إيـد بـإيـد/ روميو عويس


1
هيكي ضروري نْضَل إيد بإيد
ونتمَسَّك بخيط الامل.. لبعيد !.
تا الليل يقفا.. والظلم يغفا !..
ويشرق على لبنان فَجر جديد
2
تْرَكنا الوطَن !..
صار الهَجر منفى !..
لمّا الهجر قسري..
بكي وتنهيد !..
لمّا جروح الشوق ما بتشفى
ولمّا حنينك للوطن.. بيزيـد
وجانحَك بـردان.. ما بيدفـا
الاّ بوطن كان الفرح والعيد
يـا رب.. ايّـام العياد تـعـيـد

الاتحاد الأوروبي ومستقبل الدولة الفلسطينية/ سري القدوة

لقد لعب الاتحاد الاوروبي دورا مهما في صناعة السلام بالمنطقة العربية وخاصة على مستوى انهاء الصراع العربي الفلسطيني ووقف الاتحاد الاوروبي داعما اساسيا لاتفاق اوسلو وتعهد بالدعم المالي خاصة تمويل رواتب موظفين السلطة الوطنية الفلسطينية بالإضافة الى اقامة مشاريع هامة تسهم بدعم قيام الدولة الفلسطينية وتدريب الكوادر الاساسية لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية وتوفير الدعم الاساسي لقوات الامن الفلسطينية ومؤسسات التعليم والصحة والقطاع الزراعي عبر اعتماد اقامة وتمويل مشاريع حيوية في فلسطين هدفها الاساسي دعم الاستقلال الفلسطيني ضمن خطة السلام التي عرفت باتفاق غزة اريحا اولا .

ان الجهود الاوروبية الاساسية تجاه عملية السلام واجهتها بالمقابل اليات القمع الاسرائيلية التي عملت ومنذ البداية وبشكل ممنهج على تخريب مؤسسات الدولة الفلسطينية وتدمير ما تقوم السلطة الفلسطينية مستهدفين كل المشاريع الحيوية الهامة التي اقدمت السلطة علي انجازها من مطار غزة الدولي ومبانٍ ادارية لمختلف الوزارت الفلسطينية ومشاريع الطاقة وجسور وأبراج ومبانٍ سكنية لتدمر ما عملت السلطة على بنائه وتفرض واقعا احتلاليا استيطانيا جديدا بداخل الاراضي الفلسطينية المحتلة .

لقد شكل دعم الاتحاد الاوروبي احد اهم المكونات الاساسية للدولة الفلسطينية والتي شهد لها اغلب المؤسسات الاوروبية وقدرة السلطة الفلسطينية في بناء مؤسسات الدولة بكفاءة عالية وأداء وشفافية مطلقة وتعزيز الاعتماد على الذات وتنمية المؤسسات الاقتصادية القادرة على بناء اقتصاد فلسطيني لتحقيق التنمية المستدامة وتوفر العيش الكريم والعمل على تعزيز قيم الشراكة والتعاون المستمر مع دول الاتحاد الأوروبي وخاصة في مجالات التعليم والصحة وحقوق الإنسان وتعزيز قيم الديمقراطية واحترام المواثيق الدولية التي عمدت سلطات الاحتلال على اختراقها بشكل فاضح واستمرت في سياساتها التعسفية وممارساتها القمعية بحق الشعب الفلسطيني لتدمير الدولة الفلسطينية ومؤسساتها.

انه وفى ظل قبول الشعب الفلسطيني عملية السلام بهدف اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والقدس عاصمتها وفقا لحدود الرابع من حزيران عام 1967 كسبيل لحل القضية الفلسطينية تعرضت عملية السلام لتدمير الممنهج بسبب استمرار حكومات الاحتلال الاسرائيلي المتعاقبة في سياساتها الرافضة لكل مبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي ومبادئ حقوق الانسان وتنكرها لكل الاتفاقات التي وقعت برعاية دولية وضرب اتفاق أوسلو عام 1993 بعرض الحائط واعتباره لم يكن ومجرد حبر على ورق في تحد حقيقي لإرادة المجتمع الدولي ولدول الاتحاد الاوربي والعالم اجمع والتي كان آخرها إعلان حكومة الاحتلال العسكري الاسرائيلي قيامها بضم أراضٍ فلسطينية محتلة والإعلان عن خطط استيطانية توسعية في مناطق وادي عربة وتغير الواقع الديمغرافي الذي يؤدي بالنهاية الي تدمير المقومات الاساسية للدولة الفلسطينية .

ان مخططات الاحتلال لم تكن بمعزل عن الدعم الامريكي وتوفير الحماية والمساندة الكاملة من قبل الإدارة الأميركية التي انحازت بشكل كامل لصالح الاحتلال وجرائمه عبر اتخاذها لسلسلة من  القرارات الغير عادلة والتي تهدف الي تصفية القضية الفلسطينية بشكل مخالف لكل قرارات القانون الدولي والشرعية الدولية ولقد اصبحت الولايات المتحدة برئاسة ترامب غير مؤهلة للاستمرار بعملية السلام في الشرق الأوسط مما يتطلب العمل مع دول الاتحاد الاوروبي من اجل حماية مسيرة السلام واتخاذ الخطوات اللازمة وعلى كافة الاصعدة للسعي وبشكل عاجل لعقد مؤتمر دولي جديد لعملية السلام ليشكل قاعدة اساسية من اجل اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وتحقيق السلام العادل والشامل القائم على قرارات الشرعية الدولية.

نئد قرينة النهار/ حسن العاصي

1
لا يقوى ريش القلوب
على أرجوحة الانكسار
قد مللنا السقوط
بين أشواط الريح
أضعنا ملامح الأجنحة
محموم دربنا بالحزن
وعلى أطراف بساتيننا النائية
يذبل ورد الصباح
أمهِلونا بيدراً
بين الرمل والريح
فقط أعطونا
ملاذاً للاندحار

2
يستل الجرح المدية
من عمق النداء
يقطع صوت الألم
الهزيع الأول
من مسافة الصراخ
قد يشبه الوجد
صمت المكلوم
أو صِياحه
قد تتربص المرايا
بالذئاب
وتتحجر أجنحة السكون
لكننا
في سعي الصبح
الذي لا يهدأ
نرتشف كل ليلة
كأس الضوء وننام

3
يزاحم القمح صفرة الشحوب
إذ ما نضج الوعد
وتشظّت أورق الأفق
يتقاطر حزن الغرباء
في البيادر الشمالية
نقف فوق الأرصفة المهجورة
ونهوي
مثل دموع الحقائب
فوق ضجيج المناديل
تتوالد المراكب
والرحيل حريق
يغتال سَكينة المكان
والوقت يمتشق ظلالنا
ثم يموت

4
بلا عقارب
يسير الوقت المرتعش
فوق وجه الغبار
قوافل الريح
تعانق القناديل الحزينة
في فوضى الوصول
تسقط قامة الضوء
يستنهض الفراش
ألوان التحليق
لكن الشقاء الكامن
بين ركام الجسر
يتوالد حجارة صمّاء
تطوف حولها
دروب التعرج
ما زلنا في حيرتنا
نئد قرينة النهار




مع مين؟/ روميو عويس

1
كتار البها اليومَـيـن سـألوني
بهالانتفاضه موقفك مع مين؟
لا تسـألوني.. قارن عـيونـي
تْنَينُن غوالي.. تنينُن مهمّيـن
2
لبنان حبّي وتـربتـو جـنـونـي
مهما بعدت والعمر عَدّ سنين
زغرتـا وحلبا بمنزلة جـونـه
وطرابـلس وبعلبك وصَـنّـيـن
ومشـغـرة وعَـنـجَـر وبـلّونـه
وصيدا وحاصبيّا وبيت الدين
البترون.. بـكفـيّا.. الـيـمّـونـه
وكل الضِّيَع عندي متل رشعين
3
واللي بأعلا الصوت وَعّـوني
الكل أهلي.. وكلهُـن حـلـويـن
رايـة وَطَـنّـا بـإيـدهُـن قـونـه
انشالله بـيـبـقو هيك متحـديـن
4
وقلقـان قَـلبي.. لا تـلـومـونـي
وخايف!..
يكونو "المايسترو" شـياطيـن
نـفـوسـهُـن احـقـاد مَشـحـونـه
وعندُن نوايا سود.. غشّاشـين
صدورهُـن بـالـشـر مَسكونـه
ووجـوهُهن بالخير مطلـيّـيـن
زعـما.. لغير بلاد مَـرهـونـه
والناس للاضراب مَـدفـوعين
يا ربّ دخلَك خَـيِّب ظـنـونـي
واحمي بلادي وشعبها المسكين

وفاء الحب/ محمد محمد علي جنيدي

وما للحزنِ يُبكينا
وقد ذابتْ مآقينا
وفاءُ الحبِّ مُذ رحلتْ
وأبكتْ كُلَّ ما فينا
عيونُ الجرحِ نازفةٌ
وبالأوجاعِ تَأْتِينا
ولولا اللهُ يَرحَمُنا
لكاد الحزنُ يُفْنِينا
ألا يا فجرُ أخْبِرْها
بأنَّ الوجدَ يُبْلينا
ونرجو رُوحَها تأتي
كما كانتْ تواسينا
فتُلْقي في ضمائرِنا
سلامَ اللهِ يحمينا
فذكرَاها التي أبْقَتْ
ستسرِي في ليالينا
كنُورٍ مِنْ سماحتِها
كحُلْمٍ مِنْ أمانينا
كصبرٍ مِنْ عزيمتِها
يُحيلُ الشَّوكَ نسرينا
وفاءُ الحبِّ كم زرعتْ
يقيناً لم يزل فينا
ألا قد طاب مقعدُها
ونحن في تآسينا
سنُرضِي ربَّنا فيها
وربُّ العرشِ شافينا
 – مصر

رؤية نقدية للمجموعة القصصية "عبور فى ذاكرة الوطن للأديبة الروائية" ايمان الدرع/ الدكتور حمدى حمودة

سيق لنا أن تفردنا برؤى نقدية فى أعمال سابقة للأديبة ايمان فى شكل دراسات تناولنا فيها أعمالها القصصية الخمس السابقة المعنونة ( بعيون المها ) وروايتها الأخيرة ( قمر على ضفاف النيل ) التى بلغت فيها رقى أدبى قارب العالمية عندما وظفت المنهج الفلسفى الذى طوع ألفاظ الأدب الى نهج فلسفى تفرد به من قبل الأديب الفيلسوف العربى نجيب محفوظ صاحب جائزة ( نوبل للسلام ) كأول أديب عربى يقلد بهذه الجائزة .        الأديبة حرصت على صعود السلم دون توقف ودون الثبوت على درجة لا تتزحزح عنها ، طامحة فى عبور القارات الخمس ، فاعتبرت التجديد منهجها ، لذلك سمت وارتقت فى أحرفها عندما اجتاح المسلحين بلادها لينهبوا خيراتها ، ويدمروا مدنها ، ويقتلوا كل شيئ حى ، انسان كان أو حيوان أو زرع أو جماد ، محطمين بذلك حضارة عمرها عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، وظفوا من أجل تحقيق المطامع الصهيوأمريكية ، وملوك بعض امارت العربان الحاقدة على ثروات وخيرات وحضارة وطنها ، العاملين على تقسيمه والسطو عليه .
هذا الذى جندت ايمان نفسها من أجله ، فتفوقت على نفسها ، فكتبت وأرخت لحقبة تاريخية من عمر بلادها تعرضت فيها لحرب قذرة على مدى سبع سنوات أطلقت عليها السبع العجاف ، تروى فيها همسات ومشاعر دفاقة بشكل قصصى يدغدغ مشاعر قرائها داخل وخارج وطنها ، وكل من اضطرته ظروفه الى اللجوء الى دول الشمال أو الجنوب ، تروى لهم مالم يعيشوه ويتفقدوه ويتعاملوا معه بمشاعرهم . 
كان عليها الزام نفسها كأديبة عايشت هذه السنين المضنية ، تتنقل برؤاها تجوب كل محافظات شامها لتنقل الواقع كما هو ، حكايات رسمت فيها صور حية لمشاهد كانت لم تخطر لها أن يأتى يوما وترسم بريشتها تلك الصورة الحية ، اجتماعية وسياسية واقتصادية وعقائدية ونفسية وجنسية ، تجسدت وحدثت فى كل حروب العالم السابقة واللاحقة .
قلم الكاتبة لم يتوقف خلال هذه السنوات ، تشدها الصورة والعاطفة ، تخلت بعض الشيئ عن المنطق العقلى الصورى وحكمت مشاعرها وعواطفها التى يتحلى بها الأديب ، وهنا تشابهت مع الناقد والشاعر البريطانى- س . ت . اليوت الذى اتخذ من العاطفة منهجا له فى ابداعه الشعرى والمسرحى ونقده لفلاسفة وشعراء وكتاب سابقين ومعاصرين له ، استطاع اليوت أن يصل للعالمية بهذا المنهج الذى أخذ عنه من القرن التاسع عشر وحتى اليوم رغم مهاجمة بعض النقاد الأمريكين الذين نقدوه عند تخليه عن " الفكر وتحكيم العاطفة" ، يقول اليوت فى تعريفه للناقد الأدبى " ان الناقد الأدبى لايجب أن تكون له انفعالات غير تلك التى يثيرها فيه العمل الفنى فورا – وهذه الأنفعالات ... ربما لم يكن من الواجب اذا كانت سليمة ، ان تدعى انفعالات على الأطلاق ، وهى موجودة عند أرسطو فى القديم وعند الناقد ريمى دى جرمون فى الحديث ، ويقول اليوت أن النقد الجيد هو البعيد عن الأنفعال ، والأشخاص الأنفعاليون – كسماسرة البورصة والسياسين .
لا نغالى هنا اذا أكدنا أن ما قامت به مبدعتنا من نقد ونقل للصورة خلال هذه السنوات ، انما تطابقت فيه مع تعريف اليوت للناقد والكاتب الناقل للصورة بحواسه الصادقة وعواطفه النابعة من القلب ، محيدة الفكر فى رسم هذه المشاهد التى تنقلت بها من قصة الى أخرى .  
عندما ننظر فى قصة "بلا عنوان" ، كيف صورت مشهد الأطفال وهم يلعبون وسط أزيز الرصاص ولون الدخان الأسود ورائحة الحريق ،نجد الصورة هنا حية ناطقة ، لكونها صادرة من قلب مفعم بالعاطفة ، وعديد من المشاهد الأخرى فى نفس القصة ، ولو عبرنا فى ذاكرة وطن أخرى مثل " عندما تشتاق المدائن " ماذا تريد ان تقول ايمان ؟ ماذا تريد أن تصور ؟ هل تصور بعدسة عينيها أم بريشة مليئة بالألوان لمدن كانت وأصبحت ، كانت من أجمل مدن العالم ، وأصبحت دمارا ، ركاما ، عبثت بها يد البطش الحاقدة الطامعة فى مقدرات وثروات وخيرات بلادها . 
يقول اليوت - أن المبدع الحقيقى سواء كان شاعرا أو روائيا ، ينبغى أن يتوافر لديه احساس بالتقاليد الأدبية لوطنه ، والتقاليد تتضمن أولا الحاسة التاريخية ، أى ادراك قدم وعصرية الأداب فى آن واحد ، فهى قديمة لأن الماضى غير عليها ، وهى معاصرة لأنها لم تمت ، وانما ظلت ماثلة فى أذهاننا تفعل فيها فعلها ، وهذا معناه أنه لاقديم ولا جديد فى الأدب ، فكل أدب حى ، هو أدب معاصر ، حتى لو مضت عليه قرون . وهذا ينطبق
تماما على أدب وفلسفة ايمان - عندما توغلت بذاكرتها فى مدائن وطنها منذ ملايين السنين ماذا كانت ، وماذا أصبحت ، تعاملت مع أحاسيسها الصادقة التى حركت عواطفها فى رسم صورة خربة للمدائن بعد العبث بجمالها ، أحضرت الماضى وربطته بالحاضر ، فمن الماضى يكون الحاضر والمستقبل ، وربما كان المستقبل على الماضى .
هكذا تنقلت الأديبة فى رسم شخوص حكاياتها بين الحقب الثلاثة (الماضى والحاضر والمستقبل) ، تعبر من حقبة لحقبة ، تتذكر عندما كانت تستنشق هواء بلادها المليئ بالأكسجين ، واليوم تتنفسه وهو مليئ بدخان المدافع والقنابل ، تتذكر وطنها بين غاباته وجباله ووديانه وأنهاره ، فترسم صورة لنهر بردى التاريخى ، الذى يعلوه جسر ممتد طولا وعرضا شيد فى زمن الأستعمار الفرنسى أطلقوا عليه (جسر العشاق) ، ثم تنتقل لتصور لنا فى حكاية أخرى "جبل قاسيون" الشامخ الممتد على ملاين السنين ، الذى يضم فى كهفه حوارى عيسى الأربعون ، صورا متعددة فى حكايا ممتدة عبر التاريخ لكونها تحمل حاسة تاريخية تمكنها من استنباط تاريخها المعاصر مقارنة بماضيه . 
يقول اليوت " أن هناك صلة وثيقة للأدب بين الحاضر والماضى وأن الأدب بكل أشكاله شعرا كان أو قصصا أو روايات أو مسرحيات ، هو كائن عضوى حى يشمل كل ما قد كتب ، وأن ذهن المبدع عبارة عن اناء يختزن عددا لاحصر له من المشاعر والعبارات والصور ، يستبقيها فيه الى أن تتجمع الجزيئات التى يمكن لها أن تتحد وتكون مزيجا جديدا " وهذا كله ينطبق مع اديبتنا التى مزجت بين الحاضر والماضى فى تبلوهاتها الفنية الرائعة فى حكاية ( أنا وعازف الساكس ، ومواسم الكرز ، وحلب ياااحلب ) مشاهد حية من أرض المعركة متنقلة بين محافظات وطنها الشاسع ، وديانا وجبالا وسهولا ، واصفة ومصورة بحذق شديد حالات مواطنيها النفسية والأجتماعية والأقتصادية والسياسية ، علامات القلق والخوف والهلع من القادم .
عشق ايمان للوطن حرك فيها كل مشاعرها الصادقة ، فغلبت العاطفة على الفكر ، تتذكر كل ما اختزن من صور شفافة نقية فى الماضى البعيد والقريب لتقارن بينه وبين الحاضر الممثل أمامها فى السبع العجاف ، التى كانت سببا فى تشريد الملاين ولجوؤهم الى الخارج ، او النزوح الى الداخل ، كل منهم يحمل معاناته وجراحه وآلامه وعذاباته ، صورت الأنقسامات التى حدثت فى العائلة الواحدة بين الأخ وأخيه ، بين الزوج وزوجته ، هذا مع وهذا معارض ، رسمت بريشتها صورا للأفراح والمآتم بين أصوات المدافع وطلقات الرصاص ودخان الحرائق ، حملت أثقال وهموم وطنها على كتفيها تنسج من كل الخطوط التى تشاهدها وتعايشها الصورة المثلى المعبرة عن صدق مشاعرها .
كل هذه القصص والحكايات التى تناولتها ايمان فى عملها ، تعتمد فيها على الذاكرة ، ومثل هذه الذكريات قد يكون لها قيمة رمزية لأنها تغدوا ممثلة لأعماق الشعور التى بامكانها التوغل فيها ، حيث أنها تناقش مصدر الصورة التى أتت بها مجسدة فى حكياها وتحدثت عن طبيعتها ، وهذه مفارقة كبيرة بينها وبين كثير من المبدعين الروائين او القاصين ، وقد قام بهذه المهمة من قبل من الفلاسفة والنقاد الغربين أصحاب مذهب الصورة من أمثال " ازرا باوند ودفيد هيوم " فاذا ما طبقنا هذا على ايمان كقاصة وروائية لوجدناها غنية بالصور والذكريات – ووضحت القصد من ورائها ، ولايغيب عن أذهاننا العالمى نجيب محفوظ فى كثير من أعماله القصصية والروائية الغنية بالصورة والقصد من ورائها ، وكذلك الروائى العربى الكبير محمود المسعودى الذى أدهش النقاد والمثقفين وخاصة عميد الأدب العربى طه حسين الذى كتب له مقدمة (السد) 
عودة مرة أخرى الى اليوت الذى تتفق مع منهجه الأدبى النقدى الأديبة ايمان ، لنركز على بعض صفاته وخصائصه ، وهوكما يبدومن كتاباته – ناقد من أكبر نقاد القرن العشرين ، شاعر وأديب ، حاد الذكاء ، واسع الثقافة ، عالمى اللهجة - ومهما اختلف معه المرء فى آرائه فلن يسعه الا الأقرار له بهذه الصفات .
أو كما يقول كارل سابيرو: ان اليوت تجسيد للأدب الحديثوتعبير كامل عنه ، قد يسمح للمرء أن يختلف معه حول نقطة هنا ورأى هناك ولكن على ألا ينجاوز ذلك ، لقد أصبح شبيه بقلعة حصينة تمضى الحياة فى أسفلها وتظل هى قائمة فى مكانها كما هى .
قلليون هم أعمدة الأدب وهؤلاء القلاع الحصينة فى الشمال والجنوب ، خاصة بعد أن فرغت الساحة فى عصرنا هذا من أغلب مبدعى الفنون السبع ( الأدب بكل فروعه ،المسرح ، الشعر ،الرواية ،القصة والسينما والفلوكلور الشعبى والموسيقى والباليه وفن الأوبرا) كل هذه الفنون تضائلت لأسباب كثيرة لايسمح الظرف للتعرض لها ، لكنى أشرت اليها اشارة عابرة فقد أصبح المبدع الذى يجمع عدد من الملكات نادرا وجوده فى هذا العصر الذى تدنى فيه الأدب والأبداع عامة الى درجة الأنحطاط فى العالم . 
لذلك نحن نمسك بنواجزنا ، ونقف بقوة جانب من يتحلوا بهذه الملكات ويوظفوها توظيفا أدبيا رفيعا ، ومن هؤلاء مبدعتنا التى نحن بصدد مجموعتها القصصية السادسة ( عبور فى ذاكرة وطن ) التى شدنى جدا أن أجد فى أعمالها التى قمت بعمل تحليل ونقد لها من قبل ، وكان ذلك مع آخر أعمالها الروائية (قمر على ضفاف النيل) واليوم تحرك مشاعرنا بتماهيها العميق فى العديد من القصص المترابطة أحيانا والمتفردة بحبكة خاصة بها مثل ( سمية ، ياليلة العيد ، الثامنة تدق فى الوريد ، حدث فى العزاء) صورا متعددة تنفذ فى قلب قارئها لأنه يعيشها بشكل ملموس حى ملئ وجدانه .
يقول اليوت أن الوظفية الأساسية للنقد ، هى القاء الضوء على الأعمال الأدبية من الداخل ، وتصحيح أذواق القراء ، فلا ينبغى أن نقتحم على العمل الأدبى أشياء ليست من صميمه ، ولا نكرهه على مقاييسنا الأيدلوجية ، وانما علينا أن نراه كما هو فى حقيقة الأمر ، وهذا ماأظن ان ايمان تنقله لنا فى حكاياها المتنوعة على أوتار متنوعة وبصور مختلفة ولا نعلم اذا كانت قد قرأت من قبل عن هذا الناقد الشاعر العملاق- ت . س .اليوت أم لا .

بعد الهزّة الأرضية عام ١٩٢٧/ ترجمة ب. حسيب شحادة

After the 1927 Earthquake

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن الأكبر، يوسف بن أبي الحسن الحفتاوي (بن أب حسده، ١٩١٩-١٩٩٨، كاهن أكبر ١٩٨٧-١٩٩٨، معلّم الكثيرين) بالعربية على مسامع بنياميم صدقة (١٩٤٤- )، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، نقّحها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد١٢٣٢-١٢٣٣، ١ آذار ٢٠١٧، ص. ٢٢-٢٥. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني. 

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستّين بيتا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، بنياميم ويفت، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

الهزّة الأرضية في تمّوز ١٩٢٧

”باهتمام بالغ طالعت ما كتبته الصحافة العبرية عن حياة السامريين في العام ١٩٢٧. آنذاك كنت ابن ثمانية أعوام، وماذا يستطيع طفل بهذا العمر أن يتذكّر؟ في الواقع، ما حدث في تلك السنة محفور في ذاكرتي مدى الحياة. باستطاعتك أن تتخيّل ما يدور في رأس ابن ثمانية أعوام، كان يلعب ذات يوم ثلاثاء في الساعة الثالثة وسبع دقائق بعد الظهر، مع مجايليه في باحة الكنيس القديم في نابلس، وبعد ذلك بثلاث دقائق دامت إلى الأبد، يجد أنّ معظم البيوت المحيطة بالكنيس قدِ ٱنهارت، والكنيس قد تصدّع، وهو وأقرانه قد نجوا بأعجوبة من الدفن أحياء في الأرض. 

إنّك تستطيع أن تتصوّر كيف لا تُحفر هذه الأمور في ذاكرة ابن الثمانية أعوام، عندما أخذ أبي بيد أُختي وبيدي ونشلنا من مكان الكارثة ونقلنا إلى المقبرة السامرية في راس العين، ملجأ السامريين الوحيد؛ وبما تبقّى لنا من قوّة ساعدناه في نصب خيمة الصيوان مخروطة الشكل والملفوفة، وهناك كان علينا أن نقضي أيّامنا وليالينا؟ أتستطيع أن تفهم ما معنى القيام كلّ صباح  والتوجّه بعد أداء صلاة خاطفة إلى حارتك المهدّمة، باحثًا عن مفقودين  وممتلكات بين الأنقاض؟ كلّ ذلك قد حصل أمام ناظري ولد صغير، ابن ثماني سنوات، ذاق طعم الجوع والقلّة أيّامًا ويتساءل  كباقي أبناء جيله: لماذا فعل الله هذا بنا؟

ها قد أخذت الطائفة تنمو وتتكاثر، وانتقلت عائلة أوِ ٱثنتين للعيش خارج نابلس، وإذا بهذه الضربة الفظيعة تحلّ بنا؟  ما خطيئتنا وما اثمنا لنزول هذه المصيبة علينا؟ بالرغم من أنّ عمري كان ثمانية أعوام، يُمكنني إلى هذا اليوم أن أتجوّل معك في الحيّ القديم، الذي قرّرنا مغادرته في أعقاب الهزة، وأشير على كلّ بيت من بيوته وأقول لك أيّ بيت هُدم وشُيّد من جديد، أي بيت تشقّق وصُلّح، أيّ بيت تهدّم جزئيا؛ علاوة على كلّ ذلك، أُعلّم على خطوط ترميم الكنيس القديم بعد الهزّة. العِمارة ما زالت قائمة كما هي بالرغم من أنّها تستخدم اليوم لأغراض، لا تمتّ بصلة بهدف بناء الكنيس، الذي تمّ  قبل ألف ومائة عام ونيّف.

صحيح أنّنا لم نتمكّن من أخذ الكتب القديمة، وخِزانة الكتب المقدّسة معنا إلى مخيّم الخيام في راس العين. الكنيس كان قد تشقّق قليلًا كما أسلفت، إلا أنه ظلّ قائمًا صامدا، ولا عجبَ أنّه تضرّر أقلّ بكثير من باقي المباني المحيطة به.  هذا هو بيت الله ومكان مسكن توراته. أهمّ كنز في الكنيس كان مدرج التوراة القديمة، سفر أبيشع، ابن آلاف السنين. لم نتمكّن من نقل كنوز الكنيس إلى المخيّم السائب، غير المحمي. دأب الرجال على الخروج من المخيم بحثًا عن الطعام لهم ولأهل بيتهم. أكان بمقدور الكاهن الأكبر إسحق بن عمران، الكهل ابن الاثتين وسبعين عامًا، حماية  كنوزنا في الخيمة أو في التخشيبة التي سكن فيها؟ لهذا قبِلنا بامتنان اقتراح قائد الشرطة البريطانية  في المحافظة على كنوزنا هذه في الكنيس. تمركزت مجموعة حراسة صغيرة من جنود بريطانيين في ساحة الكنيس لحراسة الكتب القديمة. هنا أصِل إلى الحادثين اللذين وددت أن أسردهما عليك.

الفرشة

الكنيس كان بالطبع مقفلًا، لا داخل إليه ولا خارج منه. الجنود الحرّاس كانوا، كما أسلفت، في الساحة ابتداء من الليلة الأولى بعد الهزة. نصبوا خيمة وناموا فيها. لكنّهم منذ ساعات النوم الأولى لم يتمكّنوا من إغماض عين بسبب الصوت الذي انطلق من الكنيس. ذلك الصوت بدا وكأنّه طائر كبير يطير في قاعة الكنيس ويرفرف بجناحيه محْدثًا صوتا كصوت الرعد. تعجّب الجنود وخافوا. ما كان ذلك رفرفة مألوفة لأجنحة نسر كبير، بل على ما يبدو، هناك طائر أكبر مر ذلك بكثير، أو ربّما تواجد شخصية غامضة. هزّتِ الأصوات الكنيس طَوال الليلة. بقي الجنود في مكانهم ولم يعرفوا ماذا يفعلون، وحتى قائد الحرس تخوّف من التوجّه لبوّابة الكنيس.  

ذهبوا واستدعوا أبي الكاهن أبا الحسن بن يعقوب، الذي كانت مفاتيح الكنيس بحوزته. أتى أبي وفتح الكنيس وما أن لامست المفاتيح فتحاتِ الأقفال حتّى تلاشى الصوت، وخيّم الهدوء على الكنيس. نظر أبي إلى هنا وإلى هنا بخشية ما، إلا أنّه لم يرَ شيئا. تكلّم مع قائد الحرس وقال، ربّما ما كان شيء، وربما تخيّل الجنود ذلك من جرّاء حوادث الأيام الأخيرة والأليمة.

عُدنا، أبي وأنا وراءَه إلى المخيّم. بعد ذلك قيل لنا أنّ أصواتًا شديدة، صادرة عن رفرفة أجنحة كبيرة في الكنيس، سمعت رأسًا إثر مغادرتنا. أحيانًا ارتطمت الأجنحة بالجانب الداخلي لبوّابة الكنيس وهزّته هزًّا شديدا، وكأنّ تلك الشخصية الأُسطورية أرادت الانطلاق إلى الخارج. لم يعُد قائد الحرس قادرًا على تحمّل هذا؛ أرسل في منتصف الليل جنديين، فأحضرا أبي إلى الكنيس ثانية، وعلى ضوء مصابيح الكاز فتح بوّابة الكنيس. توقّفت الأصوات وقرّر أبي مع ذلك فحص القاعة فحصًا دقيقا. فتّش بوجل وراء الستار المغطّي لقدس الأقداس أيضا؛ لم يعثر على أيّ شيء. على نور المصباح، لاحظ أبي قبل أن همّ بإغلاق بوابة الكنيس، أن طُرّاحة (فرشة صغيرة) قد أُلقيت بالصدفة  على ما يبدو وقت الهزّة. تعرّف أبي على الطراحة فورا، كانت تلك لامرأة حائض التقطها، على ما يظهر، أحد الجنود من الساحة قبل إقفال بوّابة الكنيس.

ربّت أبي لحيته برضىً وقال بابتهاج لقائد الحرس: ”وجدت سبب الضجّة، أَخرِجوا من هنا هذه الطرّاحة وأحرقوها! إنّها سبب تلك الضجّة الغريبة التي سمعتموها الليلة وفي الليلة الماضية من قاعة الكنيس، لا تخافوا بعد الآن!“. أسرعَ الجنود وفعلوا ما طُلب منهم. لم يُسمع أيّ صوت حتّى الصباح وكذلك في الليالي القادمة. 

خِزانة الكتب المقدّسة
حادث آخر جرى في اليوم التالي في أحد البيوت المتصدّعة، الذي هجرته إحدى الأُسر السامرية خوفًا من انهياره. أبقت العائلة في منزلها خِزانة ثقيلة مملوءةً بكتب مقدّسة، ولم تتمكّن من حملها إلى المخيّم. بيت محمّد حلاوة العربي النابلسي قد تهدّم بالكامل في الهزّة الأرضية، وبحث محمّد عن مأوىً للمبيت. بدفعة خفيفة فتح باب دار تلك العائلة السامرية. عُرف عن هذا الرجل أنه مستقيم ولم يطرأ على باله أن يمسّ أي غرض، كلّ مبتغاه كان أن يبات إلى أن يشرق اليوم الذي يجد فيه سقفًا فوق رأسه.

في نصف الليل، بينما كان ينام نومًا متقطّعًا على المصطبة الصلبة، حلَم أنّ خِزانة الحديد الثقيلةَ تحرّكت من محلّها نحوه، دافعة إيّاه إلى الحائط المقابل. استيقظ محمّد حلاوة على الفور لينام من جديد، ويحلُم حُلْمًا آخرَ إلّا أنّه ذُهل بأنّ ذلك ما كان حلمًا بل واقعًا، خِزانة الحديد الثقيلة تتحرّك باتجاهه وتدفعه شيئًا فشيئًا إلى الحائط المقابل بقصد ”معسه“، هرسه. تدحرج محمّد حلاوة على المصطبة، هبّ واقفًا وهرب من البيت ناجيا. في صباح اليوم التالي هرع إلى تخشيبة الكاهن الأكبر، إسحق بن عمران (عمرم) ليقصّ عليه ما حصل له. ربّت الكاهن الأكبر إسحق على كتف حلاوة المذعور وقال له ”لا تُخفِ الحقيقة عنّي، ألم تحتلم أمس؟“. طأطأ حلاوة رأسه وأقرّ ”نعم احتلمت، كيف علِم ذلك سيّدي الكاهن؟“

”ألا تعرف أن هذه الخِزانة مليئة بالأسفار المقدّسة، كيف جرؤت على الاستمرار في النوم بجانبها بعد الاحتلام“؟، صاح الكاهن الأكبر. هذه ليست قِصصًا سمعتها بل حوادث رأيتها بأمّ عينيّ، لأعلم وتعلم كلّ مخلوقات العالم أنّ  الله هو الخالق“.


جوائز الرواية والأسئلة المشروعة!/ فراس حج محمد

في إحصائية نشرها موقع الجزيرة نت عن عدد الأعمال المقدمة للتنافس على الفروع الخمسة لجائزة كتارا عام 2019: (بلغ عدد المشاركات في الدورة الخامسة لجائزة كتارا للرواية العربية 1850 مشاركة، منها 612 رواية نُشرت عام 2018، وبلغ عدد الروايات غير المنشورة 999 مشاركة، و77 مشاركة في فئة الدراسات غير المنشورة، و147 مشاركة في فئة روايات الفتيان غير المنشورة، إضافة إلى 15 رواية قطرية منشورة في الفئة الخامسة التي أضيفت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي).
ومن وحي هذا العدد الضخم تثور عدة أسئلة وتساؤلات: متى قرأ المحكمون كل تلك الأعمال؟ وهل قرأوها فعلا؟ وهل يعتمد المحكمون على المراجعات الصحفية والمقالات والدراسات؟ هل فعلا يتم استبعاد رواية ما؛ لأن كاتبا كتب فيها مقالا ما مركزا على ما في تلك الرواية من هنات وسلبيات، فيعتب الروائي على ذلك الكاتب، لأن مقالته كانت سببا كافيا لاستبعاد اللجنة المحكمة لروايته؟
الأمر كله مريب ويستحق البحث. لعل يوما ما يأتي، ويخرج أحد المحكمين عن صمته ليقول الحقيقة، إذ لا يعقل أن تُقرأ هذه الأعمال خلال فترة زمنية محددة كتلك المخصصة للجائزة، وإذا أرادت اللجنة القراءة الجادة الفاحصة الناقدة التي تأخذ بعين الاعتبار الموازنة بين الأعمال أيضا لن يكفيها عام كامل للقراءة. فهل كانت لجان التحكيم تلتهم الروايات التهاما ومزودة بآليات دقيقة وسريعة لاستخراج تلك الأحكام؟
إن كل هذه الأرقام هو موضع شك كبير في آليات التحكيم وقواعده ومن ثمّ نزاهة الجائزة ولجانها.
مع أن هذا العدد الكبير من الروايات يحيل الدارس إلى مناقشة من نوع آخر، تتعلق بالإسهال المرَضي في كتابة الرواية ونشرها، والاستسهال في شروط كتابتها، ويكفي النظر إلى أسماء الفائزين أو بعضهم على الأقل وما يعقب الإعلان عن الفائزين من نميمة ثقافية.
لقد خلقت الجوائز الخاصة بالرواية عموما مناخا استهلاكيا تجاريا لدى الكتاب كأنه بازار كتابي محموم يشعل أحلام الكتاب ومخيلتهم للحصول على واحد من تلك المبالغ المرصودة للفائزين، ويكفي أن ندرك فداحة هذا الجشع من إصرار بعض الكتاب على أن يشاركوا سنويا في هذا البازار غير النافع بالتأكيد ولا يفيد الرواية ولا الروائيين.
باختصار شديد الوضوح؛ لقد ساهمت هذه الجوائز بإفساد الكتاب وأخلاقياتهم، فبدلا من اهتمامهم بالصنعة الروائية والتجويد وهم يكتبون، تكون عيونهم معلقة بالجائزة، وأفئدتهم ناطفة على الفوز بها؛ كونها جائزة مسيلة للعاب، وما يصاحبها من صخب دعائي يدغدغ نرجسية الكتاب وسعيهم نحو صناعة شهرة زائفة. 
وهكذا أصبحت الجوائز جميعا على اختلاف بيئاتها وأسمائها ولجان تحكيمها مناخا خصبا لصناعة العبث الروائي، ومن حق الدارس أن يتأمل هذه الصناعة وأخلاقياتها، ومآلاتها وتأثيراتها السلبية في وعي القرّاء الذين سيسارعون إلى قراءة تلك الروايات الفائزة أو التي حالفها الحظ في الوصول إلى قائمتيها الطويلة والقصيرة باعتبارها نماذج روائية ناجحة! 
يا لهؤلاء القراء كم يرضخون لهذه الآلية المتسلطة من السيطرة على عقولهم وجيوبهم! هذه السيطرة التي لا تنفكّ أيضا عن إشغال النقاد صغيرهم وكبيرهم وتوجيههم نحو إنجاز دراسات نقدية ومراجعات صحفية، فيتوجهون في لا وعيهم لمدح تلك الأعمال وتسويقها، وربما تجنبوا الخوض في سلبياتها إلا ما ندر. فكثير من هؤلاء النقاد إما راكب للموجة والصخب الإعلامي، وإما أنه جبان لا يجرؤ على قول الحقيقة، وإما أنه متطفل على النقد وصنعته لا يدري من أمره شيئاً.
وفي نهاية المطاف تصنع الجوائز محافل تطبيل لا تمتّ للثقافة بأية صلة ما خلا قشرة رقيقة هشّة، لن تدوم طويلا وتجف، فتظهر حقيقة كل تلك الارتكاسات والنكسات والنكبات الثقافية المضافة كضريبة القيمة المضافة على النكبات والانتكسات والارتكسات السياسية. فهل من راحم يرحمنا من كل هذا الجنون؟ لاسيما وأن الأعداد مرشحة للزيادة في كل دورة قادمة، نظرا لعدة أسباب، أهمها عدم لمس الكتاب جدية في كتابة الرواية والتدقيق في فنياتها، ولزيادة عدد الكتاب الجدد الداخلين على طمع لميدان هذه الجوائز. فما زالت هذه الجوائز حلما يداعب المخيلة، ما دام أن الدولار هو الحل!

الفيلسوف والمدينة بين الاحتماء والثورة/ د زهير الخويلدي

"الجهد الفكري والعمومي، الذي يبذله الفيلسوف في المدينة عند مواجهته للشر في مختلف أشكاله، يعطيه قيمة كونية ودائمة"

يبدو أن المدينة ليست مدنية بما فيه الكفاية واجتماعها غير اجتماعي وتحضرها أقرب إلى التأخر منه إلى التقدم فهي غارقة في الظلام وينخرها الفساد وتعاني من الأزمات المتعاقبة ومحاصرة بالرمال العدمية وعقائد التوحش والارتدادات الهمجية بينما يظل الفيلسوف مغيبا باستمرار على الرغم من حرصه على الحضور وفلسفته متروكة ومهجورة وبضاعتها كاسدة والعلاقة بينهما تتراوح بين طلب النجدة ومحاولة الاحتماء من جهة عندما يضطر الفيلسوف إلى خدمة السلطة القائمة والانتماء إلى المؤسسات القانونية التي تضمن له الأمان والحماية ومن جهة ثانية يدخل في صراع مع السلطة المشرفة على تنظيم الشؤون العامة لمواجهة الآراء الضالة ويؤثر الهجرة والمغادرة والانزواء والتوحد ويعلن الثورة في داخله ومن الخارج.

المدينة تعاني من الاستبداد والشمولية والظلم وتفيض بسكانها وتتقلص مواردها باستمرار وتتضاءل إمكانيات السكان على الصمود وتتراجع المواطنة أمام ضربات المتاجرة والتحيل والتهريب والتهرب وفي المقابل تتكور الفلسفة على تاريخها وتستهلك ما تبقى من نفسها وتجتر مقولاتها المجردة وتختص في عمومياتها وتحجب نفسها عن الواقع وترتمي بين أحضان دفاترها وتغطس نصوصها في أرشيف المكتبة.

قدر الكائن المتفلسف أن يخرج من صخب المدينة ونمطيتها وبرجمتها الآلية إلى هدوء العالم وتنوعه وحقوله الخصبة ومصير المدينة أن تتخطى الحدود القصوى التي رسمتها لنفسها وتستولي على جوانبها وأحوازها وأن تنمو في اتجاه الأعلى والعمق وأن تربح معركة البقاء بالتغلب على هشاشة وفناء ساكنيها. ينتمى الفلاسفة والكتاب والفنانون  إلى مدينة المهمشين والمدينة الحالمة والمدينة الموعودة والمنتظرة ويطلب منهم إصدار الحكم المعرفي والجمالي حول وضعهم ويتم تحميلهم مسؤولية تدبير الأوضاع  على الرغم من وضع الهشاشة الذي يعانون منه وقلة حيلتهم وافتقارهم للاقتدار الذي به يغلبون ويغنمون. فكيف نحمل الفيلسوف مسؤولية تغيير الأوضاع وهو يعيش في هشاشة مستمرة ومحاصر بالأزمات الشديدة؟

ما بين الفيلسوف والمدينة قصة علاقة تتراوح بين الانتماء والوفاء والاعتراف من جهة وتقتضي المواجهة والثورة والمطالبة بالإصلاح والتغيير وإعادة البناء في جهة أخرى وقد تتحول هذه السردية إلى ملحمة وتراجيديا توكل فيها مهمة هدم المقام القديم وكنس معالمه المهترئة وتشييد المقام الجديد وتركيز حصونه للفيلسوف. من هذا المنطلق يمكن اعتبار الفلسفة سلاح ثوري ضد العدمية وكل المخاطر التي تهدد المدينة والتي تحاصر الحضارة، وغني عن البيان أن الفيلسوف هو الجدار الأول والأخير الذي يعلق عليه السكان آمالهم في ظل تخلي الاخرين عن مسؤولياتهم تجاه مدائنهم. هكذا يستمر الفيلسوف في بحثه عن مقامه بالسعي إلى مدينته المنشودة وفي المقابل تظل المدينة تنتظر قدوم فيلسوفها لينطق بلسانها ويقيس مدى قربها أو بعدها عن المدنية ويشخص أسقامها ويعالج أمراضها. فمتى تتحول الفلسفة من هروب من الواقع البائس إلى مواجهة ثورية معه؟ وكيف تصير مدينة الفيلسوف مجال تحقق الإنسانية؟ وأليست الثورة ولا الاحتماء هو المقام الجديد بالنسبة للفيلسوف ضمن المدينة؟

وطنٌ .. على حافةِ الخديعة/ كريم عبدالله

روّى ليلُ الفتنةِ وجهَ دجلة خجلاً زرعتهُ جثثُ الأزهارِ فـ تطاولَ هذا الشوك مسروراً ضحكاتهُ ينابيع شؤمٍ جفّفتْ تغاريد الصباح متكدرةُ اساريرُ أحلامهِ تشيحُ عنْ مباهجك تفيضُ دموعاً أمواج خصبكَ راعشةً تحتضرُ أنيسها الجدب ترفعُ الغربان لواءهُ الأحمر يلطّخُ شوارعنا البيضاءَ محزونة ٌ تبكي دروب العشقِ غزاها الشيب متسرّعاً زاهراً ناهشاً ثغرَ قصائدي الخضراء . كلَّ اللصوص متشابهٌ قبحُ غدرِ خيانتها أدرى بـ جرحكَ يا فرات تجيدُ غرزَ السيوف ظهرَ نخيلكَ مرتعها تأسرُ مواويلها فتاوى ضلالةٍ تكتنزُ الخيراتَ مِنْ شطآنكَ استبدَّ الغيّ استباحَ رقرقةَ الأمواج فاتكٌ يتصيّدُ النجوم مذابحها خرابٌ يتسرّبُ متبختراً يقهرُ وجهَ المدن المزروعةِ البنادق تسوّرُ حقولَ الشمس أدهشتْ كنوزكَ المتهرئة . أمّنْ يجيبُ قلقَ الأيام إذا تكاثرتْ تيجانهُ يُثقلُ حزنَ كآبةِ الندى الذبيح والى مَ الصمتُ يتعالى داخلَ اسوارِ الذلّ يا وطني تتحكّمُ في أمركَ ( الجـﮕـمة )* العاهرةِ النوايا يضاجعها خنثيٌّ  عقيمونَ الاّ الفساد نتاجهم عارٌ يلبسونهُ بلا حياءٍ انتجَ هذا الخراب يُفسدُ الزرعَ والحرثَ خيانة ٌ لا تقبلُ التأويل .. ؟؟ !!! .



الرقة ودفء الإحساس في قصيدة مروة زهير أيوب/ شاكر فريد حسن

مروة زهير أيوب شاعرة موهوبة، عميقة الإحساس، مليئة بالعواطف، ومفعمة بالحب للحياة وللإنسانية.

هي من بلدة البعنة الجليلية ذات الطبيعة الجميلة الغناء الملهمة للشعر والابداع، حاصلة على اللقب الأول في الاستشارة التربوية واللغة العربية، واللقب الثاني في اللغة العربية، وتعمل في سلك التدريس.

 تكتب مروة الأشعار والومضات والخواطر الأدبية النثرية، وعلاقتها بالشعر والكلمة علاقة جدلية، موهبتها الكتابية ولدت معها، وعملت على تنميتها وتطويرها بالقراءة المكثفة والكتابة المتواصلة، وهي شغوفة بالأدب والشعر العربي القديم ولا سيما أشعار المخضرمين من شعراء الحب والغزل العذريين الأقرب للقلب والوجدان كجميل بثينة وقيس بن الملوح وكثير عزة وسواهم.

وحين كانت في الثامنة عشرة من عمرها اصدرت ديوانها الأول بعنوان " همسات مخملية " لقي الترحاب من قبل القراء والنقاد، منهم الناقد الادبي د . بطرس دلة،  ويحتوي على العديد من ومضاتها العشقية الوجدانية والنثريات المعبّرة عن انتمائها لبلدها وارضها ومجتمعها.

ومنذ سنوات توجهت مروة أيوب لنشر كتاباتها على شبكة التواصل الاجتماعي الفيسبوك، ايمانًا منها أنها تصل بسرعة الى اعماق القارئ، وهي كتابات متنوعة الاغراض، منها الخاص، ومنها العام، منها الموضوعات الرومانسية والوجدانية والعاطفية والاجتماعية والوطنية، التي تحاكي الحب وطقوسه والطبيعة والنجوم والوطن والشجر والأرض والقدس وبعنتها وجليلها والفرح الانساني بمنتهى الروعة والجمال وصدق الإحساس.

قصائد مروة أيوب عقود من اللؤلؤ، وازاهير ملونة، وهي صوت القلب، وترجمان الروح، وجسر الأشواق، تعبّر فيها عن أفكارها وخلجات قلبها ونبضها. إنها همسات حريرية مخلية مشبعة بالوجد والصوفية، وذات طابع غزلي وبعد انساني وحسي شفيف. إنها تكتب بعفوية وتلقائية وشفافية كما تحس، فتحيا اللحظة الشعرية، وتنسج قصائدها وخواطرها وومضاتها على ايقاع الوله، والدهشة، واكتشاف قوة الكلمات، وجمال المعاني، وصدى الابداع، وجاذبية السبك، ورقة المشاعر والإحساس، ومفرداتها سهلة ممتنعة، تنبض بالدفء والجمال الحسي والتدفق، ومتماسة مع الحميمية والشفافية.

تقول مروة في احدى ومضاتها بعنوان " يوم التقيتك ":

يوم التقيتك على الأشجار

تعانقت العصافير

وقبلت بعضها بعضا

اكرامًا لطقوس الحب ورقصت،

وأنشدت الطيور بصوتها أنغاما

فرتلت المزامير

وعلى أغصان الزيتون

صلت بابتهال لملقانا وهللت.

مروة أيوب تعرف كيف تختزل وتكثف التجربة في نصوصها، وتجيد التعبير العاطفي الانساني عن مشاعرها الدفينة، بألفاظ ناعمة رقيقة بمعانيها ورهافة حس، وقصائدها قصيرة مكثفة كالومضات المدهشة، منسابة شفافة، تطرق نوافذ الوجدان بالرقة الانثوية الغارقة بالوجد، وتنفذ إلى أعماق القلب من غير جواز مرور.

وما يميز قصيدتها المعنى الشفاف، والمفردة المطورة، والصور الشعرية المبتكرة اللماحة الخلابة، والسلاسة، وطريقة السبك وصياغة المعنى الايحائي، كما نلحظ في هذه الومضة العذبة الجميلة :

كلُّ الأماني حولَ طيفِكَ حائمَةْ

تأْتي وتمضي عندَ رسمِكَ ماطرةْ

أملًا وودًّا في حنينْ،

لكنْ سمائي غائمةْ؛

بالغمّ والأشواقِ والدّمعِ الحزينْ...

ترجو قليلا من قليلكْ،

منْ ماءِ جفنِكَ حفنةً...

تسقي حياتي بهجةً...

أوْ ظلّ بسْمتِك الّتي

تخفي صدى سرٍّ دفينْ...

هلْ منْ معينْ؟

هلْ منْ معينْ؟...

والوطن يمثل البعد الآخر عند مروة أيوب، فتغني وتنشد له بأجمل الكلمات والعبارات ،  وفي هذا الجانب نقرأ لها هذا النص الذي يتجسد فيه حبها لوطنها وامكنته التاريخية ، حيث تقول :

وموطني آيةٌ تمتدّ كالزَّرَدِ

منْ بحرِ حيفا أصلّيها إلى صفدِ


والقدسُ أغنيةُ الألبابِ صاخبةٌ

ترنُّ بالنّغمِ الرّنّانِ والغَرِدِ


حروفُها قصّةُ التاريخ باقيةٌ

منصوبةُ الذّكرِ فينا، نصبةُ الوَتَدِ


منَ القيامةِ، منْ جدرانِ مسجدِها

إنّي أقدِّسُها للبابِ والعُقَدِ


وعندَ ناصرةٍ تمَّمْتُ أدعيةً

للسّلمِ داعيةً ودًّا منَ الكَبِدِ


عكّا ويافا أفانينُ الحمى، عبقٌ

فوّاحةٌ هيبةً والواحدِ الأَحَدِ


وبعنتي هي أمّي، نشأتي وأبي

عندَ اسمِها غابَ فكرٌ جالب الكَمَدِ


وبعنتي نغمةُ الحسّونِ مُطربةٌ

وقِبلةٌ جِلّةٌ بل نعمةُ البلدِ


إنّي لها طالما يجري دَمٌ بعروقي

عاشقٌ للثّرى فيها إلى الأبدِ

وفي الاجمال، مروة زهير أيوب من الاصوات الشعرية الواعدة بالعطاء، ذات إحساس مرهف، تحافظ على الاندفاع الشعري والصبوة الوجدانية، نصوصها تحفل بصور الحب والعشق الروحي الصوفي وصور الوطن والمعاناة، وتقدم قصيدتها بلغة بسيطة رشيقة جميلة تنم عن احساس شاعري صادق، وموهبة ينتظرها المستقبل، فلها اصدق التحيات واجمل الامنيات بالمزيد من الابداع والتألق وقدمًا إلى امام.

د. عدنان الظاهر

أُكتوبر 2019  

صهيلُ الشمسِ/ 
[ لتشرين الثورة ]
أسرجتُ الشمسَ صهيلا  
فالشوقُ الشرقُ وصولا
كابوساً مدسوساً ممسوسا
ونجوماً ترجمهُ رَجْماً موصولا
نتلمسهُ لَمْساً محسوسا
النافقُ منكوسٌ رأسا
أتماسكُ لا أخشى بؤساً أو بأسا
أطلبُ نهراً يُطفِئُني أُسّاً قُدْسا
العِرقُ الدقّاقُ زُقاقٌ مفتوقٌ أفّاقُ
يُحصي آهاتِ النجمةِ في الموج العالي
يشتاقُ  لذِكرى مرقاةِ اللقيا
مرّتْ جِسراً جسرا
الراصدُ مطروقٌ
يَرقبُ شرطَ التسكينِ المرصودِ
ومحطّاتِ الطارقِ ليلا
عِشتارُ تلوّنُ زيتونَ جديلتها
وتُقلِّمُ أظفارَ مصيبتها
من شَبَقٍ مُستعصٍ فيها
يضربُ أجراسَ مساميرِ البيبانِ
أعلى من سومرَ سوراً صيتا :
واظبْ واشربْ كأسَ النارِ
نجماً أسودَ مثقوبا
يتعثرُ بين المسمعِ والمرأى
والضربةِ في قبضةِ عرشِ مليكِ الشمسِ
الطرقةَ لا تُخفيها .... الجُنجلُ يحميها
مطمورٌ مخفيٌّ فيها
قبضةُ مجهولٍ في ثُقبٍ مُختلِّ
جوّابُ خروقِ الآفاقِ
تسترقُ السمعَ وتخطفُ آفاقَ الأبصارِ
تتكسّرُ ساقاً ساقا
تصرخُ يا نخلةَ داري مدّي
فوقَ رؤوسِ الأهلِ سقوفا
أرهقنا السَعَفُ المُسترخي.

ثورة شعب/ روميو عويس

يا دولتي جوعان
خبز طعميني
يا دولتي عطشان
من نبعك سقيني
يا دولتي عريان
من توبك كسيني
يا دولتي بردان
بالحب دفّيني
يا دولتي الطغيان
والظلم آسيني
يا دولتي الحرمان
والفقر كاويني
وزعما بلا وجدان
مَصّو شراييني
يا مصطفى وحمدان
ويا لياس لاقيني
انت وانا اخوان
دينك شبه ديني
النا فرد ديّان
اليرضيك يرضيني
متلي انت غلبان
الآذيك آذيني
وبصوتنا عليان
بدنا الوطن لبنان
يرجع وطن زيني

سبعة عناصر في تأمّل الحالة الرّاهنة/ مادونا عسكر

"الثّورة ككلّ جرأة: في وقتها ومكانها عبقريّة وانتصار وفي غير ذلك حماقة واندحار". (ميّ زيادة)
لتكون الثّورة في وقتها ومكانها عبقريّة، ينبغي أن تستند إلى الوعي. ولا بدّ من الانتباه إلى دلالة كلمة "الثّورة" حتّى لا يلتبس المعنى على النّاس فينطلق بحماسة المندفع بردّات فعل تفجّر الكبت المتأثّر بتراكم المشاكل الّتي يرزح تحتها الإنسان.
الثّورة تعني اصطلاحاً التّغيير الأساسيّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة يقوم به الشّعب في دولةٍ ما. ما يعني أنّ الثّورة بمعناها الاصطلاحيّ تختلف عن الاحتجاج بمعنى الاعتراض على أوضاع سياسيّة واجتماعيّة. ولئن كانت الثّورة  تعني التّغيير الجذريّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة، تطلّب هذا التّغيير وعياً خاصّاً نما بنموّ الإنسان الثّقافيّ والمعرفيّ والحضاريّ فيستحيل عبقريّة وانتصاراً. وأمّا إذا خلا من الوعي فما هو إلّا حماقة تؤدّي إلى الفوضى المدمّرة والهلاك الحتميّ. والحماقة عكس الحكمة، تعبّر عن فوضى العقل وانعدام القدرات المنطقيّة الموجّهة لأي احتجاج أو معارضة أو استنكار لوضع ما. ولئن كانت الثّورة تغييراً أساسيّاً يقوم به الشّعب فلا بدّ لهذا الشّعب أن يكون واعياً بما يكفي ليحدّد أهدافه المتلازمة وأهداف ثورته وإلّا أتى فعله مجرّد تعبير عن غضب عارم، متى زال زال معه كلّ مطلب.
وحتى لا يكون الكلام وعظاً وإرشاداً وتنظيراً وإنّما تسليط للضّوء على التّفاصيل الّتي تكمن فيها الحقائق المؤدّية إلى تحقيق الأهداف، لا بدّ من تحديد عناصر الوعي الّذي قد يتمّ قمعه بأساليب عدّة:
- العنصر الأول: الوعي بتاريخ الشّعب وتبيّن تفاصيله والتّعلّم منه. فالشّعب الّذي تحتفظ ذاكرته بأهوال تاريخه ومصائبه الّتي أنهكت الوعي والعقل الجمعي فتفرّد كلّ فرد أو كلّ مجموعة في آراء خاصّة أو انتماءات خاصّة نتج عنها انغلاق خوفاً من الآخر المنفرد بآرائه وانتماءاته. الوعي بالتّاريخ يعني الابتعاد عن التّفاخر السّاذج والتّمجيد السّخيف للتّناحر والقتل وتبرير سفك الدّماء والمثابرة على تجميل الصّورة وخدعة طيّ صفحة الماضي دون البحث الجدّي في تصفية القلوب وتنقية الأذهان والسّعي إلى حاضر أفضل من خلال منهجيّة سلوك أفضل.
- العنصر الثّاني: الوعي بالمسؤوليّة وتحمّلها  بجدّيّة، واعتبار الشّعب مشاركاً بما وصل إليه الواقع من سوء. فغير صحيح أنّ الشّعب لا يتحمّل المسؤوليّة في الأحوال الرّديئة الّتي تصل إليها الشّعوب. ومن غير الصّحيح أنّ الحكومات وحدها هي من تتحمّل المسؤوليّة. فالشّعوب تنال الحكومات الّتي تستحقّها، وهذه الحكومات لم تأتِ من كواكب أخرى وإنّما هي من صلب المجتمع. وما أتت إلّا بمؤازرة من الشّعب. لا ريب أنّ المسؤوليّة تتفاوت بين الدّولة الّتي تدير البلاد والشّعب إلّا أنّ هذا التّفاوت لا يلغي مسؤوليّة أيّ فرد. 
- العنصر الثّالث: الوعي بأنّ الحماس هو غير السّعي إلى تحقيق الأهداف. وبالتّالي لا بدّ من وضع أهداف محدّدة ليتمّ التّغيير الجذري. وذلك يتطلّب عملاً دؤوباً واجتهاداً وتعباً حتّى يتمّ التّغيير. وأمّا الشّعارات فهي ابنة اللّحظة وتتضخّم بقدر ما يتفلّت الوعي ويثمل الإنسان بالحماس والفرح الّذي ينتج عن إفراغ الغضب ونشوة الحرّيّة المؤقّتة في التّعبير عن الوجع والألم. الحماس وليد اللّحظة وأمّا السّعي إلى تحقيق الأهداف فمسيرة نحو التّطوّر والتّقدّم. 
- العنصر الرّابع: الوعي بأنّ تطوّر الشّعوب يقوم على نظريّة بسيطة وهي أن يؤدّي كلّ فرد عمله على أكمل وجه، مهما كان بسيطاً. ففي كلّ مرّة يحصل فيها تقصير أو استهتار تتأثّر مسيرة التّقدّم والنّموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ. 
- العنصر الخامس: الوعي بحضور الآخر المختلف، أيّاً كان اختلافه واحترام حضوره بل والدّفاع عنه إذا لزم الأمر، بمعزل عن الأحكام المسبقة والشّتائم الّتي تعكس ذهنيّات مريضة غير مؤهّلة للمطالبة بالحقّ. وكلّ حقّ يقابله واجب، وكلّ واجب يقابله معرفة بهذا الواجب وكلّ معرفة يقابلها إعادة بناء للمفاهيم والتّصوّرات لبلوغ المعرفة بالمُطالَب به. فمن يطالب بإسقاط النّظام لا يعي جيّداً أنّه يتّجه نحو الفوضى الّتي ستتجلّى لاحقاً بالخروج عن النّظام والتّصرّف بهمجيّة. ومن يطالب بتشريع القوانين المواكبة للحداثة عليه أن يتعهّد بتطبيقها.
- العنصر السّادس: الوعي بأنّ مقولة أنّ الشّعب مصدر السّلطات خدعة كبيرة في بلدان ترزح شعوبها تحت وطأة السّعي وراء لقمة العيش فقط وتحت وطأة البطالة وتراجع العلم. يكون الشّعب مصدر السّلطات حينما يعي قيمته كشعب يحاسب دون ريبة وخوف من هم موظّفون في خدمته. وبقدر ما تتضخّم هذه المقولة في الأذهان بعيداً عن الوعي ينتج عنها تمرّد أعمى وحماس مفرط يُدخل الإنسان في فوضى مدمّرة.
- العنصر السّابع: الوعي بقيمة المحبّة الحقيقيّة بين الأفراد بغض النّظر عن الدّين والانتماء، والتّعاون من أجل تحقيق هذه المحبّة على ألّا تبقى ورقة اختياريّة يوم يكون الحماس سيّد الموقف. فالمحبّة هي الأساس وعليها تُبنى الأوطان وبها تتقدّم الشّعوب وتنمو وتتطوّر وتفهم أنّ الغلبة دائماً للمحبّين الّذين يبذلون أنفسهم ويقدّمون من ذواتهم ليكبر الوطن. المحبّة تبني والحقد يدمّر. المحبّة تنظّم الفكر والشّعور، وأمّا الحقد فجهل وعقم فكريّ وشعوريّ. المحبّة اتّجاه نحو إنسانيّة الإنسان وأمّا الحقد فعودة إلى حالة الهمجيّة الأولى وتعزيز للنزعة الفتك والتّخريب والانحلال. 
تأتي ساعة تُحدَّد فيها مصائر الشّعوب وهي ساعة العقل والعقل فقط، بعيداً عن المشاعر المفرطة، والحماس المندفع، والشّعارات الفضفاضة، ونشوة الانتصار الخادع.  

لنصلي من أجل لبنان وفلسطين/ جواد بولس

فاجأت الاحتجاجات الشعبية، التي ما زالت تتفاعل في معظم المناطق اللبنانية، وفاقت توقعات جميع المراقبين والمحللين ومتعاطي "كار" السياسة محليًا وعالميًا.  وبعيدًا عمّا ستفضي إليه من نتائج وتبعات، فلقد فجّرت مشاهد الميادين الثائرة ينابيع أحلامنا بعد أن وصلنا ، نحن العرب أهل الشرق، إلى حافة العطش والضياع في عتمة اليأس وركام الأمل.

 قد نختلف حول كثير من التفاصيل التي نشاهدها أو نجهلها، لكننا يجب أن نتفق أن تلك الحشود قد أطلقت قبضاتها وحناجرها سيوفًا لتهوي ولتقطع حبال المشانق التي لفّها أرباب الطوائف اللبنانية على أعناق شعب سالت دماء أبنائه على مذابح سياسيين جشعين، قاموا باختطاف الدولة والاحتفاظ بها كرهينة خدمة لمصالحهم ولفسادهم ولكسبهم غير المشروع. 

لقد هتفت الجموع ضد الفساد والفاسدين وضد الطائفية ومن ربّاها لتصبح قوقعتهم السحرية، فيتقاتل في أحشائها ابناء الوطن الواحد ويعيش على سطحها جميع الساسة المتوحدين على دين الدولار ومنافع الاقطاع البغيض.

كانت الحرية عنوان تلك الميادين ومحرّكًا لعودة الوعي إلى مكانته الانسانية ولأخذ دوره في بناء المجتمع المدني السليم والدولة الوسيطة المنصفة الحامية.

شدّتنا شاشات الفضائيات وتفاعلت معها شرائح الناس، فتفاوتت ردود الفعل بيننا وتضاربت الأماني، لأننا، في النهاية، كسائر العرب نولّي علينا سادة من طيننا ونحتكم لأمراء من طوائفنا المحلية ووجهاء من قبائلنا.

ففي حين كان عرش الاستبداد في لبنان يترنّح وكان نور العقل يفج حلكة الجهل والتجهيل، كنا نمارس، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، من مواقعنا، طقوس الظلام ذاته، وكانت فئات بيننا تطعن خاصرة حرّيتنا في وضح النهار وتدوس على زنابقها في "ساحة البلد".

لم يمض وقت طويل على قضية منع  ظهور الفنان تامر نفار على مسرح مدينة أم الفحم، حتى تكرر المشهد معه في قرية كابول الجليلية حين أُعلن، قبل أيام، عن إلغاء عرض فني كان سيقدمه تامر ضمن أمسية خيرية مخصصة لصالح جمعية مرضى السرطان.

مضت القصة دون أن تستثير أي ردود فعل حقيقية وجدّية ؛ فباستثناء ندرة من بيانات الشجب الخجولة، لم نسمع صوت "المجتمع الحر" ولا خرير الأحزاب أو ضجيج النخب المثقفة أو هزيم الطلائع الفيسبوكية الثائرة، كما سمعناها يوم خرجوا شاهرين بوستاتهم في وجه الوزيرة العنصرية ريغف بعد أن اصدرت عدة قرارات قمع عنصرية بحق مسارح وفنانين عرب وألغت عروضهم أو حجبت عنهم الميزانيات الحكومية بتهمة عدم ولائهم للدولة.

لن نحصل على حقوقنا، نحن العرب في اسرائيل، ما دمنا نتصرف بهذه العقلية الهزيلة والمزيّفة وما دمنا نعيش بفيء ازدواجية معايير معيبة ومشينة ؛ فمن يواجه الوزيرة العنصرية ريجف بصلابة ويدافع عن حقه في التعبير الحر وفي الابداع وفي الرقص وفي التمثيل، ويصمت، في نفس الوقت، وهو عاجز أو مداهن أو خائف أو منتفع، عندما تضرب مطرقة الظلّام فنانًا كتامر نفار أو غيره؛ أو عندما يحاصر التهديد والنيران مسارح البلد وفنانينها وساحاتها، لا يحق له التذمر من جور سلطان أجنبي ولا الشكوى من بطش عدو غاشم .

كم قلنا ان للحرية سماء فسيحة واحدة وأن لها أرضا تقبّل نعال من يدقها بأرجل من نور وبهامات وضّاءة مكللة بالكرامة وبألسن حرة ذربة لا تحيد عن درب الحق ولا تمالق جائر .

لقد عرفنا، في حينه، ان مجلس بلدية أم الفحم كان وراء قرار منع عرض تامر نفار؛  وسمعنا ، في حينه أيضًا، حجج البلدية في ذلك ولم نقبلها؛ بيد أنّ القضية تطوّرت بعد تدخل محكمة حيفا المركزية واصدار قاضيها الاسرائيلي لأمر يلزم، باسم حرية التعبير، بلدية ام الفحم بإتاحة العرض كما كان مقررًا ، ولكن رفض تامر نافر  أن يظهر تحت "عباءة" هذا القرار  الاسرائيلي، فانتهت الحادثة بصورة تجمع الفرقاء المتخاصمين وهم متصالحون وباسمون.

أما قصتنا في كابول فمختلفة اكثر وأعقد؛ ففي ردّ على إلغاء فقرة الفنان تامر نفار قال رئيس المجلس المحلي: " إن ّ المجلس المحلي لم يتدخل جملة وتفصيلا في أي برنامج ثقافي يقوم بتنظيمه المركز الجماهيري في كابول" وأضاف موضّحًا وآسفًا  لاحد المواقع الاخبارية:  " إن الحوار دار بين الأهالي عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ومعارض، الامر الذي أدى الى الغاء الامسية الفنية الخاصة بتامر نفار" .

 قد لا نعرف حقيقة ما حصل، مثلما عرفنا تفاصيل ما حدث في ام الفحم ، ولن نعلم من تدخل وفرض هذه النتيجة، لكننا نعرف بيقين أن الواقع يحمل في طيٌاته "مؤشرًا مقلقًا"، وذلك كما وصف عضو ادارة المركز الجماهيري في كابول وأكّد على أن: " تكرار مثل هذا المنع يعبر عن عقلية قمعية خطيرة تهدد بإخراس أصوات مختلفة قد يكون لها أثر سلبي على جيل الشباب ".

لسنا في لبنان، ولكن ستقتلنا سياسة الإعراض المنتشرة بيننا وسيدمينا ادمان مؤسساتنا القيادية على دفن رؤوسها في صدر الخوف وفي حضن المنفعة؛ وسيقضي اسكات محركات المجتمع المدني وتواطؤ بعضها على منجزاتنا المكتسبة؛ فلقد وصلنا اجتماعيًا إلى القعر ولن نخرج منه إلا اذا صرنا أحرارًا.

ولاولئك الذين نسوا طعم الحرية ننصحهم بمتابعة الشاشات اللبنانية حيث ينتشر الأمل ؛ فالحرية، وإن تمظهرت أحيانًا بأقنعة ملتبسة، تعشق دومًا صخب النشيد وتنطلق على أجنحة النغم، فيمشي الى جانبها الاستقرار على أرجل من فرح ومن حب.

لقد حملت الينا الاشرطة مشاهد من وحدة غير مألوفة في تاريخ لبنان الحديث، ونقلت بعض عدسات المصورين لقطات لمجموعات تغني وترقص وتستعرض أجسادها بخلاعة لا تناسب جسامة الحدث.

بعضنا ضحك على ما شاهد، وتندر آخرون على جينات الشعب اللبناني وخصصوصيته في عشق الحياة ومراقصة القمر ؛ لكنني ، رغم سيل التعقيبات، فتنت وكثيرون عندما شاهدنا شيخا لبنانيا جليلا وسمعناه ، في تسجيل شاع وانتشر ، يحذّر من مواقف مَن حاولوا تسخيف ما يحصل في شرايين لبنان بسبب بعض مظاهر الرقص والخلاعة والغناء؛ فتساءل مستهجنًا بحق، أهذا كل ما يهمكم مما تشاهدون ؟ ألا تهم مظاهر الوحدة اللبنانية الجبارة التي لم يعرفها لبنان منذ أكثر من ثلاثين سنة ؟ لقد تعرفت الناس أخيرًا على بعضها فصار الشيعي قادرًا على دخول طرابلس والخروج منها سالمًا والعكس ايضًا صحيح.

يحاول اللبنانيون الخروج من قطعان أرباب الطوائف، ليحاربوا الطائفية والفساد ؛فحيّى الشيخ الجموع وخص قطاعات الشباب الذين سبقوا "جميع المشايخ ورجال الدين المحزبين إلى حالة الوعي" ؛ فبدون هذا الوعي سيكون الدمار  وتُفقد الحرية وتداس الكرامات.

سنصلي من أجل لبنان ؛ونتساءل من سيرفع عندنا هذه الراية ويصرخ كما أهاب هذا الشيخ وأكّد: " انتم يا أركان المجتمع المدني بكل مركباته حتى بملحديكم، انتم الاحرار . لديكم، كملحدين، مشكلة مع ربكم ولكنكم احرار" .

الحرية يجب أن تمتدح .. فمن يهب بلادنا، فلسطين، عقلا يأخذنا الى ذلك الشاطيء القريب الآمن ولسانا لا يسكت في وجه سلطان ظالم ولا يتردد أمام أخ عابث وقامع .

لنصلي من اجل لبنان ..ومن اجل فلسطين.

هُـويّـتُـنا ... ومحلّنا من "الأَعْـراب" ومن وحي الإنتفاضة/ محمود شباط

قيلَ وكُتِبَ الكثيرُ عما يعنيه مصطلح الوطن، منهم من اعتبره البيت الكبير، ومنهم ، ككمال الصليبي، من ذهب إلى تفصيل أدقّ حين شبَّه لبنان بـ "بيت بمنازل كثيرة" في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، والذي منه، ومن مناهل أخرى، سيرد استاذ التاريخ الدكتور إبراهيم أبو مهاب،  ويروينا.
بعد هـبَّـة 17 تشرين أول 2019، وازدحام الساحات والميادين بشباب وصبايا يحتجُّون على سوء الوضع المعيشي في كافة أرجاء البلد، وسوء إدارة البلاد قبله، اتخذت جمعيّة "بدّك وطن كون مواطن" قراراً بانتداب العضوة القيادية فيها، الصحفية جوليانا مْكَوكَبْ وزميلها زياد جرجي والشاعر حارث البواردي، للقيام بزيارة الدكتور أبو مهاب في منزله الجبلي المطل على بيروت، للتعرف على محتويات كتابه الأخير : "هُويّتنا ... ومحلّنا من (الأَعْـراب)"، كما للتطرق لشؤون وشجون هذه الانتفاضة الأخيرة. 
أثناء انتظارهم على الشرفة، كانت جوليانا وزياد يعيدان النظر في بعض الأسئلة، بينما انشغل حارث عنهما بمتابعة أحب السيمفونيات إلى قلبه وعقله، إلى ريح الوادي تعزف على أوتار الأشجار، وتُـرنّم أغنيةً حزينة كأناشيد العبيد. 
وحين استكانت الريح الخريفية دون أن تستكين  ريح مشاورات تهامسية بين جوليانا وزياد حول صيغة الأسئلة الـمُزمع طرحها على الدكتور، سرح زميلهما الشاعر الشاب بناظريه عبر زجاج الشرفة مُتملـيّـاً بسحر حبيبته بيروت، محاولاً تخمين أين تقع ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح حيث تجمّعات الصبايا والشباب من المحتجين. ، وحيث تعوم الأضواء المتناثرة المسترخية على حرير سرير بيروت كحبيبات لؤلؤ وماس وزمرّد ، تبرق في بحر العتمة كخرز مُلوّن يتلألأ على فستان صبيّة صغيرة حلوة، متحسراً على عِفّتها من دبق مغتصبيها. 
اعتدل حارثٌ فجأة وبسرعة في جلسته وأكسبها جديّة أكثر ثم قال لرفيقيه : وَقْعُ خطواته ؟ أليس كذلك ؟
*******************

المقابلة :
بحدود التاسعة مساءً طرحت جوليانا سؤالها الأول :
- "قريباً سيكون قد مرَّ مائة عام على إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو لدولة لبنان الكبير، وثلاثة وسبعون عاماً على نيلنا الاستقلال. ولم نُـفلح كلبنانيين في ترسيخ أسس دولتنا الفعلية كما يجب أن تكون رغم ما ينسبه البعض لنفسه عن وراثته لـشطارة التاجر الفينيقي. لماذا برأيك يا دكتور ؟
- "توقّعتكِ أن تسألي عن الانتفاضة أولاً نظراً لأهميتها". ارتسم نصف ربع ابتسامة على محيا البروفيسور، وهو الذي قَـلَّـما يبتسم، ثم قال : 
- هُويَّة الوطن يا أستاذة هي أبُ وأمّ هوية المواطن، حتى الرضيع حين تناديه باسمه يلتفت بتحبُّب ويستجيب بتودّدٍ كثمرةٍ لإحساسه بكينونته و بهويته. منذ تأسيس لبنان الكبير عام 1920، وما قبله حتى، ما فتئنا نواجه صعوبات تتعلق بتسمية المولود-الوطن، وخلافات على هويته رغم أهميتها. 
نظر صوب بيروت وأشار بيده صوبها:  آمل أن تزرع انتفاضة سوء الأحوال المعيشية والثورة على الفساد بذور ورود هويتنا. عجيب أمر شعبنا، يتضامن أفراده لإطفاء نيران الغابات وضد قانون الإيجارات، وما شابه، و لم يكن توحيد الهوية ضمن اهتماماته يوماً، بل بالعكس، كان هناك من يضع العراقيل والمعوقات.  
- سأله زياد : ما هي أهم المعوقات أمام توحيد الهُوية برأيكم؟
- هي عديدة وسوف أذكر إحداها على سبيل المثال لا الحصر. المسيحيّون، أو لنقل القسم الأعظم منهم، رغم جذورهم العربية الغَسَّانية التي لا شكّ فيها يرغبون في الابتعاد عن العرب. والمسلمون، أو لنقل الجزء الأعظم منهم، يصرّون على الوحدة والاندماج مع محيطهم العربي ولكنهم يخلطون بشكل قاتل بين العروبة والإسلام. وإلى أن تتوحّد نظرة اللبنانيين إلى الهوية والوطن سوف يبقى دُبُّ الـ "نحن والـ أنتم" يعيث تحطيماً بمحتويات الثمانية عشر منزلاً كل بضعة سنين، ما يَحولُ دون حلّ المشكلات القائمة المزمنة والمستعصية، لغاية الآن.
سأله زياد: 
قلت "لغاية الآن" أستاذنا، استنتجتُ من ذلك أن المستقبلَ قد يحمل لنا بشائر حلّها،وبالتزامن، فهمتُ من ردّك تفسيرين متناقضين، في الأول تشاؤم وتخوف من نشوبِ حربٍ "كلّ بضعة سنين"، وفي الثاني تفاؤل بإمكانية حلّ المشاكل المستعصية "لغاية الآن" حسب تعبيرك. أخالك بعبارتك تلك : "لغاية الآن"، تستنهض إضاءة الشمعة وتاريخك العلماني المعروف العابر للطوائف. أتذكَّرُ جيّدا ما قلته لنا يوماً في إحدى محاضراتك: " لا يهمّني كيف يُصلّي الآخر وإلى من يُصلِّي، هذا إن كان يصلّي، أو أراد أن يصلي، بل كيف يُـجَسِّـد إيمانه بصدق مع ذاته أولاً" 
قال الدكتور لزياد: أجل ! أتذكر ذلك، ولكن كيف يمكن للمرء تجسيد إيمانه إن لم يُطهِّر نفسه وجسده من خرافات عششت في كيانه الخانع الخاضع المقموع، وبعقله الإسفنجي الجاهز لامتصاص ما يصله دون تنقية أو تمييز الغث من السمين. الشحُّ في الثقافة ناتج عن شحٍّ في القراءة، كما في وضع الأواني المستطرقة، العلاقة متبادلة كما ترى، ووثيقة، نقص القراءة يستجر نقصاً في الثقافة والوعي وصحة القرار، بالمقابل، استطراداً : يتساءل المرء ببساطة : " ولماذا يقرأون طالما تشبَّع "إسفنج" أدمغتعم بما رواه لهم الآباء عن الأجداد عن تاريخ الطائفة، وبما نقشه رجال الدين في عقولهم اللينة المتبرعمة الطرية؟  
- سألته جوليانا : هل تنوي الترشح للإنتخابات النيابية ؟
- تجهّمَ وحَرَّك رأسه يمينا ويساراً
- أكْمَلتْ الفتاةُ بإلحاح وحضٍّ واضحين في محاولةٍ للتأثير إيجابيا على قراره : "لدينا وعود بآلاف الأصوات من حركات شبابية وجمعيات جديدة مستقلة".
- اعتبري يا ابنتي بأني صدَّقتك ووثقت بحسن نيَّتك، إنّما قولي لي : ما الذي سيبقى من صوتك وأصوات أمثالك ممّن يُغرِّدون خارج أسراب طوائفهم سوى أصداء بائسة يتيمة ؟ وما هو مدى تأثير أصواتكم في عتمة نظام أعدَّه مهندسوه كي يسير على "زِفْتِ" طرقاتهم فقط، ألا يتوجع قلبك وعقلك وكيانك حين تدهس المحادلُ صوتَك... ورأيك؟ ما الذي يتبقى من إنسانية الإنسان بعدها؟ أنا سأقول لك ، سوف يبقى مخلوق يأكل ويشرب ويتنفس ويتناسل وينام ...أقل من نصف انسان ... إن لم يكن أسوأ.
- سأل زياد : هل تعتقد بأن "أصحاب المحادل" ، أو عدداً منهم على الأقل، مقتنعون بصوابية وعدالة استخدامها في الإنتخابات؟ أم أنها بالنسبة إليهم اضطرارا لا خيارا؟ 
- افترض نفسك مقاولاً بين عدة مقاولين آخرين وطلب منكم التقدم بعروض لتنفيذ طريق مشكوك بمشروعيته ويسبب أضرارا للمصلحة العامة. هل تتقدم بعرضك رغم علمك بعدم قانونية العرض والمشروع ؟ أم أنك تلجأ إلى قاضيك الأول والأخير ؟ 
- فهمتُ . بطبيعة الحال سوف أحَكِّمُ ضميري .
- وبعدها، تكون قد أنقذت ضميرك وقناعتك ولكنك قتلت محدلتك. هذا عداك عن الشك في إمكانية وجود مفردة الضمير في قاموس السياسة.  على أي حال، وكما يقول المثل العامي :"لا الموت هين ولا كيد العدا هين"، القرار يحتاج إلى شجاعة ورجولة . أنت من يقرر.
- سمعنا أنه في عدد من الدورات الإنتخابية كان بإمكان المرء أن يجزم باسم القوائم الرابحة بمجرد نشر اسماء المرشحين، وكيف كانت الأصوات المعترضة تتشتت كالرماد في ليلة عاصفة رغم حجمها الفعلي المعتبر . ما الحل؟
- قال الدكتور : لا بصيص أمل في الإصلاح "من فوق"، الخبز الذي تقتات عليه الطبقة السياسية هو تبعثر أصوات المعارضين في عشرات الجمعيات والأحزاب المعارضة الصغيرة. ثم أكمل : كم تشبه جسور الهروب من جحيم اللادولة إلى نعيم الدولة الهروب من اللاعقل إلى العقل. صَمتَ للحظاتٍ ..: مشكلاتنا الموروثة والقائمة تشكل عبئا كبيراً على بلد صغير. خمسة ملايين نسمة مُوزَّعُون على 18 طائفة. نَـدخُـلُ، أو نُدخَـلُ، كل عقد أو عقدين من الزمن ، كما ذكرت لكم سابقاً، في نَـفقِ صراعات الآخرين، أحيانا يُـلبسون الصراع ثوباً طائفياً، وأحياناً عباءة قومية، يتعاملون معنا كسلعة ورقم وصوت غبّ الطلب، لا وميض أمل بالتغيير طالما نحن نرى بعيونهم ونقرأ بأسفارهم، سوف نظلّ نُدَوِّمُ ونُدَوِّمُ ونُدَوِّمُ في حلزون "نحن شعب الله.. أما أنتم فمن أنتم؟ " ونستدعي الخارج كي يناصر فريقاً ضد آخر. إلى أن تنفر منّا وتقرفنا صَدَفَةُ الحلزون وتلفظنا مثل بصقةٍ ملتاثة موبوءة وتلعننا جميعاً .

سألت جوليانا : غريب أمر إصرار زعامات الطوائف اللبنانية على الرغبة بالتفرد والهيمنة على البلد. كلهم حاولوا وكلهم فشل أو سيفشل. أخالهم يتداورون ولايعتبرون.
على الطامح في هيمنة طائفته على الوطن، كائناً من كان، أن يقرأ التاريخ عله يغادر تهاويم غروره، وأن يتذكر ما قاله الخليفة المأمون أثناء عذابه خلال احتضاره، حين طلب جلد دابة، غطوه له بالرماد وصار يتمرغ عليه ويناشد الذات الإلهية :" يا من لا يزول ملكك إرحم من زال ملكه". أو ما قاله الإمام الأوزاعي لأبي جعفر المنصور :"لو دامت لغيرك ما وصلت إليك".
أكمل الدكتور: ليس بإمكان فئة أو شريحة أو طائفة أن تقوم بمهام الدولة، مهما بلغت من قوة ونفوذ وسلطان، ولئن غامرت وفعلت فسوف تنوء وتئن بعد حين من ذلك العبء، ومن عبثية الدب الذي أحضرته إلى كرمها. والذي يتسبب لها بعداوات تجر عليها الوبال والحقد والكراهية من فئات الشعب الأخرى، (شريكاتها في الوطن)، وسوف تكتشف استحالة التفرد والهيمنة وثقلها الباهظ بعد فوات الأوان حين ينتقل زعماء الطائفة إلى مقاعد المتفرجين، وحين يبدأ مسلسل انتقام عامة الخصم من عامة الطائفة. في النهاية على اللبنانيين أن يجدوا أنفسهم ويعرفوا لماذا هم لبنانيون، و المراحل التاريخية التي مروا بها كي يصبحوا لبنانيين. هم، وبجميع طوائفهم، يعلمون بأنهم كانوا في الأصل مجموعات متفرقة جمعتهم الصدف، أو ظروف وأسباب معينة، قسرية أم اختيارية، في منطقة جغرافية واحدة. عليهم أن يعوا من هم فعلاً ، وبغض النظر عن الطريقة التي يُسوُّون بها خلافاتهم في كل مرة، عليهم أن يتفقوا على قراءة موحدة، أو متقاربة لتاريخهم، وإلا فإنهم سيستمرون في البقاء مجموعة من العشائر البدائية المتنافرة أصلاً، يحلو لها أن تسمي نفسها "عائلات روحية". وسوف يبقى لكل "عائلة" امتداداتها الخارجية إقليميا ودولياً، تحمل في صلبها صواعق تفجيرها تنفجر بعد حين، يتولد عنها صواعق جديدة مبرمجة كي تنفجر بعد حين . 
ابن الوطن أم ابن الطائفة ؟
- سألت جوليانا : وباء الطائفية مستشر في بلدان عربية غير لبنان. هل ترى بأن استعدادنا الفطري للخضوع للطائفية بالولادة والنشأة أغرى مبعوث بوش الإبن الأميركي بول برايمر بالتجرُّء على تكريس الطائفية في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 بدستور مفصّلٍ بمقص طائفي بامتياز.  أنظر إلى ما كان ذات يوم عراقاً عزيزا قويا أبيا غنيا ثريا، وانظر إليه اليوم بمُكوّناته الرئيسية الثلاثة : شيعة وسنّة وكُرد، ترى فيديرالية بثلاث أمم لايجمعها سوى الاسم والعلم. يستغل الأجانب ثغراتها ويَسْتَعْدُونَ  الشقيق على الشقيق، يُقدِّمُون لهم الدعم.. ثُــمَّ ... ، بليلة ما لها ضوء قمر، يتخلَّون عنهم عند أول صفقة مُربحة. هل تعتقد بأننا سنرى العراق الذي كان مرةً أخرى؟ عراقا واحدا موحداً ؟
- لا أظن !! إلا في حالٍ من اثنتين .
- ما هما ؟
- في الحال الأولى : أن يبرز جيل عراقي جديد يعي أين تكمن مصلحته، وبذات الوقت يعلي مصلحة وطنه فوق مصلحة طائفته.
- وفي الحال الثانية : أن يتم توحيد العراق بالقوة وغصباً عن إرادة أهله، في وضع كهذا تكون المكونات العراقية الثلاثة التي ذكرت "محشورون" في وحدة كتلك التي كانت بعض الكيانات العربية الحالية كسوريا والأردن وفلسطين والعراق وسواها محشورة فيها  كجزء من الأمبراطوريات الرومانية والعربية وغيرها، من المؤكد بأنها كانت "موحّدة" لأنها أُرغِمَتْ على أن تكونَ "مُوحدة"  وليس بدافع رغبتها بالوحدة. ذلك كون الوحدة تحتاج إلى قرار ، والقرار لم يكن بيد تلك الكيانات العربية التي ذكرناها.
هَـمَّـتْ جوليانا بطرح سؤالٍ جديد فقاطعها الدكتور بإشارةٍ من يده :" لم أكمل الردّ بعد" . ثم قال : بما يتعلق بطائفيتنا "بالولادة والنشأة" كما ذكرت في سؤالك، أوافقك على مسألة "الطائفية بالنشأة"، ولكن ليس على "الطائفية بالولادة"، إذ ما من طفل أعطي الخيار كي يختار دينه.

- قالت جوليانا بأسى :واحسرتاه! الحال ليست بأفضل أحوالها حتما في العديد من البلدان العربية التي أصبحت مناطق نفوذ إقليمية ودولية، منها ما قُسِّمَ فعلاً، وبانتظار الوقت المناسب لإعلانه، ومنها ماهو على وشك التقسيم. التاريخ يعيد نفسه،ما كان يسمى في عهد الانتداب مندوبا ساميا صار يجول في ديارنا باسم "المبعوث". 
- همهم الدكتور: لما العجب ؟؟ ما يدور حالياً على ساحاتنا البائسة هو التجسيد الفعلي لما توعَّد به الأميركيون من "فوضى خَلّاقة". انتبهي يا عزيزتي! إنها فوضى، انتبهي مرة أخرى ! إنها خلاقة ! خلاقة ماذا ؟ خلاقة فوضى ؟ فوضى ماذا؟ فوضى خلاقة . أرأيت ؟ إنها دائرة لعينة مقفلة. ارتشف جرعة ماء وأكْـمَـلَ : آخر حروب الأوروبيين الدينية كانت في إيرلندة بين البروتستانت والكاثوليك، التي كان أحد أهم روافد تمويلها معمر القذافي، ذلك الرئيس السابق الذي سوَّقَ زعامته لأكثر من أربعين عاماً على أساس عروبي، يموِّل حروبا في بلاد بعيدة ويهمل إكمال بناء مستشفى في بنغازي تأخر افتتاحه عشر سنوات عن الموعد المقرر لإنجازه.  انتهت تلك الحرب الإيرلندية، وكان قبلها حروبا كثيرة منها حرب الثلاثين سنة التي استمرت من العام 1618 إلى العام 1648. تلك الحروب الدينية في أوروبا ذهبت إلى غير رجعة على الأرجح، طواها النسيان عندهم بينما أضرمتها الغرائز العمياء عندنا. هم انتهوا منها ونحن بدأناها عبر ذلك المولود المسخ الذي سُمّيَ بالربيع العربي. هذه ليست التسمية الخاطئة الوحيدة في تاريخنا، ثمة فائض عن الفائض، أذكر منها ما قاله المتنبي هاجياً قاضٍ من آل الذهبي :
لمّا نُـِسبتَ كُنتَ ابناً لغيرِ أبِ
ثم اختُبرتَ فلم ترجع إلى أدبِ
سُـمِّيتَ بالذهبيِّ اليومَ تسميةً 
مُشتقةً من ذهاب العقلِ لا الذهبِ
*****************
انتماء اللبناني بين العروبة والفينيقية.
- سألتْ جوليانا: ثمة شرائح لبنانية - دينية وسياسية واجتماعية وثقافية - ، من مشارب متنوعة، تعتقد بأن لا شأن لنا بالعرب ولا شأن لهم بنا كوننا من أصول فينيقية . بماذا تردون على هؤلاء ؟
عبسة الدكتور أوحت للفتاة بأمر لم تتأكد منه، ولكنها عرفته حين  قال : 
أولاً - بخصوص الأصول : يذكر المؤرخ هيروديتس بأنه حين زار المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد، أخبره شيوخ صور الفينيقيين بأن جذورهم تعود إلى أصول عربية، وبأنهم نزحوا من شبه الجزيرة العربية قبل ذلك التاريخ بثلاثة وعشرين قرناً.
ثانياً – الإرث الحضاري : 
لم يترك الفينيقيون إرثاً حضاريا مكتوباً رغم استخدامهم للأبجدية. الورثة كثر والإرث قليل: بعض القوميين العرب يعتبرون الفينيقيين عربا قدامى نزحوا من شبه الجزيرة العربية إلى سواحل لبنان وأجزاء من ساحلي سورية وفلسطين. الحزب السوري القومي الإجتماعي بدوره يعتبر الفينيقين جزءاً من إرث الأمة السورية. هذا إضافةً إلى الفينيقيين اللبنانيين. ولا تنسي إضافة إلى عنصر اللغة، وهي إحدى أركان القومية، هل تساءل يوماً من يتباهون بأنهم فينيقيين لماذا يتكلمون العربية، وأحيانا الفرنسية، وليس الكنعانية التي كان يتكلمها الفينيقيون؟.  
ثالثاً- الجغرافيا:  كانت حدود المدن-الدول الفينيقية تمتد على ساحل البحر الأبيض المتوسط من اللاذقية شمالاً، حوالي 100 كلم داخل سورية حتى عكا جنوباً بحدود 20 كلم داخل فلسطين. ما أود قوله هو أنه  في عالم مُتَعَولمٍ مُتغيّر تحكمه القوة والمصالح، ما الذي يمكن حدوثه لو أوعزت جهة ما لهؤلاء السوريين والفلسطينيين للمطالبة بالجنسية اللبنانية استنادا إلى "فينيقيتهم" ؟ . 
إذا حاولت السلطات المختصة في وضعنا الحالي تجنيس بضعة أفراد سوف تقوم الدنيا ولن تقعد، فما بالك لو تضخَّم ذلك العدد ليصبح بملايين السوريين والفلسطينيين ... وبأكثرية مسلمة ربما؟ 
- سألت جوليانا : أليس لنا من روابط أخرى بالفينيقيين ؟ 
- زمّ الدكتور شفتيه وبدأ يشرح : شاءَ "المُـتَـفَـيْـنِقُـون" أن تبدأ، وتنتهي، رواية تاريخ لبنان عند مجد خرافي يزيِّن لهم بناء قصور هلامية على رمال اللاذقية وجبيل وبيروت وصيدا وصور، وانتهاء بـ عكّا.ولكن دورة الزمن شاءت أن يتوقف وجه الحظ عن الابتسام لفينيقيا حين غزاها الفرس وأنهوا استقلالها في القرن السادس قبل الميلاد. وبعدها بقرنين غزا الإسكندر الكبير الفرس وطردهم من بلادنا.. ثم، بعد حوالي قرن من الزمن، بدأت أمبراطوريته تتفسّخ بعد موته، حيث تقاسمها كبار العسكريين، فكان لبنان جزءاً من المملكة السلوقية التي شملت معظم بلاد الشام وكانت عاصمتها أنطاكية.
- علَّق زياد: الأمور تسير، كما أراها "من تحت الدلفه لتحت المزراب"، بلدنا ، أو ما أصبح بلدنا لاحقاً، تفلته يد لتمسك به أخرى، انتزعه الرومان من اليونان على ما أعلم ؟ هل أنا مصيب ؟
- صحيح ، في القرن الأول قبل الميلاد جاء الفتح الروماني وأصبح لبنان جزءاً من مقاطعة سورية ضمن الإمبراطورية الرومانية التي تمددت في ذلك الوقت لتضم جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. واستمر الرومان في بلاد الشام حتى الفتح العربي في القرن السابع للميلاد.
- سأله حارث : أين كان ثقل الوجود المسيحي في تلك الأيام ؟
وضع راحته على جبهته وصمت لبرهة ثم قال :
- دعونا نعود زمنيا بشطحة ضرورية واجبة التوضيح قبل كل تلك الأحداث، أي بحدود القرن الرابع للميلاد، كان قد تم نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى بيزنطه،(القسطنطينية أو اسطنبول حاليا) حيث صارت بيزنطة تسمى روما الجديدة. ومع انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى أثنتين : شرقية وغربية ، غزا الغوط الشرقيون عام 476 الإمبراطورية الغربية، وظلت الإمبراطورية البيزنطية–الشرقية بمنأى عن متناول الغوط. 
- حارث يسأل الدكتور :بمناسبة تطرقك للكنيسة ، كيف أثّرت الأحداث على المسيحية ؟ وبالعكس ؟
- كون رسالة الدين المسيحي انطلقت من الشرق، أي ضمن أراضي الدولة البيزنطية، كان ذلك العنصر الفعال في جعل الدولة البيزنطية تأتي مسيحيّة بالنشأة. بينما كانت الإمبراطورية الرومانيّة الغربية البعيدة، وعاصمتها روما وثنية، وبقيت كذلك لحوالي ثلاثة قرون بعد المسيح.

- سألت جوليانا: ما هو الفارق بين الإمبراطوريتين المسيحيتين المذكورتين من الناحية الإيمانية؟

أقدمت بيزنطه منذ البداية على تعريف الإيمان المسيحي عبر ما عُرِفَ بالإيمان الأرثوذكسي، أي "القويم". وذلك خلال مجمع كنسي عُقِدَ في بلدة نيقية في تركيا في العام 325 للميلاد. وهو ما يعرف لدى المسيحيين بالمجمع المسكوني الأول. ثم جاءت المجامع المسكونية التالية فزادت في دِقَّةِ التحديد الذي أُقِـرَّ في نيقية. 
ولكن ... كما في كل المعتقدات والأفكار، ومع بدء تناقض المصالح وتأجج جمر الشخصانية.  بدأت التباينات في التفسيرات الدينية تطفو على السطح، فإذا كانت الأفكار الإيمانية "النيقية" قد لاقت قبولاً مسيحيا عامّاً فإن أيا من التحديدات اللاحقة للأرثوذكسية لم يلقَ إجماعاً عليه. فمجمع خلقيدونيا الرابع في تركيا مثلاً، رأى بأن على المسيحيين أن يعترفوا بطبيعتين للمسيح، إحداهما إلهيّة والأخرى بشرية.
- سألت جوليانا ؟ مَــن قَـبِـلَ  ومن رفض يا ترى؟  
- مَسيحيُّـو مصر الأقباط، ويعاقبة سوريا، ومؤمنو الكنيسة الغريغوية في أرمينيا آمنوا بأن المسيح إله أصلاً، فأصبحت روما وبيزنطه تنظران إليهم على أنّهم "مونوفيزيون"، أي هراطقة من ذوي بدعة "الطبيعة الواحدة".

- سأله زياد : تحت أي حكم كان لبنان في ذلك الحين، ومتى دخل ضمن منطقة الفتح الإسلامي؟  
- قال الدكتور : بدأ النبي محمد دعوته إلى الإسلام في العام 610 م انطلاقاً من مكة والمدينة في منطقة الحجاز في شبه الجزيرة العربية، وذلك بعد أن أفلح في توحيد العديد من القبائل تحت رايته، وظل يدعو ويحشد حتى وفاته في العام 632 م. أكمل الدكتور :
- بعد وفاة النبي محمد بعامين، بدأ الفتح العربي لبلاد الشام في عهد الخلفاء الراشدين. حيث طردت آخر القوات البيزنطية إلى الأناضول عبر جبال طوروس في العام 641 م. ومنذ تلك الأيام وحتى العام 1918 بقيت بلاد الشام، بما فيها لبنان كما هو اليوم، جزءاً من أراضي الدولة الإسلامية التي تتابع على حكمها الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون ومن بعدهم السلاطين، باستثناء فترة الحروب الصليبية بين  1098 و 1291م. حيث حكم الفرنجة أجزاء ساحلية من الأراضي السورية.
- سأله زياد : ألم يكن للصليبيين من وجود في المنطقة قبل عام 1098؟   
- رد الدكتور: كان الوجود المسيحي، كما أسلفت، وجوداً بيزنطياً وليس تحت راية الصليبيين، حينها كانوا في أنطاكية، في شمال سوريا، على المجرى الأدنى لنهر العاصي، أي بحدود العام 969، وبقوا فيها في مراحل مد وجزر حتى العام 1085 م. يُوسِّعون سيطرتهم من هناك على أجزاء أخرى من وادي العاصي من حين إلى آخر ما بين 976 و 1070 م.

- هَلا تفـضَّلتَ باستعراض الدول التي تواجدت على أرض لبنان بعد الفتح العربي ؟

- قال الدكتور: بدءاً من القرن السابع للميلاد، كانت الدول التي سيطرت على بلاد الشام أو على أجزاء منها، بما فيها لبنان، من الناحية النظرية أو الفعلية، هي التالية:
1- الخلافة الأمويّة وعاصمتها دمشق من سنة  661  إلى سنة 750، وصلت إلى حدود الهند وآسيا الوسطى، عبر شمال أفريقيا، سواحل المحيط الأطلسي، وأسبانيا والبرتغال في شبه الجزيرة الإيبيرية وسموها الأندلس.
2- الخلافة العباسية وعاصمتها بغداد من سنة  750  إلى سنة 1258، شهدت ازدهاراً ونُموّاً ومجداً في قرنها الأول فقط، شملت في ذروة عزها كل الأراضي التي كانت تحت سلطة الدولة الأموية ما عدا المغرب والأندلس. ولكنها بعد العام 861، بدأت بالتفتت عندما ضعفت سلطة الخلفاء المركزية في بغداد، بجانب منها نتيجة اعتمادهم على الأجانب أمنيا وعسكريا، مما أدى إلى نشوء إمارات وممالك في أنحاء مختلفة من البلاد، تدين لبني العباس بالولاء شكلياً. مثل الطولونيين عام 868 والأخشيديين عام 869. والحمدانيين والمرداسيين بين العامين 845 و 1070.

3- الخلافة الفاطمية : ( 909 – 1171) تأسست في مدينة المهدية في تونس حيث اتخذها الفاطميون عاصمة لهم، نقلوها إلى القاهرة في العام 973  بعد فتح مصر وقضائهم على الدولة الإخشيدية هناك (969). بينما كانت الخلافة العباسية في بغداد على مذهب السنة، كانت الخلافة الفاطمية تقوم على مذهب الشيعة الإسماعيلية. تابعوا توسيع نطاق سيطرتهم على بلاد الشام، بما فيها لبنان. وفي ذروة الحكم الفاطمي في بلاد الشام، اعترفت لهم الدولة المرداسية القائمة في حلب بالسيادة ودانت لهم. 

4- السلطنة السلجوقية وعاصمتها أصفهان في إيران من العام  1058  ولغاية العام 1157، كانوا شديدي التمسك بمذهب السنَّة وذلك ما دفعهم لإنقاذ الخلافة في عامي 1055 و 1058 ، وهم في الأصل من قبائل الغز التركية. 
في العام 1070، انتزع فريق من زعماء الترك بلاد الشام من الفاطميين، ثم لحق بهم الملوك السلاجقة فاحتلوا هذه البلاد وتم بسط سيطرتهم عليها في العام 1086. وصارت مدينة حلب قاعدة الحكم السلجوقي هناك. بعد موت أول ملوك السلاجقة بحلب في العام 1095 اقتسم ابناه بلاد الشام فيما بينهما، فأقام أحدهما في حلب والأخر في دمشق. وحصل بعد ذلك أن حكمت في دمشق، كما في حلب، أسر مختلفة من الأتابكة (وكلاء السلطان أو القصر) الذين يدينون بالولاء اسمياً لا فعلياً للسلطان السلجوقي المقيم في أصفهان.

5- السلطنة الأيوبية وعاصمتها القاهرة من عام 1183 إلى عام 1250، أسسها  صلاح الدين يوسف بن أيوب، أصله كردي أرسله الأتابك نور الدين بن زنكي إلى مصر في العام 1169 حيث أطاح بعد سنتين بآخر الخلفاء الفاطميين وتملَّك مكانه باسم صاحبه نور الدين.
بعد وفاة نور الدين في العام 1174، احتلّ صلاح الدين دمشق، ثم استولى على حلب في العام 1183. وبعد وفاته في دمشق، في العام 1193، أعقبه شقيقه سيف الدين حيث استمرت السلطنة في ذريته حتى العام 1250.
6- سلطنة المماليك: (1261- 1517) 
المماليك رقيق أتراك اشتراهم آخر السلاطين الأيوبيين ودربهم كجنود ليشكلوا الكتيبة الممتازة في جيشه.  ورثوا السلطنة الأيوبية عام 1261، وهزموا المغول عام 1260 في مرج عين جالوت القريب من مدينة بيسان في فلسطين. 
 أ- حقبة المماليك البحرية (مزيج من الترك والمغول) : من عام 1261 إلى عام 1382، وعاصمتها القاهرة. كما اشتراهم السلطان الأيوبي كرقيق ترك، هم بدورهم اشتروا رقيقا من الشركس انقلبوا عليهم حين شعروا بأن وسائل القوة صارت متوفرة لديهم.

ب -  حقبة المماليك البرجية – ( من الشركس) : من عام 1382 إلى عام 1517 )

7- السلطنة العثمانية : (1379 – 1922 ) 
بدأت السلطنة العثمانية عام 1379 كإمارة صغيرة في مدينة إيدرنه الواقعة على الحدود التركية البلغارية، ثم بدأت بالتوسع صوب صربيا واستولت على بعض الإمارات التركية الصغيرة. وفي العام 1516 تمكنوا من هزيمة المماليك في معركة مرج دابق شمالي حلب. وبعد أن صارت أراضي ما يُعرف اليوم بالعراق والكويت وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن تحت سيطرتهم أكملوا زحفهم ليستولوا على معظم شبه الجزيرة العربية ومصر، واعترفت لهم بلدان شمال إفريقيا بالسيادة باستثناء المغرب.
على أثر هزيمة الدولة العثمانية عام 1918 في الحرب العالمية الأولى، فقدت السيطرة على أراضيها، ألغيت السلطنة، وصارت بقايا الإمبراطورية جمهورية تركية في العام 1922. ولكنها استمرت كمركز للخلافة الإسلامية لغاية عام 1924 حيث ألغيت الخلافة في ذلك العام ولم تعد قائمة بعده. 
8- الإنتداب الفرنسي لغاية عام 1946.
بين الدين والسياسة:
كما الدم يستسقي الدم الدين يستسقي السياسة، والسياسة تستسقي الدين.
دائرة أخرى مقفلة تزيدها النوازع الخفية في النفس البشرية غموضاً ووحلاً ودما. وغالباً ما يُفلحُ "الطامحون" بإضفاء ستر على طموحاتهم.
ما حدث بعد موت المسيح بين الطائفتين المسيحيتين الرئيسيتين في حينه، الأرثوذكسية والكاثوليكية، وبعدهما البروتستانتية، تكرّر بصيغة أخرى عند الإسسلام بعد وفاة النبي محمد بين السنّة والشيعة، وبعدهما الاسماعيلية وفرق أخرى. إذ كان الشيعة، وهم من أهل بيت الرسول، يُصرُّون على أن تستمر الخلافة في بيت الرسول، بحيث تكون من حق الإمام علي، وهو ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة، وذريته من بعده. بينما كان السنّة يرفضون ذلك.

وبعد أن تولى منصب إمامة المسلمين ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم : أبو بكر الصديق، عمر بن عبد الخطاب، وعثمان بن عفان، تم انتخاب الإمام علي كخليفة رابع عام 656 . وعلى أثر اغتيال الإمام علي عام 661. آلت الخلافة بالدم إلى الأمويين ثم العباسيين، ولكن أيّا من تينك الأسرتين العربيتين لم تكن على صلة قرابة بالنبي، إذ أن الأولى، (الأمويون) تزعم بأنها من قريش، وهي القبيلة التي ينتمي إليها النبي. أما الثانية فقد ادعت أن جذورها تعود إلى العبّاس عم النبي.
ولكن الشيعة لم يعترفوا لأيّ منهما بالشرعية. 
سأل زياد : والشيعة بدورهم توزعوا على فرق متنوعة .
- أجاب الدكتور : أجل 
أهم فرق الشيعية التي كانت في الشام هي الطائفة الشيعية السبعية، أو حسب تسميتها المعروفة الإسماعيلية. 
- سأل زياد مرة أخرى : لماذا سُمِّيت سبعية ؟
- ذلك بسبب انشقاقهم عن الشيعة الاثني عشرية في عهد الإمام السابع وبسببه. 
- ومن هو الإمام السابع ؟
- هنا ثمة إشكالية ، فلو كان الذي سيردّ على سؤالك شيعي سبعي، أي إسماعيلي، لقال لك بأنه اسماعيل، الابن البكر للإمام جعفر الصادقً.  أما لو كان المجيب شيعياً اثنا عشرياً لقال لك بأن الإمام السابع هو موسى الكاظم بن جعفر الصادق، أي الأخ الأصغر لاسماعيل. 
أكمل الدكتور: باختصار، أتباع اسماعيل قالوا بأنه اختار "الستر" وبذلك فإن مكانه لم يعد معروفاً إلا لقلة من أتباعه، كما اعتبرت الطائفة بأن عدداً من الأئمة بعد اسماعيل اختار الستر أيضاً، وبأنه سوف يعود "ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ساد الجور والظلم". 
أما أتباع موسى الكاظم فقالوا بأن اسماعيل مات وأصبحت الإمامة من حق أخيه الأصغر موسى. وهكذا أكمل موسى بصفته الإمام السابع من ضمن سلسلة الأئمة الشيعة الإثني عشرية، أما أتباع اسماعيل فزاحوا عن المسار وانفردوا بِخَطّهِم "الاسماعيلي" المستقل. والذي بدوره سوف يتعرّض لمزيد من الانشقاقات.

خطر لأحد هؤلاء الأئمة الذين قرروا أن يذهبوا إلى "الستر" أن يخرج منه في تونس، وهو الإمام عبيد الله ، فلقّب نفسه بالمهدي وأصبح مؤسس الخلافة الفاطمية في تونس، ثم نقل خلفاؤه عاصمتهم إلى القاهرة، كما سبق ذكره، وكان الخلفاء الفاطميون يمارسون الخلافة على أساس كونهم أئمة إسماعيليين.
درج الإسماعيليون على الإعتقاد بأن أئمتهم معصومون عن الخطأ. ومنهم من نسب إلى هؤلاء الأئمة صفات من الألوهية تسمو بهم وتجلّهم عن سائر البشر. واعترف بعض الإسماعيليين لأحد الخلفاء الفاطميين ، وهو الحاكم بأمر الله، (996- 1021) ، بكونه إماماً ذا صفة فريدة، ألا وهي كونه التعبير الأخير عن الوحدة في ذات الله. ولكن هذه الدعوة الإسماعيلية الخاصة لم تجد لها نجاحاً في الشام، حيث سمي أتباعها بالدروز . وكانت هذه الدعوة تطلق على أتباعها أصلاً اسم "الموحدين".

أما الطائفة الشيعية الثانية التي تعاظم أمرها في الشام فهي الطائفة الإثنا عشرية أو الشيعية الإمامية التي تعترف بتوالٍ لاثني عشر إماماً أولهم الإمام علي، الحسن، الحسين، علي بن الحسين، الباقر، جعفر الصادق، موسى بن جعفر، علي بن موسى، محمد الجواد، علي الهادي، الحسن العسكري، محمد الحسن العسكري.
إن الشيعة الاثني عشرية تقول بأن الإمام الثاني عشر، محمد الحسن العسكري أو محمد المهدي، دخل العام 874، أو في العام 879، في "غيبة" عن العالم "سيعود منها حتماً" عندما يحين الوقت ليملأ الأرض عدلاً بدلاً من الظلم السائد.
وبالإضافة إلى الشيعة الاثني عشرية والشيعة الاسماعيلية السبعية التي تفرع عنها الدروز يوجد طائفة شيعية أخرى هي طائفة النصيرية، أو العلوية. 
يتبع - قريباً