كان الآذن للتوّ يفتح باب المدرسة...ليس ذنبه...أنا من أبكرت على الموعد...لشدّة هواجسي في الامتحانات...ورغم ذلك ..كان لابدّ أن أحمّله لوما، وعتباً ، لأشعره بالمسؤولية ..بأن عليه أن يلتزم بفتح باب المدرسة..قبل فترة كافية من حضوري...لتهيئة ما يلزم...على الوجه الأكمل...فوعدني خيراً..
بينما راحت أصابعه المضطربة تتعثر بالمفاتيح التي حزمها الإداري المسؤول عن تسليم المركز، حزمة واحدة من أجل استقبالي، ريثما يصل.
وما كدت أدخل غرفة رئاسة المركز...حتى سمعت صوت إدراي المدرسة، المكلّف بإجراءات الاستلام، والتسليم...يستفسر عن وصولي من الآذن..فقال له: نعم إنها في الداخل...
فأتى باشّاً، مهلّلاً مكررا ترحيبه كسبحةٍ
ــــ :أهلا وسهلا.. أهلا وسهلا...يا (بوعمر) ساوي قهوة للآنسة إيمان...
كان من الضروري أن ألبس ملامح الأستاذة الصارمة التي لا تتهاون بقبول أي خلل بالمركز، عند استلامه، من إضاءة كافية، ومراوح صالحة للاستعمال، ومقاعد ، ونوافذ، وطاولات، وأبواب لاعطب فيها.
ولكن حسن استقباله، خفّف من حدّة توتري، وأشعرني ببعض ارتياح، وهو يرافقني التجوال بين أرجاء المدرسة.
..وكان أمين سرّ المركز قد حضر لا هثا يلتحق بجولتنا معتذرا عن التأخير..لبعض ظروفٍ طارئة.. ،
بينما لا يزال الإداريّ المسؤول يعرّفني على أقسامها، وطوابقها، وقاعاتها المعدّة بشكل جيدٍ، مستوفٍ كافة الأمور...وعدت معه الغرفة الإدارية.يسلمني القرطاسيّة.
شربنا القهوة معاً.. دون أن يتوقّف عن الحديث، عن صعوبات العمل في نتائج الامتحانات الانتقالية، عن أمور عامة تهم أهل البلدة...وعن استيقاظه باكراً، قبل القدوم إلى المركز، من أجل سقاية الأشجار في أرضه.
.طالباً من ( أبي عمر ) أن يقدّم لي صحن كرزٍ أتى به منها...
أحسست فعلا بأني بين زملاء أعرفهم بالانتماء الى هذه المهنة المقدّسة.،
وأن لأهل الريف طبع جميل، وتلقائية محبّبة..تنسيك تلك الترتيبات الرسمية التي تضعها في ذهنك قبل أن تتعرّف إليهم...
وقبل أن يغادر...ترك لي رقم هاتفه..إن احتجت شيئا...وقال البيت تحت تصرفك...وأختك أم هاشم ( زوجه) بالخدمة ..أنت بين أهلك...
وبقيت وحدي في المكان، بعد أن توجّه أمين سرّ المركز إلى تهيئة القاعات، حسب المخططات الآتية من التربية...
وقربي ( ركوة القهوة) مازالت ممتلئة،حتى نصفها، فصببت فنجاناً، ووقفت قرب النافذة، أستقبل هواء الزبداني البارد المنعش، أجول ببصري متأملّة السفح الأخضر، وقد بانت أسطح البيوت...كاشفة عن أوانٍ، مغطاة بأقمشة بيضاء نظيفة..كانت الأمهات تنزعها بهدوء، كي تحرّك المربيات من مشمش، وغيره،المعرضّة للشمس..
وصوت سيارة الخضار يهدر، وهي تجول بين الشوارع، تعلن عبر مكبّرها، عن أصنافها المتنوّعة..
وبعد توضيبنا الخزانة عقب استلام قرطاسية دائرة الامتحانات...أقفلت الباب..قاصدة منزلي منهكة، ولكني سعيدة بالإنجاز، مرتاحة باندماجي في جو المركز، ومحيطه...
فنمتُ أفكّر في ترتيبات اجتماع المراقبين صباح اليوم التالي، أركّز أفكاري...التي سأطرحها أمامهم...
وعند إشراقة الشمس...كنت مزروعة على باب المركز، فوجدت الآذن / بو عمر / قد سبقني يرشّ أرض المدخل بالماء، وقد قام بتنظيف الباحة، والغرف، بهمة، ونشاط
يفتح لي الأبواب قائلا:
ــــ ما رأيك أستاذة؟؟؟هيك منيح؟؟شو عندك ملاحظات، أنا بأمرك...فابتسمت شاكرة له..وعلامات الرضا على وجهي...
وماكدت أفتح النوافذ حتى استقبلتني نفس النسمات التي تتغلغل عميقاً في الصدر، مختلطة مع روائح القرطاسية المكدسة على الرفوف، وفي الخزانة،
شربت قهوتي بهدوء شديدٍ، بينما توافد المراقبون، يعطونني مهمات تكليفهم ..أتعرّف إليهم عن كثب، أدردش معهم..محاولة أن أخلق اندماجاً، يقربنا من جو العمل، لأنهم قادمون من مدارس شتى، ولابد من إيجاد توليفة ما ، تجعلنا فريق عملٍ واحد، في فترة امتحانية، كلّ ما نبتغيه أن تكون مثمرة، سيرها نظامي، لا مشاكل تعترضنا، ولا عقبات ..
من أجل ذلك كانت التعليمات التي تلوتها عليهم.تحمل خطة عملٍ، تجنبنا كل المطبات التي علينا أن نتحاشاها..
صباح اليوم الأول من امتحان الشهادة الثانوية.....كنت في غاية التوتر..لأنه الركيزة الأساس التي سنبني عليها حسن سيره.. من استلام مغلفات الأسئلة في وقت مبكر..و.من توزيع الطلاب على قاعاتهم، بعد تلاوة أسمائهم، وتوزيع المراقبين على القاعات، واستعراض التعليمات على المتقدمين للامتحان.
....عند الثامنة تماما كنت أستعدّ لفضّ المغلّف في إحدى القاعات..وقد تواجد حولي رؤساء القاعات...وأنا أتلو على الجميع
ما كتب عليه من معلومات..
وإذ بضيوفٍ ألمح طيفهم وهم يقتربون من القاعة..يبرزون بطاقات مهمات زيارتهم الرسمية.
بان لي وجه رئيس هيئة الرقابة، والتفتيش، وبرفقته مندوب وزاريّ من الهيئة المركزيّة، فأكملت مهامي بوجودهم، أصعد، أهبط بين طابقي المركز، وفي قاعاته كلها...حتى اطمأننت على بدء الامتحان بشكل فعلي.. فعدت معهم إلى غرفة رئاسة المركز..أطلعهم على الجداول، والمحاضر، والأوراق المعدّة لتغطية سير الامتحانات.....
وإذ بالآذن / بو عمر/ يهمس لي: ممكن لحظة أستاذة..سألته خير...فتردّد بالكلام...ولكني طلبت إليه أن يقول ما لديه، منعاً للحرج أمام الزائرين..
.فقال: ـــ هناك طالب أتى الآن ..ماذا نفعل؟؟؟
فتنقلت بنظري حائرة بينه، وبين وفد التفتيش..وأنا أنظر في ساعتي..عشرون دقيقة قد مرّت على بدء الامتحان...وحسب التعليمات المشددة لا يسمح له بالدخول أبدا....وقد أسقط في يدي..
.فقال لي رئيس رقابة تربية الريف: وهو من ( القلمون) بوجهه الصارم الذي يعرفه الجميع، ويتحاشونه، لما عرف عنه بجديته الحازمة، وبحثه عن تفاصيل التفاصيل في العمل، وتقاريره التي لا ترحم، وعقوباته التي قلما يفلت منها أحد..
قال لي: ـــ الآن اعتبري نفسك أنك وحدك، ولم نكن عندك، وواجهتك هذه المشكلة..ماذا ستتصرفين...؟؟؟ قومي بما ترينه مناسبا من وجهة نظرك..
صمتّ برهة ..ثم التفت الى الآذن أستدعي الطالب.أستبين سبب التأخر.فأتى به..
فبان لي مضطرباً، يرتعش من الخوف، يثّاقل في خطواته، رغم محاولته اجتياز المسافة إلينا بسرعة ـــ فقد كان يشكو من عاهةٍ، وعرجٍ شديد في رجله ـــ ترتجف ذقنه، يغالب البكاء:
سألته: لم تأخرت يا بني؟؟!!!
ــــ والله يا آنسة طالع من بكير...تعطّل الميكرو..لبينما تصلّح...والله غصب عني
ــــ وين ساكن؟؟
بسرغايا...بشان الله يا آنسة خليني فوت قدم مع رفقاتي..
لم تطل حيرتي. وبلا تردّد.سألته بأي قاعة أنت
ــــ في السابعة..
تعال معي، وأنا أنتزع من مغلف الأسئلة ورقة، ومن الخزانة: ورقة إجابة..
فتحامل على عرجه، يسابق الوقت، غير مصدّق...
دخلت القاعة، بعد استئذان رئيسها لباقةً..وأجلسته بنفسي على مقعده، ووضعت الورقتين أمامه:
ــــ هيا اكتب..ضع اسمك ورقمك عليهما...كان عليك القدوم مبكرا جدا حتى تتحاشى التأخر..إذا تعرضت لعطل في الميكرو..إذا تكرّر ذلك لن أقبلك...عليكم احترام الوقت.والاستعداد له..
وعند عودتي سألني المفتش: مقطب الحاجبين، وبلهجة صارمة:
ـــ كيف فعلتِ ذلك؟؟ ألا تعلمين أنك خالفت التعليمات الوزارية، وتستحقين عقوبة مسلكية على ذلك؟؟؟
قلت له:
لي أسبابي: ـ .. لقد اقتنعت فعلا بحالة الطالب..فالواقع ينبي عن ذلك...الأمر الآخر..لمّا يمضِ بعد نصف الوقت، فبالتالي الأسئلة مازالت محصورة ضمن الجدران / كان هذا منتصف التسعينات تقريباً، ولم يكن الهاتف الخليوي قد انتشر بعد / .....ـ الأمر الأخير، والأهم: الرحمة فوق القانون...وأنا مستعدة لأي عقوبة، ومسؤولة عن تصرفي...لن أكون السبب في رسوبه، حتى أضع نياشين النجاح، بأني صارمة، أتبع التعليمات، وأنفذها على حساب طالبٍ، في أضعف حالاته، يعلم الله حاله، وحال أهله...
ثم وبضحكةٍ رسمتها تهرّبا من قسوة ملامحه الجامدة، مددتُ يدي أشبكهما:
ــ ضعوا القيد لو شئتم...أنا جاهزة..
بقي صامتاً، ولكني قرأت في عينيه ثناء، ورضا..لا يمكنه الإفصاح عنه، لموقع مسؤوليته.../ ولم تأتني عقوبة/ ولا يحزنون..
وكان زملائي قد نظموا قوائم اشتراك المراقبين في حافلة واحدة..اتفقوا مع سائقها لتوصيلنا.. فشاركتهم رحلة العودة إياباً...
.ومن النافذة، كانت عيناي تقطفان جمال لوحات الطريق، على امتداد النظر...نلوّح لبعضنا مودّعين، كلما نزل زميلٌ، في محطته قرب بيته.
واليوم أتذكر مشهداً آخرَ، في بلدة عين الفيجة...التابعة الى الزبداني...بطلها طالب في الإعدادية اسمه: ( منقذ ) ...في موقفٍ لا ينسى.
إلى اللقاء في الجزء الثالث والأخير.
بينما راحت أصابعه المضطربة تتعثر بالمفاتيح التي حزمها الإداري المسؤول عن تسليم المركز، حزمة واحدة من أجل استقبالي، ريثما يصل.
وما كدت أدخل غرفة رئاسة المركز...حتى سمعت صوت إدراي المدرسة، المكلّف بإجراءات الاستلام، والتسليم...يستفسر عن وصولي من الآذن..فقال له: نعم إنها في الداخل...
فأتى باشّاً، مهلّلاً مكررا ترحيبه كسبحةٍ
ــــ :أهلا وسهلا.. أهلا وسهلا...يا (بوعمر) ساوي قهوة للآنسة إيمان...
كان من الضروري أن ألبس ملامح الأستاذة الصارمة التي لا تتهاون بقبول أي خلل بالمركز، عند استلامه، من إضاءة كافية، ومراوح صالحة للاستعمال، ومقاعد ، ونوافذ، وطاولات، وأبواب لاعطب فيها.
ولكن حسن استقباله، خفّف من حدّة توتري، وأشعرني ببعض ارتياح، وهو يرافقني التجوال بين أرجاء المدرسة.
..وكان أمين سرّ المركز قد حضر لا هثا يلتحق بجولتنا معتذرا عن التأخير..لبعض ظروفٍ طارئة.. ،
بينما لا يزال الإداريّ المسؤول يعرّفني على أقسامها، وطوابقها، وقاعاتها المعدّة بشكل جيدٍ، مستوفٍ كافة الأمور...وعدت معه الغرفة الإدارية.يسلمني القرطاسيّة.
شربنا القهوة معاً.. دون أن يتوقّف عن الحديث، عن صعوبات العمل في نتائج الامتحانات الانتقالية، عن أمور عامة تهم أهل البلدة...وعن استيقاظه باكراً، قبل القدوم إلى المركز، من أجل سقاية الأشجار في أرضه.
.طالباً من ( أبي عمر ) أن يقدّم لي صحن كرزٍ أتى به منها...
أحسست فعلا بأني بين زملاء أعرفهم بالانتماء الى هذه المهنة المقدّسة.،
وأن لأهل الريف طبع جميل، وتلقائية محبّبة..تنسيك تلك الترتيبات الرسمية التي تضعها في ذهنك قبل أن تتعرّف إليهم...
وقبل أن يغادر...ترك لي رقم هاتفه..إن احتجت شيئا...وقال البيت تحت تصرفك...وأختك أم هاشم ( زوجه) بالخدمة ..أنت بين أهلك...
وبقيت وحدي في المكان، بعد أن توجّه أمين سرّ المركز إلى تهيئة القاعات، حسب المخططات الآتية من التربية...
وقربي ( ركوة القهوة) مازالت ممتلئة،حتى نصفها، فصببت فنجاناً، ووقفت قرب النافذة، أستقبل هواء الزبداني البارد المنعش، أجول ببصري متأملّة السفح الأخضر، وقد بانت أسطح البيوت...كاشفة عن أوانٍ، مغطاة بأقمشة بيضاء نظيفة..كانت الأمهات تنزعها بهدوء، كي تحرّك المربيات من مشمش، وغيره،المعرضّة للشمس..
وصوت سيارة الخضار يهدر، وهي تجول بين الشوارع، تعلن عبر مكبّرها، عن أصنافها المتنوّعة..
وبعد توضيبنا الخزانة عقب استلام قرطاسية دائرة الامتحانات...أقفلت الباب..قاصدة منزلي منهكة، ولكني سعيدة بالإنجاز، مرتاحة باندماجي في جو المركز، ومحيطه...
فنمتُ أفكّر في ترتيبات اجتماع المراقبين صباح اليوم التالي، أركّز أفكاري...التي سأطرحها أمامهم...
وعند إشراقة الشمس...كنت مزروعة على باب المركز، فوجدت الآذن / بو عمر / قد سبقني يرشّ أرض المدخل بالماء، وقد قام بتنظيف الباحة، والغرف، بهمة، ونشاط
يفتح لي الأبواب قائلا:
ــــ ما رأيك أستاذة؟؟؟هيك منيح؟؟شو عندك ملاحظات، أنا بأمرك...فابتسمت شاكرة له..وعلامات الرضا على وجهي...
وماكدت أفتح النوافذ حتى استقبلتني نفس النسمات التي تتغلغل عميقاً في الصدر، مختلطة مع روائح القرطاسية المكدسة على الرفوف، وفي الخزانة،
شربت قهوتي بهدوء شديدٍ، بينما توافد المراقبون، يعطونني مهمات تكليفهم ..أتعرّف إليهم عن كثب، أدردش معهم..محاولة أن أخلق اندماجاً، يقربنا من جو العمل، لأنهم قادمون من مدارس شتى، ولابد من إيجاد توليفة ما ، تجعلنا فريق عملٍ واحد، في فترة امتحانية، كلّ ما نبتغيه أن تكون مثمرة، سيرها نظامي، لا مشاكل تعترضنا، ولا عقبات ..
من أجل ذلك كانت التعليمات التي تلوتها عليهم.تحمل خطة عملٍ، تجنبنا كل المطبات التي علينا أن نتحاشاها..
صباح اليوم الأول من امتحان الشهادة الثانوية.....كنت في غاية التوتر..لأنه الركيزة الأساس التي سنبني عليها حسن سيره.. من استلام مغلفات الأسئلة في وقت مبكر..و.من توزيع الطلاب على قاعاتهم، بعد تلاوة أسمائهم، وتوزيع المراقبين على القاعات، واستعراض التعليمات على المتقدمين للامتحان.
....عند الثامنة تماما كنت أستعدّ لفضّ المغلّف في إحدى القاعات..وقد تواجد حولي رؤساء القاعات...وأنا أتلو على الجميع
ما كتب عليه من معلومات..
وإذ بضيوفٍ ألمح طيفهم وهم يقتربون من القاعة..يبرزون بطاقات مهمات زيارتهم الرسمية.
بان لي وجه رئيس هيئة الرقابة، والتفتيش، وبرفقته مندوب وزاريّ من الهيئة المركزيّة، فأكملت مهامي بوجودهم، أصعد، أهبط بين طابقي المركز، وفي قاعاته كلها...حتى اطمأننت على بدء الامتحان بشكل فعلي.. فعدت معهم إلى غرفة رئاسة المركز..أطلعهم على الجداول، والمحاضر، والأوراق المعدّة لتغطية سير الامتحانات.....
وإذ بالآذن / بو عمر/ يهمس لي: ممكن لحظة أستاذة..سألته خير...فتردّد بالكلام...ولكني طلبت إليه أن يقول ما لديه، منعاً للحرج أمام الزائرين..
.فقال: ـــ هناك طالب أتى الآن ..ماذا نفعل؟؟؟
فتنقلت بنظري حائرة بينه، وبين وفد التفتيش..وأنا أنظر في ساعتي..عشرون دقيقة قد مرّت على بدء الامتحان...وحسب التعليمات المشددة لا يسمح له بالدخول أبدا....وقد أسقط في يدي..
.فقال لي رئيس رقابة تربية الريف: وهو من ( القلمون) بوجهه الصارم الذي يعرفه الجميع، ويتحاشونه، لما عرف عنه بجديته الحازمة، وبحثه عن تفاصيل التفاصيل في العمل، وتقاريره التي لا ترحم، وعقوباته التي قلما يفلت منها أحد..
قال لي: ـــ الآن اعتبري نفسك أنك وحدك، ولم نكن عندك، وواجهتك هذه المشكلة..ماذا ستتصرفين...؟؟؟ قومي بما ترينه مناسبا من وجهة نظرك..
صمتّ برهة ..ثم التفت الى الآذن أستدعي الطالب.أستبين سبب التأخر.فأتى به..
فبان لي مضطرباً، يرتعش من الخوف، يثّاقل في خطواته، رغم محاولته اجتياز المسافة إلينا بسرعة ـــ فقد كان يشكو من عاهةٍ، وعرجٍ شديد في رجله ـــ ترتجف ذقنه، يغالب البكاء:
سألته: لم تأخرت يا بني؟؟!!!
ــــ والله يا آنسة طالع من بكير...تعطّل الميكرو..لبينما تصلّح...والله غصب عني
ــــ وين ساكن؟؟
بسرغايا...بشان الله يا آنسة خليني فوت قدم مع رفقاتي..
لم تطل حيرتي. وبلا تردّد.سألته بأي قاعة أنت
ــــ في السابعة..
تعال معي، وأنا أنتزع من مغلف الأسئلة ورقة، ومن الخزانة: ورقة إجابة..
فتحامل على عرجه، يسابق الوقت، غير مصدّق...
دخلت القاعة، بعد استئذان رئيسها لباقةً..وأجلسته بنفسي على مقعده، ووضعت الورقتين أمامه:
ــــ هيا اكتب..ضع اسمك ورقمك عليهما...كان عليك القدوم مبكرا جدا حتى تتحاشى التأخر..إذا تعرضت لعطل في الميكرو..إذا تكرّر ذلك لن أقبلك...عليكم احترام الوقت.والاستعداد له..
وعند عودتي سألني المفتش: مقطب الحاجبين، وبلهجة صارمة:
ـــ كيف فعلتِ ذلك؟؟ ألا تعلمين أنك خالفت التعليمات الوزارية، وتستحقين عقوبة مسلكية على ذلك؟؟؟
قلت له:
لي أسبابي: ـ .. لقد اقتنعت فعلا بحالة الطالب..فالواقع ينبي عن ذلك...الأمر الآخر..لمّا يمضِ بعد نصف الوقت، فبالتالي الأسئلة مازالت محصورة ضمن الجدران / كان هذا منتصف التسعينات تقريباً، ولم يكن الهاتف الخليوي قد انتشر بعد / .....ـ الأمر الأخير، والأهم: الرحمة فوق القانون...وأنا مستعدة لأي عقوبة، ومسؤولة عن تصرفي...لن أكون السبب في رسوبه، حتى أضع نياشين النجاح، بأني صارمة، أتبع التعليمات، وأنفذها على حساب طالبٍ، في أضعف حالاته، يعلم الله حاله، وحال أهله...
ثم وبضحكةٍ رسمتها تهرّبا من قسوة ملامحه الجامدة، مددتُ يدي أشبكهما:
ــ ضعوا القيد لو شئتم...أنا جاهزة..
بقي صامتاً، ولكني قرأت في عينيه ثناء، ورضا..لا يمكنه الإفصاح عنه، لموقع مسؤوليته.../ ولم تأتني عقوبة/ ولا يحزنون..
وكان زملائي قد نظموا قوائم اشتراك المراقبين في حافلة واحدة..اتفقوا مع سائقها لتوصيلنا.. فشاركتهم رحلة العودة إياباً...
.ومن النافذة، كانت عيناي تقطفان جمال لوحات الطريق، على امتداد النظر...نلوّح لبعضنا مودّعين، كلما نزل زميلٌ، في محطته قرب بيته.
واليوم أتذكر مشهداً آخرَ، في بلدة عين الفيجة...التابعة الى الزبداني...بطلها طالب في الإعدادية اسمه: ( منقذ ) ...في موقفٍ لا ينسى.
إلى اللقاء في الجزء الثالث والأخير.
0 comments:
إرسال تعليق