أما بعد ...
" العلامة ليست وحدة مشفرة ، محددة عبر انتمائها إلى تشفير ما ، بل العلامة عبارة عن حالة زمنية ، لحظة في مسار منفتح باستمرار على التنوع المعارفي.." jean fisette (1)
إن الأثر الإبداعي له مسار ، يعسر توصيفه بلغة التواصل العادي .. حتى ولو حاول المبدع نفسه ، تخمين ذلك .. أو ملامسة صيرورة تشكل طقوسه الحسي..لأن استقراء بسيطا لكثير من الانتاجات ، يكشف عن تكلف ، وتصنع وافتعال في مقاربة لحظة الإبداع الجنينية ، التي تتمنع عن الخضوع للملاحظة الواعية و، لا تكشف للمتلقي سوى عن المظهر الخارجي ، نتيجة تركيبة علاقاتها المعقدة ، بوصفها حالة شعور قصوى ، تتأبي الانصياع لأي أداة تعبير مهما كانت مرجعياتها .. على الرغم أن عملية التركيب والتمثيل ، هاته ، وعبر العلامة ، تعتمد الوقائع الموجودة في العالم الخارجي ، بوصفها أصل الإحالة ومرتكزها ... فما يلاحظ أنها غير قادرة على استحضار الحالة الوجدانية ، أو الكل المعرفي لهذه الوقائع والتجارب في جنينيتها .. ، وبهذه الكيفية نجد العلامة لا تنوب عن موضوع القيمة ، وأنها لا تستوعبه إلا جزئيا ، يعني ، عبر تمثيل جزئي فقط ، ... وذلك هو شأن النص أو الخطاب الإبداعي بوصفه علامة ... فالممارسة الإبداعية الإنسانية ، تجعل الموضوع كيانا يكبر العلامة ويتجاوزها .. ومن ثمة نجد الحاجة ماسة إلى تعدد قراءات هذا النوع من الخطابات ، لانفتاح العلامة على التجربة الإنسانية في حميميتها .. ، فالمبدع / ذات الحالة ، sujet d’état ( 2) الذي يحيا عمق حالة الإبداع ، نرى أنه يعمد إلى استغلال الإبداع نفسه لملامسة الآثار الجمالية لفضاء الإبداع ، وقد ترك هذا الأخير أثار بصماته في وعيه الجمالي ... فما أصعب الحديث عن الإبداع الجمالي باللجوء إلى الإبداع الجمالي نفسه .. لأن الفضاء الذي ( يمارس فيه الشاعر نقده هو تفسير العملية الإبداعية وولادة القصيدة في نفسه ، فإن هذا النقد في هذا المجال يمكن أن نعده معرفة يقدمها الشاعر وتجربة يكشف عن أبعادها ) ( 3 ) فقد يعتقد البعض أن الحديث عن ذلك ، يسهل عبر استغلال تمظهرات الأثر الفني الذي قد يصبح نوعا من الافتعال ، خالقا زعما إبداعيا لدى بعض المتطاولين على توصيف لحظة الإبداع هاته ... لأمر بسيط أن التصنع والافتعال لا يلد سوى التصنع والافتعال ..... والهجانة والشذوذ في استيلاد أشكال التعبير ونسخ التصوير التي لا تتمخض سوى على كائنات شاذة ....
فتوسيل الحس الإبداعي ، للحديث عن حالة الإحساس بعمق العملية الإبداعية لا يتأتى لأي كان ..وحتى مقاربتنا لذلك سوف نحاول فيها ملامسة تخوم هذه التجربة ، من خلال تفاعل إحساسنا مع البعد الجمالي الذي قد يضن به العمل الفني ... ومن هذا المنطلق أيضا سأحول الوقوف ، على مظاهر الآثار الجمالية التي تروم توصيف عذرية .... الإبداع الجمالي في زجلية الشاعر المغربي محمد عزيز بنسعد... زجلية قد ترك عنونتها للمتلقي لأمر قد يعود ، في اعتقادي ، إلى الانفتاح الاحتمالي الذي لامسته في هذه التجربة وكذا لتوترات العملية الإبداعية نفسها...
