وتكرّر ذلك، وأصبحت الدنيا ظلاماً شديداً، وفي هذه الأثناء خرجت زوجةُ أحد الجيران من آل رشيد وجاءت إلى الحاكورة كي تبول، على عادة أهلنا قبل اكتشاف المراحيض، وأنتَ تعلم أنّ "الحرمه" عندما تريد أن تبول فـ "السايب" له "شخير" مثل "ورِّ" البقر، فسمع عبد طعمة هذه "النغمات" فظنّها لحبيبته، همس وقال: "أنا قاعد هون ليش قعدتي عندك"؟!. فهربتْ خوفاً وهي تبول. وفي الصباح سرتْ "دعاية" أن حاكورة الشيخ عبد فيها: جِنّ!. 


(حرام عليك!)   

 وفي الأربعينيّات من القرن العشرين كان مختار كونين هو الشيخ عبد الحسن حمّود والد المرحومين: موسى وجواد، والمشيخة له اعتباريّة وذلك لِسِعة عقله واتّساع صدره، وكان "صاحب بيت" وكريم النفس جدّاً. وكان له صديق بيروتي متموّل من آل الكردي يرتدي "قمبازاً" ـ ثوباً طويلاً و"طربوشاً" أحمر اللون، استضافه الشيخ أكثر من مرّة، فأحبّ كونين وأحبّ أهلها، واشترى فيها "كذا" قطعة أرض. ومرّة جاء إلى كونين مصطحباً زوجته البيروتيّة، وعند المغادرة عائداً إلى بيروت بالبوسطة ـ الحافلة الكبيرة ـ وقفتْ له خديجة الحاج حسين طالب ومعها طفلها يبكي وصرخت في "مقلب" من مقالبها الغريبة: "لوين رايح؟، لمين تارك إبنك؟، حرام عليك"!. وأُصيبت الزوجة البيروتيّة بالذعر، وأقسم زوجُها الكريم أنّه متّهم مظلوم، وبالطبع من دون جدوى. وأخيراً باع الأراضي التي سبق واشتراها وانقطع عن كونين، و"هيداكْ يوم وْهيدا بَدَاله". 


(شمس العروس)  

تزوّجتْ حمدة خنافر "أمّ محمّد" التي هي أصلاً من بلدة عيناثا المجاورة لبلدتي كونين وذلك في سنة 1955 من عمّي كامل علي محمّد أسعد أمين مسلماني، و"زفّوها" على فرس، وكانت العادة أن يمسك ناطور البلدة رسن فرسَ العروس، وكانوا يعطونه بدل عمله هذا "تيّاراً" هو "إشارب" ثمين، وهو ذاته الذي كان يُلفّ به عنق الفرَس ذاتها. وهناك "حوربة" ـ أغنية ـ أنشدها في الزفّة حسين عبدالله "أبو فوزي" نادرة: "يا شمس دَلّي حبالِك \ وتأمّلي بحالِك \ بالجوّ ما عاد لِك سكونْ \ طلعتْ عروس قبالك". 


(كاديلك سوداء)  

حسين عبدالله "أبو فوزي" كان من أوائل الذين اقتنوا سيّارةً في كونين ـ خمسينات القرن العشرين وهي من نوع "كاديلك" سوداء "مِنْ هَل طوالْ، موتورها خربان، بْتمشي ع الدفش ـ الدفع، أشكمانها مخزوق، وبْتهدر". ولم يعدم من يغنّي له في ذلك العصر والأوان: "بُو فوزي جايب سيّاره \ بْتهدر متل الطيّاره \ بالطلعه شِدّوا يا ولاد \ وبالنّزله حطّوا حجاره". 


(ذات الكحل)  

مرّة ذهب محمّد شاهر مسلماني إلى المرحوم عبد الكريم محمّد مسلماني "أبو علي"، وهو شقيق جدّه، وكان مهجّراً من كونين، ويقطن في محلّة خندق الغميق ـ بيروت، إثر احتلال إسرائيل "للشريط" الحدودي اللبناني سنة 1978 وإثر تهجير جميع كونين، في ما بعد، تقريباً. وكان بين الإثنين، على رغم فارق السنّ الكبير جدّاً، مودّة ظاهرة وملاطفة ومزاح كأنّهما متجايلين، ولم يمكث محمّد قليلاً في منزل أبي علي زائراً حتى استأذن على غير عادة أنّه يريد الذهاب إلى "أبي إسحق"، سأله عن أبي إسحاق هذا، قال: "زلمي" ـ رجل "عنده صبايا للإيجار"!. ابتسم المرحوم، طيّب الله ثراه، بعدما فطن إلى مداعبات حفيد أخيه وقال: "والله ذكّرتني". وروى إنّ "محسن ذيب"، وذلك في الخمسينات من القرن الفائت، كان صديق أبيه المرحوم محمّد، المعروف كثيراً بشجاعته وقوّة عصاه، وفي مرحلة من زمان هذه الصداقة كان محسن ذيب، وقد كان  نحيلاً وقصير القامة، قد استأذن، وهما معاً، أنّه سيفارق إلى عمل ضروري، حتى إذا سأله عنه قال "متشاوفاً" إنّه يعرف "واحدة" ولا أجمل، عيناها "مْكحّلينْ تكحيلْ"، أي هي من الحور العين، وإنّهما يلتقيان في "العريض" ـ غابة الضيعة. ويوماً قرّر المرحوم محمّد أن يعلم من تكون هذه "الواحدة" التي "يحرقصه" محسن ـ  يثير غيرته ـ بها؟، وتبعه خلسة حتى رآه أخيراً عند صخرة في طرف العريض ـ غابة الضيعة ـ "وْنازلْ سَفِقْ ـ يفعل ـ بِحمارَهْ". 


(مخاطباً الله)    

هناك رواية عن الحاج مصطفى فوعاني تقول إنّه كان قد زرع قطعة أرض قمحاً، ونضج القمح ولم يبلغ طوله شبراً، وبعد البيدر والمورج جعل القمح الصافي في "خيشة" صغيرة ربطها وجعلها على حمارته إلى البركة الكبيرة التي من زمان ما قبل الرومان من أجل الغسل والصوصلة، وكان الحاج مصطفى طيّب القلب إنّما عصبي، وكانت أيّام فقر، وعندما اقترب من البركة خطر له أن يرفع يديه نحو السماء وهو يقول: "يا ربّ حلّها وافرجها علينا"!. وكانت الحمارة قد وضعت قائمتيها الأماميتين في الماء كالعادة ولكن هذه المرّة لم يعجبها أن تشرب من أوّل البركة بل خاضت في الماء أمتاراً، وزيادة في الطين بلّة كأنّ أحداً حلّ ربطة الخيشة وهرَّ القمح في الماء. وانصدم الحاج مصطفى، ورفع يديه بعصبيّة نحو السماء مخاطباً الله وقال: "قلتلّك حلّها وافرجها ما قلتلّك حلّ الخيشهْ"!. 

الرواية بوصفها حاملة ثقافية للتغيير/ فراس حج محمد

 


تلعب شخصية المثقف دوراً محورياً في الرواية؛ كونها جنساً أدبياً وسائليا ورسائلياً، بمعنى أن الرواية استُخدمت من أجل التوعية على القضايا المصيرية منذ نشأتها وحتى اليوم، سواء أكانت في الشرق أم في الغرب، لكنّ الرواية العربية اتصلت أكثر بقضايا النهضة والتطوير منذ مطلع القرن العشرين، وشاعت شيوعاً كبيراً، ومع الوقت أخذت تحلّ محل الشعر في دورها التثقيفي التوعوي، فأدى ذلك إلى انطفاء وهج الشاعر، وسطوع نجم الروائي الحامل لهذا الهمّ.

فالرواية ليست حكاية وقصة فقط، وإن كانت الحكاية ضرورية فيها، إلا أنها مع هذه الحكاية تحمل أفكارا سياسية في الدرجة الأولى، على اعتبار أن كل فكرة مهما كان وصفها فهي في النهاية ذات مآل سياسي، فالأفكار الاجتماعية والثقافية كلها ذات أبعاد سياسية، ولا بد من أن يكون لها هذا البعد، على اعتبار أنها قضايا ذات اتصال بالإنسان في مجتمعه، وتتحدث بصورة أو بأخرى عن إدارة شؤون نفسه، أو إدارة شؤون الذات مع الغير، أو الغير مع الغير، وهذه الإدارة في المفهوم الواسع لها معنى سياسي ومعنى ثقافي مجدول بها على نحو يصعب الفصل بينهما، فالمجتمع حتى يتخذ هذه الصفة، لا بد من أن توجد فيه ثقافة ما، وشكل ما لعلاقة تحكم أفراده، لُحْمة هذه العلاقة الإدارية تتخذ طابعا سياسيا، إلا إنها ذات أداة ثقافية أيضاً. فالثقافة والسياسة- إذاً- في اتصال دائم، فلا ثقافة بلا روح سياسية، ولا سياسة بلا غلاف ثقافي، فالمسألة جدلية بين الأمرين، وبهذا الوعي المعمّق تشكّل الرواية حاملاً للوعي العام المترجم سياسيا وثقافيا، يتجسد في التعبير عن المواقف، بالفعل الثقافي، أو بالقول الأدبي، أو بالرسم،  أو بطريقة العيش، وحتى ما يستخدم من أدوات، وما يشيع من أفكار كلها مشبعة بالروح الثقافي.

