الأدب رسالة انسانيّة , والرساليّة مهمة في الشعر وقد تكون رسالة جماليّة فنيّة أو رسالة اجتماعية , فالرسالة الجمالية الفنية تعني الغوص في تجربة الشاعر عميقا بينما الرسالية الاجتماعية تعني كل ما يكون خلف النصّ من رسائل وبوح . وتظهر ملامح الرساليّة الاجتماعية بأشكال مختلفة كـ / البوح التوصيلي / والبوح الأقصى / والبوح التعبيري. فتتحول اللغة الى كمْ هائل من الإيحاءات, والرموز ,والدلالات, والعواطف والمشاعر والأحاسيس فتخترق مواطن الشعور والإحساس بالجمال , لغة مدهشة ذات فنيّة عالية واضحة , لغة قويّة مبهرة تمسّ القلب والشعور , فتتحول المفردات الى نزف مستمر بالتأوهات, والدموع والصراخ ,والصمت, والمآسي ,والبؤس, والعطش ,والهزيمة .
أنّ قصيدة الشاعرة / سرْوَي بَيان - هل نحن من البشر؟! / تبدو للوهلة الأولى قصيدة عاديّة تعبّر عن حالة إنسانية ذاتيّة عاشتها وتعيشها الشاعرة , لكن مفردة واحدة / أخوة / قلبت كيان هذه القصيدة وجعلتها قصيدة كونيّة عظيمة , هذه المفردة صنعت فضاءات واسعة من الرؤى والدلالات لدى المتلقي الإبداعي , المتلقي الذي يقرأ بروح الشاعر ويشاركه محنته وعذاباته , هذه المفردة أرتقت كثيراً بهذه القصيدة , وعبّرت عن محنة إنسانية , وابتعدت كثيراً عن الذاتيّة , وعبّرت بصدق عن واقع هشّ , وعن حيرة إنسانية وسط هذا الاضطراب والتشظّي . نعم وجود مفردة / أخوة / في هذا الموقع من القصيدة ,وفي نسيج القصيدة ,جعلها حلقة مهمة أضافة للقصيدة قوّة وتماسكاً وحركيّة استمرت داخل القصيدة , وجعلها جذوة لا تنطفئ متقدّة لا يخبو أوراها , كذلك منحتها صبغة إنسانية كونيّة , ومشهداً شعريّاً يحتكّ بهذا الواقع , ويصور محنة الأنسان وسط هذه الاحداث الكونيّة المتسارعة , لقد جاءت القصيدة محمّلة بالهمّ الإنساني , وتقطّر وجعاً كونيّا .
لنعد الى عنوان القصيدة/ هل نحن من البشر؟!/ ونقرأه بتمعن , سنجده الباب الذي من خلاله سندخل الى عوالم الذات الشاعرة, فهو جاء على شكل سؤال وتعجب, فهنا نجد القصدية المتعمدة من الشاعرة في اختيار هذا العنوان من جهة, ومحاولة توجيه سؤال الى المتلقي , وجذب انتباهه.
لقد استطاعت الشاعرة من خلال هذا العنوان مخاطبة الذات الأخرى/ أخوة/ التي تعني الأخوة الإنسانية بكل معانيها ومفاهيمها ودلالاتها ورمزيتها , الأخوة الأقرب داخل الأسرة , والأخوة القريبة داخل الوطن , والأخوة البعيد في هذا العالم الشاسع , أنّه سؤال أمرأه منكوبة ترقص مذبوحة على وجعها وغربتها وسط هذا العالم . وتبدأ الشاعرة قصيدتها بـ
ليت نحيا بحبور
ندندن حتى آهاتنا بسرور
فقد شهدنا حتى في أبهى العصور
أعتى أهوال الحروب والفجور
لمْ نكسب حتى أكفاناً وشواهد قبور
ولا أشلاء تقتات عليها الضواري والطيور
فبدأت بـ / ليت / التي تدلّ على استحالة العيش بهناء وسلام , وكأنّ الأخطار تحدق بالذات الشاعرة في كلّ زمن, حتى وهي تدندن آهاتها والتي هي آهات شعب كامل, فقد رافقتها المحن في كل زمان ومكان, حتى في العصور التي يطلق عليها عصور التنوير والتسامح , وفي كل مكان حلّت به الذات الشاعرة, لا شيء عاد بالإمكان الحصور عليه , حتى الاكفان وشواهد القبور كانت عصية وغير متحققة , وكأن الذات الشاعرة تريد ان تقول لنا: لمْ نجد الاكفان لتواري سوءة هذا العالم , وعدد الجثث التي تساقطت في طريق الحرية , ولا شواهد قبور تكفي , ولمْ يبق من أجساد القتلى شيئاً تقتات عليه الكواسر والوحوش, أننا أمام محنة انسانية عيظمة.
وسط هذه المحرقة الكونيّة تقف الذات الشاعرة مذهولة تبحث عن بصيص نسيان تستغيث به علّه يبعث في روحها القلقة بعض السكينة والاطمئنان , أنّه صوت الإنسانية المحطّمة والمكسورة الجناح , الإنسانية التي اغتالتها رصاصات الجريمة البشعة فاستسلمت لهزيمتها , فها هي تصرخ:
فاسمعوني يا جهابذة الدهور
مهما يكن أيُكُم:
ملكاً أم صعلوكاً
فيلسوفاً أم معتوهاً
راعياً أم وزير
ثمة ما يخالجني
ويستوقفني مراراً:
ألا وهو : لو كنّا اصدقاءً حقّاً وحقيقة
لكنّا نحمل الكروب عن بعضنا البعض
أننا أمام صرخة انسانية وسؤال للعالم أجمع , تقف بوجه هذه الريح المسعورة التي شيّأة الذات الإنسانية, واحالتها إلى حالة العدم والتلاشي والضياع . لكن تبقى الذات الشاعرة حيّة رغم كلّ هذا الضياع والوجع والتلاشي وسط هذا اللهب المستعر. وتستمر الذات الشاعرة قائلة:
لو كنّا اخوة حقّا وحقيقة
لكانت قلوبنا تتصافح
وندافع عن ديارنا بكلّ قوانا..
لو كنا مخلصين لجيرتنا
لكنّا نسقي مزارع بعضنا البعض
في غياب بعضنا
ونظفنا حتى عقولنا وضمائرنا
من الاشواك والعفن ..
ان استخدام الذات الشاعرة الى حرف الشرط/ لو/ فهو حرف امتناع لامتناع , اي يتوجب في حصول الامر الثاني حصول الامر الاول, فاذا امتنع الامر الثاني عن الحصول , كان ذلك بسبب امتناع الامر الاول, فالقلوب لا تتصافح مادامت الاخوة مفقودة بيننا, ولا يمكننا ان نكون مع بعض نتعاون فيما بيننا ما دمنا غير مخلصين لبعضنا, ومادامت العقول والضمائر عبارة عن أشواك وعفن يسكن فيها.
هكذا هي الروح الشاعرة نجدها توّاقة للسلام بينما الارواح تتعفن وسط هذا الاضطراب والهزيمة . وتعود مرة اخرى تتساءل الذات الشاعرة:
فاين نحن من كلّ هذا وذاك؟!
يا له من سؤال يلازم ذهني
قلبي, روحي, ووجداني
بل يضاعف حيرتي
فأتساءل من قبل ومن بعد:
يا ترى هل نحن من فصيلة البشر
ونعيش في يوتوبيا السلام؟
وسط هذا المشهد الكونيّ المفزع تقف الشاعرة تتملّكها دهشة عظيمة لما يحدث في هذا العالم ولا تجد أجوبة تطمئن لها لما حدث ويحدث , فهناك سؤال يدور في ذهن الذات الشاعرة , سؤال أرّقها كثيراً , وأقلقها جداً, ولم تجد له جواباً منطقياً يبدد مخاوفها وحيرتها .
وختاماً نجد حضور الأنا الشاعرة بقوة متمثلة بشعب كامل , الذات العاشقة للسلام والحرية والاخوة, الشعب الذي ظلّ يكافح طويلاً , كفاحاً مستمراً من أجل الحرية والسلام والعيش بكرامة فوق ارضه , وتحقيق أحلامه التي يريدها :
وأنا الشاعرة الكردستانية
داعية السلام
ليس في وسعي سوى القول في الختام:
سلاماً مسرّة على كل من اتبع السلام.
هكذا تنهي الشاعرة قصيدتها بالدعوة الى السلام بعدما اختلت كلّ الموازين وتكالبت الذئاب تنهش روح الأخوة الإنسانية . اننا امام رسالة كونيّة كانت الشاعرة الشاهد عليها وعلى فضاعة هذه الجريمة, اننا أمام لوحة انسانية أجادت الذات الشاعرة في رسمها , وايصالها الى المتلقي ,كرسالة انسانية كونية , تشبه معاناة الكثير من الشعوب المناهضة للعنصرية , والدكتاتوريات المتسلطة على رقاب الشعوب, لقد حملت الذات الشاعرة محنة شعب كامل , وصرتها بصدق ودون تكلف ,فجاءت متسلسلة تخترق شغاف القلوب العاشقة للسلام , والأخوة .