لأن الشاعر ، في هذه التجربة ، كما أعتقد ، قد عاش الحدث مخاضا وتجربة .. فيها اختلط الحلم بالحقيقة والخيال بالواقع .. لكن في درجة من الوعي القصوى ، قذ يسميها البعض حالة اللا وعي ، نحو تمثيل عالم من الإحساس الجمالي هو دائما قيد البناء ، لأن ( الأثر الأدبي لا يغدو ممكنا تعريفه كأثر ، يشتغل ، بوصفه ، صورة استثنائية ووظيفة جمالية ، بل يجب أن يعرف في الواقع كإبلاغ لغوي تكون فيه الوظيفة الجمالية مهيمنة ) ( 4 ) فمن خلال آثاره نحس أن كينونة ذات الحالة / الشاعر ، لا زالت ترهص بأثر تجربتها اللحظية هاته ، ... التي فيه تنقلب الكلمات إلى شفرة جمالية لحظية .. في محاولات من الشاعر لملامسة تخوما ، تحتضن فضاء الانصهار بين حرارة الحس الجمالي / وأدوات التعبيرية ، مخترقا بذلك سنن التأليف الزجلي المعروف .. حتى أنه قد يعيش هو نفسه حالة انبهار أمام ما تم إبداعه ، أمام جنينية المولود الجديد.. ، لكونه كان في غربة وجدانية .. تحتكم إلى معايير حالة الوعي القصوى ... وما امتدادات هذا الفيض الحسي عبر هذه القصيدة ، سوى علامات نبض على توترات وجدانية لذات استفزتها ادعاءات منسوبة إلى طقوسية الإبداعي الشعري ... ولا أقول الزجلي ... ، لأنني أتعامل في هذه القصيدة وغيرها ، مع التجربة في عمقها لا مع أداة التعبير عنها ..
لذا سأنطلق من فرضية(5 ) ترى أن للدلالة نفسها ، وليس فقط لذات الإبداع ، أثرا على العلامات المؤولة عبر مسارات السيميوز ( 6 ) ، بوصف الدلالة في هذا المسار ، نوعا من الحدث أو الأثر التزامني ، اللحظي ، قصد الإمساك بها ، لأنها ناتج فعل سيميائي يتخلق عبر تفاعل العلامات ، مما يؤدي أولا ، وعلى مستوى الإنتاج ، إلى وجهة نظر تزامنية ... تختزل المسار السيميائي ، في كونه يرتهن إلى إعادة الخلق الذي أنجزته ذات الإبداع / الشاعر بوصفها مؤولا ، وناقدا لطقوس التجربة الإبداعية ، ولجنينيتها ، في حالة الوعي القصوى ، ثم ، ثانيا ، على مستوى ذات التلقي / التأويل في محاولة منها ملامسة تخوم التجربة الإبداعية في حميميتها كما عاشتها ذات الإبداع ، لأن ( الأثر الفني موضوع جمالي ، قابل للتأويل ) ( 7 ) وذلك عبر التفاعل مع إرهاصات أو تحفيزات السياقين الداخلي والخارجي للقصيدة / التجربة ... لأن التمظهر الإرهاصي شيء موجود عبر التأثيث الدلالي لفضاء أي تجربة / خطاب ، لكنه يستدعي منا الاحتكاك به ، والبعد الجمالي ، بدوره ، حاضر في الخطاب الإبداعي ، لا يمكن للذهن أو الإحساس أن ينكره ، أو يستبعده ، والمتلقي مدعو للتعرف عليه ....
لذا فقد حاولت ذات الإبداع / الشاعر أن تنقل هذه المشاعر والتصورات عبر اللغة الزجلية ..التي عملت على تطويعها باحترافية جمالية،. لكي تستجيب لتمثيل حالة الإبداع القصوى ، ومن ثمة فنحن لا نقرأ ، في هذه التجربة ، كلمات بل علامات حبلى بشحنات عاطفية ومعرفية ، فيض من الصور الشعورية التي استمدت وجودها من الواقع المعيش لكن بعد ما عبرت مصفاة الإحساس... (8 ) التي حولت أداة التعبير إلى علامات منفتحة ، خالقة ... ، كما سنرى ، فاستحالت علامات نوعية على الحس الفائض.. بل على سيولة حسية ، قد انبجست لتوها من شرايين الحس الفوار بحرارة التجربة ...وهذا ما تؤشر عليه أيقونة ذات الحالة / الشاعر ذاته ....
(محمد عزيز بنسعد ) ....
ثم على سيولة مدادية عبر الاستهلال التالي :
فيض يا لمداد
روي عطش لبلاد
فعلى مستوى البناء الشكلي توزعت هذه القصيدة ثلاثُ نبضات :
ــــ الأولى .. يستهلها صوت النداء من :
فيض يا لمداد ... والذي يمتد إلى : وتعرش المعاني في لحواض
ــــــ الثانية ... شح النبض ... تستهلها حروف الشذوذ الزجلي .. :
من حروف الزنى ..إلى : يقول سبقت
ــــ أما النبضة الثالثة : فقد استهلتها أنا حروف الجمال الشعري بعدم نالت حظها من هذا الفيض :
أنا اللي زوقت الكلمة ... إلى : وفضحتها في كل ناحية ...
أول النبض :
... إننا أمام استهلال احتمالي يحتوي مؤشرات / عبارة عن علامات نوعية signes qualité ( 9 ) هي ذاتها نابضة بمؤولات تومئ إلى إرهاصات نوعية عن موضوع القيمة الجمالي ... وأن هذه العلامات تهفو إلى أن تتجاوز دلالتها التواصلية بل الفنية إلى التأشير عن حالة طقوسية لتجربة حسية توترية مضمرة قد تبدو آثار صدقها عبر ملامح الصورة الأيقونة ( انظر صورة ذات الحالة / الشاعر المرفقة ) بوصفها خطابا أيقونيا لا أقول موازيا بل منتجا دلاليا شأن الخطاب اللغوي .. كلاهما يحتوي مؤشرات لسانية وأيقونية ، تتفاعل عبر تشاكل دلالي نواته توترات حسية تتصارع فيها حالتا الفيض والنضب ... نضب سنرى جذبه على مستوى شح النبض الثاني ... بينما الفيض المدادي، سيتم انتشار خصوبته على مستوى النبض الثالث لأنه بمقتضى المنطق السيميائي فإن استدعاء ذات الحالة / الشاعر لحالة الفيض يقتضي ، حضورا لحالة النضب ، وانعكاس آثارها الهجينة على الإنتاج الإبداعي على مستوى تخصيب ( لبلاد ) ومن ثمة ، فإن هذه الأخيرة ، وعلى مستوى السياق الزجلي ، ستصبح مؤشرا ،على موضوع القيمة بوصفها فضاء لجمالية الإبداع ، فهذه العلامة ، قد تم استعمالها بأساليب مختلفة في مجال الإبداع الأدبي ... تارة تواصلية وأخرى فنية متكلفة ، لكن قليلا ما تلبست زيها الجمالي .. فحينها تتخلى عن علاقة تمثيلها لأشياء العالم أو لحالاتها (10) بل إنها استحالت في هذه التجربة إلى جسر بين ذات الحالة / الشاعر وفضاء الإبداع ... مؤول ذلك أن الحالة الإبداعية ليست عملية فك تشفير ما ولا حتى هي إبداع على إبداع ، فقط ، وإنما هي ، قبل هذا كله ، عملية تركيب جمالي وليست محاولة للتعبير من أجل التعبير ... ؟؟
ولنلاحظ هذا التوتر الإبداعي الذي نلمسه على مستوى الاستهلال بين حالتي النضب والخصب بوصفه مؤشرا على حالة استنفار ذات الحالة لحواسها ردا على استفزازات تجارب التعبير من أجل التعبير ، المتطاولين على مجال الإبداعي الزجلي .. تقول ذات الحالة / الشاعر :
فيض يا لمداد
روي عطش لبلاد
ترابع لقصايد
تحيا لحروف
وتعرَّش لمعاني في لحواض
ـــ حروف الزنى والنضب الدلالي :
في هذا المقطع نقف على مؤشرات هذا العطش الذي ساهم فيه انتشاره.. النضب أو الجفاف الدلالي الذي تعاني منه ( لبلاد ) فضاء الإبداع ، جراء انتشار نوع من التزجلل (( 11) لا سياق له ، ولا مناسبة تتبناه ... ولا ولادة شرعية تحتضنه .... فحين كثر هذا النمط الذي ينساق وراء ما يطلبه المستهلكون ... اعتقد هؤلاء أن الساحة الأدبية أصبحت حكرا عليهم ... الشيء الذي حرك أنا الإبداع .. لتثور على هذه التجارب اللقيطة والكتابات الهجينة ... عبر النبض الثالث الذي من خلال سنقف على تشريح دلالي ، ولا أقول شرحا لغويا ، عمدت فيه ذات الحالة / الشاعر إلى وصف ، الولادة الشرعية للتجربة الإبداعية الجمالية للخطاب الزجلي سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون
النبض الثالث :
فإذا كان عطش البلاد إلى المتعة الجمالية ، ولهفتها لاستعادة كينونة الحرف شكلا ومضمونا ، كما أشر على ذلك مطلع هذه التجربة فإن النبض الثالث يعد امتدادا تأويليا للتوتر الحسي الاستهلالي ، واحتجاجا على شح النبض ... عبر صرخة الأنا وهي تسرد سيرورة وصيرورة ولادة التجربة الإبداعية ... روحا وقصيدة وحرفا ثم معاني ... كانت تنعش فضاء البلاد ...عبر هذا التكثيف التركيبي الذي يوثق ذاتية الشاعر في خوضها لغمار هذه التجربة ... تقول ذات الحالة :
أنا للي ...
تأكيد يتم عبر دينامية أفعال للخلق والإنجاب ، في فضاء عذرية الإبداع حين يفيض لمداد بل الإحاساس.. ( زوقت / فيقت قطعت / نصلت ) ... إيقاع ( 12 ) يؤشير أولا على ذاتية الحركة الإبداعية في التصوير / زوقت الكلمة / حيث تصبح الكلمة علامة حبلى بالتوقعات ، منفتحة على فضاء الاحتمالات .. ....
ثانيا تأويل لجوهرية وبنوة المعنى الجديد التي ، تفتح مسارات الدلالة عبر حركة الأسيقة التفاعلية تبعا لتعالق كلية العلامات المشكلة لهوية الموضوع الجمالية في هذه التجربة ... / فيقت الحلمة / إنها حركة استثار لحالة الوعي القصوى ... المشار إليها سابقا .. ( الحلمة ) نحن أمام فضاء الخيال الخلاق ، في حضرة عالم الرؤيا ، التي تشرق في ظلام الوحدة ... لحظة صفاء الروح أو لنقل نور الإحساس الذي يكشف عن عذرية الكلمة والحلمة ... مؤول ذلك قول ذات الحالة / الشاعر :
وخليتها تخرج كما ولدتها أمها
حيث تتحول القصيدة إلى كون من العلامات الحبلى برؤيا الاحتمال ... انفساخ عن رؤية الأشياء نحو رؤيا الروح .. حالة وعي قصوى ، تتلبس معها الأشياء جمالية التوقع .. معرفة جديدة .. أي عالما جماليا يفهم عبر لغة جمالية ... كيف يحدث هذا.... استمع إلى همس ذات الحالة / الشاعر تقول :
بلا معنى
بلا سر
بلا فتيل حبل ...
زعمة
انا اللي قطعت رْباطها
وخليتها تجري سفَّاحية
انا اللي نصلت كَماطها
وفضحتها في كل ناحية
فاسأل الشاعر ، بل اسأل هذه التجربة عن مسار هذه الولادة الإبداعية ... التي لن تنتظر منها معنى أو دلالة مباشرة ..فهي وليدة رؤيا الشاعر ... لذا فمن أرادها فعليه بعين الرؤيا (13 ) لا عين الرؤية ... ولأن لها أبوة واحدة .. انتساب واحد .... فإنها بريئة من الشبهات , وتعدد الأنساب ؟!؟
محمد مهيم محمد / المغرب /
إحالات ... :
1) Jean Fisette introduction à la sémiotique de C.S peirce , collecion et documents p 9 .
2) A.J.Greimas, et,Fontanille :théorie et pratique sémiotIque,portée volume 21, numero 2 1993 . p :8.
(3 د. هشام عبد الله : التجربة الشعرية العربية .ط.أولى .. 2013 / 2014 ..دار
(4 أنور المرتجي : سيمياء النص الأدبي .. إفريقيا الشرق .. 1987. ص : 25/26 .
5) Amberto Uco : Lector in fabula , Le role du lecteur … p :25
(6سعيد بنكراد : سيرورة التأويل ...ط : أولى .. منشورات الاختلاف ..2012..ص : 346 .
(7أمبرطو إيكو : الأثر المفتوح ، ترجمة عبد الرحمان بو على ، ص : 8 ، ط : ث .. 2001 , دار الحوار للنشر والتوزيع ,
8) Dogan Gunay :La dimension passionnelle du discours,université ,Dokuz Eylul,Faculté de pedagogie de buca …
9) Claude Morier, Lausanne . p :5 n : 9 Mars 1971.
10) Jean-Marie-Chevqlier : Institut jean Nicod/universitéParis…
11) د عباس بن عبد الله الجراري : القصيدة ..ص : 47 ...
12) Le rythme, le sens,la sémiose :::introduction à une lecture de Gauvreau ::: porté ,18-1,1990,numérà thématique ;intitulé*rythmes p :47-58
13) المعنى الأدبي من الظاهرية إلى التفكيكية تأليف وليم راي ترجمة د يوئيل يوسف عزيز دار المامون للترجمة والنشر ط أولى.. ص 141..
ــــــــ التجربة ...:
فِيضْ يا لمداد
روي عطش لبلاد
ترجع فيها الروح
تربَّعْ لقصايد
تحيا لحروف
وتعرَّشْ لمعاني في لحواض .
حروف الزْنى
ولدات كلام العرَّاضْ بلا وقت
ومللي مالت الوزنة
عاد اللي فاق بكري
يقول سبقت .. !
انا اللي زوقت الكلمة
انا اللي فيقت الحلمة
في نصاصات الظلمة ..
وخليتها تخرج كولدتها امها
بلا معنى
بلا سر
بلا فتيل حبل ...
زعمة ،
انا اللي قطعت رْباطها
وخليتها تجري سفَّاحية
انا اللي نصلت كَماطها
وفضحتها في كل ناحية .
ما حدهم كيشوفو روسهم كبار
وهوما كيبانو صغار في عينيا
0 comments:
إرسال تعليق