Wien
غادرتُ فجر السادس من شهر آب 1962 مطار بغداد على متن إحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية متجهاً نحو العاصمة النمساوية فيينا، كمحطة إستجمام تسبق توجهى إلى العاصمة موسكو لدراسة الكيمياء النووية في جامعتها متمتعاً بإحدى زمالات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. جاءت عائلتي وعدد كبير من رفاق وأصدقاء الحلة وبغداد إلى مطارِ بغداد لوداعي. لا أنسى وقد تقدّم العمرُ بي مشهد والدتي تتهاوى على أرض قاعة المودعين لتقول لي بعيون دامعة : كيف سخيتَ بفراقنا عدنان (( صخيتْ بفراكنا عدنان ؟ )). أفلم تكنْ مُدلل وحبيب الجميع ؟ هل أساء أحدٌ منا إليك ؟ إذن لِمَ إخترت هذا الفراق الطويل ؟ لم أستطع حبس دموعي فبكينا معاً. ثم رأيت والدي يدور ذاهلاً حول نفسه بالقرب مني متسائلاً : أين عدنان أين عدنان ؟ أضحك أم أواصل البكاء ؟ كما لا أنسى الصديق أحمد سوار المسعودي الذي كان يومها يدْرُس علم نفس الأطفال المعوَّقين في جامعة برلين الغربية. جاء أحمد إلى المطار ليودِّعني حاملاً بيده وردة حمراء…كعادة أهل الغرب (( قُتِل أحمد عام 1964 في حادث مُروِّع تاركاً طفلةً صغيرة وأرملةً ألمانية )).
كانت فيينا أول مدينة أزورها في حياتي خارج العراق. وصلتها وفي مخيلتي أُغنية أسمهان (( ليالي الأُنس في فيينا )). راجعت في مطار فيينا مكتب الخطوط الجوية العراقية الذي كان يشغله موظف واحد إسمه ( طارق الفتلي ) طالباً تزويدي بعنوان فندق أمكث فيه فترة إقامتي في هذه المدينة. كتب لي السيد طارق عنوان أحد الفنادق. غادرت المطار مُستقلاًّ إحدى الحافلات المخصصة لنقل المسافرين القادمين إلى وسط العاصمة. هناك إستأجرتُ سيارة تاكسي طالباً من سائقها إيصالي إلى الفندق الذي إختاره لي الموظف طارق. تركت حقائبي في غرفتي الفارهة وهمت على غير هدىً في شوارع فيينا النظيفة والجميلة. إلتقيت صباح اليوم التالي صدفةً بتاجر عراقي يتكلم الألمانية ويزور فيينا بشكل دائم سواء للتجارة أو الإصطياف. سألني أين أسكن وكم أدفع مقابل مكوثي في الفندق. حين أبلغته بمقدار ما أدفع عن اليوم الواحد أعطاني عنوان شقة فيها غرفة فارغة وحثّني على الإسراع في إستئجارها. قال أُذكرْ إسمي للسيدة ( ماريّا ) صاحبة الشقة اليوغسلافية الأصل فإنها تعرفني جيداً إذْ دأبتُ بين الحين والآخر أن أمكث في هذه الشقة. كان السيد طارق قد حجز لي ليومين في الفندق، لذا لم أستطع مغادرته إلأّ في صبيحة اليوم الثالث. أخبرت مسؤول الإستعلامات في الفندق بعزمي على المغادرة وطلبت إستدعاء سيارة تاكسي. جاءت السيارة فحمل حقيبتي الثقيلة شاب أشقر من مستخدمي الفندق. سألني وهو يضع الحقيبة في صندوق التاكسي الخلفي عمّن أكون وما هي وجهتي وما سبب زيارتي للعاصمة فيينا ؟ ما كنا مُدرَبين ولا كنا مُحنَكين وما كنت على علم بما يجري من أمور وشؤون خارج حدود بلدي العراق. بعفوية وبراءة وسذاجة طبيعية قلتُ له سأغادر في غضون إسبوعين مدينة فيينا متجهاً إلى موسكو لدراسة الكيمياء النووية. تفتّحت شهوة صاحبي للمزيد من المعلومات فسألني هل لديكم في العراق مفاعلٌ نووي ؟ قلت لا، لكن سيبني العراق مفاعلاً للأغراض السلمية. عاد يسأل عن حجم وطاقة هذا المفاعل فأجبته إني لا أعرف هذه التفصيلات، وكنتُ صادقاً. فتح لي باب التاكسي، وحين هممتُ بالدخول قال لي بوجه ذئبي البلادة : أنا جاركم، أنا من أحد البلدان المجاورة للعراق، أنا من إسرائيل !! ؟؟ هل كان إختيار موظف الخطوط الجوية العراقية لهذا الفندق محض صدفة ؟؟ ربّما !! حدث ذلك في صبيحة الثامن من شهر آب عام 1962 !!
