بغداد/ د. مروان كسّاب

في كلّ مرّة يتهيأ لي مناسبة جلّى على هذا المستوى الواثب نحو العلاء، أرى نفسي سجين الرؤى المنداحة على اجنحة المدى أو محمولاً على ارجوحة  الخيالات المخملية، إذ تموج خواطري في خضم الاحراج فتتناثر على شطآن الكلمة لتصافح الدهشة وهي تعتصر الصمتَ من عناقيد الوحي والخيال.
وبين مد الكلمة وجزر الصمت سرعان ما تطلّ عليَّ اعظم وجوه من بلادي المثقلة بالجراح، فالتقي نخبة الاشخاص الميامين وجهابذة الفكر ورواد الحركة الفكرية والأدبية تحت مظلة الصحافة التي يعبق من زنابقها البيض اريج الحكمة وعبير الجرأة، اماطةً للثام الجاثم على كلّ خطرٍ محدق أو حادثٍ طارئ تكتنفه الشبهة  أو يعتوره الابهام. وما احوجنا في هذا العصر  القابع في مطاوي المجهول إلى منارة الكلمة، لا سيّما كلمة الصحافة التي تعتبر بحق الأم الحنون الحادبة بظلالها الندية وترانيمها الشجية على ابناء مجتمعها في حلهم وترحالهم، باعتبار أن حنان الأم وأعني بها الصحافة لا يغمض لها جفن ولا تقر لها عين ما دام ابناؤها البررة يتخبطون في دياجير اللوعة والعذاب.
وبهذا الاحتفال العراقي الوقور تطل علينا الصحيفة العراقيّة بملابسها السحرية على يد من له في التحرير اليد الطولى، ألاّ وهو الأستاذ الكبير موفق ساوا، وممّا يحرجني اكثر فأكثر ليعتريني احساس يكاد يصل إلى حافة الذهول هو أنه كيف لي أن اختصر البحار في دمعة عابرة  أو أنه هل باستطاعة ضوء السراج الخافت  ان يستغرق نور الغزالة.
في اطلالتها من على مشرق الحق والمعرفة، ذلك أن التقاء الفكر بالفكر والصحافة  بالصحافة والأدب بالادب والشعر بالشعر في ما بين لبنان وطني الأم  والعراق وطني الشقيق، لا سيّما وقد دعاني إلى هذه الندوة المتألقة بالروعة والجمال، الكاهن المفضال أبتِ الأديب المبدع يوسف جزراوي، فالتقيت احبائي ابناء وطني الأم مع ابناء وطني الشقيق، وكيف لا يكون للإبداع الدور البارز في ظل أبرز الشخصيات الألمعية التي تستضيء فيها بلادي، لا سيّما عندما تستعصي  الازمات وتتداعى الحلول، فلم يعد لنا إذ ذاك من مناص اللهمَّ اللجوء إلى مادة الشعر وكلمة الصحافة الحرّة. الصحافة هي السلاح الأوحد والمبدأ الأصمد في كسب معركة الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان.
بغداد:
كم رحتُ أحلمُ كي يتمّ لقائي       مع من اراهمُ بلسمي وعزائي
كم رحتُ استجدي الحنين مشاعرًا      ليطيبَ جرحي وقد سئمت دوائي
كم رحتُ أُرسلُ للعراقِ قصائدًا       لأزفَّ لحنَ محبتي ووفائي
يا ليتَ شعري من العراق بلمعةٍ     كي يستفيق من الظلام ضيائي
إذ بين دجلةَ والفرات ملاحمٌ      ما جت مدامعها وبحَّ ندائي
لو إني أملك بالعجائب قدرةً     لشفيتُ جرحهُ قبل نيل شفائي
إن كان موتي إلى العراق سلامة      لفديتُ شعبًا كاملاً بدمائي
حسبي وان ادعو العراق حضارةً       واقول شعرًا فيه عهدُ ولائي
يا مكتبات الفكر زيدي تأثرًا       وتسمعي لحني وندب شقائي
هلاَّ يعودُ الحرفُ يطلق ريشةً      لأشق دربَ تأملي ورجائي
تلك النخيلة هل تعود غصونها       لتسّبح الباري بوجدِ دعاءِ
والأرز في لبنانَ بات كفارسٍ       يختال فوق رياحه الهوجاء
بغدادُ هاتِ من الخيال روائعًا      فالبحرُ أنتِ وزورقي ومينائي
نادي على الإبداع فيك بدعوة      كي يستجيب الشعرُ شجوَ غنائي
يا ليت يُسعفني الخيالُ بومضةٍ       تجلي الهموم بليلةٍ ظلماءِ
واعودُ يا بغداد نحوك شاعرًا       يبكي الزمانَ بدمعةٍ عذراءِ
هذي الصحافة للشعوب منارةٌ     فموفقٌ ساوا كنبعِ عطاءِ
يرتاده الظمآنُ كلّ صبيحة         ويعود منهُ مزودًا لمساءِ
وأديبك الجزراوي جاء مرصعًا     بقلائدِ الأدباء والشعراءِ
والأمسيات تشوقت لسماعهِ     شوقِ الورودِ لقطرةِ الأنداءِ
اعطى البلاغة والفصاحة بيدرًا     اصطادُ منه مؤونتي وغذائي
وابثُّ دمع الرافدين قصائدًا        تبكي وتدنو إلى المياهِ بماءِ
فدعوني انظمُ للعراق ملاحمًا      ودعوني اعتمرُ الجراح ردائي
ساظلُّ ابكي والبكاء رسالتي         سكب المدامع  لا يثيرُ حيائي
كفوّا العذابَ عن العراقِ وعندها     جرحي يطيبُ وقد أكفُّ بكائي.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق