أربع رصاصات فقط/ صبحة بغورة

 


                   

ذكر مراسل قناة الغد خالد بدير تعليقا على استشهاد ثلاثة شبان فلسطينيين بمستشفى ابن سينا في جنيـن كانوا يرقدون في إحدى غرفها مصابين : " أن عناصر مسلحة من قوة اسرائيلية خاصة تسللت إلى داخل المستشفى  و" تمكنت"  من قتل الشبان الثلاثة بإطلاق أربع رصاصات فقط  ..."

نتأمل في ما ذكره المراسل دون أي علامات أسف أو أسى ظاهرة عليه أن القوة قد تمكنت وكأنه يزف بشرى لمن يهمه الأمر بأنه أخيرا تم تحقيق القتل بنجاح وكأنه جاء بعد انشغال عميق ، ثم يخون التعبير المراسل التعيس أو قل قد أنطقه المولى سبحانه بأن رأى في الرصاصات الأربعة عددا لا يشفي غليل من في نفسه مرض أربع رصاصات فقط وكأنه كان ينتظر أن تكون أربعين رصاصة وليس أربعة .

إن الصيغة التي علّق بها المراسل على ما حدث تلفت نظر كل إنسان بعين الشك إلى 

ـ شخص المراسل وهويته.

ـ تتعاظم الريبة عند رؤية السهولة التي وجدها المجرمون الصهاينة الـ 16 في دخول المستشفى الساعة الخامسة وأربعون دقيقة صباحا وتوجههم مباشرة إلى الطابق الثالث ثم إلى الغرفة 376حيث يرقد الشبان الثلاثة.

ـ هذه السهولة سمحت بتنفيذ الجريمة بسرعة والانسحاب بهدوء ، دون أن يعترضهم أحد خلال تسللهم إلى داخل المستشفى أو أثناء خروجهم. 

ـ قد بدا واضحا أن تنفيذ الجريمة قد استند إلى معلومات استخباراتية تكون غالبا بالنظر إلى دقتها من داخل المستشفى. 

لا يسعنا إلا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل، ورحم الله الشهداء.

قراءة في قصيدة "المواكب "للشاعر الفلسطيني الدكتور حاتم جوعيه/ حسيبة صنديد قنوني

 


رُبَّ كلمةٍ أوجملة أوصورة تقدحُ في الانسان قدحة تتأجَّجُ وراءها مشاعرهُ وتفيض أحاسيسا وأشعارا وأفكارا ورؤى عاطفية أو فلسفية...بيتان من الشعر من قصيدة "المواكب"للشاعراللبناني جبران خليل جبران أثرا في الشاعر حاتم جوعيه وجعلاهُ يسبح في سماءِ التأمل بالفكر والوجدان والابداع فأضاءها بنجومٍ متلألئةٍ  في مواكب معارضة لمواكب جبران فاقت الخمس مائة بيتا فيها من الشعر أعذبهُ ومن الاحساس أرقَّهُ ومن الفكر أعمقه ، اعتمدَ فيها الشكلَ الكلاسيكي وجاءت في مقاطع متعددة على بحريّ البسيط ومجزوء الرّمل، وبدا الشاعرُ فيها كفيلسوفٍ ينثرُ الحكمة ويُعَرِّي ما ظهر في الكونِ من رداءةٍ وما في الانسانِ من دناءةٍ داعيا الى الاصلاح والتفاؤل والسعادة والعلم والعدل والايمان   

 والوطنية شأنه في ذلك شأن جبران الذي كتب قصيدته "مواكب" في 203 بيت ،

  وكأنهما اختصرا سرَّ الحياةِ وَكُنهَها في هذه المواكب ، فلماذا اختار جبران ومن بعده حاتم هذا العنوان لما جادت به القريحة من أشعار؟ ذلك لأنها تصورُ مواقفَ الناس في حياتهم الواقعية وفي نفوسهم التي تبحثُ عن الكمالِ وترفضُ المادة الزائفة وما مواكب الناس الا مواقفهم من الخير والشر والدين والظلم والعدل والعلم والجهل والسعادة والحب والوطن والطبيعة ...وكلمةُ مواكب (مفرد موكب) تعني الاستعراض أوالمسيرة ، الموكب من الناس الذين يسيرون مشيا على الاقدام أو في سيارات ومنها موكب العروس ، موكب الرئيس ، أو  الجنازة ...وقد وصفَ الشاعرُ في بعض المقاطع في قصيدهِ المواكب (الجموع البشرية ) بالقطعان الذين يسيرون وراء الانسان القوي ويخطئون في اختيار الطريق الصحيح الذي يسعدهم، وينتهجون نهجَ المادياتِ الزائفة التي تؤدي بهم الى الضياع والعدم... 

مضامين الرؤى في "مواكب" الشاعر حاتم جوعيه**  ثنائية الروح والجسد***


إن ما لفت انتباه الشاعر حاتم في بيتي الشاعر جبران هو ثنائية الروح والجسد، والبقاء والفناء، والموت والخلود

فجمالُ    الجسمِ    يفنى  //  مثلما     تفنى     الزهورْ

وجمالُ النفسِ  يبقى // زهرا  مرَّ  العُصورْ"

تأمَّلَ شاعرُنا في هذا القول وفكرَ في وجودِ الانسان ومتناقضاتِ الحياة ، حركت فيه عواطفه وأفكاره    فرجع الى قصيدةِ جبران يستلهم منها مواقفَ  الناس...رأى أنَّ الحياة تمرُّ سريعا كحلم وعلى الانسان ان يعتبرَ من دروسِها وأن لا يعيش ذليلا جاهلا خانعا مُتَّبِعًا خطوات الأوغاد والزناديق كالبقر أوالقطعان وأن الربح في النهاية يكون لصاحب الاستقامة الذي ترفع عن الآثام وسار على السراط المستقيم ...ينتقلُ الشاعرُ الى بحر مجزوء الرمل ويعبرُ عن الدنيا ومتناقضاتها  ويقدم الانسان على أنه ضيف فيها زائل لا محالة ولا يبقى سوى شذا نفسه الطاهرة وروحه الخالدة ، يقول:

إنَّما     الأجسام     تفنى   //    إنها       مثلُ      القشورْ 

جوهر الروح خلود // ليس تفنيه الدهورْ  

ثم يدعو الى الغاب عالم النقاء والصفاء والى الناي رمز 

الغناء والفرح ويقول: ..

أعطني   الناي   وغنِّ  //  كل     صبح     ومساءْ

انما     العيش    كحلم  //  ليس  في  الأرض  بقاء

ومن  الأرض  ارتحالٌ  //  والى     الخُلدِ    ارتقاءْ


غنى النفس وغنى المال

 تحدَّثَ الشاعرُ عن  غنى النفس  ورأى  أنَّ  الغنيَّ  ليس   صاحب المال والجاه وانما هو الغني  بالايمان والسعيد بالرضا والقناعة وفعل الخير فلا نفع للمال بعد الرحيل وعلى العاقل الحكيم أن يستمتع بشدوِ الناي العذب الذي يُوحي بالدفءِ والصبر والايمان والانتصار والراحة النفسية والسعادة الحقيقية ...وبين عالمين مختلفين عالم الحياة والفناء وعالم الخلود والبقاء يهمس الشاعر...

إنَّ صوتَ الناي  عذب  //  فيه      يرتاح      الكنارْ

وبصوتِ  الناي   دفءٌ //  هو     للروح     انتصارْ 

وأنا    المكلومُ     دوما  //  كم   تجرَّعتُ   الصعابا

 إنَّ     ايماني     بربِّي  //  جعلَ     الهمَّ      سرابا



قيمةُ العلمِ للانسان ..

آمنَ شاعرُنا الدكتورحاتم جوعيه بقيمةِ العلم ورأى أن العلمَ له بداية وليس له نهاية سوى نهاية البشر، فالرسولُ محمد صلى  الله عليه وسلم كان أفضل القراء والمعلمين أنزل الله عليه سورة  "اقرأ" وأنزل عليه سورة "القلم" إعجازا وتعظيما لشأنه فأمر أمته بالعلم وقال (تعلموا من المهد الى  اللحد)...كما وصف الشاعر بالنبي الذي يحضنهُ النور وَيُعَمِّدُهُ الفجر ثم يعرج الى الحديث عن الجهل ويبينُ لنا انَّ العصرَ هوعصر انحطاط  يسودُ فيه الجاهلُ الرذيلُ ويُنبَذُ الشهم الجليل مستعملا ألفاظا جاشت بها نفسه لكثرة ما يراه من ظلم وتنكيل بالضعفاء في وطنهِ المنكوب الذي يُحبُّهُ ويخلصُ له ويرى أنَّ لا ولاء إلا له فيصفهُم بالأوغادِ والبهائم والزعانف والأراذل والعهر والبهم وكلاب العصر ومجمع الرجس..مقابل ذلك يصفُ العقلاءَ والأبطالَ بالشجاعةِ والعدل والشرف فيستعملُ عبارات ايجابية كالأسد ، صوت الحق ، الجهبذ الحر ، وكأني به يحاول أن يهدم ذلك الأسى والرداءة ويدعو الناسَ الى العلم والنور والارتقاء...كيف لا والعلم هو السلاح الذي اعتمده الانسان لتأكيد ذاته ، وعلى امتداد التاريخ البشري استُخدِمَ لمواجهةِ الظلم وتحقيق العدل ، ويُؤكدُ التاريخُ أن  العلماءَ والمثقفين والمبدعين والفلاسفة والأنبياء هم الذين قادوا التغييرَ وَمهَّدُوا للتطوراتِ الكبرى كما يقول أحدُ الشعراء: (العلم يبني بيوتا  لا  عماد  لها // والجهلُ يهدمُ بيتَ العزِّ والكرمِ ) ، لذلك يتوجع شاعرُنا حاتم لحالةِ وطنٍ جريح لم ينبلج صبحُهُ فيكتب بحبر الروح ودم القصيدة : 

الأسدُ نامت ، كلابُ العصرِ قد نهَضتْ 

                        ماتَ الضميرُ وصوتُ الحقِّ مُستترُ 

 الثائرون  على  الجلادِ   قد  رقدوا 

                      الكلُّ   يصمتُ   لا   ناهٍ    ومزدجرُ

الحقُّ    مُنتهَكٌ     والمجدُ    منتكسٌ

                          والوردُ   يُحَرَقُ   والأقمارُ  تنتحرُ

ثم يقول :أعطني الناي وغنِّ // إنَّني    صوتُ    الضميرْ

كم       بريء       يتلظى  //     وأنا         أحيا       أسيرْ

 

التشبث بالأرض 

ويتماهى الشاعرُ مع حُبِّهِ الشديد لأرضهِ وعرضهِ  ويشتاقُ للضمائرِ الحيَّةِ والشمس المشرقةِ والوطن الحر ويتألمُ  مما يراهُ من عمالةٍ وانحطاطٍ وصمتٍ وطمع دون أن ينسى التطبيعَ والمٌطبعين وهو لعمري ذلٌّ وهوانٌ وخنوع ، يقبضُ الشاعرُ الحُرُّ حاتم على جمرة نار ويكتبُ أبياتا  من الشعر تنبعُ من روحه الشفيفة فتدمي القلوب، كتبها لوطنهِ العزيز وشعبهِ الأبي ، طامحا أن يعيش بسلام ، محافظا على ميراثِ أجدادهِ ، متمسكا بالمفتاح، معتزا بعروبته ، ولا غرابة فحاتم جوعيه هو ابن المغار- الجليل ، الأصيل الذي لن يبرحَها ما بقي  في العمر حياة  فيقول:

شاعر  الأحرار   أبقى //  بين       قومي     كنبِي

وبشعري         يتغنى //  كل       شهم        وأبي 

ان   دربي  من   لهيب //   منذ   أن   كنتُ   صبي 

أتغنى           باعتزاز //   أنا       دومًا     عربي

 وكعادةِ الشاعر بنزعتهِ الرومانسية وحنينهِ الى الغاب 

وشدوِ الناي أين السكينة والهدوء والأمل والخلود دون التفكير في الآلام والكآبةِ يدعو الى هذا العالم النقي واغتنام العيش الهنيء وَيُعبِّرُ بقوله..

أعطني   الناي    وغنِّ  // وانسَ   ما    مرَّ   وفاتْ 

لا   تقل  أمسي   كئيبٌ  // فالذي   قد    غابَ   ماتْ 

فلتعش   عيشا     هنيئا  // واغتنمْ   ما    هو     آتْ 

تذكرني هذه الأبيات بالفلسفةِ الوجودية لعمر الخيام في رباعياته اذ يقول..

سمعت صوتا هاتفا في السَّحرْ/نادى من الغيبِ غفاة البشرْ

هُبُّوا املؤوا كأسَ المنى قبل ان/ تملأ كأسَ العمر كفُّ القدرْ

لا تشغل البالَ بماضي الزمان / ولا بآتي العيشِ قبل الأوانْ

واغنم من الحاضر لذاتهِ // فليس في طبع الليالي الأمانْ


العدل والايمان 

بين عالم مثالي سماوي وعالم واقعي حقيقي يظلُّ الشاعرُ يعيشُ لحظات السعادة والشقاء... يتألمُ من رداءة الوضع وصمتِ البشر وظلم الضعيف وتلون الوجوه وغياب العدل، ويرى كما رأى جبران أنَّ عدلَ الناسِ زيف وأن ظلم الطغاة قهر وأن الأرزاء ساءت والشقاء انتشر. وقد نراهُ مُحِقًّا في اعتباره العدل ابليسا يأتي به البشر أمام الظلم والغطرسة من الاحتلال الصهيوني لبلده من جهة، وأمام الصمت والخذلان من الأمة العربية من جهة أخرى ، ثم يصل به الغضب الى انتقاد الساسة والسياسيين الذين باعوا ضمائرَهم فقال فيهم حسب وصفه : أنذال خساسة / عنوان النجاسة / أوغاد / عضاريط / زمن انحطاط ، وفي الجملة كفاهُ  قولا قوله المتكرر "عصر لكع وابن لكع "، كما انتقدَ الصحافيين ووصفهم بالعمالةِ والجهل والهبل والتبعية وصار التطاوس للفارغين والمهانة للصناديد ..

"عصرُنا  عصرُ  انتكاس //   عصرُ    خزي    وفجورْ

عصر  لكع   وابن   لكع  //   فيه    قد   ساءَ   المصيرْ 

عصرنا عصرُ انحطاطٍ // ليس  فيهِ  من  نصيرْ 

فهل نقول: إن الشاعرَ قد بالغ في وصفِ الحال المتردي في بلده وشعبه وأمته ونحن نرى ما نرى من ظلم وقهر وقتلٍ واعتداء ودماء وتهجير، ونحن نسمعُ عويلَ الثكالى واليتامى والأرامل والشيوخ والأطفال، ونحن ندركُ ما للشعب الفلسطيني من صبر وصمود وتشبُّثٍ بالأرض ؟ إنه (ونحن معه ) يتضَّورُ جوعًا للنصرِ والحريةِ والعدالةِ والكرامة فتراهُ يسيلُ حبرهُ وكأنهُ النهرُ الهادرُ الذي لا يتوقفُ عن الجريان ...ثم يعود الى الله فمنهُ العونُ والهدايةُ والآيات وكل الرجاء، والى الغابِ ففيه العدلُ والحق  والفرح والغناء ...هكذا نرى  الإنسانَ المُؤمن  كما  نرى  شاعرنا  حاتم ، عاشقا للحياة ، منارة  للناس ، بفضل ما يسع قلبه من حب وغرام وما تجودُ به قريحتهُ من أشعار يتغنى بها كلُّ شهم وأصيل ومبدع ، فالشعرُ عنده كما يرى نفسه فيه إعجاز وعمق وإبداع...  الوطن 


الوطن 

   إنَّ البُعدَ الوطني في قصيدةِ ( المواكب) للدكتور حاتم جوعيه نابعٌ أولا من عشقهِ لوطنه وشعبهِ وأيضا هو وليدُ ظروفٍ سياسية واجتماعية واقتصادية مرَّ بها كما مرَّتْ بها أغلبُ الشعوب العربية فأفرز هذا الوضعُ جملة من الأدباءِ والشعراء والفنانين أبدعوا في وصفِ الأوضاع المتردية وَهَبُّوا الى استنهاضِ الهمم والمطالبة بالحرية والكرامةِ نذكرُ منهم محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل وأبا القاسم الشابي  وحاتم جوعيه الذين تغنوا بحبِّهم لوطنهم وناضلوا بأقلامهم والتزموا بقوميتهم ونددوا بالخائنِ المُحتلِّ بكلِّ جرأة وشجاعة

(أعطني النايَ  وغن // إنَّني  نبضُ  الشعوبْ

والذي    يسعى   لحقٍّ //   كان    منسيًّا    سليبْ )

مقاطع طويلة  تنزُّ وطنية صادقة جادت بها قريحةُ الشاعر حاتم  متخذا من عناصر الاثارةِ ما يُحركُ عواطفَ الناس ويحثهُم على التصدي للاحتلالِ الغاشم ، يذكرنا موقفهِ هذا بالبيتِ الشهير لابي القاسم الشابي : اذا الشعبُ يوما أرادَ الحياة // فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ ، أو في قصيد آخر حين يقول :

أيها الشعبُ ليتني  كنت حطابا

فأهوي  على  الجذوع   بفأسي 

ليت لي قوة العواصف يا شعبي 

فألقي     اليك     ثورة    نفسي 

ليت  لي  قوة   الأعاصير  لكن

انت  حي  تقضي  الحياة  برمسِ

ويقول الدكتور حاتم في هذا المعنى بلوعةِ الشعب وصدقِ الوطنية:

إن      قلبي     لبلادي //  إنَّهُ       قولٌ      حكيمْ 

قالها      قبلَ     عقودٍ  //  شاعرٌ      فذ      عليمْ 

قالها     قبل     نزوح   //  واغترابٍ       وهمومْ 

قبلَ    تشريدٍ   وحزن   //  وضياع        وَوُجُوم // .


الطبيعة والرومنسية

 إن علاقة الأدب والشعر بالطبيعة علاقة قديمة ، فالانسانُ منذ وجودهِ تفاعلَ مع الطبيعةِ واعتبرها مصدرَ إلهامٍ وأسرار...فقد تغنى جبران بجمالِ لبنان في قصيدة المواكب وتغنَّى بالطبيعةِ أيضا حاتم جوعيه في قصيدهِ المعارض لمواكب جبران وأبي القاسم الشابي في ديوانه "أغاني الحياة "..كما امتاز الشعرُ الجاهلي باستخدام الطبيعةِ في الشعر وانتقل الأمرُ من عصر الى عصر حيث ظهر جليًّا في العصر الأندلسي اين برزت الطبيعة عند شعراء ذاك الزمن  لما تمتاز به هناك من جمال ساحر...

ظهرت صورةُ الطبيعة في قصيدة شاعرنا حاتم بنفس رومانسي، وهو مذهب يهيمُ به الشعراءُ من كل الجنسيات ويتخذون الطبيعة ملاذا ومدخلا للتغني بآلامهم وعواطفهم الجياشة وتكونُ عادة مرتبطة بمعاناة الشاعر الذي يعتبرها موطنَ المواقف الانسانية الراقية والمكان المقدس لإسعادهِ  ، والرومانسيةُ من أهمِّ المذاهب الأدبية لما تمتازُ به من افكار تحرُّرية وعاطفة جياشة وهذا ما نلاحظه في هذا القصيد ، (والشقي الشقي من كان مثلي / في حساسيتي ورقة حسي ) كما قال أبو القاسم الشابي... لقد أبدع  وأطال الشاعر حاتم في بث لواعجهِ وعواطفهِ وأفكارهِ ومواقفهِ في قصيدهِ الذي فاق الخمس مائة بيت(500) وفي كل مقطع يعودُ الى الطبيعةِ (الغاب) يغذي النفسَ فيها بصوتِ الناي أو رنين العود ونشيد البلابل وصفاء الجو ويجعلها منفى يفرُّ اليها من واقع مؤلمٍ ليعيش في غربةٍ  هادئة مع خلجاتِ الذات ورؤى الفكر وزخات القلم  داعيا الناس الى تركِ الأوضاع السيئة والاستمتاع بالجمال أين يكمنُ سرُّ الوجود والخلود...يستعملُ الشاعرُ عبارات كثيرة لوصفِ الطبيعة ( الصبح ، المساء ، النهار، الأصيل ، الكنار، الورد، الطيور، الفراشات، النسيم، الزهور، الغيوم ، الفل والياسمين و..و..) ويحيلها الى ارسال مع عناصرالنفس ( القلب ، الروح ، الحب ، الآمال ، اللحن الجميل ) .وقد تغنى بالطبيعة في أبياتٍ كثيرة نذكر منها ما يلي: 

كم جلستُ العصرَ وحدي بين أفياءِ النخيلْ

واحمرارُ الأفقِ  يبدو عندما يأتي الأصيلْ 

أنشدُ  الآمالَ   ثم  الحُبَّ  واللحنَ  الجميلْ 

ونسيمٌ    يتهادى   ينعشُ   القلبَ    العليلْ

كرَّرَ الشاعرُ الجملة ( أعطني العود وغنِّ) 7 مرات و(أعطني الناي وغن) 44 مرة  معللا في كل مرة رأيه في الغناء بقوله (فالغناء ورد وماء // روح الوجود // دفء وظل  // نبع السرور / سر البقاء // يحيي النفوس/ يذكي الشجن / يجلو الحزن ..الخ ) وفي الجملة فصوت الناي عنده هو صوت الحق والخلود، هو صوت الله...

هذا وان بدا الشاعر حاتم متفائلا سعيدا بين أحضان الطبيعة في أغلب المقاطع فقد أظهر في أبيات أخرى مسحة من التشاؤم واليأس فهو قد مرَّ بظروف قاسية من حيث رداءة الوضع الاجتماعي والسياسي في وطنه فقاوم بالروح والقلم ما استطاع من نزف وألم ..

صارَ    دهري   أرقما //  وسقيت        الألما 

كلُّ   ما   حولي   غدا //  صامتا    بل   مبهما 

حائر بل ضائع // بين أرض وسما

سائر ،   لست    أدري  //    هل       فقدتُ       الحلما 

كما استعملَ الشابي عبارات كثيرة ومتنوعة في وصف الطبيعة نختار منها هذا المقطع :

أقبلَ الصبحُ  جميلا  يملأ  الأفق  بَهاهْ

فتمطى الزهر والطير  وأمواج  المياهْ 

قد  أفاق  العالمُ  الحيُّ   وغنى   للحياهْ

فأفيقي يا خرافي  واهرعي لي  يا شياهْ

 أما جبران فقد اكتفى في المقطع الأخير من قصيدته بوصف الطبيعة في بلدهِ لبنان ودعا الناسَ الى ترك المدينة وصخبها واللجوء الى الغاب والتمتع بجمال الطبيعة الخلاب...فيقول :

هل  تخذتَ  الغاب  مثلي// منزلا    دون    القصورْ

وشربتَ   الفجرَ    خمرا // في   كؤوس   من   أثيرْ

هل جلستَ العصرَ مثلي // بين     جفناتِ      العنب 

والعناقيدُ          تدلتْ    //   كثرياتِ          الذهبْ

والأمثلة كثيرة في هذا الباب من الشعر العربي


الخاتمة 

  ان قصيدة مواكب للشاعر حاتم جوعيه تمثلُ حياة تتعانقُ فيها رعشاتُ الأحاسيسِ ونبضاتُ القلبِ ونتاج العقل، انها غزيرةٌ ومتدفقة كالسيلِ الجارف تحملُ إلينا عبق الذات المنصهرة في عوالم الدنيا ومواكب الناس ... لذاك احتلَّ الشاعر للدكتور حاتم  بهذه القصيدة الطويلة المعارضة لمواكب جبران خليل جبران مكانة مرموقة في تطورِ الشعر العربي وإحياءِ أسس الرومانسية منتهجا رؤية جديدة في الشعر، منفتحا على آفاق الأدب الرومانسي العالمي ، مازجا بين الشعر الصوفي والشعر الفلسفي ، مؤمنا بوظيفة الشعر المؤثر في المتلقي ، وهو في رؤيته للحياةِ رافض لعالم الناس القذر وداع الى الرجوع لعالم الطبيعة الطاهرة النقية ...

إنَّ معظمَ هذه المواكب تتَّسمُ بنزعةٍ انسانيةٍ مُستمدة من عالم الذات والطبيعة ،  فيها من رقةِ الاحساس وجمال الصورةِ ورونقِ الكلمة ما يُبهرُ، وفيها من الألوان             والايقاع والمشاهد ما يُؤكدُ فنية  القصيدة  وابداع     الشاعر...    

أما اللغة فجاءت  في غير تعقيد، مألوفافة، شفافة، واضحة، بعيدة عن التعتيم والرمزية المبهمة ، التزم فيها الشاعر بنظام الشطرين وبوزن  البسيط ومجزوء الرمل  وبتنوع القافية وبأسلوب سلس انشائي حيث نجد فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء وتنوع الضمائر(ضمير المتكلم والمخاطب والغائب)

وفي الجملةِ نقول : إنَّ هذه المواكب هي كونٌ شعري  تطيبُ السباحةُ في بحره الطامي ويحلو التحليقُ في أجوائهِ البهيجة ، وهي تلك العواطف النبيلة التي حلقت بالشاعر الى سماءِ الحُبِّ والخير والعطاءِ ورفض الزيف والخنوع والخناء، فالشاعرُ وقفَ مُندِّدًا بالرداءةِ ، مشددا على أن تعودَ الحريةُ والحبُّ والسلامُ الى العناصر والكائناتِ ، وكانت النهاية في المقطع الأخيرعذب الكلام عن الخيرين الصابرين الصامدين المؤمنين الذين واكبهم الطهر وعمَّدهُم النورُ وناصرهُم اللهُ وزهتْ بهم الأرضُ...ويسعى الشاعرُ الدكتور حاتم جوعيه أن ينظم الى موكبهم كما يتمنى، زاهدا في ملذاتِ الدنيا، مباركا من الله ، محروسا بعينه ، محفوظا بنوره . وكفاهُ  فخرا هذه الهمسة المضيئة من روحهِ النقية ::

معدني الطهرُ سيبقى // أنا   نورٌ  وضياءْ 

لستُ أرضَى  الأرضَ دارُا //   إن   بيتي     في    السماءْ .

 

بقلم :الشاعرة والكاتبة التونسية حسيبة صنديد قنوني – 





حوا بطواش وحياة جديدة/ زياد جيوسي



   "حياة جديدة" هي مجموعة قصصية للكاتبة الفلسطينية حوا بطواش من كفر كما في الجليل الأسفل من العمق الفلسطيني المحتل عام 1948، والتي سعدت باللقاء بها شخصيا لأول مرة على هامش حفل اشهار كتابي "أحلام فوق الغيم" في نادي حيفا الثقافي في مدينة حيفا، فأهدتني مجموعتها القصصية المكونة من ست عشرة قصة على مساحة 126 صفحة من القطع المتوسط من اصدار دار الهدى في العام 2020 م، مع غلاف أنيق وبسيط يضم صورة لفتاة على شاطئ بحيرة وهي تنظر للبعيد والغلاف الأخير مقطع من قصة وتعريف بالقاصة وإصداراتها السابقة من القصص وهما مجموعتان، والاهداء كان إلى "الذين لا يملون من البحث عن طريق جديد مهما قست عليهم الظروف وتاهت بهم الدروب"، والمجموعة أخذت عنوانها من القصة الأولى بالمجموعة.

   القصة وعبر أشكالها المختلفة وأساليبها التي عايشتها منذ بدأت القراءة طفلا تشدني بقوة أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى يليها الرواية؛ وأما الشعر فكان استثناء، وأما النصوص والكتب التي تعاني إشكالية التجنيس فتقع في آخر برنامجي، وما زالت القصة تشدني وكلما وقع بين يديَّ مجموعة قصصية سارعت لقراءتها وأعطيها أولوية في برنامجي اليومي بالقراءة والكتابة النقدية وإن كنت لا أرغب القصة القصيرة جدا، وبالتالي رفضت ما قاله البعض حول موت القصة لصالح الرواية وقد أشرت لذلك في أكثر من قراءة نقدية لمجموعات قصصية، والمؤسف وكما أشرت سابقاً في مقالات أو حوارات أن الكثيرين من الشعراء اتجهوا للرواية، فلم نكسب روائيين جيدين وخسرناهم كشعراء كان لهم وزنهم في فضاء الشعر، وأيضا خسرنا قاصين جيدين اتجهوا للرواية أيضا، ولو استمروا في مركب القصة لكان أفضل لهم من زورق الرواية الذي جعل الأمواج تتلاعب بهم.

   المجموعة القصصية "حياة جديدة" تستحق الاهتمام وقد اخترت بعضاً من هذه القصص لتعطي فكرة عن المجموعة القصصية مع بعض الملاحظات عليها وعلى باقي القصص أيضا، وسنلاحظ ومنذ القصة الأولى"حياة جديدة" أن القاصة تتجه لمعالجة قضايا اجتماعية موجودة بالمجتمعات، ومنها قضية صبرت عليها بطلة القصة سنوات طوال من خيانة الزوج وكما ورد في القصة: "يحتفظ بي في بيته الكبير، كأي تمثال جميل أو لوحة أو كرسي، ويقيم علاقات كثيرة مع العديد من النساء"، فتقرر بعيدا عن نصائح والدتها التقليدية أن تقدم لزوجها في حفل عيد ميلاده الأربعين هدية، بأن تتركه وأمواله وموقعه المجتمعي خلال الحفل وتتسلل بهدوء وتتجه حسب ما قالت: "إلى حيث حياة جديدة تفتح لي أبوابها، تحفظ كرامتي وانسانيتي"، وهذا قرار صائب ولكن ظروف عدم التمكن من الانجاب وعدم وجود ابناء تدفعني للتساؤل هل لو وجد الأطفال هل كانت ستتخذ هذا القرار؟.

   "عازفة البيانو" وهي قصة حفلت بالحب الصامت من نعيم لعازفة البيانو التي مرت بالعديد من الظروف الاجتماعية، والجميل أن القاصة وهي أنثى أوردت القصة على لسان ذكر ودخلت لداخل تفكيره وهو يحاول اخفاء حبه الصامت بالقول: "الحب وهمٌ" بينما هو يحبها ولم ينسها وهذا واضح من استعادته الذاكرة "ماذا كان لدي لأقدمه لها؟ كنت مجرد شاب بلا مواهب.. بلا مال"، بينما عازفة البيانو التي كانت شابة تتميز بالجمال والطموح، سافرت لفرنسا لدراسة الموسيقى وأحبت زميلها الفرنسي وتمردت على أهلها وتزوجته فتخلى عنها أهلها بسبب ذلك، وأنجبت منه طفلة وعادت للبلاد لتعمل عازفة وتربي ابنتها بسبب وفاته لكن لم تعد للقرية، حتى كانت الصدفة التي جمعتها بنعيم وتبادلا الحديث على فنجان قهوة وأعطته بطاقتها وقالت له أن يتصل بها، ولكنه وبعد أكثر من شهر يستعيد الحوار بينهما ويهمس لنفسه:"أتأمل في البطاقة.. وأفكر"، علما أنه لم يتزوج خلال غيابها أكثر من عشر سنوات، وحين رآها بالصدفة المرتبة من صديقه بدون علمه حرص كل نهاية اسبوع أن يذهب لنفس المطعم ليستمع لعزفها قبل أن يحصل اللقاء الأول، فهنا نجد القاصة تضع أصبعها على مسألتين الحب الصامت والظروف الاجتماعية تاركة نهاية القصة مفتوحة على الاحتمالات.

   في قصة "مَهمَّةٌ في الزواج" توردها أيضا على لسان ذكر يجد برودا وخوفا وتقصيرا من زوجته بعلاقته الخاصة بها، فيلتقي بصديقه يشكو له فكانت الإجابة: "المرأة كتلة من الأحاسيس، وإن أردت كسبها عليك أن تفهم أحاسيسها وتلامس شغاف قلبها، وبعدها سترى بنفسك كيف تذوب بين يديك، فتكسب قلبها وجسدها وكل ما فيها"، ويكمل نصيحته بالقول: "الحل أن تقترب منها، ولكن ليس فقط في الليل! بل ابتدئ من النهار، كن صديقها الذي يسمعها ويحس بها، وحاول أن تكسب ثقتها وحبها"، وفي هذه القصة نجد القاصة تطرق إلى مسألة مهمة في العلاقات الزوجية، فكثير من الذكور يتعاملون مع المرأة كوعاء تفريغ فقط مما يجعلها تعاني وتبتعد، وأيضا الزواج التقليدي فالزوجة من اختيار الأم.

   بينما في قصة "الهاربة" تبحث أيضا في مشكلة اجتماعية أوردتها في قصة "عازفة البيانو" وهذه المرة تتمرد سماح على قرار والدها بعودتها للقرية وترك الدراسة وتقرر الزواج من حبيبها، وإن كان في عازفة البيانو فرنسي فهو هنا لبناني الأب وفرنسي الأم ولم تهتم بجنسيته أو ديانته فالحب كان بوصلتها، وإن كانت عازفة البيانو ذات طموح وشخصية قوية، الا أن سماح كما اختها الكبرى منى تعيشان تحت سطوتي الأب والأم، فكان تمردها قرار صعب على والدها فرفض قبول قرارها ومسامحتها وخلال شهور كان طريح الفراش ومات قهرا، بينما أمها رفضت مسامحتها وقاطعتها خمسة عشر عاما، وسماح بقيت وحيدة بعد أن ترملت شابة في الثالثة والعشرين من العمر، وهذه القصة تميزت بنهاية غير متوقعة اتركها للقارئ حتى لا أفسد عليه متعة القراءة.

   في قصة "وردة تستجدي الحياة" عالجت الكاتبة عدة قضايا اجتماعية وهي خوف الأم على وردة من العنوسة وهي التي بلغت خمسة وعشرين عاما ولم يتقدم احد لخطبتها، بينما اختها التي تصغرها بثلاث سنوات تستعد للزواج واخوتها تزوجوا، والقضية الاجتماعية الثانية هو كيف تسقط بعض الفتيات في شِباك بعض الذكور من الذئاب البشرية الذين لا يريدون سوى المتعة الجسدية، وهي كانت تركب حمارها وتخرج كل يوم لقطف العكوب حتى تعرفت على أسعد الذي كان يشتري منها العكوب وتمكن من الدخول لقلبها بمهارة وخبث ووعد بالزواج، حتى سلمت نفسها له وحملت منه ولكنه تخلى عنها واختفى، وباحت بسرها لأمها فقرر والدها واخوتها ذبحها لصيانة الشرف وهذه القضية الاجتماعية الثالثة في القصة، لكنها تمكنت بقوة من صدهم والفرار حفظا على حياتها، ونهاية القصة تقول: "باتت متأكدة أنه لم يعد باستطاعتهم رؤيتها ولا اللحاق بها.. لكنها ظلت تركض وتركض"، وهنا تبرز القضية الاجتماعية الثالثة في القصة، فأين ستذهب القروية غير المتعلمة وكيف ستعيش؟ هذه النهاية المفتوحة على احتمالات كثيرة ستثير تساؤلات القارئ، وفي قصة أخرى هي "ليلة الخيبة" نجد ذئبا بشريا آخر ولكن الأنثى  ورغم حبها الشديد له لم تستجب ولم تسلم نفسها، فقطع اتصاله بها ولعله ذهب ليبحث عن ضحية أخرى.

   وتعود لقضية القتل من أجل الشرف في قصة "شيء من الدفء" مضافا لها قضايا اجتماعية أخرى مثل غيرة الأخوات السلبية واليتم المبكر والمعاناة من زوجة الأب، وهي قصة محبوكة بشكل جميل ولكن لفت نظري أن الأخت كريمة هي من فضحت حب بطلة القصة لرأفت لوالدها واخوتها، فتعرضت للإضطهاد في البيت ولكن في نفس الوقت نجد كريمة تزوجت من نفس الشخص رسميا بموافقة الأهل ورحلت معه لمكان آخر، فكيف قبل الأهل هذا الزواج وهم اضطهدوا بطلة القصة لحبها لرأفت؟ وهذا الزواج ما جعل بطلة القصة تهرب من بيت أهلها وتصبح مطلوبة للأهل لقتلها صونا للشرف، علما أن ما يسمى قتل الشرف لا مكان له بالديانات السماوية ولا في القوانين وليس أكثر من عُرف ذكوري متوارث في بعض المجتمعات، بينما في قصة "شوق مؤجل" نجد الغيرة الإيجابية بين الأختين.

   في قصة "الزوج المثالي" لفتت نظري بهذه المثالية من الزوج خمسة وعشرين عاما ولكنه ينحرف قليلا بعد تغير زوجته وبدء معاناته فيرتبط بأخرى لكنه سرعان ما يستعيد توازنه نادما، وهنا سنجد قضيتين اجتماعيتين عالجتهما القصة، أن تغير الزوجة بالسلوك يدفع الرجل للانحراف، والأخرى أن هناك نساء غير متزوجات ولكن يهمهن العلاقات مع الرجل بدون اهتمام انه متزوج من أخرى.

   في مراجعة سريعة للمجموعة القصصية "حياة جديدة" نجد أن القاصة حوا بطواش قد أتقنت هذا الفن القصصي وحافظت على قواعد بناء القصة من حيث تكثيف اللغة والاهتمام بالمقدمة والذروة والنهاية والتشويق، وإن كانت ركزت على الجوانب الاجتماعية في قصصها فهذا يؤكد أن القاصة قد تفاعلت مع مجتمعها ونقلت مشكلاته وقضاياه عبر أسلوب القصة وخيال الكاتب، معالجة أحيانا بوضع حلول ترتأيها كما في قصة "مهمة في الزواج" فالقاصة في هذه القصة كانت تبحث في قضايا حرجة تخص المرأة في سرير الزوجية وهذا في مجتمعاتنا يدخل في الثلاثي المحرم او كما كان يصطلح عليه بأنه "التابوهات الثلاث المحرمة: الدين والجنس والسياسة"، وتترك النهاية مفتوحة تاركة للقارئ أن يضع الاحتمالات كما في قصة "عازفة البيانو" أو أن تجعل نهاية القصة مغلقة كما غالبية القصص في هذه المجموعة، كما بحثت في قضايا العنوسة وقتل الشرف واستدراج الفتيات للحصول على المتعة فقط كما في قصة "وردة تستجدي الحياة" وقضايا الصداقة الحميمة كما في قصة "صديقتي هناء"، والشك من الزوج في قصة "الدفتر".

   تواصل الكاتبة حوا بطواش طرح قضايا إجتماعية مختلفة وفي قصة "نظرة إلى الوراء" والتي تضم ثلاث نساء كن يوما صديقات واثنتان منهما تزوجتا أما الثالثة اهتمت بدراستها لا نجد في القصة الا الغيرة النسائية المكتومة واسترجاع الماضي لمن لم تتزوج في عبارة: "ما أغرب هذه الحياة، إنها تفرش أمامك فرصا كبيرة، في الوقت الذي تكونين فيه الأقل توقعا، الأقل استعدادا"، وفي قصة "العائد" لا نجد الا حكاية طالب ومراهقة تركها وسافر والصدفة جمعتهم في الشارع وهو مع زوجته الأجنبية فأنكرها بعد أن عرفها، وفي قصة "ليلة الرحيل الأخير" كانت تطرح إمكانية أن تقرر المرأة ماذا تريد سواء الطلاق رغم وجود ابنة اصطحبتها معها أو السكن في المدينة أو الحب وممارسته مع العشيق وقرار إنهاء العلاقة، بينما في قصة "الزوج المثالي" أعتقد أن القصة كانت فيها مبالغة في تصوير اخلاص الزوج وفي نفس الوقت لم تعطنا فكرة لماذا تغيرت الزوجة مع هكذا زوج مثالي، وهذا ضعف في فكرة القصة وأسلوب السرد، إضافة أن الكاتبة لجأت في هذه القصة للهجة المحكية في منطقة شمال فلسطين بينما قصصها الأخرى كانت بالعربية الصحيحة، وهذا مأخذ آخر على القصة.

   والملاحظ أن غالبية شخوص المجموعة القصصية من النساء هن من بنات القرى وليس المدن، وهذا سوف يثير السؤال في ذهن القارئ كما أثار تساؤلي، لما كان تركيز القاصة على القرية بشكل خاص وعلى نسائها وبعض الذكور من القرى؟ كما يلاحظ أن الكاتبة لجأت أكثر من مرة للتحدث على لسان الذكر وليس الأنثى كما قصة "عازفة البيانو" و"مهمة في الزواج" وحبيبتي الفيسبوكية" والتي تتناول بها قضية هذا الحب الوهمي عبر الشاشة الزرقاء وقصة"الدفتر"، وهذا الأسلوب لجأت القاصة اليه كي تضع الأصبع على الجرح في ممارسات الذكور وإقرار بممارسات ذكورية، وكي لا يأتي الحديث عن هذه المشكلات وكأنها شكاوى النساء من الذكور، وإن ركزت على الجوانب الاجتماعية لكن سنجد أن هناك بعدا آخر في قصة "دمٌ في القرية" من خلال الحدث والنهاية، فهل من وجد مقتولا في الحقول انتحر أم مات مقتولا من قبل جهة أخرى؟ وخاصة أن الصيدلاني "شلومو" والغريب عن القرية أجاب على سؤال حمدي عن الذي مات قبل أن تعلن مكبرات الصوت في المسجد اسم الميت، مشيرا انه ذبح في رقبته، وهل كان "شلومو" مجرد صيدلي فتح صيدلية في هذه القرية العربية أم كانت عنده مهام أخرى مكلف بها؟

   في قصتي عازفة البيانو والهاربة كان الحب والتمرد على الأسرة والزواج من أشخاص ليسوا من القرى اللواتي كن يعشن بها، بل احدهم أجنبي والآخر عربي والغربة للفتيات للدراسة؛ ومقاطعة الأهل لهن في الحالتين، مع اختلاف النهايات بين القصتين، تشعرنا بأن الفكرة في القصتين نفسها وإن اختلفت العناوين وخيال الكاتبة في حبكة القصة، ولو نظرنا إلى العناوين للقصص سنجدها كانت تعبر عنها وعن السياق الاجتماعي والثقافي بها، ولكن لو عدنا لقصة "الهاربة" فلن نجد هاربة بل متمردة، ولو أسمتها المتمردة كان العنوان أنسب، وخاصة أن المتمردة اسمها سماح وانتظرت خمسة عشر عاما لعلها تحظى على السماح من والدتها، وبالنسبة للمكان فلم تكن الكاتبة تشير الا إلى كلمتي "القرية والمدينة" بدون تحديد المكان الا في قصة واحدة حيث اوردت اسم وإن لم يكن فعلي وأشارت إلى "الجليل" وهو مكان فعلي وأشارت لمدن أوربا في قصتين، وأما الزمان فلم يكن محددا فهذه مشكلات اجتماعية تقع في كل الأوقات ولا تستدعي سوى أنها بالزمن الحاضر، وظل مجال فضاء القصص بغالبيتها دعوة للتمرد على الموروثات البالية والبحث عن الحرية والانعتاق من العبودية الذكورية والإنطلاق، في رسالة من الواضح أن الكاتبة حوا بطواش تؤمن بها وتعمل من أجلها كما العنوان للمجموعة: "حياة جديدة".

العالم ينتحب/ صبحة بغورة

  


تكاثرت المصائب  على البشرية في معظم الأرجاء،  وتعدت خطورة الكوارث الطبيعية كل الخطوط الحمراء، والصراعات تنحر الشعوب ومع ذلك فما زالت التهديدات بتدمير الحضارات متواصلة ،ويتعاظم شرورها أكثر بفناء العالم .

  

حروب الإنسان الدامية مع نفسه والآخرين تتوسع نحو تعميق جراح وآلام المآسي، وجرأته على تدمير الطبيعة تتواصل نحو إحداث المزيد من الكوارث في حياة معظم شعوب الأرض.

آلة القتل والهدم الصهيونية تواصل منذ أكثر من أربع أشهر تدمير كل مظاهر الحياة  في فلسطين ولا تعبأ بأي معايير إنسانية أو مواثيق دولية ،وبرغم حملات الإدانة والاستنكار العالميةالباقية تحيط الكيان الصهيوني من الجهات الأربعة ، وبرغم تجريم محكمة العدل الدولية والمنظمات العالميةوالإقليمية للسلوك الإجرامي الصهيوني ،إلا أن مسلسل القتل والاعتقال والتعذيب وتشريد مئات الآلاف من سكان غزة وتهجيرهم من أوطانهم وقتل الأطفال واختطافهم يتواصل بشكل أشد ويترافق مع الحديث عن ظاهرة الاتجار بالأعضاء ، إنه وضع يحمل كل دلائل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وينذر بتوسع دائرة الصراع المسلح في منطقة الشرق الأوسط إلى عدة دول عربية أخرى إذ لا شيء يؤشر على وجود آفاق لحل الأزمة قريبا أو احتوائها سلميا  نحيب الأرامل والثكالى وصراخ الأيتام يتعالى عبر المعمورة ولا شيء جديد يحمله رجع الصدى.

الصراع المسلح الدامي بين روسيا وأوكرانيا الجاري منذ فبراير 2022لم يبق ولم يذر، بقدر ما أكد فعلا أن ألم الشرق سرعان ما يبكي الغرب إذ تعاني دول العالم من نقص الطعام بعد تراجع معدلات الأمن الغذائي بسبب توقف إمدادات القمح  خاصة من البلدين المتحاربين، المعارك المتواصلة ترافقها تهديدات وتحرشات ببعض دول الجوار الأخرى والتحالفات السياسية والعسكرية تتعدد وتتمدد . نذر المأساة الإنسانية تتشكل في ملايين اللاجئين الأوكرانيين في بعض دول الجوار الهاربين من الدمار الشامل ، والجنود القتلى من الجانبين وكذا المدنيين الأوكرانيين ضحايا القصف داخل منازلهم كلها مشاهد مؤلمة تضع الإنسانية أمام أزمة ضمير مزمنة، ولا أمل قريب في عودة السلام في المنطقة ولا جدوى من صراخ المنكوبين وعويل عائلات الضحايا  بعدما اتضح أن وجود أحدهما مرهون بزوال الآخر.

لا تعطي مظاهر اختبار قبضة القوة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في الصراع حول جزيرة تايوان أي مؤشرات على إمكانية تجنب اندلاع مواجهة مسلحة بين العملاقين ، فالاستفزازات مستمرة والاختراقات الجوية متواصلة، والعالم يترقب ببالغ القلق والانشغال ما ستسفر عنه تطورات الأحداث ، وقد تبعث صور بعض اللقاءات البروتوكولية الباسمة بين الرئيسين الأمريكي والصيني قليلا من الاطمئنان والأمل في وجود احتمال قوي بتفادي حدوث حرب بين البلدين، ولكن الواقع شيء آخر تماما فليست لباقة المظاهر الدبلوماسية انعكاسا دائما لحقيقة العلاقات ، ولا للأمل في نفوس مئات الملايين من البلدين أن يرتق قادتهم إلى مستوى تطلعاتهم للعيش في سلم وأمان .

وكأن الأوضاع في السودان لا تريد أن تهدأ  منذ عشرات السنين ، والصراع المسلح الجاري بين قوات الجيش الوطني وقوات الدعم السريع منذ شهر أبريل 2023 حلقة أخرى في صراع محموم بين أبناء الوطن الواحد على السلطة أدى إلى نزوح  10.7 مليون سوداني إلى بعض دول الجوار خاصة إلى مصر التي يقيم فيها أصلا حوالي 4.5 مليون سوداني في حالة لجوء منذ فترة طويلة إضافة إلى نزوح مئات الآلاف الآخرين إليها ، تركوا وراءهم منازلهم وأملاكهم  ومتاعهم فارين بحياتهم من جنون القتل والتنكيل والهدم ، ومع فشل جهود الوساطة من أجل التهدئة ولمحاولة رأب الصدع فقد اشتدت المعارك على نحو أكثر شراسة ولم يعد أمام معاناة النازحين سوى المزيد من الدعاء والكثير من الصبر.

يتحمل اليمن عبء نتائج مواقفه لنصرة الفلسطينيين في قطاع غزة ، فالقصف الصاروخي للسفن التي تعمل لصالح الكيان الصهيوني العابرة لمضيق باب المندب نحو البحر الأحمر والذي يقابله قصفا بالصواريخ والغارات الجوية الأمريكية يكلف اليمن خسائر جسيمة في الأرواح والمنشآت العسكرية والمدنية ، ويؤدي إلى فرض حصار مضاد عليه من عدة دول كبرى ،لقد تعدى أثر التهديد اليمني على مرور السفن إلى البحر الأحمر سلبيا على حجم التجار الخارجية للكيان الصهيوني، وإلى الإضرار بصادرات دولة قطر من الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر البحر الأحمر، وأدى  إلى تراجع كبير بنسبة 40% في إيرادات مصر من قناة السويس، الوضع لم يعد سهلا تحمل المزيد من عواقبه خاصة وأن تداعيات الموقف اليمني قد اتسعت وامتدت إلى مصالح حيويةلأطراف دولية أخرى .

ما تزال أثيوبيا ماضية في مخططها المائي وشروعها في الملء الرابع لسد " النهضة" بعيدا عن أي اعتبار لمصالح كلا من السودان ومصر في ضمان حقهما التاريخي في مياه النيل الموثقة في الاتفاقيات المبرمة بين الدول الثلاثة ،لقد أصبحت القضية بسبب تعنت أثيوبيا قضية " وجود " لشعوب تواجه خطر الجفاف والموت عطشا ، وكلما لاحت في الأفق بوادر من أجل توافق الرؤى والشروع مجددا في التفاوض من أجل تقارب المواقف ،عادت الأمور سريعا إلى نقطة الصفر ومرحلة البداية .

التسابق الإيراني والتركي على أطراف بعض الدول العربية كشمال العراق وسوريا وجنوب لبنان ثم التمدد البحري التركي إلى سواحل ليبيا يأخذ شكل التكالب نحو التوسع في إقامة مناطق نفوذ أجنبي في الأراضي العربية ، ثم تكمل الغارات الأمريكية المأساة بدعوى قصف مواقع وأهداف تعتبرها أمريكا خاصة بفصائل معادية موالية لإيران ، حيث تنظر أمريكا بعين القلق إلى  وجود ما تصفهم  " بالأذرع " الإيرانية المسلحة في هذه الدول ، وهو ما كان قد استدعى إبحار حاملات الطائرات الأمريكية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط تحسبا من احتمال تدخل إيراني لنصرة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية في غزة ، وبذلك صار الوطن العربي فضاء للتدخل الأجنبي العسكري المباشر تحت غطاء الصراعات السياسية الإقليمية والدولية.

تكشف تطورات الأحداث العالمية عن هشاشة كبيرة في تماسك كيان الوطن العربي ، فالخلاف الجزائري ـ المغربي حول مصير الصحراء الغربية يثير مجددا المخاوف من عدم استبعاد اندلاع مواجهات عسكرية محدودة بين البلدين بعد حرب الرمال عام 1963 وأمغالا 1975 فالعلاقات الدبلوماسية المقطوعة والحدود البرية المشتركة المغلقة ، والقطيعة بين الشعبين ثم منع عبور وتحليق الطائرات المدنية والعسكرية لأيّ من البلدين في أجواء الأخرى كلها أوضاع غير طبيعية بين بلدين عربيين وإسلاميين ينتميان للمغرب العربي الكبير ولا يمكن مع بقائها واستمرارها تصور فرصة للتقارب بينهما خاصة بعد سماح السلطات المغربية  بوجود صهيوني على أراضيها قرب الحدود مع الجزائر ، يرى فيه الجيش الجزائري وجودا مشكوكا في هدفه وينظر بعين الريبة إلى مقصده . 

ـ

كأنها لم تكن هنا/ رحال لحسيني



(إلى إنسان ما قد تشبهه الحكاية!)


صدمة كبيرة جدا. شاهدَته كعادته مبتسما، هل هي هذه الحرب الجائرة، أم حادث غادر، ربما ذلك الصامت القا... تل. كلهم سواء يحاصرونه فجأة كقطاع طرق، كلصوص أوغاد لا يرحمون، يسلبونك متاعك وسكينتك وساعة صحوك.

لم تعلم أن إحدى قدميه التي طالما راقصها بهما ربما بٌترت.


لا زالت عزيمته قوية كما كان، يصارع في عدة جبهات. تفادى أن يظهر لها أنه شاهد وقع التأثر في عينيها، تجاهل شطط حزنها. ابتسم في حضرة بهائها القاسي، وقال:

- لا ينهزم في الحب من لا تهزمه مرارات الحرب.

رمقته بنظرة شديدة الإعجاب من قوة عزيمته، ارتبكت كلماتها، أصرت على نطق ما لم تستطع التعبير عنه، قالت: 

- كأني لم أكن هنا ؟... 

طاف بضيق خاطرها شيء ما. غمرتها قشعريرة جارفة، ضمت ذراعيها إليها، ولاذت بالصمت.


كيف له أن يًضاهي رايات لا يحملها الأقوياء، عزيمته لا تنضب، ترافقه قصص البطولات القديمة، الطبقات، الفنات، القبائل، الجماعات، الشعوب، الدروب،... المرافئ البعيدة تدنو من بريق عينيه، الأحلام تطير إلى مدى أفكاره الجامحة.


تمر بخيالها قرب بسمات روحه الثائرة، ترفرف فراشات ربيع مارق، تنبأ بحقول قادمة من جفاف الأيام. تسافر خلف خطواته العابرة لمدارات الظلام، تنتفض وجناتها الٱتية من حروف لا تستكين في ساحته، تضيء شفتيها النافرتين، تهمس بقوة في جدار صدره، تخامر ذهنها ذكريات شامخة باللونين الأبيض والأسود. 

الورد لا يتفتح في نافذتها إلا حين تشم رائحته.


لا احد يستعيد نَظَارَتَهً في باب حكايتها، توصده على أصابع الضجر. تسافر إلى أغنية هادرة تنبض بسماع صوته، كلماتها تحلق من مكان ما في قلبه.



ضيف غير مرغوب فيه/ بن يونس ماجن


                  

1

اصبحت أقلية

في وطني

لقد زجوني

الى زنزانة 

في مصح نفسي

2

ادخل في جدال

مع ظلي

الذي دوما

يعاكسني

3

في حفل تأبيني

 فشلت

حتى في الانتحار

في أماكن التعذيب   

4

اركض نحو السراب

ولا اغرف منه

الا مذاق العطش الآسن

5

اتبع غمامة

فتسحبني الى زوبعة

حيث المنارات

تتجاهل الغرقى

وقوارب النجاة

6

حين أكون وحدي

امقت الظهور في العتمة

لا وقت لدي لتخمينات

لا تحصيها ذاكرتي

7

يكفيني أن قصائدي

تشاركني   قمصان النوم  

في سريري

ما احوجني الآن لوطن

مطابق لهويتي   

8

كل الطرق المؤدية

الى زنازين الزعيم

صارت مفتوحة 

على مصراعيها   

لايقاظ الاموات  


9

شأني كالآخرين

فانا مجرد غريب

لا اقول شيئا اضافيا

انعش ذاكرتي الهشة

كي لا يدركها

النسيان الافتراضي

10

وحتى لا يستعجل

احد علي الجواب:

مذ ذبحوني بمنجل صدىء

وقلمي ينزف

حبرا يضاهي الذكاء الاصطناعي                            

11

وصرت أرى في المرآت

ما لا قد تراه قارئة الفنجان

في دهاليز نزواتي                              




أنا وطالِباتُي في الكِنْدِي وإنتيخريستوس/ زياد السبعاوي



بَعدَ مخاضٍ عَسيرٍ في محاولتي إيصال تفاصيل محاضرةٍ بُحَّ فيها صَوتي ، عُدتُ أدراجي إلى قاعة إستراحة الأساتِذة وكالعادة أول شيءٍ تصطدِم به عيوني هو إجتماع الأضداد الخاص بالأستاذ صدام وأعني هنا علبة سجائره وفوقها تتربعُ ولاعته وبجوارها أكداس أدويته التي تُخفف من آثار التدخين والكانيولة التي لا توشكُ أن تُغادِر أوردته وما أن أنظر إليه حتى يُبادر قائلاً :

أُدركُ ما يدور في خَلَدِك ونظرات إستفهامك وجوابي هو أنَّ السجائر هي دائي وإبتلائي ، وأزيز صدري وضيق أنفاسي هو آثار سجائري وبجوارها أدويتي التي هي حَبل نجاتي ؛ إذن فقد إجتمع الداء وآثاره والدواء .

لكنني في هذا اليوم الشتوي السَمَاوي ما أن دخلت القاعة حتى أبْصَرَتْ نواظري أطباقَ القيمر والعسل والشِلَّة المُعَتَّقة بالسَمْن الحُر والدِبس التي تناثرت بسخاءٍ حاتمي وقد تَعالى دخان حرارة الصمون الذي يفَتح القريحة والشهية للإنقضاض على هذه المائدة والسُفْرَةِ التي تَنَغَّص لنا بها الأستاذ قُصي الرميثي ومحمد ؛ ويقيناً لا غرابة في هذا الكرم الذي أدمناه فنحن في أرض كَلكَامِش حيثُ أرض أوروك التي شَهِدَت وِلادة نبي الله إبراهيم الخليل "عليه السلام" الذي كان للجُودِ عنوان ويقيناً هي جِيناتهُ تِسري في عُروق أحفادهِ ؛ تعالت أصوات قُصي وعبد الزهرة وقيس وهم ينادوا بالله عليك يا زِياد أسرع :

أن هَلُمَّ إلى زادِك فنَحنُ في سِباقٍ مع الزمن وليس لدينا اليوم بِطُولِه ....

تتابعَ وصول الأساتذة إلاّ ميثم الذي آثر أن يبقى في الطابِق الثاني أو الثالث كي يستثمر الوقت وربما لديه عداءٌ مع إرتقاء ونزول الدرج أو السلالم أو هي فوبيا المصاعد ؛ المهم أنه طلب حصته بأن تصله في الأعلى فكان له ما أراد .

واقِعُ الحَال هذه الوجوه الصبوحة والأنفس الطيبة تجعلنا ننسى حسابات إرتفاع الضغط ومعدلات السُكّر وأجزم أنه سيكونُ هنيئاً مريئاً بل وشفاءاً مِنْ كُل داء .

نظرتُ إلى عقاربِ الساعة فإذا وقتُ محاضرتي في قاعةِ العَطاءِ يُوشك على البدء إذن لا بُدَّ وأنْ أُسرِع الخطى خاصةً مع بُعد المسافةِ النِسبي ، تتابَعَتْ خُطاي وطَرَقت مسامِعي مفردات غريبة :

"غو كَغتِي لا لونةَ مو ناميِ تيغو ...." 

أكيدٌ أنها ليست مفردات آشورية أو سومرية أو أكدية ، ثُمَّ تذكرت أنها محاضرة الأدب الفرنسي لزميلي وصديقي د. حارث وربما ست هِبة ؛ حاولت أن أسرع لكنني مُرغَماً أبطئت خطواتي وخففت مِن ضرب الكعب وإصطدامه بالأرض فها هي إنخيدوانا الكندي أستاذتنا الفاضلة سِهام حَنون النخلة السَمَاوِية السومرية السامقة فلا مناص إلاّ بالوقوف وأداء التحية والسلام لهذا الملاك الذي يزاحم شَبْعَاد وكوبابا .... وها هي سمير أميس الكندي بقوامِها الممشوق إنها ست تقى الموسوي وقد أحاطت بها الطالبات وكأنهن الحمائم اللائي كُنَّ يرعينها وهي تجوب جنائن بابل المعلقة ، ولسان الحال يقول : أن لا مكان لعشتار وفينوس وأفروديت في بهاءِ إطلالتها ، تعالت نبرات صوتي وأنا ألوح بيدي مُردِداً : مرحباً ست أسيل حي هلا زهراء ؛ صباح الخيرات تبارك و.... وأنا أجوب أروقة أكاديمية الكندي الصرح العلمي الفَتي الذي أثبت بكل عنفوانٍ وشموخٍ صُلبَ أرضيته وأصالةَ ومثابرةَ إدارته ورصانةَ أساتذته وكفاءة طالباته وطلابه بما يجعلني أشمخ مُتشَرفاً أن يقترن إسمي بالكِندي ...

أروقة الكندي داعبت شِغافَ قلبي وأعادتني لأكثر من ثلاثين عاماً حيث جامعة الموصل العريقة ومركزها الطلابي ومكتبتها الخالدة وحدائقها وكليّاتها ليجنح بي الخيال إلى نِينَوى الحدباء ورياضِها الغَنّاء وغاباتها الفيحاء ؛ يا الله .... ضمآنةٌ روحي تَتُوقُ لترتشفَ الماء من دجلةَ الخير وقد داعبت أمواجه أشجار شُطآنه بعدَ أنْ حَطّت عليها الحمائِمُ والنوارسُ فعانق هَدير الموج زقزقة العصافير وشَدوَ البلابل وغناء الكروان وترانيم الطيور في تناسقٌ يَسحر الألبابَ ويشرِح الصدور فتسعد القلوب وتأنسُ النفوس ...

ما أروع تَتَابع الفُصولَ في وطني  فها أنذا أحط الرِحال في شِتاء العام 1992م وقد وصلتُ مُتأخراً عن موعدِ لقاءِ الأحبة اليومي في كلية الآداب جامعةِ الموصل الحَبيبَة التي أودعناها أحلى سنين الصِبا والشباب وأحلام العاشقين ، لربما ألتمس العُذر لنفسي بأني تأخرت ؛ فإنه يومٌ شتويٌ ممطر وشَدّني الجَمال الخَلاب لسحر الطبيعة وقد عانقت قطرات المطر أديم أرض نينوى وتُرابها لتفوح رائحة هذا العناق شذى عطرٍ يَسحَرُ القلوب على وقع حفيف أغصان الصفصاف واليوكاليبتوس والأشجار التي إنتظمت لتزين شوارع جامعة الموصل ، نسمات الهواء البارد تلفحُ وجهي وأنا أرنو بِبَصِري صوب الأشجار وقد داعبت حبات المطر أغصانها ...

لم أستِفِقْ من عالمي لولا قبضةُ يدٍ تشدني من ساعدي وصوتٌ يخبرني بأنه قد تأخرنا عن موعد محاضرة أ.د عمر الطالب  إنها يدُ رئيس الإتحاد الطالب أحمد اللهيبي (أ.د. أحمد خضر إبراهيم) يقول لي :

دَع التأريخ للتأريخ وتعالَ معي إلى قِسمنا قسم اللغةِ العَربية فقد إستأذنت د. عمر كي تحضر معنا لأنه سيتناول شرح قصيدة نزار قباني بالنقد والتحليل وهذه محاضرةٌ لن تُعَوضْ ؟

شَرع الدكتور في نقده وتحليله للقصيدة إختاري :

إني خيرتك فاختاري ... ما بين الموت على صدري ... أو فوق دفاتر أشعاري

الجميع منصتٌ يصغي حتى وصل إلى كلمات القصيدة التي أثارت حفيظته فإنفعل وهو يقرأ : 

آهٍ ... لو حبك يبلعني .... يقلعني ... مثل الإعصارِ ... ووجه تحفظه مفردة (يبلعني)

إنتهت المحاضرة وعدتُ مسرعاً إلى قسم التأريخ لأجد أن  أ.د سيار الجميل شرع في محاضرته بعد أن غض الطرف عن تأخري فجلست بكل هدوء بجوار صديقي عبد الحمادي ...

تَعالت ضحكاتُ الأستاذ لؤي وهو يُقهقه كعادته ناثراً السعادة حيثما حَلَّ أو إرتحل ليُعيدُني صوت تلك الضحكات إلى عالم الكِندي بجسدي وروحي وكلُ جوارحي ؛ لأرى الأستاذ باسل  وهو يُهرول مُسرعاً كعادته وكأنه أقسم أن لا تضيع ثانيةً واحدةً من محاضراته .....

دخلت قاعة العطاء وقد عَمَّ الهدوء وخَيَمَتِ السَكِينةُ فبادرت بإلقاء تحية الصباح ، وشاء الله أن أرى كتاب بعنوان ( إنتيخريستوس رواية د.أحمد خالد مصطفى) أمام إحدى الطالبات " أعتقد رُقيّة أو حوراء إن لم تخني الذاكرة" فرفعتُ الرواية بيدي ووجهت الخطاب لطالباتي في القاعة :

بما أننا نوشك أن نُنهي مواد الكورس الأول لذا سأشرح لكم بإيجازٍ غيرِ مُخل فصول هذا كتاب  إنتخريستوس وهذه المفردة اللاتينية تعني (المسيخ الدجال) كوني إنتهيت من قرائته قبل ثلاثةِ أعوام بعد أن أهدتني الرواية ست رواء الجبوري ، أضف إلى ذلك أنَّ العراق وإرثه وحضاراته يمثل محور هذه الرواية ؛ وما يجري اليوم في فلسطين وتحديداً في غزة ليس بعيداً عن فصولِ هذا الكتاب إذن فلن نُشَرِّق أو نُغَرِّب كثيراً لأننا سنُدَندِن حول تأريخنا المجيد .

شرعت في الأمر مستعرضاً تأريخ بدء الخَلق منذ آدم وصولاً إلى نوح "عليهم السلام" مروراً بزاهاك بن كنعان أي النمرود وإستفحال السِحر في أرض بابل وقصة إبراهيم مع النمرود وصولاً إلى التخطيط لهدم المسجد الأقصى والبحث عن هيكل سُليمان المزعوم وأسباب ذلك و....

رَفَعَتْ حوراء يدها وهي تستأذنني بمداخلة وأشترطت عليَّ أن لا أغضب أو أنفعل .... فوعدتها

لتصعقني بطرحها بأن الجميع لم يستوعب المادة المنهجية وقد إقتربت الإمتحانات وبأني أخفقت في إيصال المادة العلمية .... هنا بدأت أشعر بِسنا حرارةٍ تخرج من وجهي لكني مطمئن كوني أتفانى بل وأشرحُ بكلِ جوارحي وادع أبواب النقاش مشرعة وعلى أهبة الإستعدادِ لإعادة الشرح ولو تطلب الأمر 1000 مرة المهم هو هضم وإستيعاب ما أشرح ، وأقولها بأمانةٍ كنت مطمئناً بعض الشيء بأنَّ طرح حوراء هو لحالةٍ فردية ؛ توجهت بالخِطاب للبقية فإذا بـــــ نور الزهراء تقول :

إن وعدتني بأنك لن تغضب فسأتحدث بصراحة ؟

تفضلي يا نور أوصلي وجهة نظرك ! فإذا بها تعضد الرأي السابق ...!!! رباه كيف أخفقت في أداء رسالتي لكن بصيص الأمل لا زالت أتشبث به حينما وجهت السؤال لـــ مريم ... مَسَرَّة ... ملَك  ... مَلاك  ... كوثَر ... نَرجس ... رؤى ... زهراء ... فاطمة ... نور الهدى ...  فإذا بتطابق عجيب بين أقوال الطالبات ؛ هنا تيقنت أن قيامتي قد قامت حيث خارت قواي مع توهج وإستعارٍ لنيرانٍ تخرج من وجهي وأنا أدور بنظراتي الحائرة في الوجوه كمن يستجدي في الآخرة حسنة تُدخله الجنة ...  لأفاجئ بتصفيقٍ مُنقطِع النظير مَع تطايرٍ للوُرود وتَناثُرٍ للحلوى وهتافات تتعالى :

أنت الأستاذ الأروع وأنت الأستاذ المُلهِم وأنت  ... لأدرِك أنني وقعت ضحية مقلبٍ تم إحكامه بإتقانٍ لا يُوصف ... لتعود الدماء إلى جسدي كسابقِ  عهدها وأشعرُ بالظفر بعد الإنكسار وبالنصر بعد الهزيمة وتترسخ لديَّ قناعةٌ بعظيم إعتزاز طالباتي بأستاذهن... شكراً لأكاديميتنا الرائعة أكاديمية الكندي شكراً لإدارتها والقائمين عليها وهيئتها التدريسية وكوادرها وطلابها من البنين والبنات

تحية محبة وإعتزاز وتقدير

بقلم : د.زِيَادْ ُمُحَمَّد السَبعَاوِي

الأرقام!/ تغريد أبي مويس



أنا لست رقما في سجلاتكم الموؤودة
أنا نخلها الباسق إذ تعدوننا
أنا خيوط الشمس إذ تنوين ضياءها
أنا الحاضر في الذكرى إذ أعدو غيابنا
أنا الفارس في الميدان إذ نادو تحريرها
أنا النيشان على أكتافكم إذ أردتم البرهان
أنا المجد تبنى به الأوطان
أنا نشيد فدائي إذ ترفع الإعلام
أنا عناق المحبين إذ يلتقيان
أنا حدود فلسطين التي تأبى النسيان
أنا زغاريد النصر في تحريرها
أنا الكلام الفصل بين الحق والطغيان
أنا حد السيف الجارف إذ استبيحت الأوطان
أنا اسمي بين حرفين ش- ه_ي- د إذ نادت الأوطان
أنا زيت يسرج في الأقصى حين الظلام
أنا من لبى الحرائر حين نادت وااسلاماه
أنا لست رقما فأنا إنسان!!!!!

الساعةُ في الماءِ/ الدكتور عدنان الظاهر



مجرى الوقتِ ومجرى النهرِ

شأنٌ في سدِّ صعودِ الطُوفانِ

يا حارقَ أطرافِ المدِّ قلوعا

ضاعفتَ جناحَ الريحِ نواحا

هيّجتَ الطُوفانَ وجفّفتَ الساعةَ دقّا

ولطمتَ الصدرَ المذبوحَ جِراحا

الّا يستجدي غيثا

يا نافخَ في نعيٍّ بوقا

أتعبني مجرى هذا النهرِ الداوي نفخا

ضاقتْ أنفاسُ نقيقِ الدقِّ على طبلِ العِرْقِ

والطوقُ مروقٌ في عُنُقِ الحزنِ

يستعرضُ أمواجاً مرّتْ مرَّ الطلقةِ خَطْفا

ما جدوى تسكينِ الريحِ إذا جازتْ خطَّ المرمى

وانطرَّ الفجرُ على ما قالَ البابُ العالي للتالي

هل أبقى فوقَ النجوى شيئا

يُخفي ما في ثُقْبِ البابِ 

إفتحْ عينَكَ صَقْلا

يُسراكَ هي اليُمنى

إخضّرَ الساقُ وقامَ العنقودُ كروما

والساقُ عقوقُ الدِنِّ المختومِ رحيقا

إيّاكَ ومسَّ الكأسِ الغافي سُكْرا

فالجُرْحُ المفتوحُ خُمارُ الروحِ المذبوحِ

يشتدُّ إذا ما فاض الماءُ وعلّقَ في مسمارٍ طبْلا

شقَّ البرقَ وأفشى أسرارا.



الرسائل السياسية للعروض العسكرية / صبحة بغورة

 


عادة ما يقترن تنظيم عرض عسكري كبير للقوات المسلحة في إي دولة مع مناسبة احتفال الدولة بيومها الوطني أو إحياء ذكرى تأسيسها في إطار محفل لمسيرة التأسيس أو تخليدا ليوم استقلالها أو انتصارها على أعدائها في حرب مصيرية،أواحتفاء بالتضحيات المبذولة في حرب إقليمية ويهدف العرض إلى بعث روح الفخر والاعتزاز لدي أفراد الشعب بجيش بلادهم الباعث في النفوس نعمة الأمن والأمان.


كثير ما تعد العروض العسكرية مناسبة لتوجيه رسائل سياسية صريحة أو ضمنية ، وهي قد تتحول إلى استعراض للقوة مثلها مثل المناورات التي تعد فرصة مناسبة لتصدير صورة عن مدى حجم القوة الصلبة وقوة الدولة، ومثل هذه النشاطات هي في حقيقتها جزء من الاستراتيجية العسكرية للدولة الدفاعية والهجومية والردعية،أن الاستراتيجية الدفاعية هي إظهار قوة الجيش وإظهار أن الجيش قوى ومستعد ولديه إمكانيات عالية، أما استراتيجية الردع فهي إظهار قوة الجيش وقدرته على حماية البلد دون الدخول في حرب بانتهاك استراتيجية الردع أي  بمنع العدو من الاعتداء وهذا من خلال امتلاكها قدرات عسكرية على أعلى مستوى مع قدرات الدولة الشاملة.

تعكس العروض صورة رمزية وطنية بليغة المعاني لأنه يحمل دلالة على أن البلاد وهي تعيش عهدا جديدا في ظل تحولات عالمية كبرى تحمل في طياتها ملامح مؤامرات أو مؤشرات الخطر وعدم الأمن والاستقرار أن استقلالها الوطني في الوقت نفسه خط أحمر، وعليه ففي الغالب تترجم الرسائل السياسية للعروض العسكرية ملامح الاستراتيجية الردعية من خلال إبراز مظاهر الجاهزية العسكرية القتالية للرد على أي مساس بأمن الدولة القومي، فهوقد يعكس في حقيقته نوعا من التحدي في ظروف معينة يسودها الاضطراب سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي ،والعرض العسكري هو العنوان العملي لمدى توفر الإمكانيات وللمستوى التسليحي والتنظيمي للقوات ،وهو استظهار للقدرات العسكرية للبلاد بالإضافة إلى أنه يؤكد مظاهر اللحمة الشعبية ويكرس مبدأ الوحدة الوطنية .

العروض العسكرية تكون على عدة أشكال في الظهور بحسب الهدف المراد من وراء تنظيمها ومنها:

الاستعراض العسكري الاحتفالي في إطار إحياء مناسبة وطنية ، و يضم وحدات رمزية لمختلف القوات المسلحة والكليات العسكرية من أفراد وأسلحة وعتاد لقوات الجيش البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي، ويبرز من خلاله للخبراء والمختصين مستوى الضبط والربط ومدى ما بلغه الجانب التنظيمي من مهارات دقة العمل والتنسيق في التحكم بمرور قوافل الاستعراض أمام الحاضرين.  

اصطفاف القوات المسلحة وهو من العروض التي تتجاوز الطابع الاحتفالي إلى مايحمل دلالات كثيرة منها تأكيد جاهزية لأداء مهام واجباته الوطنية في الحفاظ على الأمن القومي وفي قدرته على تجسيد سياسة البلاد العسكرية من استراتيجية دفاعية أو ردعية أو هجومية ، والاصطفاف بهذا المعنى يعد ردا على أحداث من قوى معادية معينة تجمل رسالة هامة وهي القدرة على تنفيذ الرد المناسب في الوقت المناسب، والظهور العسكري في الاصطفاف هو تدريب على الظهور في حدود مجالات المشاركة على مستوى القوات المسلحة.

" تفتيش الحرب" مصطلح العسكري يتعلق بإرادة الاطمئنان على بلوغ القوات المسلحة مستوى الجاهزية التامة والاستعداد الكامل لتنفيذ المهام التي تكلف بها من خلال تفقد الاصطفاف الكامل للقوات ولوسائل الدعم اللوجيستي ، ويعتبر تفتيش الحرب أعلى الآليات التي تتبعها القوات المسلحة للتأكيد أمام القيادة السياسية العليا الاستعداد القتالي لتنفيذ الخطط وأداء المهام التي تمكن أن تكلف بها، وبعد الانتهاء من تفتيش الحرب تكون القوات المشاركة به على أتم الاستعداد للدخول في أي معركة، ويحمل تفتيش الحرب في ظروف اشتداد الصراع العسكري في المناطق المحيطة بالدولة معنى التحذير من عواقب اتساع دائرة الصراع وذلك من خلال إظهار هيبة الدولة وقدراتهاالعسكرية الكافية للدفاع عن النفس في حدود نطاق مسؤوليات الجيش، وبذلك يعد تفتيش الحرب طمأنة للشعب على قدرة جيشها على حماية الأمن القومي للبلاد لأنه إجراء عملي يظهر نموذج على جاهزية الجيش طوال الوقت للحرب واستعداده لأعمال القتال للرد على أي مخاطر أو تهديدات خارجية .

المناورات العسكرية ، قد تكون بأحد الأسلحة البرية أو الجوية أو البحرية أو بأكثر من ذلك لتحقيق هدف أو جملة أهداف محددة سلفا، وتختلف المناورة عن التدريب العسكري ،حيث تعد المناورة امتحان لما تم التدريب عليه من مهام قتالية ، ويمكن أن تكون المناورات بالذخيرة الحية لزيادة صعوبتها وتحقيق هدف معايشة الجندي البسيط لأجواء الحرب، ويسبق إجراء المناورة طابور عرض القوات المشاركة فيها ، وقد أصبح شائعا إجراء المناورات أو التدريبات العسكرية بشكل مشترك مع قوات دولة أو دول صديقة لتبادل الخبرات في إطارالتعاون العسكري.

القوات المسلحة في أي دولة هي صمام أمنها والضامن لسلامتها وللزود عن ترابها وحرمة شعبها، وتحرص الدول على امتلاك كل مقومات القوة الشاملة التي تتألف من جيش متطور عصري وحديث ومن عناصر أخرى غير قتالية لأنها غيرعسكرية في طبيعتهاولكنها تدعم العمل العسكري بشكل مباشر أو غير مباشر كتهيئة الطرق ،ورفع كفاءة المواصلات وقطاع النقل والاتصالات ،وتجهيز قطاعي الطاقة والتجارة لمواجهة متطلبات الظروف الطارئة، وترقية المنظومة التعليمية والتكوينية والصحية وغيرها من المجالات الحيوية في البلاد.



فلسفة شخصية الهيوكا باث( صاحب الحدس الخارق والانسان الملائكي)/ الدكتورة بهية الطشم


تتعدد أنماط ونماذج الشخصية...وكذلك تتعدد طبقات الشخصية الانسانية الواحدة : السطحية، الانتقالية، والعميقة.

ويتفاوت استخدام كل شخصية وبشكل معياري ونسبي حسب طبع كل شخص...وحسب تداعيات المواقف الانفعالية والعملية التي تؤثر وتتأثر بها كل شخصية.

ولا غرو أننا في هذه المقاربة نحاول التصدّي الجميل  لبعض اللماذات الجميلة والعفوية عن معالم وابرز حنايا شخصية الهيوكا امباث...

يمكننا توصيف صاحب الهيوكا امباث بأنه خارق في الذكاء العاطفي والاجتماعي ويتمتع بكاريزما استثنائية ومُحاط بهالة فائقة وسِحر عارم .

ينطوي صاحب هذه الشخصية على مخزون عاطفي مؤطر بفن العيش والتأقلم في اختلاف الظروف....وتتغلب الناحية الملائكية على الناحية البشرية في سلوكياته وشخصيته؛ على اعتبار اننا البشر نخضع بأفعالنا ووفقاً لأفلاطون ل٣  غرائز الغضب ؛ الشهوة والعقل....؛حيث انّ العقل هو تاج التصرفات عند الهيوكا امباثي ...

والحكيم هو  من كان  العقل قائد لأفعاله ويسيطر على الغضب والشهوة.... 

احياناً... ينتاب الهيوكا امباثي وبالرغم  من نشره للاطمئنان في نفوس الآخرين....وممارسته دور المعالج النفسي البارع..  تعتريه بعض صنوف الكآبة العابرة في خلوته مع نفسه نتيجة للتقمص العاطفي....وانغماسه في البينذاتية intersubjectivite' مع الآخر ....

لذلك،غالباً ما نجده  يعيش العزلة والإنطواء لفترات متناوبة ونسبية.... 

ولكن دماغه في حالة نشاط دائم.....

تجدر الاشارة ...الى اننا لا نلتقي بصاحب شخصية الهيوكاباث كل ساعة وكل يوم .....ربّما كل سنة أو كل فترة زمنية كبيرة لأن نسبة هؤلاء الاشخاص لا تتعدى نسبة ٢٠ الى ٣٠ بالمئة من سكان كوكب الأرض....

واذا ما لعبت الظروف دورها الايجابي للقائهم أو جمعتنا الصدفة بهم....فيكون الحظ قد حالفنا بقوة في لحظات زمنية نادرة...

ولعل أجمل هدية تقدّمها النفس لنفسها والنفوس الأخرى في هذا العالم المركّب والمليء بالتناقضات هو السلام النفسي والانسجام والتناغم الروحي بأرقى معانيه...


قراءة لواقع المنطقة ومن يتحكم فيها؟/ فؤاد الحاج



لا أقول جديداً ولكن للتذكير أورد ما يلي لمن غفل عن تاريخ المنطقة إن المتحكم بالمفاتيح السياسية التي تقرر مجريات الأوضاع حا1ضرها ومستقبلها في المنطقة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي منذ الحرب العالمية الثانية 1945، دائماً هو القرار الدولي الذي يتغلب على القرار الإقليمي (إيران وتركيا) بنسب محددة لكل  منهما خاصة في موضوع الفيدرالية والتقسيم، مهما قامت ائتلافات وتحالفات بين قوى معارضة ورافضة لأي مشروع أمريكي وصهيوني ولنا في قضية فلسطين أمثلة على ذلك منذ قرار التقسيم رقم 181 سنة 1948، دون أن ننسى أن الذين قرروا تقسيم الوطن العربي سنة 1916 كانوا بريطانيا وفرنسا وروسيا الذين عينوا دمى تنوب عنهم في كل قطر عربي (ثم انسحبت روسيا سنة 1917 بسبب الثورة البلشفية آنذاك ولكنها لم تسحب موافقتها على ذلك القرار الذي عُرف لاحقاً بما يسمى اتفاقية "سايكس بيكو"). 

وكانت دائماً القاعدة المعروفة "لا غالب ولا مغلوب" تسود الأقطار العربية بعد الصراعات المحلية المسلحة التي يسقط فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى والمعوقين والمشردين والمهجرين، ولنا مثالاً في لبنان منذ سنة 1958 من خلال الثورة ضد نظام حكم الرئيس كميل شمعون، ثم حرب 1975 التي أطلقوا عليها "الحرب الأهلية" التي انتهت بـ"اتفاق الطائف" سنة 1989 الذي وضع حداً لتلك الحرب بموافقة أميركية ودعم أوروبي باسم "التعايش المشترك" بين الطوائف اللبنانية المختلفة، الذي من خلاله تم تقسيم السلطات الدستورية والمناصب الإدارية على ما بات يعرف بـ"المحاصصة" بين الذين كانوا قادة تلك الحرب التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً. من ثم أنهى ذلك الاتفاق وصول ميشال عون لرئاسة الجمهورية، الذي تم في عهده هدر أموال الدولة ونهب أموال الشعب اللبناني وتسليم لبنان لقمة سائغة لإيران الملالي ضمن تسوية جانبية على قاعدة التوازنات الطائفية والمحاصصة بين الطوائف والمذاهب، على الرغم من أن التوازنات المحلية في أي قطر عربي ليست هي التي تقرر تسوية الأوضاع فيه، كما أنه لا محل من الإعراب لتلك التسويات في التوازنات الإقليمية، إنما المقرر الحقيقي لها هي التوازنات الدولية. ومن يطالع كافة قرارات ما يسمى "هيئة الأمم المتحدة" وما أكثرها بخصوص فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن والسودان، يجد أنها ليست سوى قرارات حبر على ورق، وأن المقرر الحقيقي هو إدارة الشر الأمريكية ومصالح الصهيونية العالمية التي تفرض قراراتها إن مباشرة أو من خلال ما يسمى "مجلس الأمن الدولي"، وهذا ما سينسحب على مجريات الأوضاع في فلسطين المحتلة إن في غزة أو في الضفة الغربية لنهر الأردن. 

أخيراً يمكنني التأكيد بأن الأوضاع المتقلبة في المنطقة العربية هي حالة فريدة ربما في العالم كله التي لا يمكن لأي مراكز بحوث ودراسات أن تنجح في تقييمها لأنها تعتمد على أعراف وتقاليد تجمع ما بين العشائري والقبلي والعائلي، ولا اعتبار فيها لتطبيق القوانين إلا على عامة الشعب، حيث أنها وضعت ما يمكن اعتباره معادلة سياسية جديدة فرضت وجودها على قاموس السياسة العربية والإقليمية والدولية في تلك المنطقة، وهي أنه "لا شيء يتحقق إلا بالتراضي" في صراع أزلي بين مشاريع متعددة كلها خارجية تنسحب على داخل الأقطار العربية بأياد محسوبة على الداخل بدعم من محافل الشر الدولية والإقليمية وأنظمة عربية بينما الذين يدفعون الثمن هم أبناء الفقراء في تلك المنطقة التي تغلي بحراكات يومية لا يدري أحد متى تبدأ ومتى تنتهي، في الوقت الذي تتفكك فيه  الدولة وتتآكل وتستيقظ مشاريع التفتيت كما في العراق واليمن ويحدث في سوريا وفي السودان. 



هل اللاغرب هو اللاذات من منظور الذات الغربية؟/ د زهير الخويلدي



الترجمة:


" سوف أتوصل، كما هو متوقع، إلى نتيجة مفادها أن ما بعد الحداثة، وهو آخر من الحداثة، لا يمكن تعريفه في سياق خطابنا "الحديث"، ولا ينبغي أن يكون من العبث تمامًا أن نضع موضع التساؤل ما الذي يشكل الفصل بين الحداثي وما بعد الحداثي - ذلك هو ما يكمن وراء إمكانية حديثنا عن الحديث أصلاً. وبالمثل، من الضروري التعامل مع آخر آخر من الحداثة، أي ما قبل الحداثة، والذي تم تعريف الحداثة أيضًا في كثير من الحالات بالإشارة إليه. هذه السلسلة – ما قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة – قد توحي بترتيب زمني. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن هذا النظام لم ينفصل أبدًا عن التكوين الجيوسياسي للعالم. وكما هو معروف جيدًا الآن، فإن هذا المخطط التاريخي للقرن التاسع عشر يوفر منظورًا يمكن من خلاله فهم موقع الأمم والثقافات والتقاليد والأعراق بطريقة منهجية. على الرغم من أن المصطلح الأخير لم يظهر حتى وقت قريب إلى حد ما، إلا أن الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحديث كان أحد الأجهزة التنظيمية الرئيسية للخطاب الأكاديمي. إن ظهور المصطلح الثالث والغامض، ما بعد الحداثي، ربما لا يشهد على انتقال من فترة إلى أخرى بقدر ما يشهد على تحول أو تحول في خطابنا نتيجة لذلك عدم قابلية الجدل المفترضة للمزاوجة التاريخية الجيوسياسية الحديثة. وما بعد الحداثة أصبحت مشكلة متزايدة. وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الطعن في صحة هذا الاقتران. ومع ذلك، فمن المثير للدهشة أنها تمكنت من النجاة من العديد من التحديات، ومن المبالغة في التفاؤل أن نعتقد أنها أثبتت أخيراً عدم فعاليتها. سواء باعتبارها مجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية أو باعتبارها التزام المجتمع بقيم مختارة، لا يمكن أبدا فهم مصطلح "الحداثة" دون الإشارة إلى هذا المزاوجة بين ما قبل الحداثة والحديث. تاريخياً، كانت الحداثة في المقام الأول معارضة لسابقتها التاريخية؛ ومن الناحية الجيوسياسية، فقد تم مقارنته مع غير الحداثة، أو بشكل أكثر تحديدًا، مع غير الغرب. وهكذا كان الاقتران بمثابة مخطط استطرادي يتم بموجبه ترجمة المسند التاريخي إلى مسند جيوسياسي والعكس صحيح. يتم طرح الموضوع من خلال إسناد هذه المسندات، وبفضل وظيفة هذا الجهاز الخطابي، يتم تمييز نوعين من المجالات بشكل مميز؛ الغرب الحديث وغير الغربي ما قبل الحداثي. بطبيعة الحال، هذا لا يعني أن الغرب لم يكن أبدًا في مراحل ما قبل الحداثة أو أن اللاغرب لا يمكن تحديثه أبدًا: فهو ببساطة يمنع إمكانية التعايش المتزامن بين غرب ما قبل الحداثة واللاغرب الحديث. إن الفحص السريع لهذا النوع من الحداثة يشير بوضوح إلى وجود قطبية معينة أو تشوه بين الطرق الممكنة لفهم العالم تاريخيًا وجيوسياسيًا. لا يوجد سبب متأصل يجعل المعارضة الغربية/غير الغربية تحدد المنظور الجغرافي للحداثة، باستثناء حقيقة أنها تخدم بالتأكيد في تأسيس الوحدة المفترضة للغرب، وهي إيجابية غامضة ولكنها مهيمنة، والتي نميل إلى اعتبار وجودها منح لمثل هذا الوقت الطويل. وغني عن القول أن الغرب توسع وتحول بشكل اعتباطي خلال القرنين الماضيين. إنه اسم لموضوع يجمع نفسه في الخطاب ولكنه أيضًا موضوع يتكون بشكل خطابي؛ ومن الواضح أنه اسم يرتبط دائمًا بتلك المناطق والمجتمعات والشعوب التي تبدو متفوقة سياسيًا أو اقتصاديًا على المناطق والمجتمعات والشعوب الأخرى. في الأساس، إنه مثل اسم "اليابان"، الذي يُقال إنه يشير إلى منطقة جغرافية، أو تقليد، أو هوية وطنية، أو ثقافة، أو عرقية، أو سوق، وما إلى ذلك، ولكن على عكس جميع الأسماء الأخرى المرتبطة بالخصائص الجغرافية، كما أنه يعني ضمناً رفض ترسيم حدودها الذاتية؛ إنها تدعي أنها قادرة على الحفاظ على دافع لتجاوز كل التفاصيل، إن لم يكن تجاوزها فعليًا. وهذا يعني أن الغرب لا يكتفي أبدًا بما يعترف به الآخرون؛ يتم حثه دائمًا على الاقتراب من الآخرين من أجل تغيير صورته الذاتية دون توقف؛ فهو يبحث باستمرار عن نفسه في خضم التفاعل مع الآخر؛ لن يكتفي أبدًا بالاعتراف به ولكنه يرغب في الاعتراف بالآخرين؛ إنها تفضل أن تكون موردًا للاعتراف بدلاً من أن تكون متلقيًا له. باختصار، يجب على الغرب أن يمثل لحظة الكونية التي تندرج تحتها التفاصيل. في الواقع، الغرب مميز في حد ذاته، لكنه يشكل أيضًا النقطة المرجعية العالمية التي يعتبر الآخرون أنفسهم بالنسبة إليها مميزين. وفي هذا الصدد، يعتقد الغرب أنه موجود في كل مكان. هذا التفسير للوحدة المفترضة التي تسمى الغرب ليس بالأمر الجديد، ولكن هذه هي بالضبط الطريقة التي لا يزال يورغن هابرماس، على سبيل المثال، يجادل بها حول العقلانية الغربية. إنه "يربط ضمنيًا بين المطالبة بالعالمية وفهمنا الغربي للعالم." من أجل تحديد أهمية هذا الادعاء، يعتمد على الاقتران التاريخي الجيوسياسي لما قبل الحداثة والحديث، وبالتالي تسليط الضوء على المقارنة مع الفهم الأسطوري للحداثة. العالم. ضمن التقاليد الثقافية المقبولة لدينا – أي ضمن التقاليد الثقافية التي أعاد الأنثروبولوجيون بناءها لنا – أساطير المجتمعات القديمة يمثل التناقض الأكثر حدة مع فهم العالم السائد في المجتمعات الحديثة. إن وجهات النظر الأسطورية للعالم بعيدة كل البعد عن تقديم توجهات عقلانية ممكنة للعمل بمفهومنا. وفيما يتعلق بشروط السلوك العقلاني للحياة بهذا المعنى، فإنها تمثل نقيضًا للفهم الحديث للعالم. وهكذا فإن الافتراضات المسبقة غير الموضوعية للفكر الحديث يجب أن تصبح مرئية في مرآة التفكير الأسطوري. إنه يعتبر وجود تطابق مواز بين المتضادات الثنائية: ما قبل الحداثة/الحداثة، اللاغرب/الغرب، الأسطوري/العقلاني أمرا مفروغا منه. علاوة على ذلك، بالنسبة له، فإن وحدة الغرب بحد ذاتها أمر مسلم به؛ إنها حقيقة ملموسة تقريبًا. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه مع الاعتراف بالحاجة إلى اللاغرب كمرآة يصبح الغرب مرئيًا من خلالها، فمن الواضح أن هابرماس لا يتساءل عما إذا كانت المرآة غامضة. وسواء كانت الصورة التي يسهلها علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا هي التمثيل الحقيقي لما هو موجود بالفعل أم لا، فهذا ليس موضع خلاف. وما تجدر الإشارة إليه هو أنه يتعامل مع الثقافات والتقاليد غير الغربية كما لو أنها تشكلت بشكل واضح، وكما لو كان من الممكن التعامل معها بشكل شامل كأشياء. وحتى عندما يعالج المشكلة المتعلقة بعدم قابلية القياس للثقافات الأخرى، فإن قضية عدم القابلية للقياس برمتها يتم اختزالها في وضوح مشكلة عدم القابلية للقياس. بالنسبة لهابرماس، لا يعني ذلك أكثر من النسبية الثقافية، وهي مشكلة زائفة في حد ذاتها. يجادل هابرماس بالثقة المعرفية من أجل إعادة تثبيت الثقة المعرفية فينا وجعلنا نثق في العالمية مرة أخرى. وهذا يعني أنه في ضوء التحديد الأكثر إقناعًا وربما الأكثر صرامة المتاح اليوم لمصطلح "المركزية العرقية"، يمكن للمرء أن يقول إنه ببساطة مركزي عرقي. ولكن إذا كان إدخال مصطلح "ما بعد الحداثة" يشهد على الاضطهاد الذي يحيط بهويتنا، وإذا كانت هذه الوحدة المفترضة للغرب، نحن، التي يرغب هابرماس في التحدث معها والتي يرغب هابرماس في التحدث معها، قد تم حلها، فما الذي ستفعله حقيقة أن كتاباته المعرفية؟ لا تهتز الثقة ضمنا؟ إذا كانت إمكانية وجود موقف لفظي معين، أي نحن، نحن الغرب، مهددة في الواقع، فهل سيكون من المبرر القول بأن ثقته المعرفية تشير إلى شك فينا تم قمعه؟


من هذا المنظور، من المفهوم أن الكائن الخطابي المسمى اليابان قد قدم حالة شاذة لا يمكن دمجها بسهولة في التكوين العالمي المنظم وفقًا لمزاوجة الحداثة مع ما قبل الحداثة. لقد كان من المؤسف والمشيد مرارا وتكرارا أن اليابان وحدها من بين الثقافات غير الغربية كانت قادرة على أن تتبنى بسرعة ما تحتاجه من الدول الغربية من أجل تحويل نفسها إلى مجتمع صناعي حديث. ومن ثم، فقد تم استثمار قدر كبير من العمل الفكري من أجل جعل هذا الموضوع الغريب غير ضار في التكوين الخطابي. وفي الولايات المتحدة، عادة ما يتم جمع نتائج هذا العمل تحت اسم «نظرية التحديث». بالإضافة إلى المتطلبات الإستراتيجية العلنية للدولة، كان هناك مطلب ضمني معين، ولكن ليس أقل إلحاحا، خضع له إنتاج الحجة الاجتماعية العلمية والإنسانية. من المحتمل أن يكون كتاب توكوغاوا ديني بقلم روبرت بيلا أحد أفضل هذه المساعي، وقد اشتهر باستجابته المفرطة لهذا الطلب. وعلى خطى ماكس فيبر، الذي رأى أيضًا بوضوح مهمة التأكيد الخطابي على الوحدة المفترضة للغرب ونفذ تلك المهمة بمهارة عالية، أكد بيلاه على وحدة أمريكا باعتبارها الجزء المركزي وربما المسيطر للغرب بدلاً من وحدة ألمانيا. ومن خلال التمييز بين العوامل المقيدة لمجال اللعب الحر وتلك التي تخدم ترشيد الوسائل، يقدم بالله توجهين متناقضين في التنمية الاجتماعية. أحدهما يتجه نحو التكيف مع مقتضيات الموقف وتحقيق الأهداف المحددة، والآخر يتجه نحو تقييد الإجراءات الرامية إلى الحفاظ على الأنظمة القائمة. ومن خلال اللجوء إلى المصطلحات الاجتماعية لتالكوت بارسونز، فهو يحدد الاتجاه الأول من حيث الموقف "العالمي" الذي يؤكد "اللعب الحر" من أجل البحث عن أكثر الوسائل كفاءة لتحقيق أهداف محددة، والتوجه الثاني من حيث موقف "خاص". إن الحرية المقدمة على هذا النحو لا تعني أي شيء سوى حرية تحقيق الانسجام المؤسس مسبقًا للرأسمالية. وكما هو بديهي، فإن أي مسرحيات مجانية قد تتعارض مع الترتيب المحدد مسبقًا يتم استبعادها مسبقًا. ومع إشادتها بغياب القيود والتنظيم، فإن "المسرحيات الحرة" التي تصاحب بالضرورة الموقف "العالمي" لا تحتمل أي حرية سوى مراعاة تلك "القيم الاقتصادية" الموجودة في شكل الماهية الإنسانية الكونية" يمكن العثور على المواقف العالمية في العلوم والقانون وكذلك في الصناعة. إنه فقط لأن قيم الأداء العالمية تحدد البعد التكيفي للنظام الاجتماعي وأن البعد التكيفي منسق مع الاقتصاد، وهو ما يجعلنا مبررين في الحديث عن "القيم الاقتصادية". قد يشعر المرء بسهولة أن منظري التحديث مثلما أنكر بيلا بإصرار إمكانية أن تؤدي المسرحيات الحرة، على عكس توقعاته، إلى تعدد غير متجانس أو تفتيت الوحدة المتخيلة بدلاً من القواسم المشتركة المتجانسة للإنسانية أو الكلية الموحدة للمجتمع.


ومع ذلك، فإن النظرة المتفائلة بشكل محرج لعالمية بالله ليست ساذجة كما قد يتوقع المرء. إن ما حققته نظرية التحديث من خلال إدخال تعارض العالمية والخصوصية في دراسة الثقافات الأخرى هو، أولاً، إعادة إنتاج نفس النوع من التشكيل الخطابي الذي تتشكل فيه وحدة الغرب - ولكن هذه المرة مع المركز بشكل واضح. في الولايات المتحدة الأمريكية. ثانيًا، لقد ولَّدت نوعًا جديدًا من السرد التاريخي الذي يحافظ على إملاءات تاريخية القرن التاسع عشر ولكنه يرفض اعتمادها العلني على فكرة التاريخ الوطني. وهنا يجب أن أسارع إلى الإضافة، أن هذا لا يعني أن الرواية التاريخية الجديدة كانت أقل قومية أو في علاقة عدائية مع القومية. إن عالمية بالله هي، مثل بعض الكونيات الأخرى، قومية بالتأكيد. ومع ذلك، في هذا السرد الجديد، كان لا بد من صياغة القومية بشكل مختلف. ومن المؤكد بشكل قاطع أن التوجه العالمي الأساسي للمجتمع الأمريكي يتجلى في حقيقة أن "القيم الاقتصادية" تعتبر بشكل عام أكثر أهمية من القيم الأخرى في الولايات المتحدة. ولكن من المقبول أيضاً أن تتبنى مجتمعات أخرى مثل هذا الموقف العالمي. وبناء على ذلك، فإن النسبة بين التوجهات العالمية والخاصة في مجتمع ما تحدد التحول العقلاني المحتمل لذلك المجتمع. فمن ناحية، ورث بالله بالتأكيد الإرث الأوروبي لزمن تاريخي يتزامن مع الانتقال، التدريجي أو السريع، من الخصوصية إلى الكونية، ومن العالمية المجردة إلى العالمية الملموسة، ويتزامن في النهاية مع عملية العقلنة المتزايدة، وتحقيق العقل. بحد ذاتها. ومن ناحية أخرى، رأى أن العناصر العالمية مشتتة؛ فبدلاً من التركيز على ديناميكيات الصراع بين الذات والآخر، حاول إظهار أن أي مجتمع قادر على عقلنة نفسه. ولكن من الواضح أيضاً أن هذا المجتمع، عندما يعقلن نفسه، يصبح مشابهاً لأمريكا. أو بعبارة أخرى قليلاً، فإن التقدم يعني دائماً الأمركة. وفي هذا الصدد، عبر منظرو التحديث عن الرؤية التي تم غرسها بنجاح في الوعي الجماهيري في اليابان ما بعد الحرب، والتي مفادها أن التحديث كان مساويًا ضمنيًا للأمركة. وفي حين أنه قبل ذلك، كان التحديث مساويا إلى حد ما للأوربنة، إلا أن نظرية التحديث تعمل الآن في خدمة نقل المركز من أوروبا الغربية إلى أمريكا الشمالية. من الواضح أنه ليس من المهم على الإطلاق أن نتساءل عن رؤية التحديث الأكثر أصالة. ما تشير إليه هذه القراءة هو أنه في حين يمكن تصور عملية التحديث على أنها تحرك نحو تجسيد القيم على مستوى مجرد، إلا أنها دائمًا ما يتم تصورها على أنها انتقال من نقطة إلى أخرى على خريطة العالم. وهكذا، كانت الكونية ومفهوم الحداثة أكثر تشابكًا مع القومية الأمريكية من ذي قبل. وليس من المدهش أن يبدي بيلاه اهتماماً كبيراً بالتكامل الأسطوري للمجتمع الأمريكي. ففي نظره كانت العالمية مظهراً من مظاهر التفرد الأميركي، وجزءاً أساسياً من الأسطورة الأميركية. وبطبيعة الحال، لا يمكننا أن نأخذ هذه الأسطورة حرفيا، باعتبارها الأسطورة التي ترمز حصريا إلى الولايات المتحدة. لأنه، كما سأوضح أدناه، يمكن إنشاء عالمية من هذا النوع حيثما توجد احتياجات أيديولوجية وذلك لإقرار علاقات قوة معينة. ولكن من المهم أن نلاحظ أنه بسبب هذه البنية المزدوجة، تبدو العالمية في كثير من الأحيان خالية من عيوب القومية المعروفة. وبطبيعة الحال، فإن المطالبة بالعالمية تعمل في كثير من الأحيان على تعزيز مطالب القومية. وبسبب البنية المزدوجة، ينشأ تذبذب مستمر بين العالمية والخصوصية؛ ربما تكون بعض النزعة الإقليمية والتطلع نحو العالمية وجهان لعملة واحدة؛ لا تشكل الخصوصية والعالمية تناقضًا، بل يعزز كل منهما الآخر؛ ومن الناحية الرسمية، فإن معارضة الخصوصية والكونية تظل قائمة طالما أن كلمة "العالمية" ترفض التمييز بين العالمية والعمومية. في واقع الأمر، لم تكن الخصوصية أبدًا عدوًا مزعجًا حقًا للعالمية، أو العكس، حيث يتم استيعاب هذين الاثنين ضمن اقتصاد النوع والجنس. وتحديدًا لأن كلاهما منغلقان على المفرد الذي لا يمكن أبدًا أن يتحول إلى ذات أو إلى ما يتجاوز العام بلا حدود، فلا الكونية ولا الخصوصية قادرة على مواجهة اختلافية الآخر. وفي نهاية المطاف، فإن ما نسميه عادة بالعالمية هو خصوصية تعتقد أنها عالمية، ومن المشكوك فيه ما إذا كانت العالمية يمكن أن توجد على الإطلاق بطريقة أخرى. ومع ذلك، يجب استيفاء شروط معينة حتى تصبح هذه الكونية ممكنة. ومع افتراض أن مركز الغرب يمثل التكوين الاجتماعي الأكثر عالمية كثافة، فإنه يجب أن يكون متقدمًا على المجتمعات الأقل عالمية والأكثر خصوصية في زمن العقلنة التاريخي؛ يجب أن تكون الخصوصية الأكثر تقدما، لأن العالمية تعادل القدرة على تغيير وترشيد مؤسساتها الاجتماعية. وتتضمن هذه الصيغة معادلة يمكن من خلالها أن نستنتج، من الدرجة النسبية للعقلانية الاقتصادية، استثمار المجتمع في الكونية. وبعبارة أخرى، ما لم يكن أداء المجتمع جيدًا في مجال مثل الاقتصاد، فلن يكون قادرًا على الادعاء بأنه ملتزم بالكونية. ومن ثم، عندما يُنظر إلى المجتمع على أنه متقدم على المجتمعات الأخرى، فإن هذه الكونية تضفي الشرعية بشكل فعال وقوي على سيطرة هذا المجتمع على الآخرين. ولكن إذا لم يُنظر إلى تفوقها الاقتصادي والسياسي في الترشيد على الآخرين على أنه مؤكد، فإنها تفقد فعاليتها وقدرتها على الإقناع بسرعة. وبسبب التزامها بالكونية، فإن احترام المجتمع لذاته سيتعرض في النهاية للخطر.


مابعد الحداثة


إن مصطلح "ما بعد الحداثة" يشهد بشكل غير مباشر على هذا النوع من التناقض الداخلي الذي أدركته الكونية الحديثة. إن كتاب "كسر المعنى" لديفيد بولاك هو أحد الأمثلة الأكثر توضيحًا التي يمكن من خلالها ملاحظة ما يمكن أن يحدث عندما تواجه الكونية الساذجة مثل هذا الاعتراف. إنه يتفاعل مع التغير الملحوظ في البيئة من خلال تعزيز قواعد الخطاب الموجودة بالفعل والتي بموجبها تم تطبيع العالمية. لكن المهم هنا هو أنه على الرغم من أن تلك القواعد كانت ضمنية ومفترضة ومقبولة بصمت في السابق، إلا أنه يجب الآن ذكرها والإعلان عنها بصوت عالٍ. في هذه النقطة تكمن أهمية عمل بولاك، علاوة على ذلك، يشكل بحثه في الجمالية اليابانية محاولة متعمدة للحفاظ على نوع الإطار المضمن في المعرفة المتراكمة حول غير الغرب، وخاصة في الشرق الأقصى. ما يجعل عمله مثيرًا للاهتمام هو لفتته المتمثلة في احترام وأخذ هذا النوع من النقد النظري على محمل الجد، والذي يُطلق عليه أحيانًا ما بعد البنيوية في الصحافة الأكاديمية، والذي كان أكثر فاعلية في الكشف عن علاقة قوة محددة أوروبية المركز وإنسانية في إنتاج المعرفة. إن إصرار بولاك الشجاع على القضاء على وتحييد الدافع النقدي لـ “ما بعد البنيوية” يتعرض للخيانة في كل نقطة تقريبًا حيث يتم مناشدة سلطة أسماء مثل جاك دريدا ورولاند بارت.


من خلال عرض جدلية يابانية فريدة تسمى واكان، "اليابانية/الصينية"، والتي تم من خلالها تثبيت الهوية الذاتية لليابان، يستخدم بولاك الاستعارة الرئيسية، وهي فرقة قديمة استخدمت بشكل متكرر في الدراسات الغربية للشرق الأقصى منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ، عن "ضفدع من قاع بئره، والذي سيحدد عالمه بشكل شبه حصري من حيث جدرانه."  حتى وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصين بمثابة أسوار اليابان التي تم تحديد وجود اليابان في مقابلها. ويضيف أن الولايات المتحدة تولت هذا الدور مؤخرًا. وكما عرفت اليابان نفسها في السابق على أنها "الآخر" للصين، فإنها تعرف نفسها اليوم على أنها "الآخر" لأميركا. وفي كلتا الحالتين، تعتبر اليابان طفيلية على نفسها من ناحية، وعلاقية من ناحية أخرى. وبغض النظر عن مشكلة ما إذا كان كل شكل ممكن من أشكال الهوية الذاتية طفيليًا وعلائقيًا أم لا، فإنه يشرع في عرض العديد من الحقائق العلمية التي تشهد، دون استثناء، على وجود فجوة مميزة بين اللغتين الصينية واليابانية. ويبدأ بوصف أكثر تفصيلاً للثقافة اليابانية الفريدة "بمقدمة بسيطة وحديثة للغاية مفادها أن الثقافة واللغة تعكسان نفس الهياكل وتتأثران بها. ومع ذلك، واستنادًا إلى هذه الفرضية أو إلى أحد مضامين هذه الفرضية القائلة بأن كلا من الثقافة واللغة يجب أن يكونا قادرين على أن يكونا معزولين مثل الأنظمة الوحدوية حتى تتمكن هذه الوحدات من "التفكير والتعلم من نفس الهياكل"، فإن الفجوة بين الصين واليابان على المستوى أو التمثيل منقوش عليه ومدمج مع الفارق بين الاثنين على المستوى الحقيقي.


في علم اللغة، يجب طرح بعض الوحدة المنهجية للانتظامات كافتراض ضروري لتحليل وتنظيم ما يسمى بالمعلومات التجريبية. إن ما يشكل إمكانية أن يكون علم اللغة مجموعة معرفة منهجية ورسمية هو هذا الافتراض لوحدة اللغة التي لا ينبغي أبدًا الخلط بينها وبين جوهر اللغة أو جوهرها. لكن الوحدة المنهجية للغة لا توجد في مختلف الأنشطة اللغوية حيث أن "العمود الفقري موجود في جسم الحيوان الثديي". [[يمكن للمرء أن يؤكد على ثلاث نقاط - وحدة اللغة تشبه إلى حد كبير "الفكرة" أو التنظيمية الكانطية الإيجابية التي تجعل الدراسة التجريبية للغة ممكنة؛ ولذلك فإن وحدة اللغة لا تعطى أبدًا في "التجربة"؛ وبالتالي، فإن فكرة الجوهر العالمي للغة لن يتم الحصول عليها أبدًا من خلال استخلاص البيانات التجريبية المتراكمة حول العدد المتزايد من لغات معينة. ومن ثم، فمن المضلل القول بأن علم اللغة يكتشف ويحدد وحدة لغة محلية أو وطنية معينة بعد فحص البيانات. على العكس من ذلك، فإن فرض مثل هذه الوحدة اللغوية الخاصة هو الشرط الضروري لإمكانية البحث اللغوي. وهذا يعني أن وحدة اللغة لا يمكن تمثيلها كمساحة محدودة أو إغلاق. إن استعارة "ضفدع في البئر" ليست بالضرورة غير ذات صلة بالموضوع؛ إنها دقيقة إلى حد ما ومقنعة للغاية في سياقات اليابان المعاصرة حيث يبدو العالم الخارجي مجرد صورة معروضة على الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الوطنية. ومع ذلك، إذا ارتبطت هذه الاستعارة بكليشيهات معرفية نموذجية للأنانية الثقافية، فسيتم تجسيد كل هذه الوحدات، وهذا ما يحدث مع بولاك. وينتج هذا جزئيًا عن عدم قدرته على الحفاظ على الفرق بين فئة التحليل وموضوع التحليل. ولكن الأهم من ذلك هو أن هذا يبدو نتيجة للافتقار العام إلى النقد النظري للحداثة. على سبيل المثال، يتم استخدام الوحدات الثلاث للغة اليابانية والثقافة اليابانية والأمة اليابانية بشكل متكرر بشكل متبادل تقريبًا. كما لو كان يتبع بإخلاص نماذج التأريخ الياباني  أو الخطاب الأحدث حول التفرد الياباني ، فإن بولاك يعرض الصورة النمطية لليابان المعاصرة في العصور الوسطى والعصور القديمة. من أجل التأكيد على مدى اختلاف اليابانيين عن الصينيين، وإظهار التفاعل الجدلي بين البلدين، كثيرًا ما يلجأ إلى نوع الحجة الدائرية التي يتم من خلالها تحديد الثقافة اليابانية من خلال الإشارة إلى هوية اللغة اليابانية؛ ومن ثم يتم التعرف على اللغة اليابانية من خلال الإشارة إلى الهوية الوطنية للشعب؛ وأخيرًا يتم التعرف على الشعب الياباني من خلال تراثه الثقافي واللغوي. ما لا يراه بولاك هو أنه لا يوجد أساس منطقي تتوافق عليه الفئات الثلاث مع بعضها البعض في مرجعياتها. وكما قلت في مكان آخر، في القرن الثامن عشر ظهرت إلى الوجود وحدات الثقافة واللغة والعرق اليابانية كما يتم تصورها اليوم. وبهذا المعنى، ولد اليابانيون في القرن الثامن عشر. انظر ساكاي، أصوات الماضي. فقط في التاريخ الحديث تم تأسيس الوحدة المفترضة للثقافة اليابانية. وهو لا يدرك أن هذه السلسلة من الحشو هي سمة من سمات التكوين الخطابي المحدد تاريخيا. بالنسبة لبولاك، فإن هذه الوحدات الثلاث هي عالميات عابرة للتاريخ: "كسر المعنى" يؤيد بشكل أكثر تحديدًا الجوهرية الثقافية. إن حجته ترقى إلى مهمة تحديد اليابان باعتبارها دولة خصوصية، يعتمد إحساسها بهويتها دائمًا على الآخر. وبالتالي، فإن تصميم اليابان هذا يعني ضمناً أن اليابان كانت منذ البداية مجتمعاً "طبيعياً"، ولم تشكل نفسها أبداً كأمة "حديثة". ويرى بولاك أنه على الرغم من التباين اللغوي الواضح بين الصين واليابان، فقد تكيف اليابانيون مع الكتابة الصينية، الأمر الذي ولّد قلقاً لا نهاية له بشأن هويتهم.على سبيل المثال، لم يكن ليخطر على بال الصينيين أكثر مما قد يخطر على بالنا نحن أن نجد "مشكلة" في مدى كفاية كتاباتهم الخاصة لتمثيل أفكارهم. ومع ذلك فإن بحثنا يبدأ على وجه التحديد بمشكلة اعتماد النص الصيني في النص الياباني "الأول"، وهي المشكلة التي سوف تصبح نموذجية لكل ما سيأتي بعد ذلك. ويؤكد أن التفرد الياباني يتجلى بشكل أفضل في حقيقة أن اليابان اضطرت إلى استعارة نص أجنبي. من الواضح أن عنوان الكتاب، كسر المعنى، يأتي من هذا الفهم. لكن القارئ سوف يتفاجأ عندما يقرأ ما يلي: “من الواضح أن فكرة “الكسر” في المجال السيميائي للثقافة ليست فريدة من نوعها بالنسبة لليابان؛ ليست السيميائية الحديثة، في نهاية المطاف، موضوعًا مرتبطًا بشكل خاص باليابان. ليجدوا "مشكلة" في مدى كفاية النص الخاص بهم لتمثيل أفكارهم. ففي نهاية المطاف، لا يقتصر المعنى على اليابانيين فحسب، بل يشملنا جميعًا. لكن ألا يؤدي التظاهر بعدم الاعتراف بأن النص غير مناسب للفكر إلى تشكيل إغلاق عرقي؟ ألا يعني الاعتراف بكسر المعنى أنه ليس فقط الكتابة بل الكلام أيضًا خارجي وغير ملائم للفكر، فإن النص دائمًا أجنبي، وبالتالي فهو يخترق الإغلاق المتخيل للوحدة العرقية والثقافية واللغوية؟


ومن أجل انتقاد الخصوصية اليابانية وربما ما اعتبره بولاك جوهرية ثقافية يابانية، كان عليه أن يبني صورة لليابان لن تتبنى أبدًا الآخرين وتضمهم. وهذا يعني أنه كان عليه أولاً أن يخلق شيئًا يمكنه إلقاء اللوم عليه لاحقًا. لكنه، في هذه العملية، أخطأ في تعريف هذا الشيء الغريب من حيث جوهريته الثقافية. ونتيجة لذلك، تم قبول الجوهرية الثقافية باعتبارها المفردات الأساسية التي تنتمي إلى الموضوع الذي يدرس وليس كخاصية للموضوع المدروس. ويتكرر هذا النوع من الانقلاب في حجة بولاك. يقول بولاك في المقدمة: "أنا مهتم بالتفسيرات اليابانية لما رأوه في الأساس "صينيًا"، وليس تفسيراتنا نحن أو تفسيرات الصينيين أنفسهم". : 3-4. ووفقاً لاستعارة «ضفدع في البئر»، تشكل هذه الحقول الثلاثة، أو الآبار الثلاثة، أفقاً تأويلياً، كما يؤكد بولاك على الطبيعة التأويلية لدراسته. ومع ذلك، فهو يقول في الختام: “أنا معني هنا بعملية جدلية… بحيث تصبح هذه الدراسة أكثر من أي شيء آخر تأويلًا للثقافة اليابانية، دراسة للطرق التي تطور بها التفسير الياباني لأنفسهم وثقافتهم عبر الزمن”. الوقت. هنا يتم اختيار المجال الياباني، ويقول إنه يهتم فقط بجدلية الصينيين واليابانيين من وجهة نظر اليابانيين، لذلك “لم تكن الصين ولا حتى فكرة الصين متورطة بالضرورة في عملها. إنه يتعامل مع الصين فقط بقدر ما يمثلها اليابانيون. ما لا يستطيع فهمه هو الحقيقة، التي بدون الإشارة إليها لن ينجح استعارة الضفدع في البئر، وهي أن الضفدع لا يمكنه أبدًا رؤية بئره على الجدران. بالنسبة للضفدع، لا يمكن رؤية البئر بالكامل. لذلك، لن يعرف أبدًا أنه محصور في مساحة صغيرة؛ فهو لا يدرك أن ما يعتقد أنه الكون بأكمله هو مجرد بئر صغير. ولكي نعرف أن كونه مجرد بئر، لا بد من إسقاط صورة البئر على الجدران. وهكذا بالنسبة للضفدع (باللغة اليابانية)، فإن مجمل البئر (اليابان) غير مرئي بشكل أساسي ويجب التعرف عليه فقط كتمثيل مُسقط على الآبار. فإذا تم التعامل مع الصين باعتبارها مجرد تمثيل، فلابد وأن يتم التعامل مع اليابان بنفس الطريقة تماماً. علاوة على ذلك، إذا لم يكن لدى اليابانيين بعض التمثيل لليابان واحتجازهم أو خضوعهم لها، فلن يتمكنوا حتى من الاعتراف بأنهم يابانيون؛ لن يكونوا قادرين على تعريف أنفسهم باليابان. وكما أن الصين مجرد خيال بالنسبة لليابانيين، فإن اليابان أيضًا خيالية بالنسبة لهم. إذا كان بولاك يرغب في الحديث عن توليف الصين والثقافة اليابانية، فعليه أولاً أن يتحدث عن توليف اليابان في الثقافة اليابانية. وينبغي أن يكون هناك قدر كبير من الجدل بين اليابانيين واليابانيين كما هو الحال بين اليابانيين والصين. إحدى المعاني الضمنية الساخرة لهذه الاستعارة هي أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بثقة أنه متحرر من مصير الضفدع. يعتقد الضفدع أنه لا يوجد عالم آخر ومختلف خارج عالمه الصغير. لذا فإن معرفتها بعالمها الصغير من المفترض أن تكون صالحة عالميًا في كل مكان. ولكن كيف يمكن ضمان ألا يكون عالم الذين يضحكون على الضفدع بئراً آخر؟ فهل تختلف اليابان التي يصفها بولاك عن الصين التي تصورها اليابانيون على جدران بئرهم؟


بمعنى ما، فإن كسر المعنى يطارده شعور بعدم الأمان. إن ما تم القيام به لقمع هذا الشعور بعدم الأمان هو إنشاء موقف لفظي يتحدث منه المؤلف بمصطلحات كونية - موقف موجود في كل مكان ومتعالي يرى من خلاله الأشياء. ومن الطبيعي أن يتم تسجيل كلمات بولاك تلقائيًا كلغة فوقية. لغته تفترض "نحن" الذي كان يرغب في التحدث معه، و"نحن" الخاص به، الموضوع المتحدث في هذه اللغة ما وراء اللغة، يتزامن مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وهكذا، مرة أخرى، يفترض الغرب عالميته وتواجده في كل مكان وسط خصوصيته. تفترض حجة بولاك أن التعارض بين النظرية (العالمية) وموضوع النظرية (الخاصة) يتوافق مع التعارض بين الغرب وغير الغرب. وهكذا يتم تشكيل موضوع الخطاب المميز من أجل إظهار المثال الملموس المفترض للخصوصية، والذي يتم على النقيض منه التأكد من عالميتنا. يتم تعريف اليابان على أنها خصوصية محددة ووحدوية من الناحية العالمية: يتم توفير تفرد اليابان وهويتها بقدر ما تبرز اليابان ككائن معين في مجال الغرب. فقط عندما يتم دمجها في الكونية الغربية فإنها تكتسب هويتها الخاصة باعتبارها خصوصية. وبعبارة أخرى، فإن اليابان لا تصبح تتمتع "بذاتها" وتدركها إلا عندما يعترف الغرب بها. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن عدداً كبيراً من المفكرين اليابانيين ما زالوا يؤكدون على خصوصية اليابان استناداً إلى افتراض العالمية الغربية على طريقة بولاك. وليس من قبيل الصدفة أن يذكر الخطاب حول التفرد الياباني حالات لا حصر لها من اختلاف اليابان عن الغرب، وبالتالي تعريف هوية اليابان من حيث الانحرافات عن الغرب. إن إصرارها على خصوصية اليابان واختلافها عن الغرب يجسد رغبة ملحة في رؤية الذات من وجهة نظر الآخر. لكن هذا ليس سوى طرح هوية اليابان بمصطلحات غربية، وهو ما يؤدي في المقابل إلى ترسيخ مركزية الغرب باعتباره النقطة المرجعية العالمية. ولهذا السبب، وعلى الرغم من إيماءات انتقاد التفرد الياباني والمركزية العرقية، فإن بولاك في الواقع يحتضن ويؤيد بفارغ الصبر الخصوصية اليابانية والعنصرية الواضحة. وفي واقع الأمر، فإن حجته بأكملها ستنهار دون هذا القبول الصريح للخصوصية. وعلى عكس ما تم الإعلان عنه من قبل الجانبين، فإن العالمية والخصوصية يعززان ويكملان بعضهما البعض؛ إنهم ليسوا في صراع حقيقي أبدًا؛ إنهم بحاجة إلى بعضهم البعض وعليهم أن يسعوا إلى تشكيل علاقة متناظرة ومساندة للطرفين بكل الوسائل لتجنب المواجهة الحوارية التي من شأنها أن تعرض للخطر عوالمهم الأحادية الآمنة والمتناغمة. العالمية والخصوصية يؤيدان عيب بعضهما البعض من أجل إخفاء عيبهما؛ إنهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا ببعضهم البعض في تواطؤهم. وفي هذا الصدد، فإن خصوصية مثل القومية لا يمكن أبدًا أن تكون نقدًا جديًا للعالمية، لأنها شريكة فيها.


العلاقة بين الغرب واللاغرب


ومع ذلك، يبدو أن العلاقة بين الغرب وغير الغرب تتبع الصيغة القديمة والمألوفة للسيد/العبد. وخلال ثلاثينيات القرن العشرين، عندما تمت دراسة "عصر ما بعد الحداثة" ، الذي يشبه إلى حد ما عصر ما بعد الحداثة، على نطاق واسع، كانت إحدى القضايا التي أثارها بعض المثقفين اليابانيين هي الغرب والعلاقة مع غير الغرب في حد ذاتها. عند تقديم تشخيص للعصر، أشار الكثيرون، بما في ذلك الفلاسفة الشباب من مدرسة كيوتو مثل كوياما إيواو وكوساكا ماساكي، إلى العلاقة بين الغرب الأوروبي وغير الغربي غير الأوروبي) باعتبارها المؤشر الأكثر أهمية من العوالم. ولاحظوا أن تغيراً جوهرياً قد حدث في العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حتى أواخر القرن التاسع عشر، بدا وكأن التاريخ يتحرك بشكل خطي نحو المزيد من توحيد العالم. تم تنظيم الكرة الأرضية بأكملها وفقًا للإطار الفردي الذي سيسمح في النهاية بمركز واحد فقط. بادئ ذي بدء، بدا التاريخ وكأنه عملية لا تنتهي من التوحيد والمركزية مع وجود أوروبا في المركز. ومن ثم، كان من المفهوم، بل ومن المحتم جزئيًا، أن نتصور التاريخ ببساطة باعتباره عملية أوروبية. في هذا المخطط التاريخي، كان يُنظر إلى العالم بأكمله من الأعلى، ويُنظر إليه على أنه غربي، بمعنى أن بقية العالم كان يُنظر إليه على أنه محكوم عليه بالتغريب. في الأساس، كما هو أفضل تمثيل للتاريخانية الهيغلية، "كان تاريخ العالم هو التاريخ الأوروبي". ومع ذلك، في أواخر القرن التاسع عشر، كما يزعم كوياما، بدأ العالم غير الغربي في التحرك نحو استقلاله وتشكيل عالم خاص به. ونتيجة لهذا التحول، فإن ما كان يُنظر إليه حتى الآن على أنه العالم بأكمله قد تبين أنه مجرد عالم حديث، عالم بين عوالم عديدة. هذه الإمكانية للمعرفة التاريخية والتطبيق العملي، المستمدة من التحول التاريخي الأساسي للعالم، كانت تسمى آنذاك "تاريخ العالم". في تاريخ العالم هذا، كان من المفترض أن التغيرات التاريخية لا يمكن فهمها ببساطة دون الرجوع إلى الفئات المكانية المحددة بالفعل: المناخ، والجغرافيا، والعرق، والأمة، والثقافة، وما إلى ذلك. فقط في الإطار الذي وضعته تلك الفئات كان من الممكن فهم التطورات التاريخية وفهم التغييرات المختلفة التي كان من المقرر دمجها في وحدة أكبر من السرد. ما أشار إليه هذا الاعتراف البسيط الذي لا يمكن إنكاره هو أن التاريخ لم يكن زمانيًا أو كرونولوجيًا فحسب، بل مكانيًا وعلائقيًا أيضًا. إن الشرط لإمكانية تصور التاريخ كسلسلة خطية وتطورية من الأحداث يكمن في علاقته التي لم يتم تحديدها بعد مع التواريخ الأخرى، والزمنيات الأخرى المتعايشة. في حين أن التاريخ الأحادي لم يعرف اعتماده الضمني على التواريخ الأخرى واعتقد أنه مستقل وشامل، فإن تاريخ "العالم" تصور نفسه على أنه العلاقات المكانية للتواريخ. لذلك، في تاريخ العالم، لا يمكن للمرء أن يفكر في التاريخ حصريًا بتلك المصطلحات التي تشير فقط إلى نفس التاريخ: لا يمكن للتاريخ الأحادي أن يتعامل مع العالم كما تم فهمه في تاريخ العالم لأن العالم هو في المقام الأول مجال من عدم التجانس والاختلاف. تعدد. إلى أي مدى كان تاريخ العالم عند كوياما قادرًا على مواجهة عدم التجانس والآخرين، وما إذا كان تاريخ العالم سيكون قادرًا على التعرض لهم في عدم تجانسهم واختلافهم أم لا، سيتم فحصه لاحقًا. لكن يجب أن أشير إلى أن فكرة الاختلاف وعدم التجانس هذه تم تعريفها دائمًا من حيث الاختلافات بين الأمم والثقافات والتاريخ، كما لو لم تكن هناك اختلافات وعدم تجانس بين أمة وثقافة وتاريخ واحد. بالنسبة لكوياما، كان التباين والاختلاف في معظم لحظات الاختلافات الدولية.


إن نسيان المسندات المكانية، الذي يكشف عن نفسه كحقيقة التاريخ الأحادي عند ظهور تاريخ العالم، يأتي من ظروف تاريخية معينة. وما لم يتم تحدي العالم التاريخي والثقافي بشكل جدي ويتأثر بعالم آخر، فلن يصل أبدًا إلى الوعي بأن عالمه الخاص لا يمكن أبدًا مساواة العالم بشكل مباشر بالعالم ككل، وسيستمر في التخيل عن نفسه باعتباره ممثلًا وممثلًا للكلية. . إن تاريخ المركزية الأوروبية هو أحد الحالات الأكثر شيوعًا لهذا: فالعالم غير موجود بالنسبة له. لكن كوياما يضيف أيضًا التاريخ الوطني الياباني إلى القائمة. التاريخ الوطني الياباني هو مثال آخر للتاريخ الأحادي، والذي، على الرغم من حقيقة أن اليابان تعرضت للتحدي والتأثر بالتواريخ والثقافات الأخرى، إلا أنها لم تصل بعد إلى معرفة أن التاريخ يكمن في تلك التفاعلات مع الآخرين، بسبب أهميته. وضع الجزيرة (شيماغوني-تيكي جوكين). ما جلبه كوياما إلى الوعي هو حقيقة أن هوية التاريخ تتشكل من خلال ترابطه مع تواريخ أخرى، أشياء أخرى غير نفسه. على وجه التحديد، لأن التاريخ الأحادي لا يعترف بشروط إمكانية هويته الخاصة، فهو يوسع بسذاجة قيمًا معينة إلى ما لا نهاية ويستمر في الإصرار على الصلاحية العالمية لتلك القيم: فهو يسيء فهم اللحظة التي بموجبها يجب المطالبة بعالميته. ويتم تدشين الإصرار على هويتها في نفس الوقت. وهكذا يتم تحويل لحظة الآخر بشكل متعمد من أجل الحفاظ على مركزيتها المفترضة باعتبارها البادئ لعالمية القيم العالمية والخاصة وقابليتها للقياس. ولا شك أن هذا يعني إبادة الآخر في غيريته. ربما من الأفضل تلخيص المهمة التي يعتقد التاريخ الأحادي أنه يتولى مسؤوليتها في العبارة التالية: "إنهم مثلنا تمامًا". بالطبع، يجب أن نتذكر أن هذه العبارة تختلف بالتأكيد عن عبارة أخرى - "نحن مثلهم تمامًا" - والتي لم يتم فيها ضمان مركزيةنا: أي أن الدونية في قوتنا تم تأسيسها بدلاً من ذلك. التفوق، ولكن هذه تشكل زوجا التكميلي. لقد عمل التاريخ الأحادي في خدمة هيمنة محددة تاريخياً، وهي شكل من الهيمنة لم يكف عن أن يكون مضطرباً في تأثيره حتى اليوم. ومع ذلك، رأى كوياما وحاول اغتنام نقطة تحول في تطور التاريخ الأحادي. وأصر على أن تاريخًا آخر، تاريخ العالم، الذي يعترف بتواريخ أخرى، على وشك الظهور. وهذا الظهور يجب أن يمثل تغييرا جوهريا في العلاقة بين موضوع التاريخ وموضوعاته الأخرى؛ يجب أن يشير إلى أن التاريخ الأحادي الذي حُرم فيه الآخرون من الاعتراف بهم لم يعد ممكنًا. وفي هذا التاريخ الجديد، سيكون تعدد التواريخ والتفاعل فيما بينها هو المبدأ. ومن ثم، يجب دمج المصطلحات المكانية الضرورية في التاريخ الذي يجب تفسيره على أنه توليفة من الزمان والمكان، ويتم تدويله. إن ما يدعو إليه كوياما قد يبدو وكأنه تاريخ تعددي حقيقي وليس تاريخًا خطيًا فرديًا، وإذا صدق المرء كل ما قيل، فإن هذا الانتقال من التاريخ الأحادي إلى تاريخ العالم يجب أن يمثل تغييرًا تاريخيًا جذريًا يؤدي إلى قوة مختلفة. ترتيب يتم من خلاله التعبير عن الخصائص الثقافية والوطنية والتاريخية بشكل كامل. عندها لن يتم التوسط في جميع العوالم الثقافية من خلال ما أسماه كوساكا ماساكي “الكليات الوجودية” ولكن من خلال الكليات “) وإذا كان الأمر كذلك، فإن المرء سيتصور ما بعد العصر الحديث، وهو الجانب الآخر من الفجوة التاريخية التي من شأنها أن تسمح للمرء بتحديد حدود الخطاب الحديث – باختصار، ما بعد الحداثة الحقيقية. في هذا السياق، من الجدير بالذكر أنه بالنسبة لكوياما وكذلك كوساكا، فإن وحدة موضوع التاريخ، التاريخ التعددي، تعادل بشكل لا لبس فيه وحدة الدولة القومية. ومع ذلك فإنهم يؤكدون على أن الدولة القومية لا تتوافق بشكل مباشر مع عرق أو شعب. فالدولة بالنسبة لهم هي وجود لذاتها يتعارض مع الدول الأخرى، وهي في هذا الصدد موجودة في "العالم". وبالتالي، لا يتم تشبيه الدولة بـ "كيانات" أخرى مثل العرق أو الأمة أو العشيرة أو الأسرة على وجه التحديد لأنها يجب أن تتوسط علاقاتها مع الدول الأخرى وبالتالي تكون عاكسة لذاتها - أي ذات. ومن ناحية أخرى، تشير الأمة إلى مجتمع متجذر في الطبيعة، مجتمع يولد فيه الناس ويموتون. والعبودية التي تحافظ على تماسك أعضائها هي عبودية الدم والإنجاب والأرض، وهي طبيعية بمعنى أن الرابطة بين الأم والطفل طبيعية. يُصدر كوياما تحذيرًا هنا: إن الأمة كمجتمع طبيعي لا يمكن أبدًا أن تكون موضوعًا للتاريخ لأنها لا تتوسطها المسلمات. إن المجتمع الطبيعي يشير إليه كوساكا باسم "الطبقة التحتية" ليس موضوعًا في حد ذاته، لأنه لم يتم عقلنته بعد. يجب أن تمثل الدولة المجتمع الطبيعي؛ فقط من خلال الدولة، يتم تعريف المجتمع الطبيعي على أنه الأمة في حد ذاته. وفقط من خلال هذا التمثيل لنفسها تصبح الأمة تاريخية وتولد ثقافتها الخاصة، وعالمًا تاريخيًا خاصًا بها. في هذه المرحلة، تشكل الأمة تاريخًا أو عالمًا تاريخيًا خاصًا بها وتكون الدولة موضوعًا لها.وبينما يرفض كوياما الفلسفة الهيغلية باعتبارها امتدادًا للتاريخ الأحادي، فإنه يتبع البناء الهيغلي بصرامة. بقبوله جميع المقدمات "الحديثة"، يحاول كوياما تغيير وجهة نظرهم التاريخية فقط. ومن خلال تقديم تاريخ العالم التعددي ومن ثم ادعاء تجاوز الحداثة، فهو يؤيد كل ما اكتسبته الدولة اليابانية تقريبًا تحت اسم التحديث. يبدو أن نقد الغرب والحداثة المعبر عنه في إدانته للتاريخ الأحادي يكشف حقيقة أن الخطاب المناهض للحداثة برمته هو في الواقع غطاء لتأييد غير مبدئي لأي شيء حديث عندما يتعامل كوساكا وكوياما مع القضايا المتعلقة بالحداثة. والتي يعتبر انتقاد الغرب فيها أكثر إلحاحًا - وتتعلق هذه القضايا بالمواقف الصينية اليابانية خلال ثلاثينيات وأوائل الأربعينيات. وفي محادثة مائدة مستديرة عقدت في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1941، أشار كوساكا وكوياما وآخرون إلى العلاقة بين التطور التاريخي وأخلاق الأمة. كوياما: موضوع الطاقة الأخلاقية يجب أن يكون في الأمة... الأمة هي مفتاح كل مشكلة. فالطاقة الأخلاقية لا علاقة لها بالأخلاق الفردية أو الشخصية، أو بنقاء الدم. إن الأمة، ثقافيا وسياسيا، هي مركز الطاقة الأخلاقية. كوساكا: هذا صحيح. القوم في حد ذاته لا معنى له. عندما يكتسب القوم الذاتية ، ويتحول بالضرورة إلى قوم قومي. القوم الذين ليس لديهم ذاتية أو تقرير مصير، أي القوم الذين لم يحولوا أنفسهم إلى أمة ، لا حول لهم ولا قوة. على سبيل المثال، لم يتمكن شعب مثل الآينو من الحصول على الاستقلال، وتم استيعابه في نهاية المطاف في قوم آخرين [تم تحويلهم إلى أمة. وأتساءل عما إذا كان اليهود سوف يتبعون نفس المصير. أعتقد أن موضوع تاريخ العالم يجب أن يكون قوميًا بهذا المعنى. يصعب على المرء أن يميز أي فرق بين هذا الفهم للذاتية الحديثة وفهم الديالكتيك الهيغلي. أولا وقبل كل شيء، يجب على الأمة الحديثة أن تكون تجسيدا لإرادة تقرير المصير. وهذا يعني أن موضوع الأمة هو، في أي وقت، تقرير المصير (تحديد الذات على هذا النحو) والذات المحددة (الذات التي تحدد نفسها). وعلى الأمة الحديثة أن تخرج عن نفسها حتى تعي ذاتها وتحقق إرادتها. فهي إذن، بلا استثناء، أمة تمثل نفسها في الدولة؛ إنه تركيب الشعب (غير العقلاني) والدولة (العقلانية). الأمة هي السبب المتجسد في الفردية (القوم)، بحيث لا يمكن للأمة أن تتطابق مع القوم على الفور. لكي يتحول الشعب إلى أمة، يجب أن يخضع الشعب للوساطة السلبية من قبل قوم آخرين؛ أي أنه يجب على القوم الأقوى أن يقهروا ويخضعوا القوم الأضعف من أجل تشكيل الأمة. وتصبح هشاشة خطابهم المناهض للحداثة أكثر وضوحا عندما تتم مناقشة تاريخ العالم التعددي في سياق الوضع التاريخي المعاصر. وفي محاضرة أخرى على مائدة مستديرة بعنوان ""الأخلاق والتاريخ في مجال الرخاء المشترك الكبير في شرق آسيا" والتي عقدت بعد حوالي ثلاثة أشهر من الجلسة السابقة مع نفس المشاركين، ربطوا بشكل مباشر قضية تاريخ الصين. العلاقة اليابانية. الحرب الصينية اليابانية تنطوي على أشياء كثيرة وهي معقدة للغاية. ولكن العامل الأخير الذي يحدد النتيجة لابد أن يكون السؤال "أي الأخلاق هي الأفضل، الأخلاق اليابانية أم الصينية؟" وبطبيعة الحال، فإن المناورات السياسية والثقافية مهمة للغاية. ومع ذلك، ربما يكون موقفنا الأخلاقي تجاه الصينيين أكثر أهمية. يجب أن نفكر في تدابير مثل هذه: يجب أن نرسل العديد من الأشخاص المتميزين أخلاقياً إلى هناك لإظهار طاقتنا الأخلاقية حتى يتم إقناع الناس هناك بإقناع أنفسهم [بتفوقنا الأخلاقي. إن الحرب الصينية اليابانية هي أيضاً حرب أخلاقية. والآن بعد أن دخلنا الحرب الآسيوية الكبرى، أصبحت الحرب الآن أكبر حجمًا بكثير، وهي على وجه التحديد حرب بين الأخلاق الشرقية والأخلاق الغربية. اسمحوا لي أن أطرح الأمر بشكل مختلف، السؤال هو ما هي الأخلاق التي ستلعب دورًا أكثر أهمية في تاريخ العالم في المستقبل. ومن المدهش أنهم ما زالوا قادرين على الحديث ليس فقط عن أخلاق الأمة اليابانية، بل وأيضاً عن تفوقها على الأمة الصينية في تلك المرحلة. عند تخيل الجو الوطني السائد في تلك الفترة التي ألقيت فيها هذه التصريحات، يفضل المرء الامتناع عن التساؤل عما إذا كان كوساكا يمزح أم لا. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر على الأقل أن العلاقة بين الأخلاق اليابانية والصينية موضوعة في نوع من الجدلية. يبدو كوساكا واثقًا من أن تفوق الأخلاق اليابانية سوف يتم إثباته في النهاية كما لو أن التفوق العسكري الياباني قد ضمن الأمر برمته. بالنسبة لكوساكا، تتضمن العملية التاريخية سلسلة من الصراعات الحتمية التي يتم فيها الحكم على أخلاق أمة ما مقابل أخلاق أمة أخرى. ومن ثم فإن الحادث الذي وقع في الصين (الحرب الصينية اليابانية) هو حرب أخلاقية، والحرب على المحيط الهادئ هي أيضًا حرب ستقرر التفوق الأخلاقي للشرق أو الغرب في ضوء الأخلاق النهائية للكلية – ذلك هو، البشرية جمعاء. وبهذا المعنى، فإن التاريخ كما يتصوره هو تاريخ التطور الأخلاقي نحو إرساء الأخلاق للإنسانية، نحو التحرر النهائي للبشرية. على الرغم من الإدانة المتكررة لمصطلح "الإنسانية"، فإن كوساكا غير قادر أبدًا على مقاومة إغراء تبرير الوضع الراهن من خلال النزعة الإنسانية. وبعبارة أخرى، فإن نقده للإنسانية والحداثة هو في الواقع احتفال مقنع بهما. وبصرف النظر عن الغرور المذهل المعبر عنه في هذا المقطع، هناك تكوين نظري يتناقض بوضوح مع مقدمات تاريخ العالم التعددي. إن تصور العلاقة بين الصين واليابان من حيث حرب الأخلاق الصينية واليابانية هو افتراض وجود علاقة جدلية بين الأخلاقين. وهذا يعني أن الأخلاق اليابانية، في الخيال المتفائل، سوف تثبت في نهاية المطاف عالميتها وخصوصيتها للأخلاق الصينية. قال كوياما، "[إن الصينيين لديهم إحساس شخصي بمركزيتهم الصينية ولكن ليس لديهم وعي موضوعي بـ"العالم"....بينما هناك أخلاقية في الصين، هناك طاقة أخلاقية في اليابان.". إن ما نراه هنا هو أبشع جانب من جوانب العالمية، ولا ينبغي لنا أن ننسى أن هذا هو في نهاية المطاف حقيقة "تعددية" كوياما. لم يكن انتصار اليابان على الصين مفترضًا ولا جدال فيه فحسب، بل كان التفوق الأخلاقي الياباني مفترضًا أيضًا؛ وكان من المعتقد أن التفوق العسكري المؤقت لليابان (الذي زيفته وسائل الإعلام الوطنية) يضمن الحق في التحدث بطريقة متعالية. إذا استمرت هذه الحركة الجدلية بين الأخلاق العالمية والخاصة كما تم تصورها، فإنها ستقضي في النهاية على التعايش التعددي للعديد من التواريخ والتقاليد التي تم الدفاع عنها بحماس في نقد التاريخ الأحادي. ضمن مخطط زوج العالمية والخصوصية، سيتم تنظيم الموضوعات التعددية تدريجيًا حيث تخضع العديد من الخصوصيات لمركز واحد للعالمية. فكيف يمكن للمرء إذن أن يتجنب التاريخ الأحادي البغيض؟ لأن تاريخ العالم لن يكون مختلفًا عن تاريخ التقدم نحو السيطرة الكاملة لمركز واحد. ورأى كوياما وكوساكا أن من حقهما أن يتهما الصينيين بافتقارهم إلى الحس التاريخي العالمي، وبوقاحتهم، وأخيراً بسبب خصوصيتهم؛ لقد شعروا بأنه يحق لهم القيام بذلك لأنهم اعتقدوا أنهم يتحدثون من موقع العالمية.


يثبت تاريخ العالم التعددي أنه نسخة أخرى من التاريخ الأحادي. لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يتجنب هذا الاستنتاج عندما يتم مساواة موضوعات تاريخ العالم بالأمم. كيف يمكن للمرء أن يطرح نقدًا فعالًا للحداثة عندما يؤكد ويمدح الهوية الوطنية كقاعدة وحيدة للممارسة التاريخية؟ وكان نقد هؤلاء المفكرين للحداثة في أفضل الأحوال مجرد غطاء من معاداة الإمبريالية تم بموجبه تأييد الحداثة اليابانية (بما في ذلك العواقب الحتمية للدافع التوسعي) بشكل علني. ما أزعجهم في التاريخ الرهباني لم يكن حقيقة أن الكثيرين تعرضوا للقمع والحرمان من الشعور باحترام الذات في العالم بسبب ترتيبه الأوروبي. ما كانوا يعارضونه هو حقيقة أنه في هذا الترتيب الأوروبي المركزي للعالم، حدث استبعاد الوحدة المفترضة لليابانيين من المركز. لقد أرادوا تغيير العالم بحيث يحتل اليابانيون موقع المركز والذات التي تحدد الخصوصيات الأخرى بمصطلحاتها العالمية الخاصة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، فإنهم يوافقون على أي شيء غربي بشرط أن يتوافق مع بنية الدولة القومية الحديثة. وبعيداً عن كونهم تصميماً مناهضاً للغرب، فإن ما حفزهم كان الرغبة في متابعة طريق التحديث. وبقدر ما تعتبر المركزية والتجانس جزءًا لا يتجزأ من التحديث، فإن فلسفتهم في تاريخ العالم توضح بشكل متناقض حتمية الحرب من خلال إظهار استحالة التعايش خارج الغرب. وحتى في خصوصيتها، كانت اليابان متورطة بالفعل في الغرب في كل مكان، بحيث لا يمكن النظر إلى اليابان تاريخياً أو جيوسياسياً على أنها خارج الغرب. وهذا يعني أنه من أجل انتقاد الغرب فيما يتعلق باليابان، يتعين على المرء بالضرورة أن يبدأ بانتقاد اليابان. وعلى نحو مماثل، فإن انتقاد اليابان يستلزم بالضرورة النقد الراديكالي للغرب. وبقدر ما يحاول المرء أن يتحدث من موقفنا، الوحدة المفترضة إما للغرب أو اليابان، فلن يتمكن المرء أبدًا من الهروب من هيمنة زوج العالمية والخصوصية: لن يكون المرء فعالًا أبدًا في النقد بغض النظر عن مدى تطرفه. الموقف الذي يمكن للمرء أن يضعه. بعد هزيمة اليابان في عام 1945، كان تاكيوشي يوشيمي واحداً من هؤلاء المثقفين القلائل الذين انخرطوا في الفحص الجاد للأخلاق اليابانية في علاقتها بالصين، واعترفوا علناً بأن الحرب التي خسرتها اليابان للتو كانت حرباً بين الأخلاق الصينية واليابانية. لقد أظهر ببراعة حتمية هزيمة اليابان على أسس اجتماعية واقتصادية وأخلاقية. ومع ذلك، كان تاكيوتشي أيضًا من القلائل الذين رفضوا تجاهل شرعية معينة فيما دفع الكثيرين، بما في ذلك فلاسفة تاريخ العالم، إلى خطاب التعددية، على الرغم من أنه كان خلال الحرب من بين أولئك الذين احتقروا واحتقروا رفض فكرة "مجال الرخاء المشترك الكبير لشرق آسيا" الذي دعا إليه أشخاص مثل فلاسفة تاريخ العالم. لقد حاول بكل الوسائل الحفاظ على الاهتمام الفكري بمشكلة الهيمنة الغربية، والتي لم تختف بالطبع بهزيمة اليابان. وبطريقة مشابهة لتعريف كوياما للتاريخ الأحادي، يلفت تاكيوتشي الانتباه إلى الطبيعة غير الطوعية للحداثة بالنسبة لغير الغرب. وهنا أيضا، يجب أن لا يدل مصطلح "الحداثة" على مفهوم زماني أو زمني فحسب، بل أيضا على مفهوم مكاني، بمعنى أهمية الحداثة بالنسبة للعلاقة المكانية بين غير الغرب والغرب. إن الحداثة بالنسبة للشرق، بحسب تاكيوتشي، هي في المقام الأول خضوعه لسيطرة الغرب السياسية والعسكرية والاقتصادية. لم يولد الشرق الحديث إلا عندما تعرض للغزو والهزيمة والاستغلال من قبل الغرب؛ أي أن الشرق لم يدخل العصر الحديث إلا عندما أصبح هدفًا للغرب. وعلى هذا فإن حقيقة الحداثة بالنسبة لغير الغرب تتلخص في رد فعلها على الغرب: ويصر تاكيوشي على أن رد فعلها يجب أن يكون كذلك على وجه التحديد بسبب الطريقة التي تتشكل بها الحداثة فيما يتصل بالإشكالية المتعلقة بالهوية الذاتية للغرب. الحداثة هي الاعتراف بأوروبا لذاتها، والاعتراف بذات أوروبا الحديثة باعتبارها متميزة عن ذاتها الإقطاعية، وهو الاعتراف الذي لم يكن ممكنا إلا في عملية تاريخية محددة حررت فيها أوروبا نفسها من الإقطاع (وتميز تحريرها بظهور رأس المال الحر في الاقتصاد، أو تأسيس الشخصية الحديثة كفرد مستقل ومتساوي في العلاقات الإنسانية). إن أوروبا ممكنة فقط في هذا التاريخ، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن التاريخ ممكن فقط في أوروبا. لأن التاريخ ليس شكلاً فارغًا من الزمن. إنه يتألف من حالة أبدية يكافح فيها المرء للتغلب على الصعوبات لكي يصبح بذلك على طبيعته. وبدون ذلك تضيع الذات، ويضيع التاريخ. ولا يمكن للغرب (أوروبا) أن يكون الغرب ما لم يسعى باستمرار إلى تحويل نفسه؛ الغرب ليس كذلك بشكل إيجابي، لكنه كذلك بشكل انعكاسي فقط. لها [رأس المال الأوروبي يرغب في توسيع سوقها؛ المبشرون ملتزمون بالتفويض لتوسيع ملكوت السماوات. ومن خلال التوتر المستمر، يسعى الأوروبيون إلى أن يكونوا على طبيعتهم. إن هذا الجهد المتواصل ليكونوا على طبيعتهم يجعل من المستحيل عليهم أن يبقوا على ما هم عليه في أنفسهم. يجب عليهم أن يخاطروا بخسارة أنفسهم لكي يكونوا أنفسهم. إن فكرة التقدم أو التاريخانية ستكون غير مفهومة دون الرجوع إلى هذا البحث المستمر عن الذات، وهي عملية متواصلة من التركيز على الذات.


لقد أدى تحرر الغرب من نفسه حتماً إلى غزوه للشرق. وفي غزوها للشرق، «[واجهت أوروبا التباين، ووضعت نفسها في معارضة له». وفي الوقت نفسه، أدى الغزو الأوروبي إلى ظهور الرأسمالية في الشرق. لا شك أن تأسيس الرأسمالية هناك كان نتيجة لتوسع بقاء الغرب، وكان يُعتقد أنه يشهد على التقدم في تاريخ العالم وانتصار العقل. وبالطبع، ردت المشرق على توسع الغرب وقاومته. ومع ذلك، في هذه المقاومة بالذات، تم دمجها في سيطرة الغرب وخدمت، كلحظة، نحو استكمال تاريخ العالم الأوروبي المركزي والأحادي. في هذا المخطط، كان على الشرق أن يلعب دور الوعي الذاتي الذي فشل في إعادة التأكيد الجدلي المستمر وإعادة النظر في الغرب باعتباره وعيًا ذاتيًا واثقًا من نفسه؛ كما أنه كان بمثابة كائن ضروري في تشكيل الغرب كذات عارفة. وهكذا كان من المتوقع أن يقدم الشرق سلسلة لا نهاية لها من الأشياء الغريبة والمختلفة، والتي من خلالها يتم التأكيد ضمنيًا على ألفة أشياءنا. لقد تشكلت معرفة الأشياء الشرقية على غرار علاقة القوة القائمة بين الغرب وموضوعه الآخر، وكما هو موضح في كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، فقد استمرت في تأكيد وترسيخ تلك العلاقة. ولكن يجب ألا ننسى أن الشرق المعروف بهذه الطريقة لا يمكن تمثيله لنفسه؛ ولا يمكن تمثيله إلا للغرب. فمن ناحية، الغرب محدد، على عكس ما هو غريب عنه؛ فهو يحتاج إلى الآخر من أجل هويته. ومن ناحية أخرى، فإن الغرب موجود في كل مكان وغير مرئي لأنه يفترض أنه شرط لإمكانية الصلاحية العالمية للمعرفة. فقط في الحداثة تكون العالمية ممكنة باعتبارها عالمية غربية في الأساس. لكن تاكيوشي يقول: الشرق يقاوم. ويكرر مصطلح المقاومة . الشرق يقاوم. إنه يزعج هيمنة الغرب. ومن المهم أن نلاحظ أن تحديث الشرق كان مدفوعًا بهذه المقاومة. وهنا يؤكد تاكيوتشي على أنه لو لم يقاوم الشرق لما تم تحديثه أبدًا. وبناء على ذلك، لا ينبغي النظر إلى تحديث الشرق على أنه مجرد تقليد للأشياء الغربية، على الرغم من وجود حالات كانت فيها إرادة المقاومة ضعيفة للغاية، كما هو الحال في تحديث اليابان. وكما يتبين من حقيقة أن الشرق كان عليه أن يقوم بالتحديث ويتبنى أشياء من الغرب لكي يقاومه، فإن تحديث الشرق يشهد على تقدم أو نجاح للغرب، وبالتالي، فهو دائمًا تغريب أو أوروبي. لذا يبدو بالضرورة أن الشرق، حتى في مقاومته، خاضع لنمط التمثيل الذي يهيمن عليه الغرب. ومحاولتها مقاومة الغرب محكوم عليها بالفشل؛ فالشرق لا يستطيع أن يشغل منصب الذات. هل من الممكن إذن تعريف الشرق بأنه ذلك الذي لا يمكن أن يكون ذاتًا أبدًا؟


ولا يعتبر الغرب ولا الشرق مرجعين مباشرين. إن وحدة الغرب تعتمد كليا على الطريقة التي يتم بها التعامل مع المقاومة في تجميع هويتها الذاتية. في هذه المرحلة، يبدو أن تفسير تاكيوتشي لمصطلح المقاومة بدأ يتأرجح بين قراءتين مختلفتين. وفي الوقت نفسه، يشير تاكيوشي إلى أن الشرق لا يتضمن أي قواسم مشتركة داخلية بين الأسماء المندرجة تحته؛ وهي تتراوح من مناطق في الشرق الأوسط إلى تلك الموجودة في الشرق الأقصى. ولا يكاد المرء يجد أي شيء ديني أو لغوي أو ثقافي مشترك بين تلك المناطق المتنوعة. فالشرق ليس وحدة ثقافية أو دينية أو لغوية، ولا عالما موحدا. فمبدأ هويتها يقع خارج نفسها؛ وما يمنحه بعض الشعور الغامض بالهوية هو أن الشرق هو ما يستبعده الغرب ويشكله في خدمة تقدمه التاريخي. فالشرق منذ البداية ظل للغرب. ولو لم يكن الغرب موجودا، لما كان الشرق موجودا أيضا. ووفقا لتاكيوتشي، هذا هو التعريف الأساسي للحداثة. بالنسبة لغير الغرب، تعني الحداثة، قبل كل شيء، حالة الحرمان من ذاتيتها. فهل يتعين على غير الغرب إذن أن يكتسب ذاتيته الخاصة؟ إجابته تحمل نوعاً من الغموض الذي يميز حجته بأكملها. "لأنه لا توجد مقاومة، أي أنه لا توجد رغبة في الحفاظ على الذات (الذات نفسها غير موجودة)." وغياب المقاومة يعني أن اليابان ليست شرقية. ولكن في الوقت نفسه فإن غياب الرغبة في صيانة الذات (اللاذات) يعني أن اليابان ليست أوروبية. وهذا يعني أن اليابان لا شيء. يقول تاكيوتشي "اليابان لا شيء". ولكن هل اليابان دولة غامضة وغير متبلورة حقاً، ومن دون أي ميل نحو التركيز على الذات؟ ولأن اليابان لا ترغب في أن تكون نفسها، أو أن تضع نفسها من جديد، فإنها تفشل في أن تكون نفسها، كما تفشل في أن تكون مثل الغرب. إن إدانته لليابان المعاصرة تجعل الأمر يبدو كما لو أن اليابان لم يكن لديها أي تمثيل لنفسها؛ وكأن لم تكن هناك دولة تفرض الشعور القومي على من يعيشون في المنطقة؛ وكأن من يعيشون في المنطقة لا يتماهون مع الأمة؛ كما لو أن الأمة المسماة اليابان كانت موجودة منذ آلاف السنين كمجتمع طبيعي فقط. اليابان دولة حديثة. وعلى وجه التحديد، في إطار جهودهم للحفاظ على أنفسهم، نظم الناس في الأراضي اليابانية أنفسهم كأمة ومثلوا أنفسهم في حالة تلك الأمة. كيف يمكن لأمة لا تشعر بالهوية أن تشن حرباً استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً، وأسفرت عن قدر هائل من الدمار البشري والاقتصادي؟ ويبدو أن تاكيوتشي وقع في فخ الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحداثة، والذي بموجبه ما دام الغرب حديثاً فإن اليابان لابد أن تكون ما قبل الحداثة أو على الأقل غير حداثة. وبدلا من تحليل اقتران الغرب وغير الغربي الذي يستبعده الغرب، يفترض تاكيوتشي صحة هذا الاقتران في الحديث عن اليابان. ويبدو أن هذا الأمر مستمد من اقتناع تاكيوشي بأن التصدي للعدوان الغربي يستلزم من غير الغرب تشكيل دول. ومن ثم فإن ما هو غير متجانس بالنسبة للغرب يمكن تنظيمه في نوع من المقاومة المتجانسة ضد الغرب، ولكن داخل الأمة يجب أن يسود التجانس. وبدون بناء ما أسماه هيغل "المجال المتجانس العالمي"، ستكون الأمة مستحيلة. لذلك، سواء كنت ترغب في ذلك أم لا، فإن عملية التحديث في تشكيل الأمة بأكملها يجب أن تستلزم تبعية عدم التجانس في الداخل. ألن يعيد إنتاج نفس النوع من العلاقة بين الأمة ككل والعناصر غير المتجانسة فيها كتلك التي بين الغرب واللاغرب؟


وبقدر ما يفقد تاكيوتشي إيمانه بالتحرر العالمي للبشرية، فمن المؤكد أنه من أشد المدافعين عن الحداثة. ولذلك فهو يعتقد أن تاريخ العالم الأحادي هو، بعد كل شيء، حتمية، وبالتالي، فإن التحرر العالمي لن يتحقق عن طريق الغرب بل عن طريق الشرق. ويقول إن الموضوع الحقيقي في التاريخ هو الشرق. وفي هذه الأثناء، علينا أن نتحمل إزالة التباين من أجل بناء الأمة، موضوع التاريخ. من المضلل القول بأن تاكيوتشي مناهض للحداثة؛ فهو يرفض جوانب محدودة فقط من التحديث.في المقابل، يمكن للمرء أن يرصد خيطاً يوحي بقراءة مختلفة لمصطلحه المقاومة. بالنسبة للشرق، من المفترض أن لا تساهم المقاومة أبدًا في تشكيل هويته الذاتية. هنا، يهتم تاكيوتشي بشيء أساسي لمشكلة الحداثة والغرب برمتها.


لا أعرف ما هي المقاومة. لا أستطيع منطقياً أن أتابع معنى المقاومة… أخشى الاعتقاد العقلاني بأن كل شيء يمكن إحضاره إلى الوجود. إنني أخشى من ضغط الإرادة غير العقلانية التي تكمن وراء الاعتقاد العقلاني. وبالنسبة لي يبدو أن هذا هو [جوهر أوروبا. [حتى وقت قريب لاحظت أن هذا الشعور بالخوف يطاردني. عندما أدركت أن العديد من المفكرين والكتاب في اليابان، باستثناء عدد قليل من الشعراء، لم يشعروا بما شعرت به ولم يخافوا من العقلانية، وعندما لاحظت أن ما أنتجوه باسم العقلانية - بما في ذلك المادية - لم يكن كذلك. تبدو وكأنها العقلانية، شعرت بعدم الأمان. ثم صادفت لو شون. لقد رأيت لو شيون يتحمل هذا النوع من الخوف بنفسه... إذا سُئلت "ما هي المقاومة؟"، فإن الإجابة الوحيدة التي أملكها هي "هذا ما تجده في لو شيون".  تأتي المقاومة من خوف عميق الجذور من إرادة تمثيل كل شيء، وهي الإرادة الضرورية للذاتية الحديثة. يجسد لو شيون جهدًا يائسًا لمقاومة الذاتية، ومقاومة الخضوع للذاتية، وأخيرًا مقاومة الخضوع للذات. بالنسبة للو شون، من المستحيل أن يتخذ موقفًا مراقبًا وغير مبالٍ، أي موقف الإنسانية. بالنسبة للأحمق [لو شون نفسه لن يتمكن أبدًا من إنقاذ العبد كما تأمل الإنسانية بسذاجة… العبد عبد على وجه التحديد لأنه يسعى إلى الخلاص. ومن ثم، عندما يستيقظ، سيكون في حالة "لا يوجد طريق يجب اتباعه"، في حالة "أكثر اللحظات إيلامًا في الحياة". سيتعين عليه تجربة حالة الوعي الذاتي بأنه عبد. وعليه أن يتحمل الخوف. بمجرد أن يستسلم ويطلب المساعدة، فإنه سيفقد الوعي الذاتي بوضعه كعبد. بمعنى آخر، حالة "لا طريق يجب اتباعه" هي حالة اليقظة، فإذا كان لا يزال يعتقد أن هناك طريقًا يجب السير عليه، فلا بد أنه يحلم.  ويواصل تاكيوشي يجب على العبد أن يرفض هويته العبودية، لكن في الوقت نفسه، يجب عليه أن يرفض حلم التحرر أيضًا. يجب أن يكون عبدًا لديه أقصى إحساس بوضعه البائس، ويظل في "حالة اليقظة الأكثر إيلامًا في حياته". يجب أن يظل في الحالة التي يرفض فيها الرغبة في أن يكون شخصًا آخر غير ما هو عليه، نظرًا لعدم وجود طريق يمكن اتباعه. هذا هو معنى اليأس الموجود في لو شيون والذي يجعل لو شيون ممكنًا... لا يوجد مكان للإنسانية هنا. والمقاومة قبل كل شيء هي التي تعكر صفو العلاقة التمثيلية المحتملة بين الذات وصورتها. إنه شيء يقاوم تشكيل تلك الهويات التي تخضع الناس لمؤسسات مختلفة. لكن هذا لا يحررهم؛ وهذا لا يؤدي إلى التحرر، لأن الناس غالبا ما يخضعون لأكثر ما يخشونه من خلال كلمات التحرر. ربما ينبغي للمرء أن يتركهم في نومهم بدلاً من "البكاء بصوت عالٍ لإيقاظ عدد قليل من الأشخاص النائمين، مما يجعل هؤلاء القلة التعساء يعانون من عذاب الموت الذي لا رجعة فيه". ولكن إذا كان المرء مصمماً على أن يكون مستيقظاً، فيجب عليه على الأقل أن يقاوم أمله في الذهاب إلى أبعد من ذلك. ويبدو أن ما مكن تاكيوتشي من انتقاد الحداثة يأتي من هذا الشعور بالمقاومة، على الرغم من أن تاكيوتشي يوافق عليه في كثير من الأحيان. وهذا ما يفرقه عن أولئك الذين يتخيلون بسذاجة إمكانية التغلب على الحداثة. وبنفس بادرة التحرر، يقعون جميعا في الفخ الذي نصبته لهم الحداثة. ومع تخلي تاكيوتشي عن الإيديولوجية التحررية، فقد أصبح بوسعه أن ينتقد الحداثة بشكل أكثر فعالية على الرغم من التزامه ببعض القيم الحداثية. إن الشعور بعدم اليقين الذي يثيره مصطلح ما بعد الحداثة قد يشير إلى الانتشار التدريجي لهذه المقاومة. أعتقد أنني أفهم مصطلح "مسرحية" بشكل أفضل عندما أربطه، ربما بشكل غير مبرر، بما رآه تاكيوتشي في لو شيون. في هذه المرحلة فقط يمكن للمرء أن يتحدث عن الأمل، ولكن بتردد، تمامًا كما فعل لو شيون في قصته القصيرة "بيتي القديم". وصول الأمل جعلني أشعر بالخوف فجأة. عندما طلب جون تو المبخرة والشمعدانات، ضحكت عليه بشدة، لاعتقادي أنه لا يزال يعبد الأصنام ولن يخرجها من عقله أبدًا. ومع ذلك، فإن ما أسميه الآن الأمل لم يكن أكثر من مجرد صنم صنعته بنفسي. كان الاختلاف الوحيد هو أن ما كان يرغب فيه كان في متناول اليد، في حين أن ما كنت أرغب فيه لم يكن من السهل تحقيقه.وبينما كنت أغفو، انتشر أمام عيني شريط من شاطئ البحر ذو اللون الأخضر اليشم، وفوق قمر ذهبي مستدير يتدلى من سماء زرقاء عميقة. فكرت: لا يمكن القول بأن الأمل موجود، ولا يمكن القول بعدم وجوده. إنها تمامًا مثل الطرق عبر الأرض. في الواقع لم يكن للأرض أي طرق لتبدأ بها، ولكن عندما يمر العديد من البشر في اتجاه واحد، يتم إنشاء طريق." بقلم ساكاي ناوكي


الرابط

https://www.multitudes.net/Modernity-and-Its-Critique-The