د. فيصل غازي مجهول.. شمعة مضيئة في خاصرة الظلام/ الأب يوسف جزراوي

كان يجب أن أنتهي من كتابي ( نخيل في بستان الذاكرة) منذ شهر. لكني ضجرتُ من الكتابة، السهر مع القلم متعب وغزل الحبر مع الورق عملية مرهقة تستنزف الوقت وتنهك الصحة، لكنني تجاوزت كلّ هذا حين وددتُ أن انهي شخصيات الجزء الأوّل من هذا الكتاب، بالكتابة عن اسم كبير غفل عنه البعض في غمرة كتاباتهم عن التعليم الأكاديمي في العراق، هو قامة اكاديمية عالية، يتذكره المنصفون، ويشيد به المعاصرون له.
 وقد يعلم الذين اختبروا الحياة واستوعبوا ما هو جوهري فيها، هناك وجوه تمرُّ في حياة المرء، كنجمٍ يسطع بلمح بصر، لكنها تُبقي اثرها الطيب في النفس رغم تضاريس العمر  وبعد المكان وتغير الزمان.
مَن منّا لا ينشرح صدره حين يلاقي شابًا طموحًا مثقفًا يدب على الأرض ويوزّع إيثارًا من نشاطه وثقافته على الوجوه الناظرة، أوَليس الكثير منّا يخلع عنه عبء الحياة حينما يكون أمام  فيلسوف يجسّد جمال الوجود بكلماته أو ينسج بفكره وعيًا آخذًا ترتاح إليه النفس وتهدأ بسلوكياته.
     تلوح في فكري هذه الكلمات، كلّما تذكرت الأستاذ الصديق د. فيصل غازي مجهول  أو وقع بين يدي واحد من كتبه؛ حيث كنتُ قد سمعتُ عن ذلك الفيلسوف المتألق قبل أن أعرفه شخصيًا إلى أن جلبه الأب يوسف حبّي لتدريس مادة الفلسفة الاسلامية في كلّيّة بابل في السنة الدراسية 1999- 2000، فعرفتُه وتقربتُ منه وتوقعت بما سيصل إليه قبل غيري. والحال أنني عرفت الدكتور فيصل مبكرًا قبل أن ألتقيه، قرأت له مقالات وابحاثًا أعجبني   ما ورد فيها، ,وشدتني   اللغة السهلة والأسلوب الفلسفي الشيق الذي صيغت فيه، وكما تعلمون بإنّ الإنسان هو الأسلوب، وباسلوبه إما يهلُك وإما يملُك،  فكيف إذا كان كاتبًا ومحاضرًا في مجال الفلسفة وطبيعة المجتمع وفلسفة الدين، فصرت أتابع كتاباته في الصحف والمجلات، حتّى نمى لدي شعورٌ بأنني أراه واسمعه واعرفه.
على أن اللافت للنظر أنّ هذا الرّجل صاحب القلب النبيل والنوايا الطيبة والفكر المنفتح، وجدته يحب تلامذته ويعشق الحوار الهادئ مع الجميع دون أنْ يفرض رأيه على أحد‏. يمتاز بشخصيّةٍ جميلة لها جوانب متعددة وكلّها تدعو إلى احترامه وتقديره والاحساس برقيه، فقد لمست فيه صدى لتلك المقولة الشعبية " لكلّ مجتهد نصيب"، فقد أجتهد في الجمع بين الثقافة العالية والموهبة الأصيلة والسلوك الإنساني العذب، وتلك معادلة يصعب أن تجتمع بكلّ هذه القوة في شخصٍ واحد‏.‏  عرفته في غاية الذكا‏ء، وكانت العلامة الرئيسية لذكائه أنه كان دائمًا بعيد النظر ، لا تخدعه ظواهر الأشياء‏، يفهم جوهر الأمور بسرعة شديدة‏، فلا يتوقف كثيرًا أمام الشكليات،‏ ولا يختار لنفسه طرقًا يعرف منذ البداية أنها ميؤوس منها وأنَّ الجهد فيها ضائع‏، وكان لديه إحساس عميق هادئ بإنّ الرأي الصائب الصحيح لا خطر عليه وإنْ لم يعترف به الناس لفترة من الزمان‏، فالصواب عمره طويل، ولذلك فإنه لم يتعجل في حياته من أجل الوصول إلى هدفٍ ما، ولعلّ شعار حياته غير المعلن كان هو إفعل ما عليك  ‏وامشِ.
       الصدفة هي التي جمعت بيني وبينه، إذ كنتُ في عام 1997 أسمع من جارتنا السيّدة ساهرة كتولا ( أم بسام) عن الأستاذ فيصل غازي، حيث كانت السيّدة ساهرة معاونة  لوالدته التي شغلت منصب مدير إحدى المدارس الابتدائية في كرادة مريم  ببغداد. وكعادتي كنتُ  أتردد على الأب روبير الكرملي رحمه الله في ديره الواقع في حي الصالحية لغرض الاسترشاد الروحي، وذات يوم رأيتهُ واقفًا قُبالة الأب الجليل فعرّفني عليه، وما أدراك ما حصل لي حين وجدتُ نفسي وجهًا لوجه أمام ذلك الإنسان الرائع بخلقه وعلمه! ارتبكت لوهلة ثم استمعت له بإنصات دون أن انبس ببنت شفة واحدة تهيّبًا وتقديرًا. كان وجهه شفافًا مثل كلامه، له ابتسامة مشرقة وقدرة هائلة من الفراسة، صياد ماهر بابتسامته المعهودة لإدراك ما خفي عند محاوره من مواقف، فالحق الحق أقول لكم، أنّ شيئًا ما في الرّجل يجذبكم إليه، وكم تمنيت لو طالت جلسة تعارفنا.
     غادرت الدير وكنت عازمًا على الذهاب إلى كراج العلاوي لأستقل باصًا لغرض الذهاب إلى منطقة الكرادة - ارخيتا، وفوجئت بالدكتور فيصل يخرج بعدي بلحظات ويسألني بلطفٍ :إلى أين أنت ذاهب؟ عقدت المفاجأة لساني وقلت: الكرادة. فقال : وأنا كذلك، هيا بنا إلى السيارة. توجهنا إلى سيارته (تيوتا 1980) بيضاء اللون، ويبدو أن زحمة السير في شوارع بغداد فكت عقدة لساني، لنتبادل الأفكار ونتجاذب اطراف الحديث؛ فالرّجل يُضيف إلى علمه الغزير بساطةً في التعامل والقدرة  على الإنصات  ولباقة في الحوار وبراعة في الحديث.
يحب الناس ويعشق الخير لهم. محاورٌ معتزٌ بمعطياتِه، دون أن يفرض رأيه على الآخر، يبتعد عن الجدالات والسجالات العقيمة.يتحلى بالصفات الجليلة، ويمتاز بالقدرة على التصرف اللائق في الوقت المناسب، له من الحصافة والكياسة ما يجعله يقف حيث يريد. يملك ثقافة واسعة، وذوقًا شعريًا رفيعًا، حافظ للشعر والأدبيات، ذواق للأدب، لغته جميلة ورصينة.  حفظ  عن ظهر القلب ابياتًا شعرية لكّبار الشعراء العرب، ويستشهد بمقولاتِ أعظم الفلاسفة. ميالٌ إلى الاختصار في المناقشات، لم يكن في قاعة المحاضرات أو النقاشات استعراضيًا، فلو أراد أن يستعرض معلوماته ويبرز عضلاته الثقافية في موضوعات الفلسفة والتاريخ واللغة لما أتسع له الوقت، فهو بكل حيادية فيلسوف عراقي  لا يُبارى، ومثقف إنساني لا يُجارى، وأستاذ شامل ودود لا تملّ محاضراته أو صحبته،
توطدت علاقتي به أكثر في كلّيّة بابل، وما كانت مسألة الإنتماء تهمه، فهو مسلم المولد، لكنه إنساني التوجه، لا يعلي من شأن طائفة أو دين ينتمي لهما، ويبدو لي أن الثقة بالنفس والملكات العقلية والإمتلاء الثقافي والنضج الحياتي عوامل جعلته منفتحًا متسامحًا غير متعصب، إنّه ينتمي إلى جماعة مثقفة لا تزال حاضرة بقوة في بغداد، هدفها تنوير الإنسان، تحاول التقليل من الفروق والإنصهار في بوتقة الإنسانيّة والإجتماع تحت خيمة العراق. لم يطلب يومًا من طالبٍ هويته أو استفسر عن عشيرته أو سأل عن ديانته لكي يعلمه أو يشرف على بحثه، إذ ليس غريبًا عنه هذا الإنفتاح الفكريّ، هذا ما لمسته لمس اليد حين اشرف على بحث تخرجي الموسوم " الجدل الهيكلي" في قسم الفلسفة الذي أشرف عليه معية المطران اللبناني حميد موراني. بالمختصر المُفيد، إنّ فيصل غازي هو من البقية الباقية من ذلك الزمن الجميل، يوم كانت بغداد تزهو بمثقفيها ومبدعيها وتعددية شعبها، فالعراق كان خاليًا إلى حدٍ كبير من   متعصبين لا يريدون للعراق أن يكون موطنًا لسكانه الاصليين، وواحة لمبدعيه.
ولد فيصل غازي في بغداد عام 1967، من عائلة لها قدر كبير من الثقافة، حاصل على ماجستير فلسفة معاصرة ( علم المنطق). كلّيّة الآداب / جامعة بغداد عام 1997 ، و دكتوراه فلسفة إسلامية/ جامعة بغداد 2000. ومن المصادفات أنّ رسالته في الماجستير  كانت أوّل رسالة ناقشها الأب يوسف حبّي في جامعة بغداد، وآخرها كانت رسالته أيضًا في الدكتوراه!
هو أستاذ الفلسفة في كلّيّة الآداب وكلّيّة بابل، يشغل حاليًا منصب عميد كلّيّة الآداب/ جامعة بغداد. لديه مجموعة من الكتب  منها: مدخل إلى علم المنطق، على ضفاف الفلسفة، نقد إبن رشد لإلهيات إبن سينا، تحليل اللغة في رسالة فتجنشتاين المنطقية الفلسفية، في الغلط والمغالطة أو السفسطة اللغوية، أغنية وموعظة.  موقف الوردي من المنطق الأرسطي. (مع آخرين) وآخر ما نشره بحث بعنوان "طه حسين والمسألة الدينية". له ما يربو على 15 بحثًا منشورًا ومئات المقالات في مجلات وصحف عديدة.
شغل منصب رئيس قسم الفلسفة في كلّيّة الآداب ، ومعاون العميد للشؤون العلمية والدراسات العليا، في جامعة بغداد. عضو الجمعيات واللجان التالية: الجمعية الفلسفية العراقيّة. (منذ 1991). الجمعية الفلسفية العربية. (الأردن، 1998). لجنة أعلام العرب  في بيت الحكمة (2002). مقرر الفريق الاستشاري لقسم الفلسفة في بيت الحكمة (2005).  عضو الفريق الاستشاري لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة (2007). مجلس بغداد الثقافي (2010). له مشاركات عديدة في مؤتمرات عراقيّة وعربية.
في عدسة نظاراته الطبية شغف لتصوير كلّ خطوة معرفية في واقع الثقافة، كنتُ وما زلت من مريديه المعجبين بطروحاته الفلسفيّة وبتحليلاته الاجتماعيّة و معجبًا بمقالاته وحافظًا لبعض مقولاته. كان يلقاني دائمًا بالابتسامة العريضة، على خُلق جمّ، وثقافة عالية، يبادرك في اللقاء بكلمات دافئة صادقة، يُلحقها بفيض من العلم والثقافة ضمن نسق حواري منظم لا عبثية فيه ولا ضجيج، أنيق دائمًا مثل كتاباته ومحاضراته، حميم مثل الربيع، وبهيج كشمس الصباح.
تعلمتُ ودرستُ بالقرب منه بضع سنوات، أحدثت تغييرًا كبيرًا في طريقة تفكيري وأسلوب حياتي، وكان أهم ما تعلمت منه هو القدرة على أنْ أكون موضوعيًا قدر المستطاع، فالرّجل كان يفصل بدرجةٍ تدعو  إلى الإنبهار بين ما هو عام وما هو شخصي، بين علاقته بنا كأصدقاء وكتلاميذ. ولا يسمح بالخلط بينهما مهما كانت الدوافع والمشاعر والظروف ونوع العلاقة. وهذه سمة تستحق التأمّل لأنها تبدو معدومة الوجود أو على الأقل محدودة الأثر في حياتنا اليوم؛ حيث يتم المزج والخلط بين العلاقة الشخصيّة والمصالح العامة في سلوكياتنا وفي التصدي لأزماتنا وتقييم واقعنا، إذ أنَّ تنحية المشاعر  باتت مُغيبة وقد تبدو أمرًا يصعب العثور عليه في اتصالنا الإجتماعي أو المهني.
وكانت تدهشني كثيرًا قدرته على الفصل بين ما هو شخصي وبين ما هو عام، حتّى تيقنت نفسي على حقيقة مفادها إنّني أتعامل مع شخصين مُختلفين وإنْ كان الرَّجل واحدًا! ففي غير ساعات الدراسة والتعليم تجد انسانًا ودودًا للغاية، قادرًا على مُداعبة تلاميذه وزملائه من الأساتذة في حدود الإلتزام، مُشيعًا أجواءً رائعة من البهجة والمرح لدى كلّ من حوله، وإذا جاءت ساعات الدراسة في الكلّيّة فالأمر يختلف تمامًا! حيث تلتمس الصرامة الواضحة، والجدية الكاملة، والإنضباط التام يسيطر على الجميع، مع رهبة احترام شديدة منه، وإنتباه يقظ لمحاضراته، ولا أثر اطلاقًا للشخص الذي كنا نتشرف باللقاء معه أو ابتكار النكتة في أوقات غير  أوقات الدراسة أو نعمنا بالاحاديث الودية في حضرته! ولقد سيطرت عليَّ الدهشة من هذه الظاهرة في الشهور الأوّلى من معرفتي به  كأستاذ للفلسفة في الكلّيّة وعبرت له عن ذلك في إحدى لقاءاتي الشخصيّة به عام 2004 يوم كنا نسير قرب الحيدر خانه ووجهتنا بيت الحكمة العراقي، فقال لي: إنَّ فن إدارة الآخرين غدا مادة علمية تُدرس في الجامعات الغربية. لقد تعلمت  من د. فيصل أهمية الفصل بين لقطات الحياة المتنوعة والجدوى من وضع المسافات مع الآخرين بحسب ما تقتضيه المواقف.
خاتمة مطافي
لقد عايشت د. فيصل  ثقافيًا وإنسانيًا وأدركت إلى حدٍ ما كيف يقع على موضوعاته! وكيف يبسط يديه على مساحة كلّ موضوع ويسيطر على مشارفه. إن الخوض في بحره يحتاج إلى أشرعة قوية، وصفاء ذهن، وتفرغ تام؛ لان ما قدمه أستاذنا طوال السنوات الماضية لا يؤاتي المرء بسهولة، لذا ساكتفي بهذا القدر، وأمضي للقول:

إنّه مفخرة كبيرة لوطنه، ادامه الله منيرًا لبلدٍ بات جسد الثقافة فيه كسيحًا، وأنا أُمني النفس بأن يفتح لنا ثقبًا في خاصرة الظلام الذي أحاط بالثقافة العراقيّة، لأنه يمتطي صهوة الحكمة في عربة الإنسانيّة، يتلألأ إبداعًا في زمن القحط والسنوات العجاف على كلّ الاصعدة والمجالات، ليحقن أرواحنا بإبداعه الراقي، عسى أن تعود بغداد كعبة المثقفين وأورشليم الشعراء والأدباء.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق