من العجيب المدهش أن يطلق بعض الكتاب والباحثين أن المرأة نصف المجتمع !! ، لا يمكنني أن أفهم أو أتفهم ما معنى نصف المجتمع ، النصف معناه الموت للنصفين ، لأن المجتمع وحدة عضوية متكاملة كوحدة الإنسان العضوية تماماً ، فهما متكاملان لتشكيل النوع البشري ، هل يمكن أن تتخيلوا جهازي الهضم والتنفس يسيران في مكان ، وجهازي الدوران والعصبي يسيران في مكان آخر !!! هذا من المحال يا أولي الألباب... نحن عندما ننتصر للمرأة ننتصر لأنفسنا ، للنوع الإنساني ، وعندما تداعي المرأة بحقوقها ، فهي تداعي بحقوقنا - نحن المجتمع - ، فإ ذا كان الرجل يتسم بالقسوة والجرأة الجسدية ، والقوة العضلية ، ويتماهى بالجلوس على عرش القائد وكرسي القرار وحمل السيف والرشاش ، فالمرأة عندما ثارت ضد الظلم والجور والتعسف عام 1856 م في نيويورك ، صبرت أكثر من نصف قرن ، فحملت عامي 1908 و 1909 م الخبز اليابس في يد ، والورد في اليد الأخرى،ونجحت في مسعاها ، مما يشير لتا بجلاء أنّ المرأة بلطفها وجمالها وصبرها وحنانها الأمومي لقادرة على الحد من عجرفة الرجل وقسوته وغلوائه ، وهذه معادلة الطبيعة وتوازنها ، وسر الله الخفي .
أقول في مطلع قصيدتي عن الإنسان بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس منظمة حقوق الإنسان العالمية ، بطلب من فرعها بدمشق ، وذلك عام (1998م) :
الإنسُ إنسٌ ولم ينقصْهُ عنوانُ ***** دهداهُ للجورِ إذعانٌ وطغيانُ
حريةُ المرءِ قبل الخبزِ مطلبها *** إنْ أدركَ المرءُ أنّ الخبزَ سجّانُ
كفرتَ باللهِ إنْ لم تستقم خُلقــــاً *** وإنْ أحــــاطَكَ إنجيــــلٌ وقرآنُ
نعم الحرية والخبز - استعارة عن العمل - والأخلاق أسس الوجود الإنساني ، وإذا كان الإسلام قد أقرّ بهذه في صدر رسالته على لسان النبي الكريم (ص) : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، والخليفة عمر بن الخطاب ( رض): ( متى استعبدتم الناس ، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) ، وقول الإمام علي (ع) : (إذا رأيت رجلاً سألته عن عمله ، فإن قيل لي بلا عمل ، سقط من عيني)، وإن الإمام قد خصّ الرجل بالسقوط ، لا يعني حرمان المرأة من شرف العمل ، ولكن للمرأة خصوصيتها الفسيولوجية والتروبية إبان فترة الحمل والرضاعة والنشأة ، و الحق االمرأة كانت تعمل منذ العصرالجاهلي ، بل وما قبله ، وإلا كيف تواترت الأخبار عن تبوأ بلقيس عرش مملكة سبأ ، ومن بعد أخبار زنوبيا ملكة تدمر ، والملكات الفرعونيات كنفر تيتي ، وإيزيس وكليوباترا ...حقائق ثابتة .
نعم الخصائص الفسيولوجية بعمومها قلصت من مجاهدة المرأة للعمل ، وساهم قرينها الرجل من تعميق هذا الشرخ ، واستغلال ضعفها التكويني من أجل الأمومة ، وغريزة الأمومة هي الأقوى من بين الغرائز الأسياسية العطش والجوع والجنس ، فهيمن عليها ، وجعلها أداة للعمل الصعب في المزارع والحقول والغزِل أحياناً ، وفي عمل البيت وتربية النشئ وخدمة الزوج والأهل أحياناً أخرى ، وما كانت هي السبب في كل ذلك ، وإنما جبلتها ورجالها مهما كانت منزلته منها ، والمجتمع بعقله وشرائعه وعرفه وقوانينه لذلك لا نذهب ما ذهب إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد - ص71) من اتهام النساء بأنهن " اقتسمن مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى ، وتحكمن بسن قانون عام ، جعلن نصيبهن به هين الأشغال بدعوى الضعف ،ونوعهن مطلوبا بإيهام العفة ، وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهما ، محمدتين في الرجال ، وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ، ويظلم أو يظلم فيعان " ،وينهي فقرته بقوله القاسي" والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر "
ذكرت ما ذكرت عن وجهة نظري حول مظلومية المرأة قبل فقرة الكواكبي غير المتأملة بعمق ، ولا أريد التمادي في الرد ، الضعف الفسيولوجي هذه سنة خلق الله لإمومتها التي تستوجب ما يمر بها ، ويجعلها مطيعة ساكنة لتمتع الرجل ، وإشباع غريزته ، والعفة فرضها الرجل عليها والمجتمع ، لأنها الوعاء الحامل للجنين ، والجنين يريد له أباً معلوماً ، لا تحاط حوله الظنون ، فالعفة أساس سلامة المجتمع من الخلط والضياع ، أما الكرم ، فالرجل والمجتمع حرماها من العمل المدرّ للمال ، فمن أين يأتي الكرم ؟ نعم كرم اللطف والجمال والكلام السحر الحلال !!
هذا هو تراث زعيم عربي تحرري شهير ، ورائد عظيم من رواد النهضة العربية بالمرأة ، و هو صاحب ( طبائع الاستبداد ) ، و(أم القرى) ، وجاب العالم من الصين وشرق آسيا حتى مصر الكنانة ، ومضى عبد الرحمن الكواكبي حياته بين حلب حيث ولادته ( 1855 م) ، والقاهرة إذ مات مسموماً سنة ( 1902 م) ، فكيف بتراث الآخرين المتزمتين حتى النخاع ؟ الله يستر من أجيالنا المظلومة ، ولو أن الكواكبي في ( أم قراه ص 178 – 180 ) يدعو على حياء ومضض لتعليم المرأة وعدم تركها جاهلة كي لا تفسد أخلاق البنين والبنات ، ولكن " بالحجب والحجر الشرعيين " ، بل دعا لحجرهن بالبيوت لغلق باب الفجور والفساد !!
ما طوّلت هذه الدعوة الكواكبية حتى برز الرصافي قائلاً
فالشّرق ليس بناهض الاّ اذا **** أدنى النّساء من الرّجال و قرّبا
أما الجواهري فذهب بعيدا حتى الفسق ( 1926 - 1930م) في ( عريانته ) و ( جربينه ) ، وتغزل الشعراء إباحيّين بعمائمهم السوداء والبيضاء من السيد الحبوبي حتى السيد جمال الدين وما بينهما من الشبيبيين والشرقي والوائلي ، ولا ندري من أين جاءت الحملات الإيمانية ، وقطع رؤوس الفتيات ، ورميها بصناديق القمامة ، وبيعهن في أسواق النخاسة ، وقتلهن بالرصاص في الساحات العامة ، وما خفا كان أعظم وأعظم ، والحق على الطليان ، ولله في خلقه شؤون !!!
هتك امرئ في غابةٍ جريمة لا تغتفرْ **** وهتك شعبٍ آمنٍ مشكلة فيها نظر!!!
نعود والعود أحمد ...!! جزما - ورداً على سؤالٍ للحوار المتمدن - قضية المرأة ، ليست قضية تخصّ الجنس الأنثوي دون الذكري ، بل هي قضية الجنسين على حدّ سواء ، لأنهما متكاملان بالنوع الإنساني ، لا يهتزّ أحدهما ، إلا والآخر معه، فكلاهما يتأثران ويؤثران على بعضهما البعض ، وعلى ذاتيهما على المستوى الفردي أو الجمعي
والحق أكرر ما ذكرت في الحلقة السابقة مؤكداً،أنَّ المجتمع الذكوري العربي فشل في قيادة الأمة ، مما أدّى إلى الحروب والطغيان والاستبداد والتدمير والقتل والنزعات الطائفية والأقليمية والمناطقية والعشائرية والقومية الشوفينية ، والغدر ، وعدم الوفاء ، والهيمنة التسلطية الاستبدادية عقبى التربية الخاطئة بتفضيل الذكور على الأناث ، مما جرهم للطغيان العام والغرور الفارغ ، والقسوة المفرطة ، والتملك الأناني الشرير للأناث والذكور على حد سواء ، من قبل الذكور الطغاة - المرأة جبلت أن لا تمتلك غريزة التملك الجمعي !! - أقول من هنا انفجرت لدى الذكور هذه الظاهرة الطغيانية ، وطغتْ على كل أقطار الأمة ، فأضحت آخر الأمم ، بل الأمة التي ضحكت من جهلها الأممُ .
تنحوا أيّها الرجال التسلطيون - ليرحمنا الله ويرحمكم - وامنحوا المرأة العربية حقوقها الكاملة ، لتتبوأ مناصفة كراسي القرارات السيادية بكل جرأة وثقة بالنفس ، لأجل الأمة ومستقبل الأجيال، لأجل الإنسانية جمعاء لو كنتم تعقلون وتتذكرون !!
أتتذكرون جيل الستينات بعد نكبة حزيران ومرارتها القاسية ، وتحطم الأحلام العروبية على ركام الانهزامات المتتالية للجيوش العربية ؟!! كيف لجأ الخطاب الشعري للمرأة الرمز كعنوان للأرض ، ونبراس للوطن ؟!! هل تدركون في الأزمات النفسية الحادة ، عندما تضيق الأرض بالرجل ، وتدور به الدوائر ، لا يجد متسعاً إلا حنان المرأة وحضنها ، وطيب جمالها ؟!!! وقد استعاروا تجربتهم الرمزية هذه من تجربة الشاعر الفرنسي ( لويس أراغون ) ، وهو يقاوم الاحتلال الالماني لمدينته باريس ، مدينة الجن والملائكة - كما ينعتها الدكتور طه حسين...
نعم توارثنا عادة هيمنة الرجل على المرأة - ولا أستسيغ كلمة اضطهاد ، وسنأتي ...- من الأعراف الاجتماعية ، والنزعات القبلية والعشائرية بتداخلات دينية وضعية ، ليست من أصل الدين ، لذا نجد أبناء الريف أكثر تعلقاً بها حتى أنهم يساومون عليها كسلعة في حل نزاعاتهم ، وإلا فالأديان يكيّفها الإنسان حسب بيئته ، ومن هنا تعددت المذاهب والطوائف والاجتهادات ، وتذكرت الآن كلمة للدكتور العالم أحمد زكي في إحدى مقالاته الشهرية في (مجلة العربي) ، إذ يقول : ينسى وليد القيروان ما سيكون مذهبه لو ولد في النجف ، وينسى وليد النجف ما سيكون مذهبه لو ولد في دمشق ، ثم كرر العبارة من بعده الدكتور الشيخ الوائلي ، والصرعات الطبقية تعم العالم كلّه ، وليست محصورة بأرض العرب ، فالمرأة غير العاملة بالضرورة تكون تابعة !!
أقول المجتمع العربي مجتمع قبائلي منذ العصر الجاهلي ، وحرب البسوس بين بكر وتغلب ، وحرب داحس والغبراء ،وحماس هذه الحروب ، وحميتها ، وتنابز ألقابها ، وقضية الهيمنة على المرأة ، بقت متغلغة في نفوسنا ، وتوارثناها بأمانة دون المساس بقدسيتها !!! ، والقضايا العظمى تبدو في بادئها من الأمورالصغرى، ولكنها تكبر وتتأجج كالنار في الهشيم ، وقديماً أبدع طرفة بن العبد ( ت 569 م ) حين قال :
قد يبعثُ الأمرَ العظيمَ صغيرُهُ **** حتى تظلَّ لهُ الدماءُ تصبّبُ
والظّلمُ فرّقّ بيــــــنَ حيِّ وائل ٍ **** بكرٌ تساقيها المنايا تغلبُ
وفي صدر العصر الأموي نشب الصراع بين النزارية واليمانية ، واستمرت الصرعات حتى سقوط الدولة العباسية ، ودخول المغول إلى بغداد سنة 1258م( 656هـ) ، وتغلبت حتى الصرعات السياسية والدينية ، ربما بتغذية ودعم وتشجيع من الخلفاء أنفسهم للابتعاد عن معارضتهم لعرش الخلافة ، وجعله القطب المستهدف لها ، والعجيب الغريب أن يدبّ النزاع بين شاعرين عملاقين موالين لآل البيت ، والمدهش لم يتعاصرا ، وأعني بهما الكميت بن زيد الأسدي المقتول ( 126 هـ) بسيف الأمويين ، وقصيدته النونية الشهيرة ( المذهبة ) في مدح النزاريين، يذكر البغدادي في ( خزانة الادب ج1ص87) ، أولها :
ألا حييت عنا يا مدينا *** وهل ناس تقوى مسلمينا
ويستبشر فيها العدنانية على القحطانية -اليمانية ، ومنها:
لنا قمر السماء وكلُّ نجمٍ *** تشير إليهِ أيدي المهتدينا
وجدت الله إذ سمّى نزاراً*****وأسـكنهم بمكة قاطنـينا
لنا جعل المكارم خالصاتٍ** وللناس القفا و لنا الجبينا
وقصتها كبيرة ، ونريد منها الخميرة ، والخميرة في حديثنا مدى تغلغل النزعة القبلية في تاريخنا الذي توارثناه عرفاً جبرا على كل المستويات المكانية والزمانية ...!!
مهما يكن من أمر ، يردّ دعبل الخزاعي اليماني القحطاني الشيعي ، بل الرمز الثاني الفدائي البطل لشعراء الشيعة على الكميت الأسدي الرائد الأول لهم دون منازع ، وأثنى عليه الإمامان السجاد والباقر ، كما اعتمد الإمامان الكاظم والرضا دعبلهم ...!! ومطلع قصيدة ( دامغة) دعبل ، كما يذكر المسعودي في ( مروج ذهبه 448 / 1 - الموسوعة الشاملة):
" وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزَاعِي هذه القصيدة على الكميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرها، وصَرَّح وعَرَّض بغيرهم ، كما فعل الكميت، وذلك في قصيدته التي أولها :
أفيقي من ملامِكِ يَا مِعينا *** كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأربَعِينَا
ألم تحزنكِ آحداث الليالي *** يشيبن الذوائب والقرونا
أحيى الغُرَّ من سَرَوَات قومي ** لقد حُيِّيتِ عَنَّا يا مَدينا؟
.....................................................................
كانت العصبية من دواعي زوال ملك بني أمية ..."
ولسان اليمن أبو الحسن الهمداني أيضاً قال في تلك الفتنة قصيدته الدامغة ، ومطلعها :
أَلا يَــا دَارُ لَــوْلاَ تَنْطِقِيْـنَـا ***** فَـإِنَّـا سَائِـلُـونَ ومُخْـبِـرُونَـا
بِمَا قَـدْ غَالَنَـا مِـنْ بَعْـدِ هِنْـدٍ ***ومَـاذَا مِـنْ هَوَاهَـا قَـدْ لَقِيْـنَـا
نغلق باب النزاعات القبلية ، وأعرافها ، وما وصل إلينا من تراث قاسٍ مرير بحق المجتمع ، ومن المجتمع المرأة ، فجارت عليها أي جور في فصل صراعاتهم ، والبيع في سوق نخاساتهم ، والتمتع في زواجاتهم ، بل كيّفوا الدين والشرائع لخدمة دناءة أغراضهم ، دعونا ندخل في مجال جمال الشعر في حقهنَّ ، والتغني بجمالهنَّ ، ونشرع بالأم ، وما قاله شيخنا المعري في مطلع رثاء أمّه :
سمعتُ نعيّها صماً صمامِ *** وإنْ قال العواذل لا همامِ
وأمّتني الى الأجداث أمٌ ****يعزُّ عليَّ أنْ سارت أمامي
و إذا رجعنا إلى العصر الجاهلي حيث الشاعر على فطرته ، وما جبله الله عليه من صدق الأحاسيس ، ولطف المشاعر ، دون تكلف وتفلسف ، أوتعقل لشعور الشاعر المنطلق على سجيته ، فإليك إحساس الشنفرى ، وما تجيش به نفسه المتأججة إتجاه زوجه عندما هجرته من غير وداع في قصيدته التائية ، ولك أن تقرأها كاملة في ديوانه ، وتتفكر في مدى احترامه لحقوق المرأة وعفتها ، القصيدة التي عدّها الأصمعي أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن :
ألا أم عمرو أجمعتْ فاســـتقلتِ *** وما ودّعتْ جيرانها إذ ْ تولـّتِ
وقد سبقتنا أم عمرو بأمــــرهـا ** وكانتْ بأعنــــاق المطي أظلـّتِ
بعيني ما أمستْ فباتتْ فأصبحتْ *** فقضّتْ أموراً فاســــتقلتْ فولّتِ
فوا كبدا على أميمةَ َبعدمــــــــا *** طمعتُ فهبها نعمةَ َالعيشِ زلّتِ
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعهــا *** إذا مـــــا مشت ولا بذاتِ تلفّتِ
زوجه (أميمة) هجرته ورحلت دون أن تخبر أي أحد حتى جيرانها ، الرجل لم يغضب ، ولم يسخط , ولم تأخذه الحمية الجاهلية أبان جاهليتها , بل كافأها بأروع رائعة , وأرق الكلمات ..(بعيني)...( فواكبدا ) , ثم (لقدأعجبتني) ...أعجبته بماذا؟ إنها لا تسقط قناعها تعمداً لإبداء حسنها , ولاتتلفت لكي لا تجلب الريبة لعفتها وخدرها .
وقال الأعشى ، وأنا لا أريد أن أزجّك كعادتي في بحوثي ومقالاتي بالتواريخ والأسماء ، والأصل والفصل ، والمراجع والمصادر ، دعها رجاء ، فالمشاعر الإنسانية تخترق حواجز الزمان والمكان إلا ما يفضي عليها العقل من عقال وعقال ، قال الأعشى :
ودع هريرة إن الركب مرتحــــلُ ***** وهل تطيـــق وداعا ايّـــها الرجــــلُ ؟
غراء فرعاء مصقول عوارضها ** تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيـــــت جارتها *** مر الســـــحابة لا ريـــــث ولا عجـــــلُ
يكاد يصرعها لـــولا تشـــــددها ******* إذا تقوم إلى جاراتــــــها الكســـــلُ
هريرة المحظوظة هي قينة كانت لرجل أهداها إلى قيس بن حسان فولدت له خليدا ،وقد قال الشاعر في قصيدته :
صدت هريرة عنــــــا ما تكلمـنـا ****** جهلاً بأم خليد، حبل مَـــــــن تصل؟
ويتساءل الشاعر ، هل تطيق أيها الرجل المفزوع وداعاّ لهريرة ، ربما في ليلة الهرير !! من يدريك ومن يدريني ؟!! والدنيا كلّها خيال وصور !! لماذا الرجال ينافقون ويكابرون برياء مصطنع ، ويظهرون غير ما يبطنون ، ويعلنون ما لا يخفون ؟!! أليس هذه طبيعة البشر وسرّ وجودهم على الأرض ؟ هنا التكامل ، لا التساوي ، ولا التوازي ، وكما قال الأعمى الخبيث بشار بن برد : وفاز بالطيبات الفاتك اللهج!! ، وسرق منه الخاسر الرابح سلم المعنى ، وفال إيجازاً : وفاز باللذة الجسورُ !!
نرجع إلى هريرة الطويلة الفارعة البيضاء الواسعة الجبين بنقاء التي تمشي على رسلها بثقة، وتمر إلى بيت جارتها مر السحاب بتهاديه ، دعك عن الأعشى ، وهل تطيق وداعاً أيّها الرجلُ ؟ وهذا جرير بعصره الأموي أقرب إلى الفطرة الجاهلية منه إلى العقلية العباسية ، اقرأ أسمى المعاني الإنسانية في هذين البيتين الجريرين :
إنّ العيون التي في طرفها حورٌ ****** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به** وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
البيتان علّتهما متداخلتان ، والجنسان متكاملان ، فبأي آلاء ربّكما تكذبان ، منحها منتهى القوة ، وبطرف عيونها الحور ترديه قتيلاً صريعاً ، وجعلها أضعف خلق الله إنساناً ، ولله في خلقه شؤون ، هذا لا يعني أن المرأة العربية كانت كاملة الحقوق ، لا ينقصها إلا أن تجلس على عرش سليمان، أو كرسي هارون الرشيد ، ولكنها لم تكن في كل أحوالها جارية أو أمة ، وفي أفضل حالاتها محظية ، بل كانت قوة هائلة مهيمنة على عقول الرجال وأفئدتهم ، شغلهم الشاغل، بؤسها بؤسهم ، عيدها عيدهم ، حياتها حياتهم ، موتها موتهم ، رضوا أم أبوا رفيقة دربهم على مدى هذا الدهر السرمدي ، ساهمن في صنع التاريخ ، والحضارة البشرية جنباً إلى كيانها ، وتوالي نكباتها وانتكاساتها هو عدم التوازن الموضوعي التكاملي بين الرجل والمرأة ، المرأة لها خصوصيات لا يمتلكها الرجل ، والعكس صحيح ، ولا تستقيم الحياة ، ولا تتطور ولا تزدهر إلا بالتكامل ، لا التنافس ، ولا التصارع ، ولا الاحتواء ، هذه هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا : وأود أن أختم مقالتي بأبيات من قصيدتي عن المرأة ، رفيقة الدهر والحياة :
إنـّي أحاذرُ تاريخاً مظالمـهُ ****** وأفقهُ القبرُوالمحصولُ أصفارُ!!
إنَّ الحرائرَ إنْ قادتْ مسـيرتهُ ***** بالإلفِ حنواً يشدّ ُالعزمَ أحرارُ!
تُذكي لنا الدربَ دونَ اللهب زعزعة ً* ولا تهيمنُ فوقَ الرأسِ أحجارُ!!
