{ التطوّرُ والتحوّلُ }
شغلني موضوع التطور والتحولات منذ زمن بعيد ... يعود إلى العام الدراسي 1949 / 1950 حيث درّسنا يومذاك المرحوم الأستاذ ناظم شوقي [ الدكتور فيما بعد والأستاذ في كلية العلوم / جامعة بغداد ] مادة الأحياء في متوسطة الحلة للبنين. كان يُلمّح إليها بين حين وحين وكان الموضوع هذا أكبر من قدراتنا العقلية. مع ذلك لم تفارق ذاكرتي أبداً موضوعات من مثل ( النشوء والإرتقاء ) و ( البقاء للأصلح ) و ( الإنتقاء الطبيعي ) فضلاً عن ذكره للعالم دارون صاحب نظرية النشوء والإرتقاء. ما سمعنا ـ قبل الفقيد أستاذنا الفذ ناظم شوقي ـ بهذه الأسماء والعناوين والظواهر وكنا مأخذوين بتفرّغه وتفانيه في التدريس حتى مستويات غير معروفة في ذاك الزمان ولا مألوفة . جمع طلبة صفنا [ الثاني متوسط ] ذات يوم في قاعة كبيرة تتوسطها طاولة كبيرة خضراء اللون طرح فوقها أرنباً أبيض اللون ... خدّره بمادة كيميائية ثم ثبّته بمسامير صغيرة على سطح الطاولة وشرع بشريحه بأناة ودقة شارحاً لنا كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأحشاء الأرنب وأجهزته وتفصيلات أعضائه. لم يحصل قبلاً مثل هذا الأمر على صعيد التعليم المتوسط. وللتأريخ ... كان مدير المدرسة الأستاذ عبد المجيد الفلوجي يتعاون معه بلا حدود ويضع تحت تصرفه كافة الإمكانيات المُتاحة وكنا، نحن الطلاّب الصغار، نلاحظ ذلك فالأستاذ الفلوجي أبو رياض كان حازماً في الأمور الإدارية وشديداً مع باقي المدرسين حدَّ زعل البعض منهم عليه وإلغائهم عقود عملهم في العراق كالأستاذ الفلسطيني الرائع محمد سليم رشدان والأستاذ المصري سعد درويش [ واصل التدريس في نفس المدرسة المتوسطة لسنوات عدّة ]. كنّا نعرف سبب غضب الأستاذ المصري لكننا كنّا نجهل سبب خلاف الأستاذ الفسطيني مع السيد مدير المدرسة ! في ضوء هذه الأحداث والنماذج كنا نلمس قوة ومتانة العلاقة التي تربط الأستاذ ناظم بالسيد مدير المدرسة فهل كان للجورة أو الجيرة أو التجاوربالسَكَن دورٌ حاسم في هذا الموضوع ؟ كانا متجاورين في سكنهما. كانا ينتميان إلى جيلين مختلفين فالأستاذ الفلوجي أكبر سنّاً من المرحوم ناظم بأربعة أو خمسة أعوام حسب تقديراتي ومشاهداتي ومقارناتي. هذا منشأ معرفتي بقوانين التطور ونظريات دارون ومن أنَّ أصل الإنسان قرد وغير ذلك. وهذه بداية طرحي لمسائل مُحدّدة للنقاش الفكري والسياسي أجملها بما يلي :
الفصل الأول :
1ـ التطور والتحوّل بآليات صراع الطبقات على المستوى البشري [ ماركس ]
2ـ التطور والتحوّل بآلية صراع الأضداد على كافة الصُعُد [ ماركس ]
3ـ التطور والتحول حسب قانون البقاء للأصلح و ( الأقوى ) [ دارون ]
هل الأصلح والأقوى هو الأفضل وهو الأفضل دوماً ؟
4ـ البقاء للأذكى والمنتصر وللمحقق أهدافه [ إبن خلدون ]
إعتبر إبن خلدون وآخرون (1) في مقدمته أنَّ معاوية أفضل من علي في صراعهما المعروف لأنه، معاوية، حقق النصر على علي في معركة صفّين بخدعة التحكيم ورفع المصاحف على رؤوس الرماح ! معيار ابن خلدون هو : من يحقق أهدافه ومن يحقق نصراً على خصمه فإنه الأفضل!
5ـ إنتقاء الطبيعة ( الإنتقاء الطبيعي ) [ دارون ]
6ـ التطور والتحولات الكبرى نتيجةً لتظافر وعمل هذه الآليات جميعاً ومعاً.
التطوّر والتحوّل / الصراع الطبقي
علّمنا كارل ماركس أنَّ ( الصراع الطبقي هو مُحرّك التأريخ البشري ) ومن خلال هذا الصراع تطوّرت البشرية صعوداً من حقبة العبودية حتى بلغت المرحلة الرأسمالية ومن ثمًّ الإشتراكيّة المعاصرتين وهما مركز إهتمامي وأساس مقالي هذا فما الذي جرى وما كانت نتائج الصراع بين المعسكرين الكبيرين الرأسمالية العالمية تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في حلف الناتو من جهة ومعسكر الإشتراكية العالمية يقوده الإتحاد السوفييتي السابق ومعه حلفاؤه في حلف وارشو. الكلام عن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تكللت بانتصار الحلفاء [ كلا المعسكرين ] على ألمانيا النازية وحلفائها في دول المحور الثلاثي ( ألمانيا وإيطاليا واليابان ). لم تكد أنْ تنتهي الحرب المدمّرة الشديدة السخونة حتى بدأت حرب جديدة دُعيت ( الحرب الباردة ) خاصة بعد أنْ ضربت أمريكا في شهر آب 1945 مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بقنبلتين ذريتين وهما سلاح فتّاك جديد لم يسمع العالم به قبلاً. هل كان هناك قبل الحرب العالمية الثانية صراع طبقي على صعيد العالم بين القطبين الكبيرين، الرأسمالية والإشتراكية، أمريكا وروسيا ؟ لا أظن ذلك، لماذا ؟ كانت أمريكا تعاني من أزمة الكساد القاتلة التي امتدت لبضعة سنوات 1927 ـ 1933 في حين كان الإتحاد السوفييتي تحت زعامة ستالين مشغولاً بتحديث وتطوير الصناعة والزراعة والطاقة الكهربائية والصناعة النفطية وبناء السوفخوزات والكولخوزات والسوفيتات في عموم الدولة الجديدة : الإتحاد السوفييتي والنظام الإشتراكي. كانت أمريكا وقتذاك منكمشة على نفسها وليس لها وجود فعّال في أوربا خاصةً. إذاً لم يحصل صراع إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكري الرأسمالية والإشتراكية وبدايات الصراع بينهما فهل كان هذا الصراع طبقياً وكافياً لتحريك البشرية والعالم نحو عالم جديد ومرحلة جديدة تختفي الرأسمالية فيها وتنتصرالشيوعية نظاماً عالميّاً جديداً ؟ كلاّ، الصراع بين الدول لا يمكن أنْ يكونَ صراعاً طبقياً إنما هو الحرب بعينها ولا تنتصر الشيوعية بالحروب إنما السلم مناخها ومتطلبها الأساس.
سأتحفظُ كثيراً على القول السائد أنَّ الرأسمالية قد انتصرت على الإشتراكية بتفكك المعسكر الإشتراكي والإتحاد السوفييتي وحلف وارشو وانهيار جدار برلين بدايةً من العام 1989 ، لماذا ؟ لأنَّ هذا ( الإنهيار الثلاثي ) لا يعني بأي حال من الأحوال إنهيار أو نهاية الإشتراكية كحقبة تأريخية ونظام عالمي سينهض لا ريبَ ما دامت الرأسمالية قائمة في هذا العالم. كل ظاهرة في الكون تحمل نقيضها الذي يقضي عليها مع مرِّ الزمن وحركة الكون. مع الحركة يتكون ويبرز الجديد والمجتمعات البشرية تتحرك مع حركة عقارب الساعة ودوران الكواكب والنجوم حول بعضها وحول نفسها كما هو شأن الأرض أرضنا. سوى أنَّ الجديد في الأمر هو أنها تنشأ من أعلى أشكال ودرجات الرأسمالية الكليّة على عموم الكرة الأرضية وليس في بلد واحد. يبدأ الصراع الفيصل في داخل تنظيمات الرأسمالية العليا الكلية وليس بين قطبين متناحرين متضادين تمثل أمريكا أحدهما وتمثل الصين مثلاً [ والإتحاد السوفييتي السابق ] القطب الآخر والخصم الذي يرشحه تأريخ وقوانين التطور ليتبوأ قيادة البشرية نحو عالم جديد خالٍ من الطبقات والصراع الطبقي واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان : الشيوعية. لم يحصل أبداً صراع جدلي ( دايالكتيكي ) بين النظامين الرأسمالي بقيادة أمريكا والإشتراكي بقيادة الإتحاد السوفييتي السابق أبداً أبداً إنما حصلت في زمن الحرب الباردة مناوشات وحصلت حروب بالوكالة والتحريض والتمويل [ الحرب الكورية والحرب الفيتنامية والحرب في أفغانستان ] وحصلت إنقلابات وحروب أهلية وقف وراءها هذا القطب أو ذاك وحصلت أزمات قرّبت البشرية من شفير حرب ذريّة لا ينجو أحدٌ منها مثل أزمة خليج الخنازير والصواريخ التي وصلت جزيرة كوبا من موسكو. ليس في هذا أي شكل من أشكال وطبيعة صراع الأضداد الذي يقتضي وحدة وصراع الضدين فأين الوحدة ؟ لا وجودَ لها ... وأين الصراع الجدلي ؟ لا وجودَ له. المشكلة الجوهرية هي غياب الفعل الدايالكتيكي، الجدلي ... فكيف ولماذا غاب هذا الفعل المصيري وهل غاب بمحض الصدف أمْ غيّبته أطراف معيّنة يهمها غيابه لأنَّ وجوده يعني ويُفضي إلى زوالها من على مسرح البشرية وتأريخ البشر ؟ معنى هذا أنَّ الرأسمالية بقيادة أمريكا كانت أذكى وأقدر من الإشتراكية تحت قيادة الإتحاد السوفييتي وتفهم قوانين التطور والتحول وتطويعها بأشكال وآليات هي أفضل بكثير من خصومها في معسكر الإشتراكيّة الدولية ومركزها موسكو. تنضوي تحت هذا التصور أو التكهّن كافة الفرضيات والمقولات والأقاويل والتخريجات حول إنحراف القيادة السوفياتية وجمودها العقائدي وانشقاق المعسكر الإشتراكي وتشظيه إلى مراكز تمردت على ستالين وموسكو كالصين ويوغسلافيا ورومانيا والإنتفاضات المسلحة التي حصلت في المجر ثم في جيكوسلوفاكيا في آب 1968 [ ربيع براغ ] فضلاً عمّا حدث من إنشقاقات داخل صفوف بعض الأحزاب الشيوعية ومنها الحزب الشيوعي العراقي في عام 1967 بقيادة عزيز الحاج. وفي هذا المضمار كثُر القول حول دور سباق التسلح بين الشرق والغرب وغياب الدمقراطية في البلدان الإشتراكيّة وانكماش النمو الإقتصادي ونُدرة الحاجيات الضرورية لمعيشة مواطني هذه البلدان وخاصة الزُبدة واللحوم والملابس وأزمة السكن المستفحلة خاصة في الإتحاد السوفياتي السابق. الخلل الأكبر والأعظم إذاً في غياب الدور الفاعل لقوانين الدايالكتيك الماركسي!
هذه وجهة نظري أُصرّح بها عَلَناً ولا أدّعي أني مُصيب بشكل مُطلق وأنْ لا من وجهات نظر أخرى مغايرة أو مناقضة وهي وجهة نظر فكرية ـ فلسفية مُبسّطة مستقلة عن باقي النظريات والفلسفات الأخرى وعن الإقتصاد والإقتصاد السياسي خاصةً. كما إني لا أناقش مسألتي المركزية الدمقراطية ودكتاتوريّة البروليتاريا ودوريهما في تعثّر وفشل الإشتراكية في سباقها مع الرأسمالية. أتذكّرُ موقفاً لا أنساه : في لقاء تمَّ بين كرباتشوف والرئيس الأمريكي رونالد ريغان سأل هذا ذاك سؤالاً ذكيّاً خبيثاً : مَن الذي انتصر في الحرب الباردة أنتم أم نحن ؟ أجاب كرباتشوف " نحنُ " .... هل كان هذا الرجل غبيّاً في إجابته أم كان كصاحبه خبيثاً ؟ ما مصير هذا الرجل ؟ باع اسمه بمليون دولار علامة فارقة لشركة تنتج الفودكا . لم يُطق المقام في وطنه بل تشبث بوسائل كثيرة ليهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حتى رتبت له مصادر معروفة زيجة زواج من إمرأة أمريكية ( ربّما روسيّة الأصل مهاجرة لأمريكا ) أخذته معها إلى بلدها وطبيعي سيطلب هناك الجنسية الأمريكية حسب قوانين الهجرة الأمريكية. أيها الناس ! لا تنسوا مّنْ كان هذا الرجل في موسكو وعموم الإتحاد السوفيتي قبل تفككه وزوال المنظومة الإشتراكية وحلف وارشو... تذكّروا عسى أنْ تنفع الذكرى ! هل تنتصر الإشتراكية برجال من هذه النوعية والعيار ؟ لا أتكلم عن السكير المدمن يلتسين ... لا .. ليتكلم عنه غيري. إلى هذا وذاك إنتهى مصير الإشتراكية وفي قلبها وموطنها الأول ويأتيك مَنْ يُثرثر من كافة جهاته حول حتمية خسارة الإشتراكية وانتصار الرأسمالية !
سؤال :
هل الحرب ضرورية للتحول من الرأسمالية إلى الإشتراكية وأنْ لا إنتصار لهذه على تلك إلاّ بالحرب ؟ هذا سؤال مطروحٌ للمناقشة.
ملاحظة : أكتب مقالي هذا وأتابع ما ينشر الدكتور محمود محمد علي من مقالات في موقع " المثقف " بعنوان [ سقوط الإتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع ] ... حزيران 2019 . ما أكتب شئ مُختلف عمّا كتب الدكتور محمود فإنه يُركّز على دور الحروب في هذا السقوط أي أنه سار في المنحى المعاكس لإتجاهي بتناوله أثر الحرب في فشل التجربة الإشتراكية بينما أنحو أنا المنحى المعاكس أعني هل تنتصر الإشتراكية بالحروب ولا غير الحروب ؟ وهذا يعني فشل واندحار الرأسماليّة نتيجة خوضها للحروب .
همّي الأكبر هو دراسة وتحليل عواقب تعطيل آليات قوانين الدايالكتيك وكيف عُطلت ومن قام بتعطيلها فترة الحرب الباردة التي بدأت بُعيد الحرب العالمية الثانية كما هو شائع لكني أجزم أنها ( الحرب الباردة بين المعسكرين ) بدأت مع الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936 وغزو الجنرال فرانكو لإسبانيا منطلقاً من المغرب وتواطؤ الغرب معه خاصة هتلر وطائرات سلاحه الجوي التي دمّرت الكثير وفي مقدمة ما دمّرت والأكثرشُهرة هي مدينة غيورنيكا التي خلّدها الفنان بيكاسو بلوحته الشهيرة " غيورنيكا " المعلّقة اليوم على أحد جدران المتحف الوطني الإسباني في العاصمة مدريد.
الرأسمالية العالمية تُدرك جيّداً أنَّ السلامَ العالمي هو عدوها اللدود ومعول هدمها وتحويلها إلى أنقاض وآثار عفى عليها الزمن فبدون حروب تواجه كساداً قتّالاً وبطالة مروّعة وفقر وجوع وإضرابات وتخريب الأمر الذي يؤول بالحتم نحو إيثار الناس للنهج المغاير : الإشتراكية، لذا تظل هذه الرأسمالية العالمية تفتعل الحروب والنزاعات لتعطّل فعل قوانين التطور والتحول الضرورية لقيام التحولات الكبرى في ظل السلم العام. هذه هي المسألة كما أراها.
سؤال آخر :
حول مقولة البقاء للأصلح والبقاء للأقوى /
هل صحيحٌ أنَّ الأصلحَ ينتصر في صراعات الحياة والإنسان والحيوان في الطبيعة وهل يبقى هذا ( الأصلحُ ) هو الأصلح لآماد وآماد وهذا أمر يخالف جذريّاً قوانين التطور والتحول الدايالكتيكية فالمادة في حركة دائبة مع مرور كل ثانية زمنية ومع هذه الحركة يتم التحول والتطور أي أنَّ ما هو صالح اليوم سيغدو غير صالح غداً وهذه بديهة يعرفها الجميع. البقاء والصلاح يتناقضان عاجلاً أم آجلاً. أضرب مثلاً من المسألة التي سبقت الإشارة إليها .. أعني النزاع بين عليٍّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سُفيان الذي حُسم لصالح معاوية في معركة صفيّن حيث خدعة التحكيم ورفع المصاحف على رؤوس الرماح. هل انتصر معاوية على عليّ لأنه الأفضل والأصلح ؟ كلاّ ! إنتصر مَنْ انتصر بخدعة لئيمة وخيانة وغدر مُركّب فكيف يكون الخائن والغادر والدسّاس هو الأفضل ؟ الناس مختلفون حول مقاييس الفضيلة فمن قائل [ الغاية تبرر الوسيلة / ميكيافيلي ] فافعلْ ما شئتَ لكي تكون المنتصر ... إكذبْ ... مارس العهر .... أغدرْ ... إشترِ الرجال بالمال والنساء ... قدّم ظهرك لعدوّك ... مارس القوادة وما شابه ذلك ... إفعلْ لتنتصر على خصمك ما شئتَ ! هل في هذا صلاح للأمّة ؟ قال قبلنا مفكّرون وفقهاء إنَّ الدُنيا إنتصرت بمعاوية على الدين مع عليّ وانتصارها يعني غلبتها وأفضليتها على الدين والجنّة والآخرة وأنها تمثل عصرها وإنها هدف وغاية أغلبية ناس ذاك الزمان ولا غرابة في هذا النصر ففيه إرادة ومزاج ومصالح الناس فحققت الحياة إرادتهم وأعلت قيمهم وضمنت حاجاتهم إذْ ليس أمامهم إلاّ حياة واحدة يحيوها لمرة واحدة أما الجنّة فشأنها لمن يعتقد بها ولمن يبتغيها وهناك ثلاثة أمثلة معروفة ومتداولة تعبّرُ أصدق تعبير عن هذا الكلام منسوبة لخليفتين أو ثلاثة من خلفاء بني أُميّة ( لعِبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا / خبرٌ جاءَ ولا وحيٌّ نزلْ ) والثاني ( اليومَ خمرٌ وغداً أمرُ ) والثالث ( إذا لاقيتَ وجهَ ربّكَ يومَ حشرٍ / فقلْ يا ربِّ مزّقني الوليدُ ) هنا يخاطب الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان قرآن المسلمين . معلوم أنَّ الناس يتبدلون في حيواتهم وتتغير أمزجتهم وأنماط هذه الحيوات ويتغير طعامهم وتتغير ملابسهم ويتغير ملوكهم وسلاطينهم وأمراؤهم وخلفاؤهم فكيف نفهم مقولة أنَّ البقاء للأصلح ؟ هل تنطبق هذه المقولة على حالة سقوط دولة بني أُميّة وانتصار دولة بني العبّاس ؟ وسقوط هذه وانتصار دولة هولاكو والمغول ؟ سقطت الملكية في العراق وانتصر النظام الجمهوري وتتابعت الإنقلابات حتى مجئ البعث للحكم في إنقلاب 17 تموز 1968 فهل تسلسلت هذه الإنقلابات من الأسوأ للأفضل وأمامنا ما آل إليه حكمُ آخر حزب وعصابة حكمتا العراق! هل وضع العراق اليوم ( تموز 2019 ) أفضل من وضعه زمن عبد الكريم قاسم أو عبد الرحمن محمد عارف ؟ البقاء أصلاً أمر نسبي عابر ولا ثبات في الحياة فالصالح اليوم لا يبقى للأبد صالحاً.
سؤال آخر : هل الأقوى هو الأصلح وهل الأصلح هو الأقوى ؟ هل انتصرت الرأسمالية على الإشتراكية في زماننا هذا لأنها الأقوى أم لأنها الأصلح أم الإثنان ؟ لا تنتصر الإشتراكية على الرأسمالية بالحروب بين هذين القطبين بل تنتصر سلميّاً في قطب الرأسمالية الأكبر في مجرى التنازع والصراع الطبقي اليومي الدائب بين جبهة الرأسمال من جهة والطبقة العاملة المُنتجة في الصناعة والزراعة ومناجم الفحم والتنقيب عن المعادن كاليورانيوم والذهب والماس وباقي المعادن النادرة والثمينة ... وحلفائها من المثقفين والبرجوازية الصغيرة بكافة مستوياتها. فإذا حصل التحول التأريخي الجبّار هنا جرَّ العالم معه في هذا التحول سريعاً أو تدريجاً أو يأخذ أشكالاً شتّى حسب ظروف البقية من بلدان العالم وطبيعي أنْ لا تجري هذه التحولات بطرفة عين بل ستأخذ حِقباً وأجيالاً لا يستطيع أحدٌ تقديرها فقد تقصُر وربما تطول لأزمان وأزمان إعتماداً على ظروف العالم الشديدة التغيّر التي يمكن التنبؤ ببعضها والقليل منها.
الإشتراكية في قلب الرأسمالية وليس في التنازع [ والتعايش السلمي ] بين قطبين عُظميين.
الفصل الثاني :
حول مقولة ( الصُدفة والضرورة ) ومن أنْ ( لا صُدفة بدون ضرورة ).
أرى أنَّ في هذه المقولة الشهيرة خطأ خطيراً بل وأكثر من خطأ. أجملها بما يلي :
1ـ الصدفة والضرورة ليستا أضداداً جدلية [ دايالكتيكية ]
2ـ الأضداد الجدلية [ الدايلكتيكية ] تستلزم وحدتها والصراع فيما بينها حسب قانون " وحدة وصراع الأضداد " الماركسي الجدلي.
3ـ قوانين الصراع الماركسية تقرر أنْ في مجرى الصراع بين الأضداد ينتصر أحدها ويفنى الآخر ... فمن هو المنتصر ومن هو المندحر الفاني في عملية الصراع المُفترض بين الصدفة والضرورة وما هو العنصر الجديد وليد هذا الصراع ؟ صدفة جديدة ؟ ضرورة جديدة أو ماذا ؟
4ـ لا أرى أية علاقة بين الصدفة والضرورة والأمثلة أكثر من أنْ تُعدُ وتُحصى منها مثلاً :
أمشي على رصيف شارع عام في مدينة كبيرة أو صغير تقابلني سيارة ما أنْ تقترب مني حتى ينفجر إطار أمامي فيها فتنحرف وتصعد الرصيف وتقتلني وربما آخرين غيري. أين الضرورة في هذه الصدفة ؟ هل قتلي في حادث عارض وغير متوقع هو ضرورة وما طبيعة هذه الضرورة وإلامَ تؤدي ؟ أنْ أمشي على رصيف شارع عام في زمن محدد وتقترب مني في هذا الزمن المحدد سيارة ينفجر فيها واحد من إطاراتها الأمامية فتنحرف وتصطدم بي وتقتلني ! هذه محض مصادفات عرضت فما وجه ضرورتها في عملية قتلي ومفارقتي للحياة ؟ هل في تنحيتي من الحياة ضرورة وضرورة لمن ؟ هل فيَّ على الحياة خطر داهم يستدعي إزالتي من على سطح الكرة الأرضية لتجنيبها شرَّ هذا الخطر ؟
مثال آخر : أحجز مقعداً في طائرة تأخذني إلى عاصمة بلد ما في يوم بعينه وإقلاعها يتم في ساعة محددة بذاتها ... تقلع الطائرة وفي الجو عالياً يحدث فيها خلل فتنفجر وتتمزق إلى أشلاء ويحترق جميع ركّابها وأنا أحدهم. تحديدي للهدف من طيراني واختياري لساعة ويوم السفر والشركة المسؤولة عن خط طيراني ما علاقتها بما حادث للطائرة وقد حدث ما حدث وكان ممكناً أنْ لا يحدث. ما الضرورة في تحطّم الطائرة ومقتل جميع ركابها ؟
إذاً، والأمثلة كثيرة جداً، لا من علاقة جدلية أو غير جدلية تربط الضرورة بالصدفة ولا هذه بتلك. أجلْ، الأمثلة لا تُعد ولا تُحصى.
قرأت ذات يوم في كتاب فلسفي جملة تقول : الصدفة هي طريق تجلّي الضرورة ! وهذا كلام لا يختلف عن ذاك القائل : لا صدفة بدون ضرورة. أفتوني يا ناس في شأن هذه المعضلة وأريحوني.
هوامش
(1)
علي الوردي، كتاب وعّاظ السلاطين، الناشر شركة بهجة المعرفة / بغداد التأريخ ؟ الصفحات 218 ـ 219 .... كتب علي الوردي ما يلي ( يقارن بعض الباحثين بين عليّ ومعاوية فيفضلون معاوية على علي باعتبار أنهما تنافسا على الخلافة فغلب أحدهما الآخر والغالب أفضل من المغلوب في عرف هؤلاء الباحثين . لا مراء أنَّ معاوية أفضل من علي ـ هذا إذا قسنا الفضيلة بمقياس الغَلَبة والفوز في ميدان السياسة. .... إننا نظلمُ عليّاً حين نقيسه بمقياس معاوية فمعاوية رجلٌ من دهاقين السياسة ودُهاتها ولنا أنْ نفضله على غيره حسب هذا المقياس. أما عليّ فكان له مقياس آخر يختلف عن مقياس معاوية إختلافاً كبيراً .... لقد فشل عليٌّ في ميدان السياسة حقاً وهو خاسر إذاً في نظر أولئك الذين يحترفون السياسة ولا يرون في التاريخ سواها. أما في نظر أولئك الذين يعتبرون التاريخ معركة مبادئ فعليٌّ بطلٌ جبّار لا يُشقُّ له غُبار. )
0 comments:
إرسال تعليق