إنه لمن البديهي أن أقول: إن السياسة والثقافة ارتبطتا معا منذ النشأة الأولى لقصائد المديح التي أنشأها الشاعر- بوصفه مثقفا- فتلك القصائد جاءت من أجل هدف سياسي، وهو مغازلة السلطة السياسية، وكذلك الهجاء التي قدمه الشعراء كان ذا وجه سياسي أيضا، كان منطلقه "العصبية القبلية" عند عرب الجاهلية، ثم تطور ليأخذ شكل الهجاء السياسي عند مناوئي بني أمية من الخوارج على سبيل المثال، وصولا إلى المتنبي، وهذه مجرّد أمثلة لا غير، ومن يستعرض التاريخ الأدبي لقصائد المدح والهجاء سيرى البعد السياسي حاضراً، ولم يسلم منها أيضا شعراء المديح النبوي، هؤلاء الذين رأوا رأيهم في واقعهم السياسي، فاتجهوا نحو المديح النبوي للتعريض بالواقع المعيش بطريقة شعرية ثقافية. 

ليس الشعر وحده ما كانت له هذه المهمة السياسية، فأخبار التاريخ وحكايات القصاصين والأساطير والحكايات الشعبية، وكتاب كليلة ودمنة- مثلاً- ذو الطابع القصصي المنظم على هيئة مخصوصة، هذا التراث القصصي في واقع الأمر كان قصصا سياسيا.

هذا التوصيف ينطبق انطباقا كبيرا على قصص ألف ليلة وليلة التي ترسم ثنائية الديكتاتور والمثقف، أو السلطة والمثقف، لأنها استطاعت أن تجابه الحاكم المتسلط بالثقافة، أو بأحد فروعها أو أشكالها (غلاف ثقافي) ألا وهو القصّ/ الرواية؛ فشهرزاد لم تكن مجرد امرأة تتقن القص/ الحكي، إنما كانت امرأة تتقن اللعب على وتر الثقافة ذات البعد السياسي، ولذلك لا يصحّ أن نفهم ألف ليلة وليلة على أساس أنها فقط قصص متوالية للتسلية والترفيه أوقات الفراغ فقط. فقد شكلت هذه القصص منفذا ومهربا ومنجاةً للمثقف/ المرأة من مصيرها المحتوم وهو القتل، وهذا له معنى سياسي كبير، وثقافي أعمق، خصوصا عندما يصل القص إلى مرحلته الأخيرة، فتكون النتيجة "التغيير"، هذا التغيير الذي يطلبه المثقف ويلحّ عليه، ولا يكون لحياته من معنى دون هذه النتيجة.

لقد شكّلت "رواية" ألف ليلة وليلة نوعا من المقاومة، وأسفرت عن وجه من وجوه الصراع البشري ضد السلطة المتحكمة، هذا الصراع لزمه ألف ليلة وليلة، أي ما يقارب من الثلاث سنوات، ولم يتخذ شكل الصراع العنيف الدموي، إنما كان هادئا سلساً، لا شك في أنه مصحوب بالخوف والترقب من كلا الطرفين، المثقف/ شهرزاد، والسلطة/ شهريار إلا أنه ظل يتفاقم بنوع من الهدوء الذي اتخذ من الليل ظرفا مناسبا له، برمزيته العالية التي تشير إلى عملية التغيير نفسها التي تتم بهدوء دون أن يلاحظها أحد، عدا أن سببها الظاهري محكوم بالعلاقة بين طرفي القص؛ القاصّ/ شهرزاد الزوجة، والمقصوص عليه/ شهريار الزوج. 

تحمل هذه الثنائية أيضا رمزية أخرى تومئ إلى ضرورة التعايش، فالطرفان المحكومان بعلاقةٍ، الأصلُ فيها أنها ودية، وهي الزواج، إلا أنهما أيضا محكومان بعلاقة أخرى تقوم على إقصاء السلطة للطرف الآخر بعد الاستمتاع به، وهذه كذلك رمزية ثالثة، طباقية المعنى (حسب مصطلح إدوارد سعيد)، لأنها متعددة ومركبة ومعقدة في الآن ذاته.

تشير هذه المسألة إلى أن "الرواية" أو القص يختلف عن الشعر، ففي المجتمعات المستقرة عادة ما تحتاج التحولات إلى وقت طويل، وغير عنيفة، وإن كانت محتدمة فكريا، هذا الاحتدام يلزمه نوع من الأدب مغاير عن الشعر، ربما هذا يفسر بشكل أو بآخر شيوع المسرحية عند اليونان، فقد تشكّل في بلادهم مجتمع مستقر، وكانت فيه الفلسفة على أشدها، فلا بد من هذا النوع من الأدب، فتراجع لديهم- أو هكذا أتصور- الشعر الغنائي الذاتي، واتجه المؤلفون إلى المسرحيات والشعر التمثيلي، وكان لهذه المسرحيات تجسيد على خشبات المسارح، وكان لها مشاهدون يتفاعلون معها إيجابا وسلباً.

تومئ التجربة الإنسانية إلى أن الشعر أبو الاستجابة اللحظية القائمة على العاطفة الخارجية، أما الرواية فهي الشكل الأدبي الأكثر عمقا في التفكير والتأمل وبناء الأفكار وتغييرها، ويلزمها امتداد تاريخي على مستوى البنية النصية المتواصلة، وهذه ليست متوفرة للقصيدة الشعرية، فهي لحظية النشأة والهدف، ولا يمتد الزمن فيها على مستوى البنية نفسها، ولهذا تحولت المهمة الثقافية التي كانت تتغيا سياسيا التحشييد العاطفي في المجتمعات القبلية القائم على الشعر إلى الرواية القائمة على المناقشة والعرض وتعدد الأصوات، لتقابل المجتمع الذي تحول من مجتمع أحادي القبيلة والعرق إلى مجتمع متنوع ومتعدد، وهذا التنوع والتعدد يلزمه نص أدبي يتساوق وينسجم معه، فكانت الرواية، أو ما يقرب من الرواية من أشكال أدبية.

بناء على هذه الفرضية، أعيد التفكير بالقرآن الكريم وظروف نزوله التاريخية والاجتماعية الثقافية. يعد القرآن عملا فكريا اجتماعيا فاصلا بين مرحلتين في حياة العرب، مرحلة قائمة على الحرب والتشظي والنزاع القبليين، والأحادية في النظرة؛ على الرغم عن تعدد الآلهة لديهم، وبين مرحلة ستكون متعددة الأفكار والأعراق على الرغم من الوحدانية الدينية، فلا يصلح الشعر أن يظل شكلا أدبيا سيّدا؛ لأنه ابن مرحلة يعمل القرآن الكريم على إماتتها، فجاء شكلا أدبياً بين الشعر وبين الرواية، لأنه يريد أن ينقل العرب من طور الثقافة القبلية المتمحورة حول الذات والعاطفة الفردية إلى طور الاستقرار المجتمعي القائم على العقلانية والتفكير والتأمل والحس الجماعي، لذلك امتلأت آيات القرآن الكريم بالحث على العلم والتبصر والتفكر والتفكير كنوع من الاشتغال الذهني على البنية للفرد العربي أو المسلم، كما امتلأت السُّوَر بالقصص التي هي مقدّمة أدبية ذات شكل روائي، كما اشتملت الآيات على الأخبار، كنوع من الاشتغال الجمعي، وكل هذه الأنساق الثقافية استخدمت من أجل إعادة تشكيل الأمة بنص مؤثر وقويّ، فكان القرآن الكريم الذي تضمنت آياته كثيرا من العناصر الشعرية، لكنها أدخلتها في سياق روائي- نثري، ولم يكن من بد إلا اتخاذ هذه التقنية التعبيرية، لأن المهمة ليست سهلة، فنقل المجتمعات من حال إلى حال يلزمه الصبر وطول النفس وتغيير الأداة، وأقصد هنا أداة التعبير التي هي أداة التغيير كذلك.

أحاول أن أضرب مثلاً معاصرا قريباً آخر بشيوع الرواية في الأدب الفلسطيني بعد اتفاقيات السلام/ أوسلو (1993)، لأن المرحلة أصبحت مرحلة بناء سياسي (رفضنا ذلك أو أيدناه هو هكذا)، هذا البناء يلزمه النقاش والمراجعة، والتحول من مجتمع مقاتل ومتحفز للقتال إلى مجتمع يبني دولته ومؤسساته، وكأنه انتقل من الطور المجتمعي القائم على التهييج العاطفي للفدائي في المعارك والحث على القتال إلى طور الهدأة والتأمل من أجل هذا البناء السياسي. 