كلما إزدادت معرفتي بجغرافية المدينة وخاصة المقاهي المنتشرة في مركزها كلما تعرّفتُ على المزيد من العراقيين بين تاجر وسائح ومحام وطبيب. كما إلتقيتُ طلاّباً بلا عمل وقد فشلوا في دراساتهم الجامعية. تعرّفت في إحدى مقاهي وسط المدينة ( السنتر ) على موظف عراقي يعمل في السفارة العراقية في فيينا. بسبب أدبه الجم وبساطته غير المُتَكلّفة توثقّت علاقتي به وصرنا نلتقي أكثر من مرة في الأسبوع. إقترح وقد عرف وجهتي ومشروع دراستي أن أزوره في السفارة. زرته صباح اليوم التالي فقدّمني إلى الوزير المفوّض السيد ( باقر الحَسَني ). وجدت هذا الرجل ذا خُلُق عالٍ يتكلم الإنجليزية والألمانية بطلاقة. ثم لاحظت براعة الرجل الدبلوماسية إذ كان يتكلم مع النمساويين بصوتٍ خفيض ومع الروس بالتلفون بصوت عالٍ وقهقهاتٍ مسموعة. رحب بي ثم طلب من أحد موظفيه إرسال برقية إلى وزارة الخارجية السوفياتية يُشعرها فيها بموعد وصولي وإثنين من زملائي اللذين كانا معي على متن إحدى طائرات الخطوط الجوية الروسية. لقد كنت قد حددت يوم 22 من شهر آب 1962 موعداً لمغادرة فيينا طيراناً إلى مدينة موسكو. إذن قد تمَّ ترتيب كل شيء وما عليَّ إلاّ أنْ أستمتع بسحر ( فيينا ) وما خفيَ من جمالها وأسرارها وما ظهر.
أثناء تجوالي وجولاتي التي لا حدود لها في شوارع ومخازن ومقاهي ومطاعم ومسابح ومراقص وملاهي وكنائس ومنتزهات فيينا تعرّفت على فتاتين شابتين عراقيتين توقفتا في فيينا لفترة يومين فقط في الطريق إلى موسكو للدراسة في جامعة الصداقة بين الشعوب ( جامعة بياتريس لومومبا ). فائزة من مدينة العمادية في شمال العراق وفاطمة من بغداد. جمعنا بقوّة أمران : الغربة في مدينة غريبة ثم الهدف المشترك، الدراسة في موسكو. قمت لهن بدور الدليل والعارف لخفايا المدينة وقد مرَّ أسبوع عليَّ في فيينا وهنَّ ما زلن حديثات عهد بها. زرنا أول ما زرنا معاً المخازن الصغيرة والكبيرة للفرجة وإشباع الفضول وحب الإستطلاع ثم للتسوق وشراء ما يمكن شراءَه من ملابس وحاجات نسائية أخرى. تمشينا طويلاً ثم دلفنا إلى مدينة الألعاب الدائمة صيفاً وشتاءً والشهيرة بإسم Prater حيث أراجيح ودواليب الهواء ووسائل التسلية الأخرى المُصممة للأطفال وغير الأطفال، فضلاً عن المطاعم والمقاهي ومحلات الوجبات الخفيفة. أنفقنا الكثير من الوقت والنقود راكبين السيارات الكهربائية الصغيرة حيث كنّا نتدافع بها مع الآخرين. نُعرّقل حركة مرور سياراتهم أو نتصادم معهم بقوة يترنح بها جسد الإنسان ويضطرب.كانت متعة الجميع بهذه اللعبة طاغية، الكل يضحك ولا من مكان للغضب أو العتب. الكل يُزاحم ويشاكس الكل. وعند المساء تركنا مركز الألعاب هذا متجهين صوب فندق فائزة وفاطمة. تناولنا طعام العشاء معاً ثم ودّعتُ الفتاتين إذ ستغادران إلى موسكو صباح اليوم التالي على أن نلتقي قريباً في موسكو.
نصحني سائح عراقي أدمن زيارة فيينا والمكوث فيها طويلاً ومراراً كل عام أن أُقضّي ليلةً في قرية تقع في ضواحي فيينا مشهورة بالنبيذ الممتاز والدجاج المشوي تُسمّى Grinzing
وزوّدني برقم الحافلة التي تعمل ما بين مركز فيينا وهذه القرية ووقت مغادرة آخر حافلة قبل الفجر لهذه القرية. زرت القرية وطلبتُ النبيذ الأحمر ونصف دجاجة مشوية. شرعت بالأكل والشرب في جو صيفي دافيء ومكان مكشوف تصدح فيه موسيقى فرق الغجر التي تطيف على الموائد بين آونة وأخرى طَلَباً لبعض النقود. هناك ينسى الإنسانُ نفسه وينسى الزمن بل الزمن هو الذي ينساه فظللتُ أطلب المزيد من النبيذ الأحمر وتأتيني به فتيات المحل الفاتنات بقوارير خاصة من الكريستال. قُبيل الساعة الثالثة بعد منتصف الليل أعلن المحل ختام السهرة. دفعتُ حسابي وأسرعت إلى محل وقوف الحافلة الأخيرة لتأخذني إلى وسط مدينة فيينا. ركبت الحافلة معي مجموعة من السائحات عرفت من إحداهن إنهن من فنلندا. لأول مرّة أرى نساء فنلنديات. كانت رائحة النبيذ تفوح من أفواههن. وما أن تحرّكت الحافلة بنا حتى شرعن جميعاً بالغناء بأصوات عالية. تهيأَ لي أن الجميع سكارى. إذن فالجو مؤاتٍ لإحتمال النجاح في عقد صفقة صداقة ولو عابرة طائرة مع جارتي التي شاركتني مقعد الحافلة وكانت أكثرهن صخباً وغناءً وربما سُكراً. (( هيهات… فسُكرهم غير سُكرنا. ثم إنَّ كلام الليل يمحوه النهارُ )). كانت طويلة القوام، بشرتها ناصعة البياض. مِلت بجسدي قليلاً نحوها ثم قلتُ لها بالإنجليزية (( أُحبّكِ )). كنت أنتظر منها أن تغضب مني وأن تترك مكان جلوسها معي، لكنها هي الأخرى مالت نحوي وأجابت فوراً بوجه ضاحك شديد التورد واللمعان (( أنا أُحبكَ أيضاً I love you too )) !! لم اصدق أنني ما زلت كائناً بشرياً يحيا على سطح الكرة الأرضية. صحيح إذن إنها فيينا التي أحبتها الفنانة أسمهان وغنتها بإيقاع الفالس في إغنية (( ليالي الأُنس في فيينا )). أنا حقّاً في فيينا، فما ندمت حينها أنْ قد ضاعت مني فرصة زيارة المدينة الذهبية ( براغ ). بينا ما زلتُ غارقاً في أحلامي وأوهامي وتجوالي طيفاً هائماً ضائعاً بين الأرض والسماء السابعة كانت صاحبتي غارقة بالصخب والضحك والغناء بلغة قومها الفنلديين التي لا أعرف منها شيئاً. أين حبها لي إذن ؟ لماذا قالت إنها كذلك تحبني ؟ لماذا إنصرفتْ عني وتركتني أتخبط ولا أستطيع أن أتخذ أي قرار مناسب ؟ فكّرت قليلاً، أنا السكران الصامت، فقررت أن أتحرك بشجاعة وليكنْ ما يكن. قرّبتُ وجهي منها فلم تبتعد عني ، قبّلت خدها الوردي اللامع ، ردّت الجميل بالمثل فقبّلت هي الأخرى خدي الأسمر الذي يحمل تحت جلده جمرات حر صيف العراق ولاسيما شهري تموز وآب. أبرمنا العقد إذن وأصبحت الأمور شديدة الوضوح. شعرت بنوع من الإنتصار على الغرب وعلى جميع النساء الغربيات وعلى عاصمة أسمهان فيينا. تهيأ لي أن العلاقات بين المرأة والرجل يسيرة في هذه البلدان والتآلف سريع وغير معقّد كما هو الحال في بلداننا. سألتها، وقد قبّلتها وقبّلتني، أيمكن أن نقضي الساعات الباقية معاً في شقّتي أو معك في الفندق ؟ قالت كلا. سألتها ألا نلتقي نهاراً ؟ قالت سنغادر فيينا بعد الظهر عائدين إلى هلسنكي. لم تدهشني أجوبتها لكنَّ ما أدهشني حقاً هو أنها لم تسأل من أنا أو ما إسمي ومن أين أتيت ولماذا أنا في فيينا. يا لقساوة الفنلنديات أو الفنلنداويات !؟ يقبّلن الرجل ولا يذهبن معه إلى شقته. تقول له من هي لكنها لا تسأله من هو ؟ رغم أني ما كنتُ أميّز قُبيل الفجر بين الخيط الأسود والأبيض، فلقد إستطعتُ الوصول إلى شقتي مُتعَباً متضايقاً مما ألمَّ بي في حافلة الأوبة إلى فيينا. طارت من رأسي متعة الليلة التي أمضيتُ في قرية الخمور والدجاج المشوي. لماذا أزج بنفسي في مغامرات طائشة غير محسوبة ؟ لماذا يضع الإنسانُ قدميه في بداية طريق زَلِقٍ لا يعرف منتهاه ؟ لماذا التورط مع نساء أجنبيات غريبات في بلد غريب وأجنبي ؟ على أية حال… التجارب عِبرٌ، والتجارب لا يتعلمها المرء مجاناً. عليه أن يدفع، وأن يدفع نقداً لا أقساطاً ولا بالمؤجّل أو النسيئة. يكون الدفع أحياناً غالياً…غالياً جداً. نمت كما لم أنم قبلاً طوال حياتي. إستيقظت بعد الظهر وفي الرأس دوخة وخُمار. سيزول سريعاً هذا الخمار الذي علَّم الشاعر المتنبي كيف يسكر إذ قال : (( أفيقا، خُمارُ الهمِّ علَّمني السُكرا…))، سيزول بعد وجبة طعام دسمة لذيذة تقدمها أيدي فتاة نمساوية جميلة في أحد مطاعم فيينا الأنيقة. سيزول إذّاك الخُمار من رأسي وسيختفي ما هو أكبر وأخطر من الخُمار. إستحممتُ وخرجت لتناول طعام الغداء. بعد الغداء عنَّ لي أن أزور قصر الإمبراطورة ماريا تيريزا المُسمّى (( Schoenbrunn ))
أي قصر الينبوع الرائع. وصل قبلي إلى حدائق هذا القصر والغابات المحيطة به وحديقة الحيوان الملحقة به مئات السياح من مختلف الجنسيات والأقوام. لم أجد أية مشكلة في التعارف مع بقية عِباد الله، فقدكنت أتواصل مع غالبيتهم باللغة الإنجليزية. كذلك هو الأمر في فيينا. الكل تقريباً يتكلم أو يفهم هذه اللغة. لا عجبَ، إنها لغة سياحية عالمية حقاً وحقيقةً. (( ليالي الأُنس في فيينا…/ المرحومة إسمهان، آمال الأطرش )).
إلتقيت بمحض الصدفة خلال إحدى جولاتي المسائية بأحد زملاء الدراسة في دار المعلمين العالية في بغداد. إنه السيد ( الدكتور فيما بعد ) عبّاس حبّي الظاهر، من أهالي الناصرية. رأيته متأبطاً ذراع فتاة جميلة. رحب بي الرجل بحرارة ثم ترك معي رقم تلفون منزله. خابرته بعد يومين أو ثلاثة فدعاني على الغداء واصفاً لي طرق الوصول إلى منزله في العاصمة فيينا. كان وقتذاك يستأجر غرفة في بيت سيدة نمساوية. وصلتُ سكن الصديق عباس ففوجئتُ بوجود زميل آخر من زملاء الدراسة هو السيد ( هادي الشمّاع ). تناولنا الغداء جميعاً وبعد الشاي أوصلني هادي مشكوراً إلى شقتي بسيارته الإيطالية الصغيرة من نوع ( فيات ). لم نلتقِ بعد ذلك اللقاء أبداً. كان عباس وهادي يدرسان الأدب العربي في جامعة فيينا على حسابهما الخاص. ما كانا طلاّب زمالة أو بعثة. بعد واحد وعشرين عاماً رأيتُ الدكتور عباس حبي الظاهر على شاشة تلفزيون العاصمة الليبية طرابلس مع مجموعة من السياح. لم تسمح لي ظروفي يومذاك أنْ أسعى للقائه أو السؤال عن مكان إقامته في فنادق طرابلس. عرفت أخيراً إنه لم يزل يعمل ويعيش في فيينا ويزور مدينة ميونيخ من وقت لآخر. بي رغبة مُلحّة أن أرى هذا الإنسان الرائع وأنْ أردَّ له الجميل رغم تحفظي الشديد على علاقته المتينة بإبن مدينته الضابط الطيار ( منذر توفيق الونداوي ) الذي ساهم بنشاط في تنفيذ إنقلاب الثامن من شباط 1963 وقصف وزارة الدفاع ومطار وطائرات معسكر الرشيد فكافأه الإنقلابيون بجعله قائداً للحرس القومي سيء الصيت. ثم إنه هو منذر توفيق الونداوي من هتك أعراض بعض العراقيات.كافأه حزب البعث مرة أخرى فجعلوه سفيراً للعراق في اليابان لكنه، ولأسباب ما زالت مجهولة، ترك عمله سفيراً وهرب طالباً اللجوء في بعض البلدان الأوربية. قال لي أحد معارفه إنه كان حتى عام 2000 يقيم في المدينة الإسبانية السياحية الشهيرة ( ماربيّا ) وتُغدق عليه إحدى الحكومات العربية بسخاء !! رأيتُ عام 1964 إحدى ضحاياه في مدينة موسكو بعد أنْ تمكّنت من الهرب من العراق وأدلت بتصريحات يقشعّر لها البدن.
مع بنات حوّاء
1- تعرّفتُ خلال إقامتي القصيرة في فيينا ( 6 آب – 22 آب ) على أكثر من فتاة وأنفقتُ عليهن جميعاً سواء في مطعم أو بار أو مرقص أو سينما.لم يطلبنَ أكثر مما كنتُ أدفع إلاّ واحدة قدّمها لي في إحدى الأمسيات طالب عراقي بدون عمل. قالت إنها في السابعة والثلاثين من العمر وإنها سيدة مُطلّقة ومعها طفلان وإنها هي الأخرى بدون عمل. أخذتني إلى أحد المطاعم الفخمة، وما أن إتخذنا مجلسينا في ركن هاديء من المطعم حتّى أخذت تطلب أطباق الطعام المنوعة مع الشراب الفاخر. وكلّما أنهت طبقاً طلبت آخر مثله أو سواه مما لذَّ وطاب. أفرطت في الشراب فأكثرتْ من الكلام. تتكلم معي بلغتها النمساوية التي لا أفقه منها إلاّ بضع كلمات، فأرد عليها بالإنجليزية التي لا تفقه منها إلاّ الأقل من القليل (( حوار طرشان. تذكّرت مثلاً شائعاً بين أهل الحلّة يقول : المتكلم هندي والمستمع من أهل الجريبات. الجريبات قرية خيالية أهلها بسطاء بُلَهاء وسذّج )). كنتُ أفهم منها أنَّ الرجال لا يبتغون من النساء إلاّ الحصول على المتعة العابرة، بينما هي كانت تسعى للحصول على علاقة ثابتة راسخة وتريد مستقبلاً مضموناً، أي إنها تريد الزواج. بعد أن إنتصفَ الليلُ وَثَقُلت منادمتي بما أكلت وشربت قالت : إدفعْ الحساب وأوصلني إلى بيتي كي ترى أطفالي نياماً. أخذتني في طرق نصف مُظلمة لم أعهدها من قبلُ في هذه المدينة.كانت الطرق خاليةً من البشر، وكلّما تقدمنا ماشين في هذه الطرق كالأشباح في نصف عَتمة قالت ما زال بيتنا بعيداً. لم تكف عن الكلام أبداً. حين تكف عن الكلام والثرثرة تشرع بالغناء بصوتٍ عالٍ. بدأت أشعرُ بالسأم المشوب بهاجس القلق. لا أعرف هذه المرأة ولا أدري إلى أين ستأخذني هذه العفريتة . شبَّ صراع عنيف في داخلي بين القلق على مصيري وعلى ما معي من نقود من جهة، والرغبة العارمة في جسد هذه البلية التي أكلت وشربت خمسة أضعاف ما قد أكلتُ وشربت، من الجهة الأخرى. زادت ثرثرتها وطغيان تأثير الكحول عليها من سأمي وإحتقاري لها فقررتُ تركها والرجوع إلى شقتي. لكنها لم تدعني وشأني.لم تشأ أن تتركني أمضي راجعاً وحدي. أمسكت بي بقوة وأخذتْ تجرني كالكبش جرّاً وأنا أُقاومُ وأحاول الإفلات من قبضة يدها القوية.كانت رغم سكرها الشديد أقوى مني، وكلّما قاومتُ زادت شراسةً وإصراراً على أن أمضي معها إلى بيتها لأراها كيف تعيش مع طفليها. لا من يُغيث ولا من يسمع في تلكم الساعة وفي هذه الطرق الخالية ونصف المظلمة.كيف سأتخلص من هذه الورطة وكيف سأعرف طريق عودتي إلى مسكني فيما لو إستطعتُ أن أفلتَ منها وأهرب راكضاً ؟ فكّرتُ في الأمر ثانيةً وقررتُ أنْ أمضي معها في مغامرة غير محسوبة جيداً وأن أتحملَ ما تجره الأقدارُ عليَّ. قلتُ قد تكون هذه المرأة بريئة مسكينة ثم إنها أم لطفلين وعاطلة عن العمل. إذن لا ضيرَ ولا ضرر في أنْ أُقضّي بقية الليلة المشؤومة معها، سيما وقد دفعتُ خمسةَ أضعاف ما يستحق جسدها مني. ثم بدأتُ أُخادع نفسي بالقول إنني سوف لن أنام أبداً وإنها سكرى ستسقط في كرى عميق حال وصولنا بيتها. خُيّل لي إنها إلتقطتْ قراري الخفي بحاستها