أهم ما تعلمته في الطب، وبالأخص في معالجة الامراض السرطانية،، هو التمرّد على اليأس. فاليأس يقف دائماً حاجزاً كبيراً أمام الشفاء. كل يوم أتمرد عليه. يوم أغلبه وأيام يغلبني. ولكن لولا التمرد لما غلبته يوماً. لقد تناقلت وسائل الاعلام حديثاً قصة ليلى، الطفلة التي كانت تصارع الموت في أحد مستشفيات لندن من جراء اصابتها باللوكيميا. وذات يوم جاء الأطباء ليطلبوا من أهلها الرضوخ للفشل والقبول بالموت؛ ذلك أن كل المحاولات باستخدام العلاجات التقليدية قد باءت بالفشل. فثار والدها غضباً. لن أدعها تموت. عمرها سنة واحدة. لقد ولدت لتحيا. حاولوا مرة أخرى. أليس هناك علاج جديد تريدون اختباره؟ أنا لست حاضراً للاستسلام بعد. وبالفعل كان الأطباء الباحثون في المستشفى ذاته يعملون على تجربة علمية في هذه الحالة إلا أن مكوّنات تلك التجربة لم تكن قد نضجت بعد. لكن إصرار الوالد ورفضه المطلق "للحكم بالموت" جعلهم يغامرون بالتجربة قبل أوانها. وخضعت ليلى لعلاج اختباري لم يستعمل من قبل. فأُخِذت خلايا ليمفاوية وأخضِعت في المختبر لتكنولوجيا جديدة بحيث تم تغيير هندسة الجينات فيها، ومن ثم حقنت هذه الخلايا في عروق ليلى. وللوهلة الاولى لم يصدق الأطباء ماذا حدث. لقد زالت جميع أعراض اللوكيميا وعادت الحياة تدب في جسد الطفلة. فاهتزّ عالم البحث العلمي، وتجمّد الاختصاصيون في ذهول. إنه انتصار الأمل على الإحباط. إنه التمرد على اليأس. هذا التمرد الذي يعلمك كل يوم أن قدرتك هي أكبر بكثير مما تعتقد. هذا التمرد الذي يعلمك انه ليس هناك ابداً حائط مسدود امامك. انه التمرد الذي يرفعك الى النجاح. يرفعك الى الإبداع.
أكتب هذا المقال وأهلنا في لبنان في يأس كبير. فهم لا يزالون عراة، على طريق الجلجلة. اربعون سنة من الجلجلة. من فشل الى فشل. من ألم الى ألم. ومن ذل الى ذل أكبر. وهل هناك ذل أكبر من أن يزوّر لبناني جواز سفر سورياً ليتمكّن من الهروب إلى أرض ما، بلاد ما، في "بلاد الله الواسعة"؟ ها قد أخذ اليأس يقبض على الأرض، وها هي بقايا الضوء بدأت تتلاشى. أوَ ليس هذا هو المطلوب؟ نعم، إن المطلوب هو إيصالنا الى اليأس ثم الركوع ومن ثم القبول. القبول بكل شيء وبأي شيء. القبول بلبنان غير لبناننا. ليل طويل. كابوس من أحلام مزعجة. متى ينشق هذا الظلام وتطلع الشمس؟
تطلع الشمس عندما لا تخجل بنا. نحن شعب لم يستحق هذه الأرض ولم يحافظ على مجد أعطي له. لقد أوكلنا أمورنا الى غيرنا. كان إيماننا قليلاً. إيماننا بأنفسنا وإيماننا بوطننا. كان اقتناعنا بأننا نحن عاجزون عن صنع مستقبلنا. ها قد دقت الساعة. إنها الساعة الأخيرة. تعالوا نعيده إلينا قبل ان يصير لغيرنا. تعالوا نتمرّد على الذل، نتمرّد على اليأس. ولكن قل لي كيف يكون التمرّد على الذل وعلى اليأس؟
