إلى عقل ، اعتدلت أكثر في جلستها تستجمع كل قدراتها الفكرية التي تتمتع بها والتي قد يكون بعضها مهما ويحمل مخزون ثقافتها لرفع التزييف عن صور الحقيقة التي لثمها بعض من أرادوا تلثيمها، تحاول استعادة مراحل مهمة في حياة المواطن العربي ومعاناته، تنهدت عميقا كمن تحاول أن تسلح نفسها بالأمل لعلها تقتنص فكرة من أجل العودة به من غياهب آلامه إلى آفاق آماله بالنصر المؤزر، أصبحت مؤمنة أكثر بمواصلة طريقها مهما كان شائكا لخوض غمار التحدي بالقوة الكافية لتفرض بكتاباتها نفسها عن جدارة ، عضت على قلمها الذهبي وهي تحرض طاقتها المسؤولة عن البحث وعن متابعة كل المظلومين في الكون بكل انفتاح على أوضاع الآخرين لعلها تحدث في غدهم اشراقة متميزة للحياة بطعم آخر، فجأة وفي غمرة تفكيرها انتفضت على رنين هاتف مكتبها ، انه مدير الجريدة يستدعيها بصوتها الأجش في عجلة ، قصدت مكتبه وما كاد يرحب بها حتى قاطعته مستفسرة فبادرها هو بالثناء عليها كونها أنشط صحفية،عملية وتحب المغامرة، ثم سألها بلطف عن رأيها إن كانت على استعداد كي تجري حوارا مع الرئيس الأمريكي "باراك أوباما " برزت عينيها من وجهها وحملقت فيه، لمست منه جدية لم تعهدها من قبل ، أيقنت أنها ليست مزحة خاصة عندما عرض عليها المفاجأة الأخرى وهي أن يكون الحوار بمدينة القدس.. في فلسطين.. لم تدر "مريام" كيف مرت عليها الأيام اتصالات كثيفة ،إجراءات سريعة وترتيبات دقيقة ومنظمة للسفر ، وحقائب يجب أن تعد، والأهم عشرات الأسئلة تتزاحم في رأسها، وجدت ميريام نفسها أخيرا مسافرة..إلى القدس، وفورا تم تحديد الموعد لإجراء الحوار،كان اليوم شتاء والجو باردا والثلوج تغطي المدينة برداء أبيض شامل وجميل لكن الناظر العربي إليه لا يخفى عنه أنه يحجب بركان غضب حممه لا يحمد عواقبها أحد ،اجتازت بهدوء نقاط الحراسة وحشود الصحفيين ومئات الكاميرات، وولجت طريقها إلى حيث أشار لها أحدهم أن تتقدم ، تخطت بحذر عتبة غرفة فخمة واسعة ، زاغ بصرها في أرجائها بل وطغى إلى أن وجدته، أنه هناك بشحمه ولحمه يقف أمام شرفة عريضة مرحبا ، احتواها بالطريقة الأمريكية البسيطة ، كانت النافذة تطل على أحياء القدس الشرقية التي بدت حزينة ومرهقة ، بمنازلها المتواضعة ومحلاتها المتهالكة وأزقتها الضيقة شديدة الالتواءات، كثيرة التعاريج ، استجمعت أمامه شيئا من اللياقة الذهنية ومن قوة الحضور وهي تلاحظ كيف غزا الشيب المبكر بهذه السرعة جانبي رأسه، ثم انطلقت في جولة الحوار الذي أرادته حول مسألة طبيعة سياسة أمريكا تجاه دول العالم العربي، استمعت جيد إلى كلماته المختصرة وإجاباته المحددة ودونت بقلمها الذهبي ما اختارته من حديثه ، أمريكا تحمل الحرية للدول الضعيفة والمضطهدة وتريد المساواة بين كل شعوب العالم ،انه عهد التجديد بمفاهيم العصر الحالي ، الثبات على القديم ولد عند الشعوب الضيق والملل وكثرة الشكوى، أما الشعوب المتقدمة فإنها تبتكر أنماطا فريدة للحياة المتطورة ، نظر إليها مليا يحاول تأمل وقع كلماته عليها واستطلاع رد فعلها ، تنهد ووضع رجلا فوق رجل وعقد يده اليسرى فوق اليمنى ثم مال نحوها وبدا وكأنه يكشف لها سرا هامسا بأن الإنسان يحتاج إلى ممارسة التغيير في حياته، وبلده ، وعمله ليتسنى له رؤية جوانب جديدة كانت غائبة عنه. لم تنتبه ميريام إلى أحدهم وهو يضع كأس الشاي الساخن أمامها إذ بدا لها أن غرابة الحديث لا تتفق مع المشهد الذي يطلان عليه، وأن أوباما يحاول إيجاد معادلة تحفظ قيمة كلماته الغامضة وسط مسرح الصورة البائسة ،أو أنه يريد القفز على السياق ليقطع الطريق أمام تمثل الحقيقة ، ولعله لاحظ تلك المفارقة وما كاد يهم بمواصلة حديثه لكسر ما انتابه من حرج حتى قاطعته بعدما رأت أن هناك ضرورة للتعليق بأنه لا نستطيع حل المشاكل بنفس التفكير الذي أوجدناها به وإلا نكون أمام ظاهرة المآسي المتناسلة، العرب لا يحبون التغيير دائما في كل شيء ويميلون للتمسك بما نشأوا واعتادوا عليه من قيم ومبادئ غير قابلة للتغيير، وما يحدث من ثورات وحروب وتطرف ليس إلا تشتيت للشعوب وتشريدها من أوطانها وتغريبها عن قيمها ، كيف يمكن أن يعيش المرء حياته وقدماه تسيران عكس الدرب ، أعتدل أوباما ثم استطال على مقعده ، عض على شفته السفلى ولم يجد من إجابة سوى أن ما يحدث على الساحة هو اختصار للزمن من أجل الالتحاق بالحضارة الحديثة ، يجب تجاوز إشكالية الخوف من التغيير، هناك فشل في إدارة أقاليم شاسعة بخيرات كثيرة لدرجة التخمة وعلى الشعوب أن تتخذ قراراتها للأفضل. لم تستسغ ميريام ما سمعت حيث تراءى لها أنه يعطي سياقا في غير محله لمضمون موقف معبر عنه من قبل ثم حاولت جاهدة توريطه بذكر أمثلة عددتها على أصابعها قريبا من مجال حماية عينيه متسائلة عن الأوضاع في العراق، وليبيا ، وسوريا، واليمن، والصومال ونيجيريا إن كانت تسير فعلا للأفضل ، وأضاف أوباما في تحدي .. ومصر التي لا يرى أنها كانت الأقوى، المنطق والواقع يقول غير هذا، انه التغيير، والغلبة ستكون للأقوى، وبنظرة استهزاء استطرد أن بلدا مثل أمريكا الجميع يستندون عليها والعرب غير قادرين على حماية أنفسهم إلا بالأسلحة والقواعد الأمريكية ..هم يطلبونها . لقد دخل الحوار مرحلة الاستفزاز ولم تدر ميريام بنفسها إلا وهي تلقنه درسا في التاريخ فذكرته أن مصر الدولة التي يريد إلحاق الخراب الشامل بها هي أيضا لها جذورها في التاريخ تضرب أطناب الأرض ، وهي أرض الكنانة ، شعبها في رباط إلى يوم الدين ، والكل يتغنى بها ومستعد أن يفديها بالنفس والنفيس ، أنها أصل الكون وأم الدنيا.. قالتها ونفسها تمتلئ حسرة على أوطان أصبحت أطلالا وقلبها يدمي على الهاربين من أوضاع مفروضة عليهم إلى مصير مجهول مختبئين في شرنقة الخوف الأبدية ويعيشون في حلقة مغلقة من الهزيمة والخسارة بعد إعدام الأمل في نفوسهم، كعادته لا يعترف أوباما بالهزيمة ولو في حوار فأكد لها أنه الآن زمن أمريكا وحان الوقت أن يصير العالم كله نسخة من أمريكا ،لاحظ استهجانا خفيا على وجه ميريام قبل أن تفسر قوله .."بالعولمة " فتلطف وابتسم وسألها إن كانت بالمناسبة قامت بزيارة إلى أمريكا .. فهمت ما يرمي إليه فبادرته ببرودة أوروبية بأنها قرأت بتمعن كتاب " القوانين الروحية السبعة للنجاح " ومن هنا بدأت جولة أخرى من الحوار أخذت طابع الصدام ، فهي ترى أن الغرب يأخذ الحكمة من آخرها وقد جر على العرب رياح عكسية، وأن العرب ليسوا أسرى مفاهيم معلقة ولن يقبلوا بتسييج الجغرافيا والتاريخ ، فقابلها وهو يهم واقفا كأنه يريد إنهاء المقابلة بأن علوم الغرب تشكل ثقافة الإنسان، وتصنع الحضارة البشرية وأن أموال العرب وثرواتهم لا تحميهم من صدمات الحياة.. هنا بلغ الحنق بميريام مبلغه بعدما تحول الحوار إلى مناظرة سياسية، أدركت أن الارتفاع المتوقع في درجة العنف اللفظي سيدخلها في سباق حواري عبثي، تركها واتجه إلى النافذة مبتسما وملوحا بيده اليسرى كمن يرد التحية على المواطنين الفلسطينيين الذين احتشدوا قريبا من مقر إقامته يهتفون تنديدا بالسياسات الأمريكية ، كادت ميريام أن تستشيط غضبا لما أدركت أن لا جدوى مع أولئك الذين يطيلون القول في حق أمتها العربية ، وقبل أن تسبق العبرات الكلمات أفاقت إلى نفسها على همسات ألفت رقتها سنوات طويلة تنبهها أن مدير الجريدة قد استدعاها هاتفيا لمهمة عاجلة.. مجرد لمسات حانية كانت كافية لأن تخلصها من ثقل كابوس طويل اسمه أمريكا ، نهضت في عجلة وهي تتمنى من عمق قلبها أن لا تكون هذه "المهمة العاجلة" إلى نفسه الكابوس الدائم .
إقرأ أيضاً
-
بحكم أن الجزائر خضعت للحكم العثماني لمدة تفوق 300 سنة ( 1518 - 1830 ) هذه المدة الطويلة كانت كفيلة لانتقال الموروث العثماني إلى المجتمع ...
-
NA VEIA DO AMOR * POEMA DO POETISA BRASILEIRO : MARIA APARECIDA MARQUES SOUZA / BRASIL - * TRADUÇÃO FEITA PELO POETA TUNISIANO : MOHY C...
-
مشاركة : مفيد نبزو ـ مهداة إلى أمي ، وزوجتي ، وكل أمهات العالم . من القصائد المعتبرة عالميا ًمن أفضل ما كتب عن الأم ، فقد كتبها الشا...
-
أولا : الهدف الأساسي : إبراهيم " عليه السلام" هو أبو الأنبياء " عليهم السلام" وهو الجذر الشائع بين الشرائع السماوية (الأ...
-
التكوين القاعدي للباحث خليفة حماش الباحث خليفة حماش من مواليد قرية بوعزيز بمدينة برج زمورة ولاية برج بوعريريج ، هذه المدينة التي أنجبت ...
-
مع افتتاح بازار الإنتخابات الرئاسية في لبنان بدأت سبحة الترشيحات لرئاسة الجمهورية منها المعلن سابقا وحديثا بالاضافة الى الترشيحات الكامنة ...
-
قال تعالى في مُحكم التنزيل : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَ...
-
(ملاحظة : لقد كتبت هذه المقالة التحليليَّة لكتاب (أيام فلسطينيَّة ) قبل وفاة الصديق الكاتب والمؤرح خالد الذكر الدكتور تميم منصور بعدة سنوات ...
-
ثديا المرأة أجمل ما فيها، وهما العضوان البارزان اللذان لا تستطيع المرأة - مهما حاولت - إخفاءهما، وهما من أكثر أعضائها شهوة وإثارة للرجل،...
-
وقفتُ فيما مضى، كظلٍّ يَتوكأ مُستندًا على نفسِه في ظهبرةِ الشّمسِ لادفئ كتابات بدأَ صقيعُ البَرْدِ ينالُ منها، ولأنَّ الأفياء تستهويني، وجدت...
0 comments:
إرسال تعليق