السادسة فأرخت يدها القوية من ذراعي وهرولتْ إلى إحدى زوايا الشارع كي تتبول. جاء الفَرَجُ إذن ! جريتُ أسرع من غزال في الإتجاه المعاكس لخط مسيرنا. لا أدري كم مرّةً سقطتُ على الأرض، ما كنتُ مهتمّاً إلاّ بسلامتي ونقودي. الرضوض تبرأ عاجلاً أو آجلاً لكنْ خسارة النقود لا يمكن تعويضها وأنا في بلد أجنبي سأتركه بعد حين. عندما دفعتُ الحساب الخيالي وغادرنا المطعم الراقي طلبت هذه السيدة أن نلتقي ثانيةً مساء اليوم التالي. لم أذهبْ بالطبع إلى موعدها، فلقد تعلّمتُ الكثير من الدروس في أُمسية واحدة، وتعلّمتُ أن لا أدعو سيدةً لا أعرفها جيداً إلى أي محل في الدنيا. وأن لا أزور بيتاً لا أعرف عنوانه مُسبَقاً. وأن لا أبقى في الشوارع ليلاً بعد الساعة الحادية عشرة. ثم لا أعقدُ صداقات مع السكيرات من بنات حواء ولا المدخنات منهن ولا الثرثارات !!
[[ ملاحظة متأخرة : ولا مع اللائي في بيوتهن كلاب أو قطط !! ]].
2- مع ( ليليLilly )
كنتُ راجعاً عصر يوم دافيء صاحٍ جميل من جولة تمشٍ طويلة في الضواحي القريبة من فيينا. في الشارع الزاخر بالحركة والساحات المليئة بأحواض الزهور رأيتُ فتاةً جالسة على إحدى المصاطب.كانت وحيدة شاحبة الوجه بريئة الملامح. إقتربتُ منها مُحيياً فردت تحيتي بلطف. كانت تعرف اللغة الإنجليزية. عرضتُ عليها أن نرى معاً أحد الأفلام السينمائية فوافقتْ على الفور. ما كانت دار السينما بعيدةً عنّا. كانت تعرض فيلماً أمريكياً. لاحظتُ أثناء عرض الفيلم أنَّ هذه الفتاة الشابة الهادئة لا تُطيقُ سماع أصوات الإنفجارات التي كانت تقتضيها بعض مشاهد الفيلم. كانت تقف على قدميها مع كل إنفجار صارخةً. كنتُ أُهديء من روعها. أُساعدها على الجلوس ثانيةً في مقعدها.كانت ترتاح لذلك وتشعر بالثقة بالنفس حين أُطوّق كتفيها بذراعي. إنتهى الفيلم عند حلول الظلام فعرضتُ عليها أن نتمشى نحو مركز المدينة وأن نتناول طعام العشاء في مطعم بسيط قريب من سكني. رحّبتْ بالفكرة. أخذت أثناء تمشينا تسألني أسئلة بريئة عن ظروفي وظروف بلدي. وحين أنتهي من الإجابة تضع المزيد من أمثال هذه الأسئلة التي كنت أرى فيها تسلية ممتعة وفُرصة لتزويدها بالمعلومات عن سفرتي وطبيعة دراستي المقبلة في جامعة موسكو. لم تزودني بأية معلومات عن حياتها الخاصة سوى إسمها ( ليلي ). كما إني لم أسألها أي سؤال يتعلق بها أو بوضعها أو دراستها أو عملها ولماذا هي وحيدة.لم أشأ أنْ أتسبب في أيما إحراج لهذه الفتاة التي بدت لي كحمامة سلام بيضاء أدباً ورقّةً ووداعةً وبراءة. كانت شاحبة الوجه، فلماذا هذا الشحوب وهي ما زالت في عمر الزهور؟ لا أدري. إنها مشكلتها وليست مشكلتي. بعد قليل سنفترق. دخلنا المطعم البسيط القريب من شقتي، كنتُ أعرفه جيداً. يتناول روّاده طعامهم واقفين متحلقين حول موائد عالية. كما كانت هناك مقاعد للجلوس. جلبتُ لكل منّا صحنَ رز ولحم وكأسي عصير برتقال. كانت ما زالت تسأل وهي تأكل. وكنت من جهتي ما زلتُ منشغلاً بأمر هذه الفتاة – الطفلة البريئة الجميلة الشاحبة الوجه. هل لديها متاعب جديّة في الكبد أو المرارة ؟ جائز. كنتُ أجيبُ عن أسئلتها بإختصار شديد لأني – حتى اليوم – لا أستطيع الكلام وتناول الطعام معاً. إما هذا أو ذاك. لم تطلب شيئاً آخرَ غيرَ ما قدّمتُ لها. إكتفتْ. إقترحتُ أنْ نزور سكني وأن نأكل بعض الفاكهة. وافقت في الحال. هالني سر هذه الفتاة. كيف وثقت بي فإنقادت لي كالقطة الأليفة ؟ من أين أتتها هذه الثقة ؟ من الذي علّمها أن تثق بالسياح الأجانب المارين بمدينتها مروراً عابراً خاطفاً ؟ كيف تأتي معي إلى غرفتي والساعة تقترب من العاشرة ليلاً ؟ في غرفتي ناولتها قطعة كمّثرى. أخذتها وإتخذت مكان جلوسها على حافة شباك غرفتي المفتوح والمُطل على الشارع العام. كانت تقضم الكمثرى بهدوء وبطء دون أن ترفع بصرها عن الشارع العاج بالمارّة والسيارات وأضوائها الخاطفة. بعد العاشرة بقليل عرضتُ عليها أن أُرافقها حتى موقف حافلة الشارع الكهربائية Strassenbahn التي تأخذها قريباً من سكناها. سألتها قبل أن تأتي الحافلة عن رقم تلفونها. أعطتني رقم تلفونها على أن أُجري معها غداً إتصالاً هاتفياً لغرض ترتيب لقاء آخر. ركبتْ الحافلة فرفعتُ ذراعي مودِعاً. حيرني أمر هذه الفتاة. ليس لها نظير فيمن عرفت من بنات حواء. شحوبها غريب وسلوكها أكثر غرابة. سأتصل إذن غداً بها ولسوف نلتقي وسأحاول الدخول في عالمها الغامض ومعرفة المزيد عنها وعن أسرارها وعمّن تكون وكيف طرحت ثقتها المطلقة في شخص لا تعرفه. وقعتُ فريسة مزدوجةً للفضول والشفقة على هذه الفتاة التي قالت إنها في العشرين من عمرها، أي أصغر مني بستة أعوام.
فتحت التلفون حوالي العاشرة من صباح اليوم التالي. جاءني صوت نسائي لا يشبه صوت ( ليلي ). طلبتُ الكلام مع ( ليلي ) فجاءني رد بالألمانية لم أفهم منه شيئاً. ظللتُ أُلِح في سؤالي عن ( ليلي ) فيأتيني نفس الرد وبنفس اللغة. لا أنا يئستُ ولا الأخرى شعرت بالسأم من سؤالي. حوار طرشان… مرة أخرى. ماذا حلَّ بصاحبتي ؟ هل هي نزيلة أحد المستشفيات أو المصحات العقلية سمحوا لها عصر اليوم الفائت بالخروج للتنزه وتغيير الجو؟ أليس لها عائلة وأهل ؟ هل هي مصابة بمرض خطير لا شفاء منه ؟ هل… هل…هل…، ثم مَنْ السيدة التي كانت على خط الهاتف ؟ هل هي أمها أم إحدى ممرضات المشفى أو المصح ؟ لم أستطعْ رؤية ( ليلي ) مرة ثانية.
3- مع فرنسية في مرقص
نصحني عراقي يعرف مدينة فيينا جيداً ويزورها مراراً كل عام أن أُقضّي أُمسية في مرقص ومشرب يتخذ مكانه في أحد أركان دار البلدية الضخم. ذهبت إلى هذا المرقص فصدَّني رجل وقال لي : عليك أن تأتي مُرتدياً بدلة كاملة. هذه هي التعليمات. رجعت إلى غرفتي فإرتديتُ بدلتي الصيفية وكان الجو دافئاً رائعاً. صدني الرجل مرة أخرى قائلاً : التعليمات تقضي أن تضع مع البدلة ربطة عنق ! عدتُ أدراجي إلى غرفتي ووضعت ربطة العنق وأتيت إلى المرقص فسمحوا لي بالدخول. كان الدخول مجاناً شرط أن يتناول الضيف كأسين من البيرة أو النبيذ كحدٍ أدنى. طلبت كأس نبيذ أحمر ودخلت فوراً في الجو الساحر العام. كل الحاضرين شباب وشابات بمثل سني وأصغر. رقصوا مراتٍ ومراتٍ أمامي على أنغام الموسيقى المتنوعة. كنت مكتفياً بنشوة شرابي وروعة ما يجري أمام عينيَّ.
طلبتُ المزيد والمزيد من النبيذ الأحمر ( ما كنتُ أَسيغُ طعم البيرة ) حتى إرتفع مفعول الحُميّا في رأسي فدارت بي الدنيا وإختلطت عليَّ الأمور فقررت أن أرقص مع الراقصين وأن أدور مع الدائرين! إنتهت رقصة فتلتها أخرى. تلفّتُ يمنةً ويسرةً فوقع بصري على فتاة سوداء الشعر شديدة الشبه بإحدى معارفي في العراق. دعوتها للرقص فلبّت الدعوة دون تردد. إخترقتُ بها جموع الراقصين والراقصات حتى وسط حلبة الرقص. شرعنا نرقص كباقي الشباب. سألتها وسألتني الأسئلة المعتادة : الإسم والبلد. قالت إنها فرنسية فقلت لها أنا عراقي من مدينة الحلّة القريبة من آثار وخرائب بابل. لكني شعرت فجأة أنني لا أعرف الرقص ولا أُحسن نقل خطواتي حسب الإيقاع الموسيقي المضروب. ساورني نوع من الخجل من هذه المغامرة. لعنتُ الكحول ولعنتُ مفعول الكحول ولعنتُ من نصحني بإرتياد هذا المكان الرائع. تركت فتاتي على حين غرّة دون أن أعتذر لها أو أن أبين لها السبب مُنسحباً إلى حيث مكاني ومائدتي ومشروبي. تركتْ بعدي حلبة الرقص تجرجرُ أقدامها جرّاً. جلستْ في مكانها وكانت معها فتاتان أُخريان. طلبتْ كأساً فأتاها به النادل. شربت نصف الكأس دفعةً واحدة. مرَّ بعض الوقت، وبعد فترة إستراحة صدحت موسيقى ( الفالس ) فنهضتُ أدعوها للرقص معي. لم ترفض ولم تعترض لكنها طلبت مني برفق وأدب أنْ لا أتركها وحدها وسط الراقصين كما فعلتُ المرة السابقة. هززت لها رأسي موافقاً. كانت فتاة دافئة بيضاء الوجه شعرها فاحم السواد وعيونها من النوع المألوف كثيراً في بلدان الشرق الأوسط. هل هي حقاً فرنسية ؟ ما هذا الشبه الكبير بينها وبين بعض من تركتُ من معارفي في العراق ؟ كنتُ حائراً تائهاً في معمعان هذه الأسئلة وكيف أُواصل الرقص الذي لا أُجيد مع هذه الفاتنة المطواعة ؟ لم أُصدّق أن الموسيقى ستتوقف وأن الراقصين سيعودون إلى أماكنهم لبعض الراحة وإستئناف تناول المشروبات الكحولية. الحمد لله !! توقفت الموسيقى وعادت الجموع إلى أماكنها المحجوزة. رافقتُ الفتاة الفرنسية ماسكاً ذراعها برفق إلى حيث كانت تجلس مع صديقتيها. شكرتها بكل أدب وإتجهتُ إلى مائدتي وشرابي.كيف يرقص رجل شرقي مثلي دون أن يعرف أبسط مباديء وأصول الرقص الغربي ؟ الكحول. لعن الله الكحول ولعن صانعه وحامله ولعن شاربه. بل ولعن زارع كرمته. أتذكر هذه الفتاة فأشعر باللوعة والحسرة أني فارقتها على عجل، وإني ما كنتُ أصلاً قادراً على البقاء معها فترة أطول. ستأوب هي إلى بلدها فرنسا وسأغادر أنا متجهاً إلى بلاد بعيدة غريبة للمزيد من الثقافة والمعرفة والعلم. كانت طالبة ما زالت في طور الدراسة وكانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة. تركت لديَّ إنطباعاً قوياً في أنها كانت مستعدة لقضاء باقي عطلتها معي في فيينا.كانت جدَّ سعيدة معي. قبلت إهانتي الخرقاء وصفحت عني. لا أتذكر إسمها، وللأسماء عندي مغزى ومعنى وشعور يُقرّبني كثيراً من طقوس المتصوِّفة. لا أعبد الأسماء ولا أسجد لبشر لكني شغوف إلى حد هوس الغرام بذكرى أسماء بعض مَنْ قد عرفتُ. فيينا… فيينا !!.
[[ تعقيب : زرت فيينا زيارات سياحية أُخرى مع عائلتي صيف عام 1977 قادمين إليها من بغداد وصيف عامي 1979 و 1981 قادمين إليها من العاصمة الليبية طرابلس. ثم زرتها في خريف عام 2002 بدعوة من البيت العراقي هناك لإلقاء محاضرة أدبية حول خصائص قصيدة النثر.لم تترك هذه الزيارات الأربع أي أثر ذي بال في نفسي. شغلتني الزيارة الأولى، زيارة الصبا وفورة الشباب ]].
0 comments:
إرسال تعليق