رُبَّ كلمةٍ أوجملة أوصورة تقدحُ في الانسان قدحة تتأجَّجُ وراءها مشاعرهُ وتفيض أحاسيسا وأشعارا وأفكارا ورؤى عاطفية أو فلسفية...بيتان من الشعر من قصيدة "المواكب"للشاعراللبناني جبران خليل جبران أثرا في الشاعر حاتم جوعيه وجعلاهُ يسبح في سماءِ التأمل بالفكر والوجدان والابداع فأضاءها بنجومٍ متلألئةٍ في مواكب معارضة لمواكب جبران فاقت الخمس مائة بيتا فيها من الشعر أعذبهُ ومن الاحساس أرقَّهُ ومن الفكر أعمقه ، اعتمدَ فيها الشكلَ الكلاسيكي وجاءت في مقاطع متعددة على بحريّ البسيط ومجزوء الرّمل، وبدا الشاعرُ فيها كفيلسوفٍ ينثرُ الحكمة ويُعَرِّي ما ظهر في الكونِ من رداءةٍ وما في الانسانِ من دناءةٍ داعيا الى الاصلاح والتفاؤل والسعادة والعلم والعدل والايمان
والوطنية شأنه في ذلك شأن جبران الذي كتب قصيدته "مواكب" في 203 بيت ،
وكأنهما اختصرا سرَّ الحياةِ وَكُنهَها في هذه المواكب ، فلماذا اختار جبران ومن بعده حاتم هذا العنوان لما جادت به القريحة من أشعار؟ ذلك لأنها تصورُ مواقفَ الناس في حياتهم الواقعية وفي نفوسهم التي تبحثُ عن الكمالِ وترفضُ المادة الزائفة وما مواكب الناس الا مواقفهم من الخير والشر والدين والظلم والعدل والعلم والجهل والسعادة والحب والوطن والطبيعة ...وكلمةُ مواكب (مفرد موكب) تعني الاستعراض أوالمسيرة ، الموكب من الناس الذين يسيرون مشيا على الاقدام أو في سيارات ومنها موكب العروس ، موكب الرئيس ، أو الجنازة ...وقد وصفَ الشاعرُ في بعض المقاطع في قصيدهِ المواكب (الجموع البشرية ) بالقطعان الذين يسيرون وراء الانسان القوي ويخطئون في اختيار الطريق الصحيح الذي يسعدهم، وينتهجون نهجَ المادياتِ الزائفة التي تؤدي بهم الى الضياع والعدم...
مضامين الرؤى في "مواكب" الشاعر حاتم جوعيه** ثنائية الروح والجسد***
إن ما لفت انتباه الشاعر حاتم في بيتي الشاعر جبران هو ثنائية الروح والجسد، والبقاء والفناء، والموت والخلود
فجمالُ الجسمِ يفنى // مثلما تفنى الزهورْ
وجمالُ النفسِ يبقى // زهرا مرَّ العُصورْ"
تأمَّلَ شاعرُنا في هذا القول وفكرَ في وجودِ الانسان ومتناقضاتِ الحياة ، حركت فيه عواطفه وأفكاره فرجع الى قصيدةِ جبران يستلهم منها مواقفَ الناس...رأى أنَّ الحياة تمرُّ سريعا كحلم وعلى الانسان ان يعتبرَ من دروسِها وأن لا يعيش ذليلا جاهلا خانعا مُتَّبِعًا خطوات الأوغاد والزناديق كالبقر أوالقطعان وأن الربح في النهاية يكون لصاحب الاستقامة الذي ترفع عن الآثام وسار على السراط المستقيم ...ينتقلُ الشاعرُ الى بحر مجزوء الرمل ويعبرُ عن الدنيا ومتناقضاتها ويقدم الانسان على أنه ضيف فيها زائل لا محالة ولا يبقى سوى شذا نفسه الطاهرة وروحه الخالدة ، يقول:
إنَّما الأجسام تفنى // إنها مثلُ القشورْ
جوهر الروح خلود // ليس تفنيه الدهورْ
ثم يدعو الى الغاب عالم النقاء والصفاء والى الناي رمز
الغناء والفرح ويقول: ..
أعطني الناي وغنِّ // كل صبح ومساءْ
انما العيش كحلم // ليس في الأرض بقاء
ومن الأرض ارتحالٌ // والى الخُلدِ ارتقاءْ
غنى النفس وغنى المال
تحدَّثَ الشاعرُ عن غنى النفس ورأى أنَّ الغنيَّ ليس صاحب المال والجاه وانما هو الغني بالايمان والسعيد بالرضا والقناعة وفعل الخير فلا نفع للمال بعد الرحيل وعلى العاقل الحكيم أن يستمتع بشدوِ الناي العذب الذي يُوحي بالدفءِ والصبر والايمان والانتصار والراحة النفسية والسعادة الحقيقية ...وبين عالمين مختلفين عالم الحياة والفناء وعالم الخلود والبقاء يهمس الشاعر...
إنَّ صوتَ الناي عذب // فيه يرتاح الكنارْ
وبصوتِ الناي دفءٌ // هو للروح انتصارْ
وأنا المكلومُ دوما // كم تجرَّعتُ الصعابا
إنَّ ايماني بربِّي // جعلَ الهمَّ سرابا
قيمةُ العلمِ للانسان ..
آمنَ شاعرُنا الدكتورحاتم جوعيه بقيمةِ العلم ورأى أن العلمَ له بداية وليس له نهاية سوى نهاية البشر، فالرسولُ محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل القراء والمعلمين أنزل الله عليه سورة "اقرأ" وأنزل عليه سورة "القلم" إعجازا وتعظيما لشأنه فأمر أمته بالعلم وقال (تعلموا من المهد الى اللحد)...كما وصف الشاعر بالنبي الذي يحضنهُ النور وَيُعَمِّدُهُ الفجر ثم يعرج الى الحديث عن الجهل ويبينُ لنا انَّ العصرَ هوعصر انحطاط يسودُ فيه الجاهلُ الرذيلُ ويُنبَذُ الشهم الجليل مستعملا ألفاظا جاشت بها نفسه لكثرة ما يراه من ظلم وتنكيل بالضعفاء في وطنهِ المنكوب الذي يُحبُّهُ ويخلصُ له ويرى أنَّ لا ولاء إلا له فيصفهُم بالأوغادِ والبهائم والزعانف والأراذل والعهر والبهم وكلاب العصر ومجمع الرجس..مقابل ذلك يصفُ العقلاءَ والأبطالَ بالشجاعةِ والعدل والشرف فيستعملُ عبارات ايجابية كالأسد ، صوت الحق ، الجهبذ الحر ، وكأني به يحاول أن يهدم ذلك الأسى والرداءة ويدعو الناسَ الى العلم والنور والارتقاء...كيف لا والعلم هو السلاح الذي اعتمده الانسان لتأكيد ذاته ، وعلى امتداد التاريخ البشري استُخدِمَ لمواجهةِ الظلم وتحقيق العدل ، ويُؤكدُ التاريخُ أن العلماءَ والمثقفين والمبدعين والفلاسفة والأنبياء هم الذين قادوا التغييرَ وَمهَّدُوا للتطوراتِ الكبرى كما يقول أحدُ الشعراء: (العلم يبني بيوتا لا عماد لها // والجهلُ يهدمُ بيتَ العزِّ والكرمِ ) ، لذلك يتوجع شاعرُنا حاتم لحالةِ وطنٍ جريح لم ينبلج صبحُهُ فيكتب بحبر الروح ودم القصيدة :
الأسدُ نامت ، كلابُ العصرِ قد نهَضتْ
ماتَ الضميرُ وصوتُ الحقِّ مُستترُ
الثائرون على الجلادِ قد رقدوا
الكلُّ يصمتُ لا ناهٍ ومزدجرُ
الحقُّ مُنتهَكٌ والمجدُ منتكسٌ
والوردُ يُحَرَقُ والأقمارُ تنتحرُ
ثم يقول :أعطني الناي وغنِّ // إنَّني صوتُ الضميرْ
كم بريء يتلظى // وأنا أحيا أسيرْ
التشبث بالأرض
ويتماهى الشاعرُ مع حُبِّهِ الشديد لأرضهِ وعرضهِ ويشتاقُ للضمائرِ الحيَّةِ والشمس المشرقةِ والوطن الحر ويتألمُ مما يراهُ من عمالةٍ وانحطاطٍ وصمتٍ وطمع دون أن ينسى التطبيعَ والمٌطبعين وهو لعمري ذلٌّ وهوانٌ وخنوع ، يقبضُ الشاعرُ الحُرُّ حاتم على جمرة نار ويكتبُ أبياتا من الشعر تنبعُ من روحه الشفيفة فتدمي القلوب، كتبها لوطنهِ العزيز وشعبهِ الأبي ، طامحا أن يعيش بسلام ، محافظا على ميراثِ أجدادهِ ، متمسكا بالمفتاح، معتزا بعروبته ، ولا غرابة فحاتم جوعيه هو ابن المغار- الجليل ، الأصيل الذي لن يبرحَها ما بقي في العمر حياة فيقول:
شاعر الأحرار أبقى // بين قومي كنبِي
وبشعري يتغنى // كل شهم وأبي
ان دربي من لهيب // منذ أن كنتُ صبي
أتغنى باعتزاز // أنا دومًا عربي
وكعادةِ الشاعر بنزعتهِ الرومانسية وحنينهِ الى الغاب
وشدوِ الناي أين السكينة والهدوء والأمل والخلود دون التفكير في الآلام والكآبةِ يدعو الى هذا العالم النقي واغتنام العيش الهنيء وَيُعبِّرُ بقوله..
أعطني الناي وغنِّ // وانسَ ما مرَّ وفاتْ
لا تقل أمسي كئيبٌ // فالذي قد غابَ ماتْ
فلتعش عيشا هنيئا // واغتنمْ ما هو آتْ
تذكرني هذه الأبيات بالفلسفةِ الوجودية لعمر الخيام في رباعياته اذ يقول..
سمعت صوتا هاتفا في السَّحرْ/نادى من الغيبِ غفاة البشرْ
هُبُّوا املؤوا كأسَ المنى قبل ان/ تملأ كأسَ العمر كفُّ القدرْ
لا تشغل البالَ بماضي الزمان / ولا بآتي العيشِ قبل الأوانْ
واغنم من الحاضر لذاتهِ // فليس في طبع الليالي الأمانْ
العدل والايمان
بين عالم مثالي سماوي وعالم واقعي حقيقي يظلُّ الشاعرُ يعيشُ لحظات السعادة والشقاء... يتألمُ من رداءة الوضع وصمتِ البشر وظلم الضعيف وتلون الوجوه وغياب العدل، ويرى كما رأى جبران أنَّ عدلَ الناسِ زيف وأن ظلم الطغاة قهر وأن الأرزاء ساءت والشقاء انتشر. وقد نراهُ مُحِقًّا في اعتباره العدل ابليسا يأتي به البشر أمام الظلم والغطرسة من الاحتلال الصهيوني لبلده من جهة، وأمام الصمت والخذلان من الأمة العربية من جهة أخرى ، ثم يصل به الغضب الى انتقاد الساسة والسياسيين الذين باعوا ضمائرَهم فقال فيهم حسب وصفه : أنذال خساسة / عنوان النجاسة / أوغاد / عضاريط / زمن انحطاط ، وفي الجملة كفاهُ قولا قوله المتكرر "عصر لكع وابن لكع "، كما انتقدَ الصحافيين ووصفهم بالعمالةِ والجهل والهبل والتبعية وصار التطاوس للفارغين والمهانة للصناديد ..
"عصرُنا عصرُ انتكاس // عصرُ خزي وفجورْ
عصر لكع وابن لكع // فيه قد ساءَ المصيرْ
عصرنا عصرُ انحطاطٍ // ليس فيهِ من نصيرْ
فهل نقول: إن الشاعرَ قد بالغ في وصفِ الحال المتردي في بلده وشعبه وأمته ونحن نرى ما نرى من ظلم وقهر وقتلٍ واعتداء ودماء وتهجير، ونحن نسمعُ عويلَ الثكالى واليتامى والأرامل والشيوخ والأطفال، ونحن ندركُ ما للشعب الفلسطيني من صبر وصمود وتشبُّثٍ بالأرض ؟ إنه (ونحن معه ) يتضَّورُ جوعًا للنصرِ والحريةِ والعدالةِ والكرامة فتراهُ يسيلُ حبرهُ وكأنهُ النهرُ الهادرُ الذي لا يتوقفُ عن الجريان ...ثم يعود الى الله فمنهُ العونُ والهدايةُ والآيات وكل الرجاء، والى الغابِ ففيه العدلُ والحق والفرح والغناء ...هكذا نرى الإنسانَ المُؤمن كما نرى شاعرنا حاتم ، عاشقا للحياة ، منارة للناس ، بفضل ما يسع قلبه من حب وغرام وما تجودُ به قريحتهُ من أشعار يتغنى بها كلُّ شهم وأصيل ومبدع ، فالشعرُ عنده كما يرى نفسه فيه إعجاز وعمق وإبداع... الوطن
الوطن
إنَّ البُعدَ الوطني في قصيدةِ ( المواكب) للدكتور حاتم جوعيه نابعٌ أولا من عشقهِ لوطنه وشعبهِ وأيضا هو وليدُ ظروفٍ سياسية واجتماعية واقتصادية مرَّ بها كما مرَّتْ بها أغلبُ الشعوب العربية فأفرز هذا الوضعُ جملة من الأدباءِ والشعراء والفنانين أبدعوا في وصفِ الأوضاع المتردية وَهَبُّوا الى استنهاضِ الهمم والمطالبة بالحرية والكرامةِ نذكرُ منهم محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل وأبا القاسم الشابي وحاتم جوعيه الذين تغنوا بحبِّهم لوطنهم وناضلوا بأقلامهم والتزموا بقوميتهم ونددوا بالخائنِ المُحتلِّ بكلِّ جرأة وشجاعة
(أعطني النايَ وغن // إنَّني نبضُ الشعوبْ
والذي يسعى لحقٍّ // كان منسيًّا سليبْ )
مقاطع طويلة تنزُّ وطنية صادقة جادت بها قريحةُ الشاعر حاتم متخذا من عناصر الاثارةِ ما يُحركُ عواطفَ الناس ويحثهُم على التصدي للاحتلالِ الغاشم ، يذكرنا موقفهِ هذا بالبيتِ الشهير لابي القاسم الشابي : اذا الشعبُ يوما أرادَ الحياة // فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ ، أو في قصيد آخر حين يقول :
أيها الشعبُ ليتني كنت حطابا
فأهوي على الجذوع بفأسي
ليت لي قوة العواصف يا شعبي
فألقي اليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن
انت حي تقضي الحياة برمسِ
ويقول الدكتور حاتم في هذا المعنى بلوعةِ الشعب وصدقِ الوطنية:
إن قلبي لبلادي // إنَّهُ قولٌ حكيمْ
قالها قبلَ عقودٍ // شاعرٌ فذ عليمْ
قالها قبل نزوح // واغترابٍ وهمومْ
قبلَ تشريدٍ وحزن // وضياع وَوُجُوم // .
الطبيعة والرومنسية
إن علاقة الأدب والشعر بالطبيعة علاقة قديمة ، فالانسانُ منذ وجودهِ تفاعلَ مع الطبيعةِ واعتبرها مصدرَ إلهامٍ وأسرار...فقد تغنى جبران بجمالِ لبنان في قصيدة المواكب وتغنَّى بالطبيعةِ أيضا حاتم جوعيه في قصيدهِ المعارض لمواكب جبران وأبي القاسم الشابي في ديوانه "أغاني الحياة "..كما امتاز الشعرُ الجاهلي باستخدام الطبيعةِ في الشعر وانتقل الأمرُ من عصر الى عصر حيث ظهر جليًّا في العصر الأندلسي اين برزت الطبيعة عند شعراء ذاك الزمن لما تمتاز به هناك من جمال ساحر...
ظهرت صورةُ الطبيعة في قصيدة شاعرنا حاتم بنفس رومانسي، وهو مذهب يهيمُ به الشعراءُ من كل الجنسيات ويتخذون الطبيعة ملاذا ومدخلا للتغني بآلامهم وعواطفهم الجياشة وتكونُ عادة مرتبطة بمعاناة الشاعر الذي يعتبرها موطنَ المواقف الانسانية الراقية والمكان المقدس لإسعادهِ ، والرومانسيةُ من أهمِّ المذاهب الأدبية لما تمتازُ به من افكار تحرُّرية وعاطفة جياشة وهذا ما نلاحظه في هذا القصيد ، (والشقي الشقي من كان مثلي / في حساسيتي ورقة حسي ) كما قال أبو القاسم الشابي... لقد أبدع وأطال الشاعر حاتم في بث لواعجهِ وعواطفهِ وأفكارهِ ومواقفهِ في قصيدهِ الذي فاق الخمس مائة بيت(500) وفي كل مقطع يعودُ الى الطبيعةِ (الغاب) يغذي النفسَ فيها بصوتِ الناي أو رنين العود ونشيد البلابل وصفاء الجو ويجعلها منفى يفرُّ اليها من واقع مؤلمٍ ليعيش في غربةٍ هادئة مع خلجاتِ الذات ورؤى الفكر وزخات القلم داعيا الناس الى تركِ الأوضاع السيئة والاستمتاع بالجمال أين يكمنُ سرُّ الوجود والخلود...يستعملُ الشاعرُ عبارات كثيرة لوصفِ الطبيعة ( الصبح ، المساء ، النهار، الأصيل ، الكنار، الورد، الطيور، الفراشات، النسيم، الزهور، الغيوم ، الفل والياسمين و..و..) ويحيلها الى ارسال مع عناصرالنفس ( القلب ، الروح ، الحب ، الآمال ، اللحن الجميل ) .وقد تغنى بالطبيعة في أبياتٍ كثيرة نذكر منها ما يلي:
كم جلستُ العصرَ وحدي بين أفياءِ النخيلْ
واحمرارُ الأفقِ يبدو عندما يأتي الأصيلْ
أنشدُ الآمالَ ثم الحُبَّ واللحنَ الجميلْ
ونسيمٌ يتهادى ينعشُ القلبَ العليلْ
كرَّرَ الشاعرُ الجملة ( أعطني العود وغنِّ) 7 مرات و(أعطني الناي وغن) 44 مرة معللا في كل مرة رأيه في الغناء بقوله (فالغناء ورد وماء // روح الوجود // دفء وظل // نبع السرور / سر البقاء // يحيي النفوس/ يذكي الشجن / يجلو الحزن ..الخ ) وفي الجملة فصوت الناي عنده هو صوت الحق والخلود، هو صوت الله...
هذا وان بدا الشاعر حاتم متفائلا سعيدا بين أحضان الطبيعة في أغلب المقاطع فقد أظهر في أبيات أخرى مسحة من التشاؤم واليأس فهو قد مرَّ بظروف قاسية من حيث رداءة الوضع الاجتماعي والسياسي في وطنه فقاوم بالروح والقلم ما استطاع من نزف وألم ..
صارَ دهري أرقما // وسقيت الألما
كلُّ ما حولي غدا // صامتا بل مبهما
حائر بل ضائع // بين أرض وسما
سائر ، لست أدري // هل فقدتُ الحلما
كما استعملَ الشابي عبارات كثيرة ومتنوعة في وصف الطبيعة نختار منها هذا المقطع :
أقبلَ الصبحُ جميلا يملأ الأفق بَهاهْ
فتمطى الزهر والطير وأمواج المياهْ
قد أفاق العالمُ الحيُّ وغنى للحياهْ
فأفيقي يا خرافي واهرعي لي يا شياهْ
أما جبران فقد اكتفى في المقطع الأخير من قصيدته بوصف الطبيعة في بلدهِ لبنان ودعا الناسَ الى ترك المدينة وصخبها واللجوء الى الغاب والتمتع بجمال الطبيعة الخلاب...فيقول :
هل تخذتَ الغاب مثلي// منزلا دون القصورْ
وشربتَ الفجرَ خمرا // في كؤوس من أثيرْ
هل جلستَ العصرَ مثلي // بين جفناتِ العنب
والعناقيدُ تدلتْ // كثرياتِ الذهبْ
والأمثلة كثيرة في هذا الباب من الشعر العربي
الخاتمة
ان قصيدة مواكب للشاعر حاتم جوعيه تمثلُ حياة تتعانقُ فيها رعشاتُ الأحاسيسِ ونبضاتُ القلبِ ونتاج العقل، انها غزيرةٌ ومتدفقة كالسيلِ الجارف تحملُ إلينا عبق الذات المنصهرة في عوالم الدنيا ومواكب الناس ... لذاك احتلَّ الشاعر للدكتور حاتم بهذه القصيدة الطويلة المعارضة لمواكب جبران خليل جبران مكانة مرموقة في تطورِ الشعر العربي وإحياءِ أسس الرومانسية منتهجا رؤية جديدة في الشعر، منفتحا على آفاق الأدب الرومانسي العالمي ، مازجا بين الشعر الصوفي والشعر الفلسفي ، مؤمنا بوظيفة الشعر المؤثر في المتلقي ، وهو في رؤيته للحياةِ رافض لعالم الناس القذر وداع الى الرجوع لعالم الطبيعة الطاهرة النقية ...
إنَّ معظمَ هذه المواكب تتَّسمُ بنزعةٍ انسانيةٍ مُستمدة من عالم الذات والطبيعة ، فيها من رقةِ الاحساس وجمال الصورةِ ورونقِ الكلمة ما يُبهرُ، وفيها من الألوان والايقاع والمشاهد ما يُؤكدُ فنية القصيدة وابداع الشاعر...
أما اللغة فجاءت في غير تعقيد، مألوفافة، شفافة، واضحة، بعيدة عن التعتيم والرمزية المبهمة ، التزم فيها الشاعر بنظام الشطرين وبوزن البسيط ومجزوء الرمل وبتنوع القافية وبأسلوب سلس انشائي حيث نجد فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء وتنوع الضمائر(ضمير المتكلم والمخاطب والغائب)
وفي الجملةِ نقول : إنَّ هذه المواكب هي كونٌ شعري تطيبُ السباحةُ في بحره الطامي ويحلو التحليقُ في أجوائهِ البهيجة ، وهي تلك العواطف النبيلة التي حلقت بالشاعر الى سماءِ الحُبِّ والخير والعطاءِ ورفض الزيف والخنوع والخناء، فالشاعرُ وقفَ مُندِّدًا بالرداءةِ ، مشددا على أن تعودَ الحريةُ والحبُّ والسلامُ الى العناصر والكائناتِ ، وكانت النهاية في المقطع الأخيرعذب الكلام عن الخيرين الصابرين الصامدين المؤمنين الذين واكبهم الطهر وعمَّدهُم النورُ وناصرهُم اللهُ وزهتْ بهم الأرضُ...ويسعى الشاعرُ الدكتور حاتم جوعيه أن ينظم الى موكبهم كما يتمنى، زاهدا في ملذاتِ الدنيا، مباركا من الله ، محروسا بعينه ، محفوظا بنوره . وكفاهُ فخرا هذه الهمسة المضيئة من روحهِ النقية ::
معدني الطهرُ سيبقى // أنا نورٌ وضياءْ
لستُ أرضَى الأرضَ دارُا // إن بيتي في السماءْ .
بقلم :الشاعرة والكاتبة التونسية حسيبة صنديد قنوني –