ونجحت الرواية باعتقادي في طرح جميع الأسئلة المتعلقة بهذه المرحلة، فتراجع الشعر، وتحوّل العديد من الشعراء إلى كتابة الرواية، لأن طبيعته لا تتيح له مثل هذه المناقشة، ليعود الشعر مجددا ليتصدر المشهد في ظل الحرب الأخيرة الناشبة في قطاع غزة، فمعركة طوفان الأقصى أعادت الروح الثورية التي تحتاج إلى التزود العاطفي المستمر واليومي، فولدت مئاتُ القصائد وعشرات الدواوين الشعرية والأعمال الغنائية ذات الإيقاع السريع التي تبغي في جزء منها إلى التغني بالمقاومة وأعمالها، وتحفّز الآخرين لأن ينضموا إلى ركبها، فالمعمعة تحتاج إلى مثل هذا الاهتياج العاطفي والإيقاعي، فتراجعت الرواية لصالح الشعر، وإن كان تراجعاً محكوما بهذه اللحظة الطارئة التي لن تستمر إلى ما لا نهاية بطبيعة الحال لتعود الرواية إلى طرح أسئلتها حول ما خلفته الحرب من نتائج، لأن تلك الأسئلة لن يكون بمقدور الشعر طرحها والإجابة عليها بهدوء وعقلانية لأن مهمته ليست هذه.


نادي الأمل الفلسطيني/ جواد بولس



لبّيت يوم السبت الفائت دعوة "جمعية نادي الأسير الفلسطيني" لحضور مؤتمرها الثامن في مدينة البيرة. وصلت قاعة المؤتمر في اللحظة التي كان فيها الحضور منتصبًا بصمت، اجلالا لعزف النشيد الوطني الفلسطيني؛ فوقفت مثلهم وحدّقت في عشرات الوجوه السمراء وعيونها الساهمة تتطلع بصرامة الى الأمام والاكفّ مقبوضة بحرص على الصدور حتى انتهت الموسيقى وعلا التصفيق وعادت القاعة الى ضجيجها الخافت قبل البدء في الجلسة الافتتاحية. 

لقد عرف أصدقائي في ادارة نادي الاسير بأنني احاول الابتعاد ، منذ سنوات، عن حضور مثل هذه المناسبات العامة؛ إلا أنهم أحبوا وأصروا أن أكون معهم برسم المودة والاحترام المتبادلين بيننا وإيفاءً للعشرة التي دامت بيني وبين النادي لاكثر من ربع قرن، عملت فيها بداية كمحام ضمن  الوحدة القانونية التابعة للنادي ومن ثم مديرا لهذه الوحدة حتى اغلاقها قبل بضع سنوات. لكنني مع مرور السنين صرت أنأى عن وهم المنصات في فلسطين ورتابة ايقاعاتها؛ واخاف أكثر من وجع قد يفاجئني بعد أن شاخت احلامي وانطفأت كواكب ليلي، وكابدت مرارا من رجس الجاحدين وغدرهم. لكنهم دعوني وعرفوا أن صاحب القلب الخافق يحنّ دومًا الى بئره الاولى التي على حفافها تعلّم سورة الظمأ وصار أخا للايائل تركض لتقبض على ذوائب الريح، وصبورا كالسرو ومؤمنا كالسنديان. 

كنت في السيارة وحدي والطرق في فلسطين غالبًا لا تنتهي كما يجب ان تنتهي، والسفر فيها يكون مغامرة . كانت طوابير السيارات تمتد امامي كثعبان اسطوري؛ وصافرات بعض المركبات  تحاول ان تُسمع الفضاء احتجاجاتها دون فائدة؛ فالجنود على الحواجز، بعد أن "فقأ" الاحتلال قلوبهم، لم يعد يغويهم إلا صوت عصيّهم وهي تنهال على عظام الفلسطينيين أو أزيز رصاصهم وهو يصطاد "الشيرينات"، ولا يحبون النظر الا من منظار فوهة بندقية أو من حدقة عين كلب. كنا نتقدم ببطء شديد نحو الحاجز، وكنت احاول قتل الضجر والغضب باستحضار شريط من ذاكرة، هي بعكس صاحبها، لا تشيخ وتفيض بصور الذين ناضلوا ضد الاحتلال واعتقلوا ودافعت عنها بدءًا من سنة 1980. حدثت  نفسي كي تهدأ، فرتل السيارات الطويل يتحرك وفق "رحمة" جنديتين تشعران اليوم كحفيدتي بار كوخبا أو بن غوريون ، بعد ان نصّبهما "الجنرال" حارستين على أمن امبراطورية الشر ومسؤولتين باسمها على وقت الرعايا الفلسطينيين وعلى حرية حركتهم، والتحكم في دخولهم الى رام الله ام لا. حاولت الا افقد اعصابي وأن انتظر بصبر مثلما يفعل في فلسطين كل من يسعى الى رزقه والعمل ويحرص ألا ترديه رصاصة جندي فاشي محموم. 

كان في كل مدينة فلسطينية كبيرة سجن ومحكمة عسكرية، وكنا نصلها لنزور الاسرى ولكي ندافع عنهم. كانت فلسطين وقتها محتلة عالمكشوف وكنا نتحرك ونتنقل بين كل المدن والمحافظات بحرّية من غير حواجز، وكان بعد أن حرّرت "اوسلو" أجزاء من فلسطين اصبح اهلها اسرى وعاجزين وصار بعضهم يقضي نصف عمره في انتظار الوهم، مسلحين بقواعد التدجين وصلاة المسافرين ومزامير الصبر ونشيد "لا نلين". كنت وحدي والفكر سارح ومبتسمًا الى ان وصلت قبل الحاجز مباشرة فقلت لنفسي: هراء.. انت تقول لنفسك  هراء.. لقد كانت فلسطين محتلة عالمكشوف وبقيت مختلة/محتلة عالمكشوف، اما اهلها  فبقوا كما كانوا احرارا وصابرين ! قلت وخشيت من طيش العاطفة ورتابة الشعار . وعبرنا الحاجز سالمين ! 

في بدايات عملي كنت أحب صباحات فلسطين، لأنني في كل يوم زرت فيه سجنًا أو محكمة كنت أشعر أن شمس فلسطين تطلع من خاصرة الأرض كي تأذن للحياة وتقول لها: اندلقي نورا على المعمورة، وللرياح انثري في البحر بذور عواصفك؛ وكنت أحب ليل فلسطين لانني كنت ارى في عتمته اقمارها السجينة سابحة نحوي كالمنى وراقصة كالضوء من بعيد. كان ليل فلسطين ستّارا وليس كليل العرب نمّاما؛ وكان ناسها يخبئون تحت جناحه خوابي أوجاعهم وآمالهم، ويحرقون الصلوات بصمت في حنايا صدورهم فتصير في النهارات أعواد نَدّ وبيارق. كنت أسمع أهل فلسطين في السجون وفي المحاكم يروون حكايات عن سيدة كانت تأتيهم في الليالي كحورية من وراء المدى الازرق؛ كانت تسمي نفسها فلسطين. كانت تعدهم بأنها ستأخذهم الى أعراس في سهول ارجوانية، أرضها من ريق السماء، وأسوار حدائقها من ورود وأزهار أحلى من الفل والنرجس، وفيها أشجار من أقمار صغيرة الى جانب أشجار زيتون ولوز وعنب وتين .كان الأسرى يتحلقون في حضنها ويصدّقونها ويَصدقونها وكانوا يحبونها وتحبهم.  وكنا، نحن المحامين، نحبهم ونحب فلسطينهم وننتظرها في ليالي الصيف وفي ليالينا الغائمة.  

دخلت قاعة الهلال الأحمر الفلسطيني واتخذت بهدوء أقرب كرسي وجدته أمامي مقعدا. التقيت الكثيرين فاستعدنا الذكريات وفرّ الحنين ليحتفي بعودة الدوري الى حافة بئره الاولى.  

كان واضحًا لجميع من حضر أن المؤتمر يعقد في ظروف استثنائية، خاصة في ضوء العدوان الاسرائيلي على غزة والتصعيد الخطير في الاعتداءات التي تنفذها ميليشيات المستوطنين وفرق جيش الاحتلال ضد المواطنين في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس الشرقية.  

 لقد خُصّصت جلسة المؤتمر الافتتاحية لكلمات الضيوف الذين أكدوا فيها على أن انعقاد المؤتمر يعكس التزام القيّمين على إدارة الجمعية بالعمل بنهج ديمقراطي سليم وبشفافية، وحيّوا، كذلك، مسيرة الجمعية على عطائها غير المنقطع منذ تاسيسها عام 1993 واستمرارها في تقديم الخدمات القانونية للأسرى ولعائلاتهم ولكونها عنوانا أصيلا وعريقا لقضاياهم ؛  وأكدوا على أن ما يواجهه الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الاسرائيلي وفي معتقلات الأسر العشوائية ، منذ السابع من اكتوبر، يعكس قرار المؤسسة الاسرائيلية بتنفيذ مخططها "بكسر ظهر" الحركة الأسيرة والقضاء على وجودها ودورها كرافد هام في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني . فسياسات الانتقام والترهيب والضرب والتجويع والعزل والاهمال الطبي والتضييق على الأسرى بوسائل غير مسبوقة تشكل شواهد على نية الاحتلال ومآربه.