شتـّانَ بيــــنَ نـَفور ٍ إرثـــــهُ جدبٌ **** وبينَ لطفٍ تروّي فاهُ أمطـارُ
إنْ جرَّ آدمُها مـــــن عنتهِ طرفاً **** تقرّبتْ من سناها في الدّجى الدارُ
يا أمّنا أنـتِ حصنٌ إنْ يفرّقنــا ***** داعي الشقاق ، وخلفُ الأمِّ ثوًارُ
فقدْ تكاملَ في الشطرين وردُهما ***** والنقصُ وهمٌ من االجهّال ِ ينهارُ
اللهُ أكبرُ مـنْ خـَلق ٍلـــــه خـُلقٌ ****** منْ جبلةِ العدل ِ ، والتكبيرُ إكبارُ
لقد طلعتً وأنفاسـي موحــــــّدة ٌ ****** ها قــــد ختمتُ وبالأشعارإشعارُ
كلُّ عيدٍ للمرأة ، عيدٌ للرجل ، فهما زوجان ، فبأيِّ آلاء ربّكما تكذبان ...!!
كريم مرزة الأسدي
أقول في مطلع قصيدتي عن الإنسان بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس منظمة حقوق الإنسان العالمية ، بطلب من فرعها بدمشق ، وذلك عام (1998م) :
الإنسُ إنسٌ ولم ينقصْهُ عنوانُ ***** دهداهُ للجورِ إذعانٌ وطغيانُ
حريةُ المرءِ قبل الخبزِ مطلبها *** إنْ أدركَ المرءُ أنّ الخبزَ سجّانُ
كفرتَ باللهِ إنْ لم تستقم خُلقــــاً *** وإنْ أحــــاطَكَ إنجيــــلٌ وقرآنُ
نعم الحرية والخبز - استعارة عن العمل - والأخلاق أسس الوجود الإنساني ، وإذا كان الإسلام قد أقرّ بهذه في صدر رسالته على لسان النبي الكريم (ص) : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، والخليفة عمر بن الخطاب ( رض): ( متى استعبدتم الناس ، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) ، وقول الإمام علي (ع) : (إذا رأيت رجلاً سألته عن عمله ، فإن قيل لي بلا عمل ، سقط من عيني)، وإن الإمام قد خصّ الرجل بالسقوط ، لا يعني حرمان المرأة من شرف العمل ، ولكن للمرأة خصوصيتها الفسيولوجية والتروبية إبان فترة الحمل والرضاعة والنشأة ، و الحق االمرأة كانت تعمل منذ العصرالجاهلي ، بل وما قبله ، وإلا كيف تواترت الأخبار عن تبوأ بلقيس عرش مملكة سبأ ، ومن بعد أخبار زنوبيا ملكة تدمر ، والملكات الفرعونيات كنفر تيتي ، وإيزيس وكليوباترا ...حقائق ثابتة .
نعم الخصائص الفسيولوجية بعمومها قلصت من مجاهدة المرأة للعمل ، وساهم قرينها الرجل من تعميق هذا الشرخ ، واستغلال ضعفها التكويني من أجل الأمومة ، وغريزة الأمومة هي الأقوى من بين الغرائز الأسياسية العطش والجوع والجنس ، فهيمن عليها ، وجعلها أداة للعمل الصعب في المزارع والحقول والغزِل أحياناً ، وفي عمل البيت وتربية النشئ وخدمة الزوج والأهل أحياناً أخرى ، وما كانت هي السبب في كل ذلك ، وإنما جبلتها ورجالها مهما كانت منزلته منها ، والمجتمع بعقله وشرائعه وعرفه وقوانينه لذلك لا نذهب ما ذهب إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد - ص71) من اتهام النساء بأنهن " اقتسمن مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى ، وتحكمن بسن قانون عام ، جعلن نصيبهن به هين الأشغال بدعوى الضعف ،ونوعهن مطلوبا بإيهام العفة ، وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهما ، محمدتين في الرجال ، وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ، ويظلم أو يظلم فيعان " ،وينهي فقرته بقوله القاسي" والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر "
ذكرت ما ذكرت عن وجهة نظري حول مظلومية المرأة قبل فقرة الكواكبي غير المتأملة بعمق ، ولا أريد التمادي في الرد ، الضعف الفسيولوجي هذه سنة خلق الله لإمومتها التي تستوجب ما يمر بها ، ويجعلها مطيعة ساكنة لتمتع الرجل ، وإشباع غريزته ، والعفة فرضها الرجل عليها والمجتمع ، لأنها الوعاء الحامل للجنين ، والجنين يريد له أباً معلوماً ، لا تحاط حوله الظنون ، فالعفة أساس سلامة المجتمع من الخلط والضياع ، أما الكرم ، فالرجل والمجتمع حرماها من العمل المدرّ للمال ، فمن أين يأتي الكرم ؟ نعم كرم اللطف والجمال والكلام السحر الحلال !!
هذا هو تراث زعيم عربي تحرري شهير ، ورائد عظيم من رواد النهضة العربية بالمرأة ، و هو صاحب ( طبائع الاستبداد ) ، و(أم القرى) ، وجاب العالم من الصين وشرق آسيا حتى مصر الكنانة ، ومضى عبد الرحمن الكواكبي حياته بين حلب حيث ولادته ( 1855 م) ، والقاهرة إذ مات مسموماً سنة ( 1902 م) ، فكيف بتراث الآخرين المتزمتين حتى النخاع ؟ الله يستر من أجيالنا المظلومة ، ولو أن الكواكبي في ( أم قراه ص 178 – 180 ) يدعو على حياء ومضض لتعليم المرأة وعدم تركها جاهلة كي لا تفسد أخلاق البنين والبنات ، ولكن " بالحجب والحجر الشرعيين " ، بل دعا لحجرهن بالبيوت لغلق باب الفجور والفساد !!
ما طوّلت هذه الدعوة الكواكبية حتى برز الرصافي قائلاً
فالشّرق ليس بناهض الاّ اذا **** أدنى النّساء من الرّجال و قرّبا
أما الجواهري فذهب بعيدا حتى الفسق ( 1926 - 1930م) في ( عريانته ) و ( جربينه ) ، وتغزل الشعراء إباحيّين بعمائمهم السوداء والبيضاء من السيد الحبوبي حتى السيد جمال الدين وما بينهما من الشبيبيين والشرقي والوائلي ، ولا ندري من أين جاءت الحملات الإيمانية ، وقطع رؤوس الفتيات ، ورميها بصناديق القمامة ، وبيعهن في أسواق النخاسة ، وقتلهن بالرصاص في الساحات العامة ، وما خفا كان أعظم وأعظم ، والحق على الطليان ، ولله في خلقه شؤون !!!
هتك امرئ في غابةٍ جريمة لا تغتفرْ **** وهتك شعبٍ آمنٍ مشكلة فيها نظر!!!
نعود والعود أحمد ...!! جزما - ورداً على سؤالٍ للحوار المتمدن - قضية المرأة ، ليست قضية تخصّ الجنس الأنثوي دون الذكري ، بل هي قضية الجنسين على حدّ سواء ، لأنهما متكاملان بالنوع الإنساني ، لا يهتزّ أحدهما ، إلا والآخر معه، فكلاهما يتأثران ويؤثران على بعضهما البعض ، وعلى ذاتيهما على المستوى الفردي أو الجمعي
والحق أكرر ما ذكرت في الحلقة السابقة مؤكداً،أنَّ المجتمع الذكوري العربي فشل في قيادة الأمة ، مما أدّى إلى الحروب والطغيان والاستبداد والتدمير والقتل والنزعات الطائفية والأقليمية والمناطقية والعشائرية والقومية الشوفينية ، والغدر ، وعدم الوفاء ، والهيمنة التسلطية الاستبدادية عقبى التربية الخاطئة بتفضيل الذكور على الأناث ، مما جرهم للطغيان العام والغرور الفارغ ، والقسوة المفرطة ، والتملك الأناني الشرير للأناث والذكور على حد سواء ، من قبل الذكور الطغاة - المرأة جبلت أن لا تمتلك غريزة التملك الجمعي !! - أقول من هنا انفجرت لدى الذكور هذه الظاهرة الطغيانية ، وطغتْ على كل أقطار الأمة ، فأضحت آخر الأمم ، بل الأمة التي ضحكت من جهلها الأممُ .
تنحوا أيّها الرجال التسلطيون - ليرحمنا الله ويرحمكم - وامنحوا المرأة العربية حقوقها الكاملة ، لتتبوأ مناصفة كراسي القرارات السيادية بكل جرأة وثقة بالنفس ، لأجل الأمة ومستقبل الأجيال، لأجل الإنسانية جمعاء لو كنتم تعقلون وتتذكرون !!
أتتذكرون جيل الستينات بعد نكبة حزيران ومرارتها القاسية ، وتحطم الأحلام العروبية على ركام الانهزامات المتتالية للجيوش العربية ؟!! كيف لجأ الخطاب الشعري للمرأة الرمز كعنوان للأرض ، ونبراس للوطن ؟!! هل تدركون في الأزمات النفسية الحادة ، عندما تضيق الأرض بالرجل ، وتدور به الدوائر ، لا يجد متسعاً إلا حنان المرأة وحضنها ، وطيب جمالها ؟!!! وقد استعاروا تجربتهم الرمزية هذه من تجربة الشاعر الفرنسي ( لويس أراغون ) ، وهو يقاوم الاحتلال الالماني لمدينته باريس ، مدينة الجن والملائكة - كما ينعتها الدكتور طه حسين...
نعم توارثنا عادة هيمنة الرجل على المرأة - ولا أستسيغ كلمة اضطهاد ، وسنأتي ...- من الأعراف الاجتماعية ، والنزعات القبلية والعشائرية بتداخلات دينية وضعية ، ليست من أصل الدين ، لذا نجد أبناء الريف أكثر تعلقاً بها حتى أنهم يساومون عليها كسلعة في حل نزاعاتهم ، وإلا فالأديان يكيّفها الإنسان حسب بيئته ، ومن هنا تعددت المذاهب والطوائف والاجتهادات ، وتذكرت الآن كلمة للدكتور العالم أحمد زكي في إحدى مقالاته الشهرية في (مجلة العربي) ، إذ يقول : ينسى وليد القيروان ما سيكون مذهبه لو ولد في النجف ، وينسى وليد النجف ما سيكون مذهبه لو ولد في دمشق ، ثم كرر العبارة من بعده الدكتور الشيخ الوائلي ، والصرعات الطبقية تعم العالم كلّه ، وليست محصورة بأرض العرب ، فالمرأة غير العاملة بالضرورة تكون تابعة !!
