إن استمرار حالة الاستقرار والأمن والأمان هي نتيجة مباشرة لسعي جاد وعمل دؤوب وجهد متواصل ونشاط حي يحسب في ميزان محاسن السلطة ويرفع رصيد مصداقيتها ومستوى الثقة فيها ، فالأمن والسلام لا يتحققان عفويا بل برعاية رحيمة وعدالة حاسمة وبحق يستند إلى قوة رادعة.
عندما يحدث أن تتشنج الجبهة الداخلية على وقع أزمات اجتماعية حادة وعميقة قد تم استشعار تجاهلها أو تسويفها والتماطل في التعامل معها لحلها ، أوعندما يعمد النظام إلى الاستغلال السياسي لقوات للأمن لمواجهة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية السلمية، ويلجأ إلى توظيف العدالة لتجريم الاضرابات عن العمل ولقمع الاعتصامات والمسيرات ثم الحكم بعدم شرعيتها خدمة لأغراض السلطة، حينها يتحمل النظام وحده المسؤولية الكاملة عن ما تصل الأوضاع في البلاد من حالات الانسداد السياسي والجمود الحكومي الذي كثير ما يؤدي إطالة أمده مع استمرار التشنج الاجتماعي إلى التصعيد المتدرج للأحداث إلى حد وقوع المواجهات العنيفة والأليمة بين المواطنين الغاضبين وعناصر قوات الأمن ، وعندما يدفع النظام الحركات الاحتجاجية الاجتماعية أو السياسية السلمية للإيقاع بها في فخ العنف فإنه في الحقيقة قد ساق الأمور ووجهها بنفسه من أجل إيجاد المبرر الكافي له للتعامل معها عن طريق الحل الأمني، وبالتالي حسمها بالقوة بدل التكفل بمسؤولية احتواء الأزمات الداخلية سلميا بفتح النقاش الحر الصريح حول مسبباتها .
إن حيوية أي شعب تُستمد من واقعه وتقاس بمدى ما يبديه حكامه من حرص ورعاية لإقامة نظام حكم سليم ومتطور ولترقية النظام التربوي والتعليمي وتطوير نظم التدريب والتكوين المستمر، وتقاس قوة الأمم بقدرتها على الابتكار العلمي والتطور التكنولوجي ، هذا إلى جانب الجهود المتواصلة من أجل إشاعة التوعية السياسية بالحقوق والواجبات التي هي الحل السحري لكل المشاكل، فحل معضلة الحكم والفساد مثلا هو بعث روح العدالة في كل المجالات، وتشجيع ممارسة المعارضة الجدية الناضجة وطنيا مع الالتزام بفتح ممارسة الإعلام الحر والمسؤول والشجاع داخل الوطن لضمان أن تبقى معارك السياسيين الحقيقية والجدية في داخل الوطن ولا تجري خارجه، وهذه المسؤولية تتعلق مباشرة بمدى التزام قيادة البلاد بالتعايش مع الخصوم السياسيين، ومدى مستوى النضج السياسي لتقبّل مبدأ الشراكة مع المعارضة واستعدادها لإقامة الحوار والتشاور السياسي مع الخصوم حول مختلف القضايا الوطنية وشؤون الحكم . ربما لا يكون الأمر بهذه السهولة في ظل التطور المتسارع لتكنولوجيات وسائل الاتصالات ، ولكن إذا جاز القول أن لا شيء أصبح من الممكن إخفاؤه عن شعوب العالم من أخبار في أدق تفاصيل النشاط الإنساني فإنه يجوز أيضا الاعتقاد أنه بإمكاننا على الأقل التحكم في مستوى وحجم استغلاله، فالمعلومة تأخذ طابعا شاملا عبر الإنترنت فيما تبقى المعرفة والعلم محلية لأنها مرتبطة بسرعة النقل وتنمية الفرد، ومنه يمكن حصار ما لا ينبغي معرفته بل والتحكم في منافذ تسريب ما يعد من أسرار الدولة وما يمكن أن يشكل خطرا أو تهديدا خارجيا لأمن البلاد وسلامتها واستقرارها، وهذه مسؤولية ترتبط بقدرة البلاد على حماية أسرارها إعلاميا
هناك قضايا يؤدي التغافل عنهاإلى تفاقم تأثيراتها السلبية حتى يصعب التعامل معها حتى يتطلب مجهودا مضنيا ويستغرق وقتا أطول ويتحول الأمر إلى مهمة " إنقاذ وطني " تتعلق بمحاولة إعادة لتقوية اللحمة الوطنية وتحصين الأمة من التفتت وضمان أمنها وسلامتها من خطر ظواهر التشرذم والنزاعات الطائفية،ومن هذه الجهود عملية توحيد النسيج الاجتماعي لغويا وثقافيا وتعليميا وعقائديا ودينيا ، وهي حتما ستصطدم كلها أو بعضها بالخصوصية المحلية التي تتميز بها منطقة معينة عن المناطق الأخرى داخل الوطن الواحد ، هي خصوصية ذات أبعاد تاريخية أصيلة ضاربة في التاريخ وشكّلت رصيدا هائلا في الموروث الثقافي الذي ساهم عبر الأزمنة في رسم الشخصية وتحديد الهوية وبلورة جملة العقائد السائدة من خلال تراكم معرفي محلي لا سبيل لنكرانه ولا مناص من الاعتراف به ، فاحترامه والحفاظ عليه لا يعد نقيصة بانتصار شأن ذات خصوصية محلية على حساب الاعتبار الوطني ، فلا مجال للحديث بمنطق الربح والخسارة في مسألة تتعلق بالتنوع الحضاري حتى داخل الوطن الواحد كمصدر إثراء للفكر والثقافة إلا في ذهن من يريد تصويره بعيدا عن كونه اختلافا من باب التنوع ليضعه في إطار الخلاف من زاوية عنصرية ، والتقليل من شأن مثل هذه الدعوات، هو تغافل ساذج عما يمكن أن تخبئه مع مرور الوقت من آثار مدمرة على تماسك الوحدة الوطنية، فلا شيءيمكن أن يقف أو يصمد في وجه من يبصرون في أنفسهم تميّزا عرقيا أو اختلافا مذهبيا ودينيا لإثبات وجودهم المهدد بالضياع والزوال ، وأن أي دعوة مهما كان مبررها يمكن أن تواجه غضبةمن يستشعرون جحودا اجتماعيا أو تجاهلا تنمويا أو ظلما سياسيا لحقهم في العيش الكريم ، إنها حقوق ترتبط بالمواطنة ولا يمكن لأي سلطة أن تتعامل معها بمنطق الإقصاء أو التهميش دون أن تكون هناك ردود فعل حادة وعنيفة . إن الالتزام الأدبي والأخلاقي للدولة يُلقي عليها مسؤولية احترام كل مكونات النسيج الوطني لأنها تدخل في أصل التركيبة السكانية التي تنطوي تحت سلطة هذه الدولة والتي منها تستمد السلطة مبرر وجودها من تمتعها بشرعية منحها لها كل الشعب وليس فئة منه .
أمام الحديث عن طبيعة المسؤوليات التي يجب أن تضطلع بها السلطات، وأمام الحجم الكبير للصلاحيات الممنوحة لها خصيصا من أجل تأمين ممارسة مهامها وتيسير تأدية وظائفها والقيام بواجباتها ، والنهوض بمسؤولياتها ، لا تفيد أي خطابات رسمية ذات حمولة عاطفية خلال تناول القضايا واستعراض ظروف حدوث الأزمات أو أسباب تفاقم انعكاس تأثيرات إحدى القضايا الوطنية على حياة المواطنين، فمثل هذا لا يتجاوز حدود تلمّس المبررات للتنصل من مسؤولية التقصير في العمل الوقائي المتبصر للعواقب، ومحاولة الخروج من دائرة المحاسبة بشكل " مشرف" وإذا كان مجال المحاسبة يقع تحت قبة البرلمان وامام النواب ممثلي الشعب، تحت قبة هيئة من المفروض أنها تتكفل دستوريا بمهمتي المراقبة والتشريع فإنه يصبح مفهوما أن عملية المحاسبة ستربط بطبيعة العلاقة القائمة بين البرلمان وبين السلطة العليا في البلاد هذا من جهة، ومن جهة أخرى بين البرلمان والهيئة التنفيذية ممثلة في الحكومة، فالحكومة تطبق برنامج عمل تنموي تم رسم ملامحه الرئيسية مسبقا ، وجرى تحيد أهدافه وتعيين وسائل تحقيقها وحشد موارد التمويل سلفا على مستوى القيادة السياسية ، وتقوم الحكومة بناء على ذلك بوضع السياسات العامة وتحويلها إلى برامج عمل تترجم الأهداف المرسومة في الميدان ، والواقع يؤكد أن العمل الحكومي هو المحك الحقيقي للوقوف على مصداقية القيادة السياسية وقدرتها على الوفاء بوعودها من أجل تحقيق التنمية ، وفي ظل ظروف محلية مضطربة وأخرى عالمية معقدة ومتقلبة صار من العسير الاطمئنان لإمكانية التطبيق الحرفي والتام لخطط التنمية ، ووفق هذا الاعتبار يصبح من الضروري ومن باب الأخذ بدواعي الحيطة والحذر إعداد الخطط البديلة الممكنة لمواجهة الحالات الطارئة لتجنب التعثر والتأخر والفشل ، وإذا كانت القيادة السياسية هي من عيّنت أعضاء الحكومة فالمسؤولية عن الإخفاق تقع أولا على من أسّس ورسم وأعدّ وخطّط.. واختار الرجال، كما تقع مسؤوليةالفشل على من كان من المفروض أن يُنفّذ ويتابع ويراقب ، ويحاسب قبل أن يحاسبه غيره .
ليس من المسؤولية تراشق الفاعلين بتهم التقصير وتجميل آخرين أسباب الفشل وعواقبه، لأن ذلك من مظاهر الفساد وسلو ك المفسدين وكبار رؤوس افتعال الأزمات لالتهام أقصى المكاسب والغنائم.
ليس من المسؤولية التعلل بالظروف المفاجئة لتبرير الإخفاقات المتتالية تحت كل الظروف.
ليس من المسؤولية افتعال الاضطرابات الاجتماعية لصرف النظر عن مشاريع سياسية يُخشى أن تجد مقاومة ومعارضة إذا ما جرى الإعلان عنها ، أو رفضها لو تم مجرد الجهربالنوايا بشأنها ، فذلك إلهاء متعمد يتجاوز بكثير حدود مفهوم المناورة إلى الاتهام الصريح بالمؤامرة .
ليس من المسؤولية المالغة في تقديم الوعود البراقة لنيل تأييد الشرائح الواسعة من البسطاء ، والإسهاب في عرض العهود المغرية لكسب الدعم والمساندة ، في حين قد يدرك العامة من المواطنين قبل الخاصة والمفكرين منهم أنه لو تم حشد كل القدرات الوطنية وتعبئة جميع الإمكانيات المادية والمالية وتجنيد كافة الطاقات البشرية فلن يتحقق منها إلا نسبة قليلة متواضعة ، هذا ما نراه شاهدا ونسمعه مباشرة ونلمسه حيا خاصة في خطب المترشحين خلال حملاتهم الانتخابية من أجل كسب أصوات الناخبين فقط .
ليس من المسؤولية تنميق ظاهر الأمور وتضخيم الانجازات البسيطة ثم عرض نتائج غير حقيقية لكسب رضا القيادة العليا في البلاد بأوهام وتضليل عمدي ، كاذب بأن كل شيء يسير على ما يرام .
ليس من المسؤولية تعمُد إحداث " هوشة سياسية" حول موضوع وهمي أو قضية وطنية مزيفة تحمل طابع مصيري مضلل يمكن أن تضعف الجبهة الداخلية بالشكوك، وأن تصيب البلاد بهشاشة أمنية عميقة وخطيرة تصل إلى حد تعرية ظهر المؤسسات الدستورية والعسكرية .
ليس من المسؤولية ذلك الاحتيال الكبير في الدول حديثة العهد بالنظام الديمقراطي في الحكم بتسويق اعتقاد مضلل أن التداول على السلطة هو تنافس مشروع فيما هو في الأصل تنافس على اقتسام المال العام بأدوات السلطة القانونية.
المسؤولية تنبع من احساس عميق بخطورة الأمانة ومن ضمير حي لا يرتاح إلا بإقرار الحق ، وهي تستند إلى اعتبار أخلاقي يقدس متعة التشريف بالثقة ، وبنبل حلاوة النزاهة والمصداقية وبفخر المكانة الرفيعة السامية، إنها صفات رجال الدولة الجديرين بتولي المسؤوليات والمهام الكبرى.
في عالم السياسة سنكون أمام مطلب "أخلقة العمل السياسي "بحزمة من القيم السامية والمبادئ الأخلاقية التي تجعل منه عملا ممتعا، مدعما بالصدق في القول والشفافية في الفعل والوفاء بالوعود، والالتزام بالعهود إنه عمل ينبذ الكراهية والأحقاد، وينشر المحبة وينشد الوئام والتسامح. إن العمل السياسي يحتاج إلى توفير قدر كبيرمن الحكمة والرشادة وصواب لحكم بعد تقدير الأمور ، والتبصر الواعي عند تحمل المسؤولية ، والعمل السياسي مثل كل الأعمال الأخرى لابد له من توفر الضمانات والحقوق لتطويره ، ومن الواجبات لأخلقته، ومن هذه الواجبات مراعاة حرمة المسؤولية .
0 comments:
إرسال تعليق