 مع انتهاء الجلسة الافتتاحية أُعلنَت استراحة قصيرة استغلها الحاضرون لإتمام طقوس السلام والكلام والعناق؛ فمعظم الحاضرين كانوا رفاق درب واخوة في الأسر ويعرفون بعضهم البعض؛ واليوم اجتمعوا تحت سقف خيمتهم. بقيت في مكاني فتقدم كثيرون نحوي لالقاء التحية والسلام وبعضهم راح يمتحنني فيسألنني ان ما زلت اذكر اسمه. عرفت كثيرًا منهم ولم أتذكر بعضهم، فبعد أربعين عامًا مليئة بالوجع وبالتفاصيل وبالقصص، يحق للعقل أن يسهو وينسى. 

تذكرت كيف كانوا يشعرون أنهم أسرى في المجاز، لأنهم عاشوا، في عوالمهم الموازية، بأرواح حرة حتى المطلق. لم يهابوا سجانيهم ولا المواجهة، ولم يخافوا إلا على دمعات أمهاتهم. لقد عشقوا الحرية بدنف غير منقطع وذوّتوها في "جوّاهم"، فلم تغرهم المادة ولا التوافه ولا مكائد السجانين. لم يتمنوا إلا عري الصباح ومعانقة أنفاس الندى النائم على شرفات الذكريات او الساقط من أهداب يمامات احلامهم.

كنت لا اخاف عليهم الا من نسمة شاردة قد تبلل في الليل وسادة أحدهم الخالية وتوقظ في أحشائها الحنين، او من عصفورة شقية قد تمر على شباك حلم فتشعل السر وتطير . 

هكذا كان اسرى فلسطين، أمّ التمائم وسيّدة الرضا، لا ينامون الا على عصيّ معاولهم ومناجلهم ويحلمون واقفين برائحة الفجر وبغنج السنابل وبالرقص عند خواصر السواقي.

وقفت في طرف القاعة أرقب من بعيد تفاصيل المشهد. كانوا أمامي يضحكون كحبات عقد فريد ويتهامسون بصوت عال ويتنقلون من طاولة لطاولة بعجقة وبفرح. كانت قاعة المؤتمر تبدو من بعيد كساحة فورة كبيرة في سجن بعيد. 

كنت واقفًا على حافة الارتباك، فسمعت صوت احدهم يسألني: ما رأيك يا استاذ بالمؤتمر؟ ثم أردف قبل أن يسمع رأيي سائلا: هل تعتقد انهم سيفرجون عن القائد مروان البرغوثي ؟ هل برأيك سيطلع ؟ حاولت أن استوعب جدية السائل فسبقني مُطلقا إجابته بسرعة السهم، وقال "لا أعتقد ذلك، فاسرائيل لن تفرج عنه، وحماس تبيعنا كلاما لانها تكذب ولا تريده حرًا، وكذلك معظم رجالات السلطة لا يريدونه حرًا "؛ قالها  بنبرة المتيقن وبدون مشاعر أسف. نظرت نحوه وسألته: وأنت، هل تتمنى أن يفرج عن مروان البرغوثي، فإذا كنت كذلك عليك أن تستبدل منطق سؤالك وتتحقق من دوافع متهميك؛  ثم سكتُّ برهة وأضفت: أمّا بخصوص المؤتمر فرأيي أنه على الرغم مما ينقصه ومن غابوا، سيبقى بالنسبة للكثيرين كما كان: "مؤتمر نادي الأمل الفلسطيني" .  

نوافذ في أحشاء سماء/ غسان م منجّد



إفتحِ باب الشعر يا عباءة ألأفق 

حليباًترضع الكلام وتتغطّى بها ألقصائد 

أتخّيلها تمطر في أحشاء كلماتي

وترتفع بها وكأنها راية الحنجره

هلْ للحنجرةمزاميرٌفي أحشائها

وتقول لصوتها ما لا تراه وما تراه

أهذه شموعي التي أْشْعلَتها ابواب سمائي 

وتسمّرتْ مع زبد أمواجي 

أَنامُ على كرسيٍ لمْ تغطيها غيومي 

وينام القمر معي حزيناً ينتظر عودة ليلي

جاثياً على ركبتيه حاملاً بين أكمامه ورود إخلاصه

أَضعُ كتفيَّ على درج مستقبلٍ مُرصّع ٍ بلهب شموع 

ويلتقط فراشاتٌّ ملّونة بمستوى لجّةالوثيقه 

هلْ يغنّي العالم معي ونصبح 

رعاة يقظةٍ من كتاباتٍ غامضه 


قراءة في المجموعة الشعرية “نحت على الهواء" للشاعرة الدكتورة أ. دورين نصر بعنوان: أنثى الحلم/ جورج مسعود عازار





من العنوان نبدأ، وكلمة نحت وتعني فن وعمق وإظهار، ولكن هذا النحت هو على الهواء، ربما أرادت أن تقول غداً لن يبق منا سوى ذكرى وبضع كلمات، ولكننا نعلم علم اليقين أن الحياة ذاتها مجرد كلمة وإن كلمةٌ تحيي، وكلمةٌ تميتُ، ومن أجل هذا تهدي شاعرتنا كتابها إلى أمها باعتبارها أول الكلمات وتهديه إلى أبيها ذلك الحنين المعتق ولهفة الخريف. والمرأة في المحصلة كلمات من لهفة وحنين وترنيمة حياة.

تغازل دورين في قصائدها مثل بوح النسيم ورقة البراعم الغضة فتقول:

"فأنا حين أحببتك

رميت أحزاني 

وصارت الشمس تشرق 

من عيون القصيدة."

ولأننا جميعا نحتفظ في أعماقنا بطفلٍ أبدا لا يكبر، نكبر ولا يهرم، طفل يقودنا بكل يسرٍ إلى البَدء إلى سويعات الفجر، يستيقظ في لحظات الفرح ليدغدغ أمانينا، تقول في قصيدتها:

"وأنت تهمس في قلبي

فتنضج الحروف على شرفة الحياة.

وأعود طفلة صغيرة."

وما نلبث أن نكتشف فيها تلك المرأة الأنثى التي تحرص على ألا تبوح بالمكنونات كي لا تُبَكِّتُها التفاسير الفجَّة، فهي لا تصرِّحُ له بالحب علانية وتترك له جلاء كلِّ الألغاز:

"لعلي أخاف من لحظة تأتي

 أعرف فيها ما أقول."

هذه هي دورين، عطرٌ من كُلِّ الألوان، وغيرةٌ وغزلٌ وعشق وبحارٌ من هُيامٍ، ولكن حين يصير الواقع مُعتماً، وحين تتوه ابنة الحكاية، لا تجد بُداً من السَّفر عبر حلمٍ إلى وجه الابنة إنانا تستعير منها تفاصيل الحلم، وشروط اللعبة المدهشة، ومن أَولى من ملكة السماء كي تحقق لها الحُلم المستحيل لا فرق كبير في الاسم إنانا أو عشتار فالمهم هو الوصول إلى محطة الحب والجمال والصفاء والنقاء بسلام.

ولكن الويل كل الويل إن يصيب المرأة مللٌ أو يعتريها سأمٌ حينها ستصرِّحُ:

"سئمت التراتيل والغناء والضوضاء

مللت من المرآة ومن العبور."

تستمد دورين من عبق الماضي لهفةً مختبئةً بين السطور، تمشطها بخيوط الروح، تهياها للسفر في رحلة الأمل، هي تعلم أن المرء مجرد عجينة من لون الحزن تتناثر فوقها بضعة حبيبات من فرحٍ ومن سكرٍ.

تبدو مرتبكة خَجْلى، هل تبوح له بحبها علانيةً وتصرح بعشقها وحبها، وتستجمع كل شجاعتها لتهمس له 

أحبك، فقط حينها تنفتح كل الزنازين ويخرج المارد من القمقم، وتتغير فصول الحكاية فتقول: 

"عندما همست أحبك 

صرخ المدى 

واهتز صمت الليل

نام الصَّدى فأدركت حينها

أنها تبتسم"

في كلٍ منَّا جراحات لا تندمل فالوطن جرحٌ والشوق جرحٌ والهجر جرحٌ وجراح الروح أقسى الجروح

والحياة في كل معانيها صليبٌ محمولٌ على أكتافنا الممزقة، لا تنتهي عذاباتها إلا في يوم الرحيل البعيد.

ولا أطن أنها كانت مصادفة أن تقع قصيدتها "لن يكون هذا الخريف رومانسياً" إلا إشارةً ضمنيةً إلى انزياح الضوء لصالح العَتمة.

