خلف السياج، يتهجم الكلب بشراسة، موحيًا بقدرته على الفتك بكل من يقترب. لكنه ما إن يفقد حاجزه الآمن ويواجه من كان يهددهم، حتى يهدأ ويتراجع خائفًا، وربما يختبئ.
يتوهم الكلب أن السياج يحميه، فيتبنى سلوكًا عدوانيًا نابعًا من شعوره الزائف بالأمان. والمفارقة أنه كلما زاد شعوره بالحماية، زاد تهجمه، وكأن الحاجز الذي يفصله عن العالم يمنحه جرأة لا يملكها في غيابه.
التجمعات الإنسانية، بكل أشكالها العرقية والإيديولوجية، توفر حماية مشابهة، يستغلها بعض المتعصبين والانتهازيين بجرأة زائدة، فيبالغون في استعراض القوة واستخدام العنف أحياناً.
الإنتماء إلى الجماعة يمنح الأفراد شعورا بالعظمة والأمان، بخاصة أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة الكافية والثقة بالنفس. معظمهم يظنون أنهم على حق، أنهم في المكان الصحيح، وبأنهم يمارسون البطولة فداء لجماعتهم بوچه الغرباء والمتربصين.
الإنتماء مسألة فطرية بديهية تمليها وحدة الحياة في بيئة معينة، لكنه قد يتسم بالحدة والتطرف عندما يتحول إلى ضرورة تفرضها ظروف الحياة، كالدفاع عن حقوق مهددة، أو مواجهة ظلم حقيقي. هذه الدوافع الطبيعية لا تحتاج الى تفسير او تبرير، أما خطورتها فتكمن في إمكانية تحولها إلى أداة للعزلة والإنغلاق، فتترسخ الفكرة القاتلة: "نحن" في مقابل "هم". نحن من دين وهم من دين آخر، لنا أفكارنا ولهم أفكارهم، لنا عاداتنا وتقاليدنا ولهم عاداتهم وتقاليدهم، نحن لا نشبههم وهم لا يشبهوننا. وهكذا، ترتفع جدران العزل، ويستمر الصراع الوجودي بين العقائد والأفكار والأجناس.
يؤدي التمسك بالهوية الجماعية والانغلاق بدافع الأمان وحماية الذات إلى نشوء معضلة الانتماء غير الواعي وما يترتب عليه من عزلة وتباعد. في ظل هذا الواقع، تتفاقم مظاهر التطرف، وقد تنحو نحو العنف، مستندة إلى تأويلات فكرية ودينية متشددة. ويزداد الأمر خطورة عندما تستغل النخب الفكرية والأنظمة السلطوية هذه التوجهات لتعزيز نفوذها، فتقمع أي تفكير خارج إطارها، وتحبط محاولات التحرر من سطوتها.
على الجانب الآخر نرى جيلا جديدا من الشباب المتأثر بشدة بالإعلام المعاصر والتكنولوجيا الحديثة، فكيف سيكون تأثير الثورة الرقمية على هذا الجيل، وهل سيعيد تشكيل حياته على إيقاعها؟ إننا على أعتاب لحظة تاريخية فاصلة تتحول السيطرة الفكرية فيها من سيطرة النخب والقادة إلى سيطرة الشركات التي تمتلك البيانات ولديها القدرة على توجيه السلوك البشري عبر الخوارزميات، فهل سنكون أمام إنسان مختلف لا يتأثر بالجماعة التقليدية ولا يخشى هيمنتها عليه؟
تمر البشرية في مرحلة تشكيك عميق بكل المفاهيم التي آمنت بها لقرون خلت، وها نحن اليوم وجها لوجه أمام سيطرة الوسائل الذكية على حياتنا وتوجهاتنا. الإنسان الجديد المنساق وراء العالم الرقمي، إنسان غير مبال إلى حد ما بالتقاليد والقيم والثورات، يتشكل عقله وفق منهجية مختلفة لا تخشى التغيير او الخوض في المحرمات، فهل هو حقا أكثر حرية؟ أم أنه مجرد انتقال من قيد إلى آخر؟
هل سيستطيع إنسان المستقبل التخفف من ضغوط الجماعة؟ هل سيتحرر من تأثير الموروثات التي تشكل وعيه منذ الطفولة؟ أم أنه، مهما ادعى التحرر، سيظل بحاجة إلى سياج ما، وإن كان غير مرئي؟
2025/4/2
0 comments:
إرسال تعليق