أقول المجتمع العربي مجتمع قبائلي منذ العصر الجاهلي ، وحرب البسوس بين بكر وتغلب ، وحرب داحس والغبراء ،وحماس هذه الحروب ، وحميتها ، وتنابز ألقابها ، وقضية الهيمنة على المرأة ، بقت متغلغة في نفوسنا ، وتوارثناها بأمانة دون المساس بقدسيتها !!! ، والقضايا العظمى تبدو في بادئها من الأمورالصغرى، ولكنها تكبر وتتأجج كالنار في الهشيم ، وقديماً أبدع طرفة بن العبد ( ت 569 م ) حين قال :
قد يبعثُ الأمرَ العظيمَ صغيرُهُ **** حتى تظلَّ لهُ الدماءُ تصبّبُ
والظّلمُ فرّقّ بيــــــنَ حيِّ وائل ٍ **** بكرٌ تساقيها المنايا تغلبُ
وفي صدر العصر الأموي نشب الصراع بين النزارية واليمانية ، واستمرت الصرعات حتى سقوط الدولة العباسية ، ودخول المغول إلى بغداد سنة 1258م( 656هـ) ، وتغلبت حتى الصرعات السياسية والدينية ، ربما بتغذية ودعم وتشجيع من الخلفاء أنفسهم للابتعاد عن معارضتهم لعرش الخلافة ، وجعله القطب المستهدف لها ، والعجيب الغريب أن يدبّ النزاع بين شاعرين عملاقين موالين لآل البيت ، والمدهش لم يتعاصرا ، وأعني بهما الكميت بن زيد الأسدي المقتول ( 126 هـ) بسيف الأمويين ، وقصيدته النونية الشهيرة ( المذهبة ) في مدح النزاريين، يذكر البغدادي في ( خزانة الادب ج1ص87) ، أولها :
ألا حييت عنا يا مدينا *** وهل ناس تقوى مسلمينا
ويستبشر فيها العدنانية على القحطانية -اليمانية ، ومنها:
لنا قمر السماء وكلُّ نجمٍ *** تشير إليهِ أيدي المهتدينا
وجدت الله إذ سمّى نزاراً*****وأسـكنهم بمكة قاطنـينا
لنا جعل المكارم خالصاتٍ** وللناس القفا و لنا الجبينا
وقصتها كبيرة ، ونريد منها الخميرة ، والخميرة في حديثنا مدى تغلغل النزعة القبلية في تاريخنا الذي توارثناه عرفاً جبرا على كل المستويات المكانية والزمانية ...!!
مهما يكن من أمر ، يردّ دعبل الخزاعي اليماني القحطاني الشيعي ، بل الرمز الثاني الفدائي البطل لشعراء الشيعة على الكميت الأسدي الرائد الأول لهم دون منازع ، وأثنى عليه الإمامان السجاد والباقر ، كما اعتمد الإمامان الكاظم والرضا دعبلهم ...!! ومطلع قصيدة ( دامغة) دعبل ، كما يذكر المسعودي في ( مروج ذهبه 448 / 1 - الموسوعة الشاملة):
" وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزَاعِي هذه القصيدة على الكميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرها، وصَرَّح وعَرَّض بغيرهم ، كما فعل الكميت، وذلك في قصيدته التي أولها :
أفيقي من ملامِكِ يَا مِعينا *** كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأربَعِينَا
ألم تحزنكِ آحداث الليالي *** يشيبن الذوائب والقرونا
أحيى الغُرَّ من سَرَوَات قومي ** لقد حُيِّيتِ عَنَّا يا مَدينا؟
.....................................................................
كانت العصبية من دواعي زوال ملك بني أمية ..."
ولسان اليمن أبو الحسن الهمداني أيضاً قال في تلك الفتنة قصيدته الدامغة ، ومطلعها :
أَلا يَــا دَارُ لَــوْلاَ تَنْطِقِيْـنَـا ***** فَـإِنَّـا سَائِـلُـونَ ومُخْـبِـرُونَـا
بِمَا قَـدْ غَالَنَـا مِـنْ بَعْـدِ هِنْـدٍ ***ومَـاذَا مِـنْ هَوَاهَـا قَـدْ لَقِيْـنَـا
نغلق باب النزاعات القبلية ، وأعرافها ، وما وصل إلينا من تراث قاسٍ مرير بحق المجتمع ، ومن المجتمع المرأة ، فجارت عليها أي جور في فصل صراعاتهم ، والبيع في سوق نخاساتهم ، والتمتع في زواجاتهم ، بل كيّفوا الدين والشرائع لخدمة دناءة أغراضهم ، دعونا ندخل في مجال جمال الشعر في حقهنَّ ، والتغني بجمالهنَّ ، ونشرع بالأم ، وما قاله شيخنا المعري في مطلع رثاء أمّه :
سمعتُ نعيّها صماً صمامِ *** وإنْ قال العواذل لا همامِ
وأمّتني الى الأجداث أمٌ ****يعزُّ عليَّ أنْ سارت أمامي
و إذا رجعنا إلى العصر الجاهلي حيث الشاعر على فطرته ، وما جبله الله عليه من صدق الأحاسيس ، ولطف المشاعر ، دون تكلف وتفلسف ، أوتعقل لشعور الشاعر المنطلق على سجيته ، فإليك إحساس الشنفرى ، وما تجيش به نفسه المتأججة إتجاه زوجه عندما هجرته من غير وداع في قصيدته التائية ، ولك أن تقرأها كاملة في ديوانه ، وتتفكر في مدى احترامه لحقوق المرأة وعفتها ، القصيدة التي عدّها الأصمعي أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن :
ألا أم عمرو أجمعتْ فاســـتقلتِ *** وما ودّعتْ جيرانها إذ ْ تولـّتِ
وقد سبقتنا أم عمرو بأمــــرهـا ** وكانتْ بأعنــــاق المطي أظلـّتِ
بعيني ما أمستْ فباتتْ فأصبحتْ *** فقضّتْ أموراً فاســــتقلتْ فولّتِ
فوا كبدا على أميمةَ َبعدمــــــــا *** طمعتُ فهبها نعمةَ َالعيشِ زلّتِ
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعهــا *** إذا مـــــا مشت ولا بذاتِ تلفّتِ
زوجه (أميمة) هجرته ورحلت دون أن تخبر أي أحد حتى جيرانها ، الرجل لم يغضب ، ولم يسخط , ولم تأخذه الحمية الجاهلية أبان جاهليتها , بل كافأها بأروع رائعة , وأرق الكلمات ..(بعيني)...( فواكبدا ) , ثم (لقدأعجبتني) ...أعجبته بماذا؟ إنها لا تسقط قناعها تعمداً لإبداء حسنها , ولاتتلفت لكي لا تجلب الريبة لعفتها وخدرها .
وقال الأعشى ، وأنا لا أريد أن أزجّك كعادتي في بحوثي ومقالاتي بالتواريخ والأسماء ، والأصل والفصل ، والمراجع والمصادر ، دعها رجاء ، فالمشاعر الإنسانية تخترق حواجز الزمان والمكان إلا ما يفضي عليها العقل من عقال وعقال ، قال الأعشى :
ودع هريرة إن الركب مرتحــــلُ ***** وهل تطيـــق وداعا ايّـــها الرجــــلُ ؟
غراء فرعاء مصقول عوارضها ** تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيـــــت جارتها *** مر الســـــحابة لا ريـــــث ولا عجـــــلُ
يكاد يصرعها لـــولا تشـــــددها ******* إذا تقوم إلى جاراتــــــها الكســـــلُ
هريرة المحظوظة هي قينة كانت لرجل أهداها إلى قيس بن حسان فولدت له خليدا ،وقد قال الشاعر في قصيدته :
صدت هريرة عنــــــا ما تكلمـنـا ****** جهلاً بأم خليد، حبل مَـــــــن تصل؟
ويتساءل الشاعر ، هل تطيق أيها الرجل المفزوع وداعاّ لهريرة ، ربما في ليلة الهرير !! من يدريك ومن يدريني ؟!! والدنيا كلّها خيال وصور !! لماذا الرجال ينافقون ويكابرون برياء مصطنع ، ويظهرون غير ما يبطنون ، ويعلنون ما لا يخفون ؟!! أليس هذه طبيعة البشر وسرّ وجودهم على الأرض ؟ هنا التكامل ، لا التساوي ، ولا التوازي ، وكما قال الأعمى الخبيث بشار بن برد : وفاز بالطيبات الفاتك اللهج!! ، وسرق منه الخاسر الرابح سلم المعنى ، وفال إيجازاً : وفاز باللذة الجسورُ !!
نرجع إلى هريرة الطويلة الفارعة البيضاء الواسعة الجبين بنقاء التي تمشي على رسلها بثقة، وتمر إلى بيت جارتها مر السحاب بتهاديه ، دعك عن الأعشى ، وهل تطيق وداعاً أيّها الرجلُ ؟ وهذا جرير بعصره الأموي أقرب إلى الفطرة الجاهلية منه إلى العقلية العباسية ، اقرأ أسمى المعاني الإنسانية في هذين البيتين الجريرين :
إنّ العيون التي في طرفها حورٌ ****** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به** وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
البيتان علّتهما متداخلتان ، والجنسان متكاملان ، فبأي آلاء ربّكما تكذبان ، منحها منتهى القوة ، وبطرف عيونها الحور ترديه قتيلاً صريعاً ، وجعلها أضعف خلق الله إنساناً ، ولله في خلقه شؤون ، هذا لا يعني أن المرأة العربية كانت كاملة الحقوق ، لا ينقصها إلا أن تجلس على عرش سليمان، أو كرسي هارون الرشيد ، ولكنها لم تكن في كل أحوالها جارية أو أمة ، وفي أفضل حالاتها محظية ، بل كانت قوة هائلة مهيمنة على عقول الرجال وأفئدتهم ، شغلهم الشاغل، بؤسها بؤسهم ، عيدها عيدهم ، حياتها حياتهم ، موتها موتهم ، رضوا أم أبوا رفيقة دربهم على مدى هذا الدهر السرمدي ، ساهمن في صنع التاريخ ، والحضارة البشرية جنباً إلى كيانها ، وتوالي نكباتها وانتكاساتها هو عدم التوازن الموضوعي التكاملي بين الرجل والمرأة ، المرأة لها خصوصيات لا يمتلكها الرجل ، والعكس صحيح ، ولا تستقيم الحياة ، ولا تتطور ولا تزدهر إلا بالتكامل ، لا التنافس ، ولا التصارع ، ولا الاحتواء ، هذه هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا : وأود أن أختم مقالتي بأبيات من قصيدتي عن المرأة ، رفيقة الدهر والحياة :
إنـّي أحاذرُ تاريخاً مظالمـهُ ****** وأفقهُ القبرُوالمحصولُ أصفارُ!!
إنَّ الحرائرَ إنْ قادتْ مسـيرتهُ ***** بالإلفِ حنواً يشدّ ُالعزمَ أحرارُ!
تُذكي لنا الدربَ دونَ اللهب زعزعة ً* ولا تهيمنُ فوقَ الرأسِ أحجارُ!!
شتـّانَ بيــــنَ نـَفور ٍ إرثـــــهُ جدبٌ **** وبينَ لطفٍ تروّي فاهُ أمطـارُ
إنْ جرَّ آدمُها مـــــن عنتهِ طرفاً **** تقرّبتْ من سناها في الدّجى الدارُ
يا أمّنا أنـتِ حصنٌ إنْ يفرّقنــا ***** داعي الشقاق ، وخلفُ الأمِّ ثوًارُ
فقدْ تكاملَ في الشطرين وردُهما ***** والنقصُ وهمٌ من االجهّال ِ ينهارُ
اللهُ أكبرُ مـنْ خـَلق ٍلـــــه خـُلقٌ ****** منْ جبلةِ العدل ِ ، والتكبيرُ إكبارُ
لقد طلعتً وأنفاسـي موحــــــّدة ٌ ****** ها قــــد ختمتُ وبالأشعارإشعارُ
كلُّ عيدٍ للمرأة ، عيدٌ للرجل ، فهما زوجان ، فبأيِّ آلاء ربّكما تكذبان ...!!
كريم مرزة الأسدي
أستاذتنا الأديب والشاعر الكبير كريم مرزة الأسدى .. دائم الابداع حياك الله وبارك فيك .. يارب .
ردحذفعفوا عفوا .. أستاذنا الأديب والشاعر الكبير كريم مرزة الأسدى.. لك حبى وتقديرى واحترامى .
ردحذف