ورغم الوداعة والرِّقة التي غلَّفت معظم قصائد المجموعة لكنها حينما يتعلق الأمر بحقوق المرأة لا تجد غضاضةً في أن تكون قويةً متمردةً وحتى عنيفةً فتطلب من أمها قائلةً لها: 

"لا تكوني امرأةً مطيعةً 

أجمل مافي الريح

أن تكون عاتيةً

 لن أكون مثلك طائعةً."

تتأرجح عواطفها بين الشَّوق واليأس، فهي مازالت تحن إليه وتتوق إلى لقياه، ولكنها تعلم أن ذلك صار أقرب إلى المستحيل فتقول: 

"عندما يهرب اللقاء من موعده

ويغرد الرَّحيل بين شظايا الفراق

وعندما يتعثر العمر بخطوته

وتبقى قوافل الشعر عالقة في زحمة الانتظار

قد ألقاك."

ورغم هذا يعتمل الشَّكُ في داخلها فيحتل اليأس أعماقها فتقول:

"غرابٌ فوق السطور يحومُ

يصغي إلى خريرِ الضوء

ويقتاتُ من دمي."

ذلك الأنا القابع في دواخلنا، توأم روحنا، والذي نتكئ عليه كلما ارتكبنا هفوةً، مثل طفلٍ في مدرسة، نلقي الَّلومَ عليه ونتحجج به كي نواري عثراتنا وزلاتنا وحتى أحزاننا، ربما ننساه في فترة فرحنا القصيرة لكنَّه لا يتركنا ولا يهجرنا، بل يبقى دوما هناك قابعاً في انتظار أوامرنا وحتى قصاصنا وتحمل كلّ خيباتنا وهزائمنا وانكساراتنا تقول دورين:

"تلك المرأة التي تراقبني لا تشبهني

 مع أن ملامحي مرتسمة على جبينها

 قد يكون وجهها حزيناً كوجهي

 لكنها تكتفي بمراقبتي."

تتكرر بضع كلمات في القصائد كأنها تحكي عن أسرارٍ ما عادت بالأسرار، فعندما يُباحُ بالسرِّ تموت كل الألغاز وتفنى، فتتكرر مراراً كلمات: المطر والوطن والحلم والقبلة والضوء والورد والشمس والليل والعتمة، فإذا أردنا أن نسقطَ ذلك على الجوهر والمضمون، نستخلص رغبةً في الوضوح والتقهقر مُكرهة نحو العتمة حينما يتوارى لون الضياء، إنه توق للفرح والمتعة والحياة، في ظل هجوم لا ينكفئ لجحافل من الأحزان. تقول دورين مرةً جديدةً:

"أدركت أني نسيت حلمي

منشوراً على حبل الغسيل

فيما كنت أنام بعينين مفتوحتين

وكل المعابر إلى أعماقي مغلقة."

يشكل الحلم مهرباً وحلاً سهلاً لنا أمام تعقيدات الحياة وانكسارات الأمل، فنلجأ للحلم لعلَّه يحقق لنا بعضاً من الامتيازات حتى ولو على شكل حُلمٍ يتبخر ويتسرب من نافذتنا عند فتح الجفون عند الصباح.

أو يكون مثل النحت على الهواء كما هو عنوان المجموعة ويخامرنا سؤال ملح على الدوام : هل الحلم عند دورين دواءٌ وشفاءٌ أم هو مجرد جُرعة مورفين؟

بالطبع يموت المرء حينما يتوقف عن الحلم، يموت المرء حينما يموت الضوء في أخر النفق، وحينما ينتحر الأمل، وتُرجم بالحجارة كُل أمنياتنا.

ربما هي دعوة لكي نبقى نحلم، لكي نبقى نحب ونعشق، ولكي نبقى نحيا ونحيا، رغم كل عصور الخيبات.

أختم بسطورٍ من قصيدة الدكتورة الأستاذة دورين نبيل سعد:

"على ضوء الحلم كنت أشعلُ أخر شمعة

فوق باقة زهور

أنا أهوى الأحلام

التي تقيم في رحم الحياة."

 

 ستوكهولم السويد 




ظواهر كونيّة/ د. عدنان الظاهر



أُفقٌ يتدفّقُ أسقاماً سودا

لا أحدٌ يدري كيفَ تسرّبَ للمبنى هذا الضوضاءُ

سُحُبٌ تتساقطُ أنصافا

رَعْدٌ يتخفّى مكبوتا

فمتى يُنهي هذا الصَخبُ الضاري إضراباً مفتوحا

ومتى يفتحُ بابُ الأنواءِ الحُمْرِ جسورا

يعبرُها النائمُ في طيفٍ ليلا ؟ ..

تيّارٌ يمضي بحثاً عن صوتٍ في صمتِ البحرِ

وصِراطٍ لعبورِ الزوبعِ فوقَ الموجِ

هل تشرقُ شمسٌ في سطحِ الغيبِ المسكونِ

تتعثّرُ في خطوٍ محسومِ

تتلعّثمُ كي لا تنطقَ حرفا ..

الشمسُ شروقٌ في غربِ الأُفُقِ الأعلى

يتسامى موتورا

يتفكّكُ من هولِ عبورِ الطعنةِ في قلبِ المشوارِ

لا يعبرُ خيطاً مقطوعا

أو ينشرُ سُمّاً أعمى منقوعا

لا يُخفي شمعاً في نابٍ أو دمعا

يتخطّى حاجاتِ الوترِ القاطعِ أصلا

لا يُخفي ما أعطى أو أسدى

فالظلُّ الأكبرُ غطّى وتمادى

ألهاني عن شاني

قصّرَ حبلَ الشوقِ وصعّرَ خدّا

قاسى من كَسْرٍ في العظمِ

عانى من وهمٍ ضلَ طريقا

وتمادى فتنكّبَ بحرا

هل من أَملٍ أستجلي في حلِّ

حَذارِ حَذارِ

من صَخَبٍ ضدَّ التيّارِ !


ذلك العائم نحو الغرب/ صبحة بغورة



أنهى الجيش الأمريكي أعمال إنشاء رصيف بحري عائم في شاطئ قطاع غزة بدعوى تسهيل وتسريع تدفق المساعدات الإغاثية والغذائية والدوائية لسكان القطاع وإنقاذهم من خطر انتشار المجاعة وتفشي الأمراض الفتاكة. وتسابق الشباب الفلسطينيون نحو عشرات الشاحنات الحاملة لشحنات المساعدات التي تم إنزالها.


تكون الولايات المتحدة بهذه المبادرة قد أرادت أن تبدي قدرا من التضامن الملموس مع الشعب الفلسطيني بقطاع غزة ، وحرصت على أن لا تطأ أقدام الجنود الأمريكيين أرض غزة فلا يساء بها الظن،وستجد كثيرا ممن سيمتنون لها بهذا الصنيع. 

جاء إنشاء هذا الرصيف البحري الأمريكي العائم في وقت أوغل الكيان المحتل خنجره ـ الأمريكي ـ عميقا في الجسد الفلسطيني إلى حد الموت قتلا بالرصاص وبالجوع والعطش وفتكا بالمرض، جاء بعد أن أفشلت أمريكا كل الجهود الدولية الساعية لوقف اطلاق النار ولوضع حد لعمليات الإبادة الجماعية وتدمير البنية التحتية في كامل قطاع غزة وبعد قنبلة المنازل على رؤوس سكانها وتشريد مئات الآلاف من المواطنين وتهجيرهم إلى العراء وإخراج العشرات من المستشفيات والعيادات الطبية من الخدمة ، جاء بعدمااعترضت على كل المشاريع الأممية لإدانة ممارسات الكيان المحتل واعتبرت سلوك هذا الكيان حقا مشروعا ودفاعا عن النفس!! 

هذا التقديم الذي يعلمه كل سكان الأرض يضعنا أمام مفارقة غريبة، هل كان على أمريكا أن تنتظر كل هذا الوقت ، أكثر من 7  أشهر من إغلاق المعابر والحصار الظالم لتتفطن في الأخير إلى حيلة الرصيف العائم لولا أن في الأمر شيئا آخرا غير الادعاء بانفطار قلب الإنسانية في أمريكا على مواجع الشعب الفلسطيني. إنها تعلم تعسف سلطات الجانب الآخر من معبر رفح في منع مرور قوافل المساعدات إلى داخل القطاع وتعمد إطالة أمد اجراءات الموافقة على دخولها للقطاع، إنها تعلم جيدا أن الجانب المصري يقدم كل التسهيلات والخدمات لمرور قوافل الشاحنات ويتكلف من أجل هذا الكثير والكثير جدا، وبرغم هذا كذبت أمام قضاة محكمة العدل الدولية وقد رأت أمريكا وشهد العالم عمليات إنزال المساعدات العربية جوا . لقد أصيبت شعوب العالم بنوبة قاسية من تأنيب الضميرفلم تتحمل السكوت عن الجرائم البشعة وهبت في مظاهرات عارمة تطالب بأعلى صوتها بتحرير فلسطين "free Palestine now  " هناك مسؤولية دولية ، إنسانية وأخلاقية تطبق على صدور المتخاذلين من دعاة السلام والديمقراطية، لقد حصحص الحق .

الإدارة الأمريكية ترى أن الوقت مناسب للإسراع في تطبيق مخطط بديل عن فشل مخطط تهجير الفلسطينيين قهرا وقسرا أو طوعا هو أقرب إلى الجبر من قطاع غزة إلى سيناء المصرية ، سيكون تهجير الشباب الفلسطيني هذه المرة بأسلوب مغاير وإلى وجهة أخرى، نحو الدول الغربية ليشكلوا هناك قوة عمل هامة في قطاعات الانتاج والخدمات خاصة في المجتمعات الغربية التي أصابتها الشيخوخة، ستجري وفق المخطط الذي يرتسم في مخيلة المحتل وحلفائه تصفية القضية بإخلاء قطاع غزة من سكانه وبرغبة فلسطينية بحتة بل وبتنافس محموم بين الشباب على اقتناص فرصة العمر المغرية وهي الهجرة الشرعية نحو بلاد الأمن والسلام والعيش الرغيد ، إنها فرصة نادرة سيحسدهم عليها الكثيرون من شباب دول إفريقيا وبعض الدول العربية والأسيوية الأخرى، إنه حل جذري لقضية عانى منها الكيان المحتل وطال أمد كابوسها عليه !وسيكون الرصيف العائم بقطاع غزة هو سبيل النجاة المتاح والآمن لسكانه ومنفذ الفرار من الجحيم والهروب السريع والمباشر نحو جنة الغرب.

الرصيف العائم سيكون جسرا يعبر بأحلام بعض الشباب والعائلات الفلسطينية أمواج بحر الغضب نحو الأمان لكن في أحضان بر آخر. هذا المخطط الجهنمي يراه الكيان المحتل وجيها وممكنا لو أن أمريكا بسطت كفها "بإكراميات إضافية " وبالمزيد من السلاح والقنابل الذكية والغبية لجعل حياة الفلسطينيين  جحيما لا يطاق وتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للعيش فيها تماما ،من هنا يمكننا أن ندرك ما معنى أن توافق الإدارة الأمريكية على تسريح شحنات القنابل التي وصل الكثير منها هذه الأيام بحرا إلى رصيف الكوابيس العائم للكيان المختل عقليا والشاذ سلوكيا .  إن قوة تماسك الشعب الفلسطيني تنبع من إيمانه بعدالة قضيته ومن شدة تمسكه بأرضه التي روتها دماء أبائه وأجداده ، وأودعتها قوافل شهدائه أمانة منذ نكبة 1948 لدى الأبناء والأحفاد ، ولاشك لدى كامل الشعوب العربية والإسلامية في أن المؤامرات الغربية ستتكسر تباعا على صخرة الصمود الفلسطيني.


تشرَّبَ الفنَّان والمطرب السُّوري فريد الباشا بالإنشادِ الدِّيني بكلِّ حبورِهِ وحلَّقَ عالياً في فضاءِ الطَّربِ الأصيلِ




الموسيقى لغةٌ كونيّةٌ مُندلقةٌ مِنْ وميضِ النَّيازكِ وضياءِ النُّجومِ، ومِنْ هديرِ الرِّيحِ، وأمواجِ البحارِ في أوجِ اهتياجِها. تَبهَرُني عوالمُها الرَّحبةُ لِما فيها مِنْ تجلِّياتٍ رهيفةٍ تُبهجُ أعماقَ بواطني وخيالي، كأنَّها بلسمُ الرُّوحِ. تَشفي أحزانَنا المتناثرةَ فوقَ قِبابِ العُمرِ، وتُبدِّدُ آهاتِنا المتراكمةَ فوقَ صدورِنا على مَرِّ السِّنينَ. الموسيقى هبةٌ مُنبعثةٌ مِنْ أعالي السَّماءِ إلى مَنائرِ الأرضِ، وإلى مَنابعِ الرُّوحِ، هي طريقُنا الأبهى إلى هَدهداتِ قلوبِنا في ذُروةِ مآسينا وأفراحِنا وحياتِنا بمُختلفِ تلاوينِها المتناميةِ فوقَ خميلةِ الأرضِ.  

فريد الباشا، فنّانٌ فريدٌ مِنْ نوعِهِ في تجلِّياتِهِ المُبهرةِ، يُغنِّي غناءً مُبهرِاً، مُحلِّقاً في فضَاءِ الطَّربِ الأصيلِ، تشرَّبَ أصالةَ الغِناءِ مِنْ رحابِ الإنشادِ الدِّيني بكلِّ حُبورِهِ، مُتأثِّراً بالأغاني الأصيلةِ ومنها أغاني فريد الأطرش، يُغنِّي كمَنْ يُهدهدُ النَّسيمَ، لِما لديهِ مِنْ صوتٍ حَنونٍ ومُبهجٍ في أداءِ أغانيهِ، فيمنحُ المُستمعينَ إليهِ بهجةً غامرةً. حالما أسمعُ دندناتِ عَزفِهِ وأغانيهِ، أُحلِّقُ في فضاءِ حَرفٍ مُنسابٍ مِنْ مآقي الحُلُمِ البعيدِ، غِناءٌ مصفَّى مِنْ شوائبِ الحياةِ، كأنَّهُ يُهدهدُ قلوبَنا العَطشى إلى رِحابِ الفَرحِ، ترقصُ الرُّوحُ ألقاً وشوقاً إلى أزاهيرِ الصَّباحِ، تناغمٌ مُبهِرٌ في عزفِهِ وغنائِهِ الموشَّحِ بجمالِ الأداءِ، يشمخُ عالياً مثلما تشمخُ الرُّوحُ وهي في ذروةِ تجلِّياتِها. يُشبِهُ بسمةَ الطُّفولةِ، وهديلَ اليمامِ في صباحٍ ربيعيِّ مبلَّلٍ بأصفى جموحاتِ الغِناءِ. 

تَنسابُ أنغامُ موسيقاهُ إلى مراتِعِ ظِلالِ القلبِ، تُبهِجُ الرُّوحَ كأنَّها بلسمٌ شافٍ للقلوبِ العَطشى إلى أبهى مَرامي الجمالِ. يُغنِّي مِنْ أعماقِ جوارحِ الرُّوحِ، فيُنعِشُ قلوبَ مُستمعيهِ. كُلَّما استَمَعْتُ إلى تجلِّياتِ أنغامِهِ، رفرَفْتُ عالياً على إيقاعِ الفرحِ، وتبدَّدَ حُزني، وشمَخْتُ عالياً على إيقاعِ حَنينِ القلبِ. يُحلِّقُ بِنا عالياً في أصفى حَالاتِ التَّجلِّي كأنَّهُ في حالةِ ابتهالٍ مَعَ وهْجِ الإنشادِ بأرقى جموحاتِ الغِناءِ الأصيلِ، يرسمُ بسمةَ الفرحِ في قلوبِنا، فيطفحُ مساؤنا بهجةً وألقاً كأنَّنا في حالةٍ عناقٍ مَعَ منابعِ الجمالِ!

يمتلكُ الفنّانُ فريد الباشا إحساساً مُرهِفاً في فضاءِ الغِناءِ ودندناتِ العزفِ بمهارةٍ مُبهرةٍ على العودِ، يُعانِقُ عودَهُ بشغفٍ عميقٍ، كأنَّهُ صديقُ العُمرِ، مُداعباً رنينَ أوتارِهِ بكلِّ ابتهالٍ، ويصدحُ بأنغامِهِ وكأنَّ هذهِ الأنغامَ منبعثةٌ مِنْ خُدودِ حبيبةِ الرُّوحِ، ومُرفرِفةٌ في قُبّةِ الأحلامِ. عَشِقَ الموسيقى والغِناءَ مُنذُ باكورةِ العُمرِ إلى أنْ أصبحَتْ هذهِ العوالمُ فضاءَهُ الأسمى في سُلَّمِ العُبورِ في أنقى أرخبيلاتِ الحياةِ. توغَّلَ برغبةٍ جامحةٍ في أعماقِ الألحانِ ومنابعِ الأنغامِ، مُحصِّناً أهدافَهُ الشَّاهقةَ في عوالمِ الموسيقى، وبنى أبراجَهُ الفنِّيةَ الشّاهقةَ على أنقى صُروحِ الأحلامِ، إلى أنْ شمخَ عالياً في أزهى رحابِ التَّجلِّي، ونجحَ ببراعةٍ فائقةٍ في تحقيقِ مراميهِ الفنِّيةِ، لِما لديهِ مِنْ حِسٍّ فنِّي طافحٍ بالعذوبةِ في أداءِ أنغامِهِ وغنائِهِ السَّيَّالِ. 