يكون التمرد باقتناع اللبنانيين بان لبنان هو لبنانهم هم، قبل ان يكون لبنان سياسييهم، وان لبنان سياسييهم لن يكون يوماً لبنانهم. لذا جئنا نطلب من المجتمع المدني ان يأخذ مسؤولية قيامة لبنان على عاتقه، ويبادر الى القيام بعمل كبير. هذا العمل هو بمثابة ثورة حضارية بيضاء لم يشهدها الشرق من قبل. وكم نتردد هنا لاستعمال كلمة ثورة اذ اننا قد افرغنا الثورة من معناها الحقيقي، فباتت تعني القتل والدمار والتطرف. وحده المجتمع المدني قادر على انتشال لبنان من القعر الذي أوصلته إليه الطبقة السياسية التي حكمت لبنان في السنوات الخمسين الأخيرة. إن الذين قتلوه لا يمكنهم احياءه. ونحن، ابناء هذا الشعب الطيب المسالم، نمتلك كل المقومات الضرورية للقيام بهذه الثورة، ولكن يبقى ان نؤمن بأنفسنا ونؤمن بقوتنا. ولكي تنجح هذه الثورة يجب ان نحدد الرؤيا لها ونحدّد الطريق التي تأخذنا الى هذه الرؤيا. إن الرؤيا هي إصلاح النظام لا إسقاطه. وصياغة عقد اجتماعي وسياسي جديد ينظم العلاقة بين السلطة والمواطن. وفي الرؤيا أيضاً الحرب على الفساد. وعندما نتكلم عن الفساد فنحن لا نعني الفساد المالي فحسب، بل نعني أيضاً الفساد السياسي والقيَمي. ويجب ألا ننسى أن قمة الفساد هي الولاء لوطن غير لبنان. أما الطريق التي تأخذنا الى الرؤيا هذه، فهي تمرّ بالتنظيم الدقيق. وهذا التنظيم يبدأ بالقيادة. فالمطلوب أولاً "مجلس حكماء" من المجتمع المدني مشهود لهم بالخبرة و"النظافة" والولاء للبنان. فمن دون قيادة حكيمة تضل الثورة الطريق. وتعمل هذه القيادة على تنظيم مبرمج لجميع قطاعات التحرك الشعبي من رأس الهرم الى الشارع. نريد ثورة يقودها العقل لا الغوغائية. ونريد أن نرى في الشارع رجالاً ونساء يحملون الشموع والورود لا رجالاً ونساء يعيثون في الأرض فساداً. ان العنف هو نوع من أنواع الارهاب، وهو الكفيل بإجهاض الثورة. نحن نؤمن بقوة اللاعنف وبقوة معانقة الآخر. انظروا الى ما حدث في الأسبوعين الأخيرين في بورما. خمسون سنة من حكم العسكر والديكتاتورية. جاءت سيدة وأخذت البلاد الى الديموقراطية. دون قتال. دون عنف. لقد شبع العالم عنفاً. إن الحراك المدني الذي شهدناه حديثاً هو مدعاة فخر لنا لكنه لن يصل الى مبتغاه إن لم يقتنع بأن العنف هو أكبر عدو للثورة. نريد ثورة ترفعنا الى الحضارة لا ثورة تنحدر بنا الى اللاحضارة. وحده لبنان من دول العالم العربي قادر على القيام بثورة كهذه الثورة.
ويتكلمون عن مسيحيين ومسلمين. عن شيعة وسنّة. من آلاف السنين وهم يتقاتلون. والذين لا يريدون ان يتقاتلوا ها قد قرروا اليوم ان يرحلوا. ان يهربوا. ولكن في الهروب من الذل الى الكرامة مات بعضهم معاً في قاع البحار. لم يعانقوا بعضهم بعضاً في الحياة. تعانقوا في الممات. كانوا على الطريق. كانوا في طريقهم الى الحضارة.
0 comments:
إرسال تعليق