هَلْ استمدَّ رهافتَهُ مِنْ حَنينِ اللَّيلِ، والنُّجومُ في أوجِ تلألؤاتِها، أمْ مِنْ تفتُّحِ براعمِ الشَّوقِ إلى إشراقةِ الصَّباحِ؟ يشدو صوتُهُ كما تشدو بلابلُ الحقولِ في ذُروةِ حبورِهمِ في ظِلالِ البساتينِ. يجمحُ بكلِّ اشتياقٍ نحوَ حبورِ الطَّبيعةِ البكرِ وأمواجِ البحارِ الهائجةِ. يُناغي صَفاءَ الصَّباحِ وانسيابيّةَ السَّواقي وهي تخرُّ في أزهى أيَّامِ الرَّبيعِ وهو مكسوٌّ بأزاهيرِهِ الفوَّاحةِ على هَفهفاتِ هبوبِ النَّسيمِ الملفَّحِ بأريجِ الشِّعرِ. تتراقصُ الموسيقى في خيالِهِ وفي تماهياتِ أحلامِ اليقظةِ في أوجِ انبعاثِها، تَحِنُّ القلوبُ إلى روعةِ الأغاني، مِثلما تهفو الأزاهيرُ إلى أنغامِ الموسيقى، حتَّى الطَّبيعةُ تَعشَقُ الموسيقى، فهي لغةُ الكائناتِ والنَّباتِ، تتماهى مَعَ هبوبِ النَّسيمِ الآتي مِنْ مرتفعاتِ الجبالِ. يصوغُ الفنّانُ ألحانَهُ مِنْ هبوبِ الرِّيحِ مَعَ صفيرِ الأشجارِ وزقزقاتِ العصافيرِ، فتولدُ الألحانُ مِنْ تَناغماتِ الطَّبيعةِ بكلِّ تلاوينِها المتطايرةِ مِنْ خِضمِّ الكائناتِ وتلاطماتِ أمواجِ البحارِ.

ترعرعَ الفنَّانُ فريد الباشا بكلِّ ما يحملُ في أعماقِهِ مِنْ هواجسَ فنّيّةٍ بينَ فضاءَاتِ الإنشادِ الدِّيني والألحانِ والأغاني الأصيلةِ في أجواءِ الفرحِ والمُروجِ المخضوضرةِ بنضارةِ النَّدى المتناثرِ فوقَ طراوةِ العُشبِ، واصطفى مِنْ أرقى الأنغامِ ما يناسبُ بهاءَ الإنشادِ والغناءِ الأصيلِ، وتشرَّبَ بماءِ القصيدةِ المجنّحةِ نحوَ زُرقةِ السَّماءِ في أوجِ انبلاجِ الأنغامِ، فوُلِدَتْ الألحانُ بينَ يديهِ مَصقولةً بحَبقِ الطَّبيعةِ الخلَّابةِ، ومَمْهورةً برقرقاتِ عُذوبةِ الماءِ الزُّلالِ، ومتطهِّرةً مِنْ الشَّوائبِ المتناثرةِ فوقَ خُدودِ اللَّيلِ وفوقَ مَنارةِ النَّهارِ، كابحاً بكلِّ ما لديهِ مِنْ جموحٍ الغبارِ الَّذي يُصادِفُهُ في رحلةِ العبورِ في أبهى آفاقِ الألحانِ مِنْ أوسعِ أبوابِها الموسومةِ بأشهى تجلِّياتِ الابتهالِ، واضعاً بصمتَهُ فوقَ أخاديدِ ألحانٍ مُتراقصةٍ في آفاقِ أحلامِهِ المُتهاطلةِ فوقَ دروبِ العُمرِ. 

بنى الفنّانُ عالمَهُ الفنّي بمهارةٍ عاليةٍ، مثلما يبني البُلبلُ عُشَّهُ فوقَ أعلى أغصانِ الأشجارِ، مُجنَّحاً نحوَ خمائلِ الفرحِ، والجَمالِ المُبهرِ، مُركِّزاً على أصفى فضاءَاتِ الغِناءِ، بانياً طموحَهُ خطوةً خطوةً بكلِّ ما فيهِ مِنْ شَغفٍ واهتمامٍ، مُبحِراً برغبةٍ عَميقةٍ في رِحابِ الأغاني الطَّربيّةِ الأصيلةِ، فتنامَتْ حَنجرتُهُ على أنغامِ الأصالةِ والقصائدِ المُعبِّرةِ عَنْ طُموحاِتِهِ، إلى أنْ حقَّقَ نجاحاً باهراً وحضوراً مُتميِّزاً، ووصلَ إلى أرقى فضاءَاتِ التَّجلِّي، متَّخذاً مِنَ الموسيقى والغِناءِ هدفاً أوَّليَّاً وأساسيّاً في حياتِهِ، وتعشَّشَ هذا الهدفُ في أعماقِ الخيالِ والرُّوحِ، وأصبحَ أحدَ منابعِ الفرحِ والطُّموحاتِ الشّاهقةِ في مَسارِ إبداعِهِ الفنِّي. 

لَمْ ينجرِفِ الفنّانُ إلى بريقِ الشُّهرةِ الفضفاضةِ ولم يتأثَّرْ بأيِّ إغراءٍ آخرَ، رغمَ أنَّهُ كانَ مُتاحاً لَهُ أنْ يحقِّقَ الانتشارَ مِنْ أوسعِ أبوابِهِ، لكنَّهُ فضَّلَ أنْ يحلِّقَ في فضاءَاتِهِ وعوالمِهِ كما يحلو لَهُ وعلى طريقتِهِ وبما يناسبُهُ، بعيداً عَنْ تكلُّساتِ الغُبارِ والمُنافساتِ الفاقعةِ، والمائلةِ إلى دَبقِ الاصفرارِ المكتنفِ بالاعوجاجِ عَنْ مَسارِ شَهيقِ الإبداعِ، كي يحافظَ على رفرفاتِ التَّحليقِ الأصيلِ في سَماءِ الغِناءِ الخلَّاقِ، ساطعاً مِثلَ نجومِ الصَّباحِ، وصادحاً مِثلَ تغاريدِ الطُّيورِ في قِمّةِ انبعاثِ الحُبورِ. فنّانٌ مَجبولٌ بحنجرةٍ حَنونةٍ ذهبيّةِ الانبعاثِ في تجلِّياتِهِ. ينجذبُ المستمعُ بكلِّ أحاسيسِهِ إلى أدائِهِ المُفعمِ بالدِّفْءِ والحنينِ، فتنفرشُ أمامَنا أجنحةُ الجمالِ على أقصى مَداها، شامخةً في لُبِّ الخيالِ، مُبهِجاً عوالمَنا برهافةِ الأداءِ، يُسحِرُنا بآفاقِهِ المجنّحةِ نحوَ أصفى ما في جموحِ الانبهارِ مِنْ ألحانٍ. يمنحُنا الغبطةَ في إنشادِهِ، فهو يمتلكُ رهافةَ الإنشادِ حتّى وهو يغنِّي أغانيهِ الطَّربيّةَ، تُقرِّبُنا الموسيقى إلى ارتقاءِ الرُّوحِ نحوَ مَعارجِ الصّفاءِ، وإلى ذُروةِ مرامي الابتهالِ، عندما تنبعثُ مِنْ مشاعرَ مُتماهيةٍ مَعَ منابعِ الجمالِ الخلَّاقِ.

يُغنِّي الفنَّانُ فريد الباشا بشغفٍ عالٍ الأغاني الإيقاعيّةَ الرَّاقصةَ، يؤدِّيها بمهارةٍ عاليةٍ، خاصّةً أنَّهُ يعزفُ ويغنِّي مَعاً، تموجُ في كيانِهِ أنغامُ الموسيقى، ومشاعرُهُ مجنَّحةٌ نحوَ أصفى جموحاتِ التّجلي، يترجمُ هواجسَهُ الهائمةَ في آفاقِ الخياِلِ، فترقصُ القلوبُ بكلِّ ابتهاجٍ على إيقاعِ الفرحِ وبهجةِ الانتعاشِ، ريشتُهُ رهيفةٌ كرهافةِ بهاءِ الفَراشاتِ وهي تُعانقُ بتْلاتِ الزُّهورِ، مُزغرِداً مِثلَ البلابلِ المغرِّدةِ في كَنفِ الطَّبيعةِ الخلَّابةِ، مُبتهلاً في آفاقِ الغَناءِ في فضاءِ الانبهارِ، يَستنهِضُ فينا حنينَ الزَّمنِ الجميلِ، المُتعانِقِ مَعَ أرقى الألحانِ، ومُستعيداً مَجدَ الغِناءِ الأصيلِ، ومُحلِّقاً بأدائِهِ الجميلِ مَعَ روعةِ الغناءِ الأصلي، وكأنَّهُ الفنَّانُ الَّذي غَنّى ما يُغنِّيهِ بأحاسيسَ مُبهرةٍ، مُحلِّقاً بكلِّ حبورٍ في فضاءِ الأحلامِ الوارفةِ، فيُهطِلُ علينا روائِعَهُ الفنّيّةَ فنزدادُ ابتهاجاً. تعانقُ الموسيقى ما يموجُ في بواطنِنَا وخيالِنا وذاكرتِنا، وتمسحُ الأحزانَ المتناثرةَ فوقَ جباهِنَا، وتُزيلُ عَنْ كاهلِنا آهاتِ غُربةِ الرُّوحِ. موسيقى معبَّقةٌ بحنينِ الرُّوحِ كأنَّها مُنبعثةٌ مِنْ رضابِ السَّماءِ!

اطَّلعَ الفنّانُ على الموسيقى الشَّرقيّةِ بعمقٍ، وغاصَ في أغوارِ فضاءَاتِ أنغامِها بكلِّ تفرُّعاتِ مقاماتِها، وأعجبَتْهُ الأغاني الأصيلةُ الرَّاقيةُ الّتي غنَّاها كبارُ الفنَّانينَ أمثالُ محمّد عبدالوهاب ووديع الصَّافي وفريد الأطرش وغيرُهم مِنَ الفنّانينَ المبدعينَ في رِحابِ الفنِّ الأصيلِ، وقَدْ غنّى الكثيرَ مِنْ أغانيهم وكأنَّهُ الفنّانُ الأصلي الّذي غنّى هذهِ الأغاني، ثمَّ راحَ يختارُ قصائدَ عميقةَ المعنى والمضمونِ، ولحَّنَها بنفسِهِ وغنَّاها ضمنَ فضاءِ الفنِّ الأصيلِ، بما يناسبُ مِساحاتِهِ الفنّيّةَ الحنونةَ، الّتي يُغدِقُها علينا ببهجةٍ عارمةٍ، فيُنعشُ قلوبَنا العَطشى لمرافئِ جمالِ الرُّوحِ. يعزفُ على أوتارٍ مُتناغمةٍ مَعَ أغصانِ الحَنينِ، وأنباضِ القَلبِ. يَشمخُ عَالياً في مَتاهاتِ الذَّاكرةِ ويذهبُ بِنا إلى واحاتِ الأحلامِ البعيدةِ، مُلملماً ما خبَّأناهُ في خَيالِنا المُزنَّرِ بأجملِ أنغامِ العُمرِ، الَّذي سمعناهُ على مَدى مَحطّاتِ العُبورِ في مُنعرجاتِ الحياةِ. مُهدهِداً أرقى ما في قلوبِنا وخيالِنا ومآقي الحَنينِ، راسماً فوقَ ليالينا أجنحةَ الفرحِ، كأنَّهُ يحملُ رسالةَ ابتهالٍ تُنعِشُ قلوبَ المُستمعينَ، راغباً أنْ يرسمَ فوقَ هِلالاتِ ذاكرتِنا أناشيدَ مُضمّخةٍ بأزاهيرِ النَّعيمِ!

تنبعثُ هذهِ الحساسيّةُ الفنّيّةُ في فَضاءِ تجلِّياتِ الغِناءِ وفي عُذوبةِ العَزفِ المُنسابِ مِنْ أناملِ هذا الفنَّانِ المُندَّى برحيقِ السَّوسَنِ البرِّي، إلى أنْ تربَّعَ فوقَ أبراجِ الشُّموخِ، لأنَّهُ مُشبَّعٌ بهذهِ الفضاءَاتِ الطَّافحةِ بالأصالةِ والمِرانِ الطَّويلِ، تهفو أنغامُهُ إلى ظِلالِ البيوتِ العتيقةِ المسترخيةِ في تجاويفِ الذَّاكرةِ، وظلَّتْ ترفرفُ عَبرَ العديدِ مِنْ محطَّاتِ الحياةِ، كي توشِّحَ ذكرياتِنا برنينِ النَّواقيسِ، وأجراسِ المَحبَّةِ وتَجلِّياتِ الإنشادِ بأرقى حبورِهِ وابتهالاتِه، كأنَّها مُنبعثَةٌ مِنْ حَفيفِ الأشجارِ المباركةِ، والمُعبّقةِ بأريجِ الأزاهيرِ الفوّاحةِ في مسارِ رحلتِهِ الفسيحةِ في دُروبِ العُمرِ الّتي قضاها باجتهادٍ وشغفٍ كبيرَينِ في صقلِ آفاقِ رؤاهُ وطموحاتِهِ مُنذُ أنْ شبَّ عنْ الطَّوقِ حتًّى الوقتِ الرَّاهنِ، فنراهُ مُحلِّقاً في فضاءِ العِناقِ الرُّوحي في ذُروةِ تألُّقِهِ، كأنَّهُ يُناجي أحلامَنا الهاربةَ مِنْ أوجاعِ هذا الزَّمان، زارعاً في قلوبِنا بهجةً غامرةً. غناءٌ مَمْهورٌ بألقِ الصَّفاءِ والعُذوبةِ، كأنَّهُ يبتهلُ لسموِّ السَّماءِ، عطاءٌ مُبهرٌ، مِنْ بهاءِ رهافةِ الحُلُمِ المُجنَّحِ نَحوَ رِحَابِ الأعالي. يؤدِّي أجملَ المواويلِ والعتابا بمختلفِ أنواعِها بتجلِّياتٍ شاهقةٍ، صوتٌ متعانقٌ مَعَ خمائلِ اللَّيلِ، كأنَّهُ يناجي قلوبَنا برهافةٍ مبهرةٍ، ويطهِّرُنا مِنْ أوجاعِنَا المتراكمةِ فوقَ هِضابِ العُمرِ. 

يُشبِهُ الفنَّانُ انبعاثَ القصيدةِ المُضرّجةِ بفضاءَاتِ السُّموِّ والابتهالِ، يُحاوِرُنا بعذوبةٍ مُبهِرةٍ عَبرَ روعةِ أنغامِهِ، وتجلِّياتِ صَوتِهِ المبلَّلِ برحيقِ أزاهيرِ الرُّوحِ المتعانقةِ مَعَ كنائزِ الأحلامِ، يرقُصُ الوترُ فرحاً وابتهالاً بينَ أناملِهِ، وينسابُ صوتُهُ مِثلَ حُلُمٍ متدفِّقٍ مِنْ أشهى واحاتِ الحنينِ، ويَزرَعُ في قلوبِنا الفَرحَ، ويأخذُنا إلى عوالِمَ تُبهِجُ القلوبَ، ويمسحُ الأحزانَ المُتعلِّقةَ في دُروبِ عُمرِنا المحفوفةِ بالأسى والأنينِ. غناءٌ مُبلَسمٌ بأريجِ المَحبّةِ ووئامِ الذَّاتِ مَعَ خَميلةِ الحياةِ، جموحٌ نحوَ فضاءِ عِناقِ القلبِ وشواطئِ الحُلُمِ البعيدِ، حتّى يصلَ إلى مرافئِ الطُّفولةِ والصّبا، ويذكِّرنا بأيّامِ الشَّبابِ في الوطنِ الأمِّ ونحنُ نتجلَّى على أصواتِ الطَّربِ الأصيلِ. يشمخُ شُموخَ النِّسرِ المُحلِّقِ بجناحَينِ قويَّينِ في أشهى هِلالاتِ العَطاءِ الخلّاقِ.   

يُبلسِمُ الفنَّانُ فريد الباشا بروعةِ أغانيهِ جوارحَنا الثَّخينةَ، ويَمحَقُ آهاتِنا الممتدَّةَ على مِساحاتِ السِّنينَ، ويهدهدُ أشواقَنا المتناثرةَ فوقَ تيجانِ أحلامِنا المزركشةِ بألوانِ الحياةِ، ويبدِّدُ شطراً غائراً مِنْ تلظّياتِ أحزانِنا، وآهاتِنا المتغلغلةِ في أعماقِنا في زمنِ تفاقُمِ الاشتعالِ المريرِ. تصبحُ الموسيقى بلسمَ الحياةِ في زمنِ الانكسارِ، وتشفي غليلَنا المشحونَ بلهيبِ الأسى، وترسمُ فوقَ جباهِنا معالمَ البهجةِ. بحسرةٍ حارقةٍ أتساءَلُ: لماذا ازدادَتْ قلوبُ الأوطانِ تصدُّعاً، وإلى متى سيغوصُ الإنسانُ في شفيرِ الانحدارِ؟ عجباً أرى، تزدادُ قلوبُ الأحبَّةِ تهشّماً، رغمَ كلِّ هذا البهاءِ في حُبورِ الأغاني. فريد الباشا هديَّةٌ مبهجةٌ للقلبِ والرُّوحِ في زَمنِ الانهزامِ وتراكُمِ القُبْحِ. أغدِقْ علينا يا فريد مِنْ رَوعةِ أغانيكَ وموسيقاكَ كي نتجلَّى عالياً ونعانقَ بكلِّ فرحٍ زُرقةَ السَّماءِ! 


ستوكهولم: أيَّار (مايو) 2024

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم