الجزء الأول
مغلف امتحان
أطلقت تنهيدة خافتة، وقد لاحتْ لي وجوه الطلبة، المتوجهون إلى مراكز امتحانات شهاداتهم الثانوية، صبيحة هذا اليوم، وقد علاها شحوبٌ بادٍ، وتوتّر ينبي عن أحمالٍ مضاعفةٍ، تنوء بها خطواتهم: همّ الامتحان ورهبته، وكابوس الحرب العبثية التي أعطبتْ أحلامهم، فكبروا قبل الأوان.
النسيمات الباردة، ذكّرتني بأجواء ( الزبداني) درّة الريف الدمشقي، عندما كنت أقطع الدرب إليها، متأبّطة مغلفات البطاقات الامتحانية للطلبة، ومخطط القاعات،لتهيئة المركز، بصفتي رئيسة له، لسنوات عديدة، توزّعت بين مناطقَ كثيرةٍ من الريف، ولكن للزبداني، وللقرى التي تتبع إليها ( عين الفيجة، الديماس، دير قانون) كان لها النصيب الأكبر.
أذكر بأني لم أكن أعرف النوم ليلة الامتحان، إحساساً بالمسؤولية، ورغبةً في إنجاز المهمّة بشرفٍ، وأمانة حرصت عليها طيلة خدمتي، حتى استقالتي، فما أن يبزغ الفجر، حتى تراني مزروعة في محطة الحافلات المتوجّهة إلى البلدة ـ قبل أن يحمل عني زوجي الحبيب هذه المهمة، في إيصالي إلى المراكز الامتحانيّة، بقلقٍ أقلّ نوعاً...في وقت لاحقٍ، بعد اقتنائه سيارة، تفي بالغرض ـ
كنت على نار أترقّب الوقت، أنظر إلى ساعتي بين لحظةٍ، وأخرى، والسائق بدمٍ باردٍ يحتسي الشاي، ويطفئ سيجارة، ويشعل أخرى، منتظراً استكمال عدد الركاب، حتى لتكاد الحافلة تصرخ من اكتظاظها، فيشقّ حينها الدرب، قاطعاً شوارع دمشق المترفة، المستغرقة في النوم، كصبيّة مدلّلةٍ، ترخي جدائلها، على وسادة الأحلام...قاصداً الزبداني..ونحن نعبر القرى المؤدية إليها..نقرأ أسماءها، على الأوتستراد العريض: ( يعفور، الصبورة، سوق وادي بردى، التكيّة، برهليّة.ميسلون، الروضة..وغيرها..وغيرها..) في تقاطعات لوحاتٍ، على جانبي الشارع، تشير إليها، نطوي المسافات،..بسرعة جنونية، بينما صوت المسجّل يصدح عالياً: ناقلاً إلينا، حفلاً مسجّلاً، لأحد الأعراس المقامة في البلدة، والتي استهوت السائق..فانتشى طرباً، يردّد مع الكاسيت: ( هنودي..هنودي..هنودي..من كفر للعامودي..بو باسل الله معك..يارئيس البلدية)...والركاب بين نائمٍ، يهلع فجأة من مطبّ مفاجئٍ، مرفق بصوت (زمور) الحافلة، المارق كالسهم الضارب، وبين صاحٍ، شاردٍ..في تفاصيل يومه المشحون بالتعب...فمعظم الركاب من الكادحين، وأفراد العساكر البسطاء، المتوجهين إلى قطعاتهم، ملتحقين.
بينما كنت أدير في داخلي آلة تصويرٍ خفيّة، تلتقط الصور، بكلّ الحواس...أخزّن في عينيّ، ألوان البساط الأخضر المتماوج، لسهل الزبداني، الممتدّ عبر أفق النظر، على اتساعه، ترتمي في أحضانه، بيوتا ريفية بسيطة، ولكنها أنيقة، نوافذها مرحة، تعانق الشمس..// و قصور سياحية مترفة، باذخة الإكساء..وقد تدلّت على شرفاتها، شوادر زاهية الألوان، وتناثرت في زواياها، مقاعد وثيرة، منجّدة، هزّازة...تنبي عن سهرة جميلة، أمضاها أصحاب البيت هنا..بين الأشجار التي تحيط بالمكان من كل جانب، وأحواض الورد الزاهية بعبيرها، وألوانها، وكروم الدوالي المعرّشة على الجدران، والأسقف..وقد وجدت فيها الطيور ضمن أقفاصها، مسرحاً لغناءٍ لاينقطع..
أمرّ ببصري ..بمزارع الكرز، والأشجار المثمرة المتنوعة في أصنافها: المشمش، التفاح السكري، الدراق، الخوخ.....
وعلى الجانبين: تناثرت مطاعم وجبات الشواء الجاهزة، لمن يرغب بها زوادة على الطريق.
وتوزّعتْ الفنادق، و المقاهي، والمقاصف الشعبية، والسياحية ذات النجوم الخمس...على حدّ سواء...حسب رغبة الزبون، ومقدرته المالية...والإعلانات عنها تتسابق في جلب الزبائن، بعروض أسعارٍ منافسةٍ، وأطباق شهيّة لايُنسى طعمها..مثل: المندي، والأسماك الطازجة، وغيرها....
أكشاك البائعين، تعرض منتجاتهم السياحية، بكل الأصناف السورية المحبّبة...وخاصة ما أعدّ للمؤونة الريفية، بما عرف عنها من نظافة، و.. مهارة في التحضير...أصناف المربيات، المكدوس، والأجبان..و..,و ...كلها مرتبة ضمن برطماناتٍ، في مهرجان ألوان..يجاورها على الرصيف الخارجيّ، سلال الكرز الشهي، الملتمع بحبات الندى..وقد طغى على ما عرض إلى جانبه من مكونات أخرى.
والبيوت التي تغالب النعاس، مازالت تزيح عنها اللحاف الرطب الذي ألقى عليها ليل الزبداني برودته، فتئاءبتْ على استحياء..على صوت الديكة، والعنادل..بينما كانت سيارات النظافة تقوم بعملها بنشاط، تتبعها سيارات شطف الشوارع، لتغسل ماكنسته...
وصلتُ الموقف الأخير، في الساحة الرئيسة من البلدة، طالعتني مدينة صغيرة للألعاب، هي امتداد لمقصف مشهور، مازالت تنضح منه رائحة شواء، وأبخرة نراجيل .. عششت في زواياه، وإن انطفأتْ نار فحماتها.
وصوت صافرة القطار يعلن أنه في الطريق إلى محطته الأخيرة هنا.
..سألت بائعاً يصفّف صناديق الخضار على ناصية الشارع، واضعاً قلماً خلف أذنه، عن عنوان المدرسة التي أقصدها،... رحّب بي على عادة أهل الريف متفرّسأ، وعندما استدرت نحو الطريق حيث دلّني، راح يستكمل منهمكاً ، عملية البيع والشراء..ويثبت لائحة الأسعار.
ها أنا أقطع الشارع الفرعي المؤّدي إلى المركز...تصادفني وجوه غضّة، لنسوة أليفة القسمات، تردّ تحيتي بأجمل منها::
ــــــ :تفضّلي يا اختي...حَوْلي...
.وهنّ يرشقن الماء على بوابات الدار، يزحن عنها، عن المداخل.. الأتربة العالقة فيها.. بينما انصرفتْ العجائز منهن، إلى ملاطفة الأحفاد، وحلّ قضاياهم.البريئة، بفيض حنانٍ، يذيب برودة الإسفلت الرطب.، حيث أخطو ..
وصلت الآن......البناء المدرسيّ الضخم، يبرز عنوانه.../// عبد القاهر الجرجاني ///...نفس الاسم الذي تحمله مغلفاتٌ، أرادتْ أوراقها أن تعلن عن بدء طقوسها الامتحانية، بكثير من الجد...وبكثير كثير من الاستمتاع، بمواسم الجمال، مواسم الكرز.
إلى اللقاء في الجزء الثاني..
أديبة سورية
مغلف امتحان
أطلقت تنهيدة خافتة، وقد لاحتْ لي وجوه الطلبة، المتوجهون إلى مراكز امتحانات شهاداتهم الثانوية، صبيحة هذا اليوم، وقد علاها شحوبٌ بادٍ، وتوتّر ينبي عن أحمالٍ مضاعفةٍ، تنوء بها خطواتهم: همّ الامتحان ورهبته، وكابوس الحرب العبثية التي أعطبتْ أحلامهم، فكبروا قبل الأوان.
النسيمات الباردة، ذكّرتني بأجواء ( الزبداني) درّة الريف الدمشقي، عندما كنت أقطع الدرب إليها، متأبّطة مغلفات البطاقات الامتحانية للطلبة، ومخطط القاعات،لتهيئة المركز، بصفتي رئيسة له، لسنوات عديدة، توزّعت بين مناطقَ كثيرةٍ من الريف، ولكن للزبداني، وللقرى التي تتبع إليها ( عين الفيجة، الديماس، دير قانون) كان لها النصيب الأكبر.
أذكر بأني لم أكن أعرف النوم ليلة الامتحان، إحساساً بالمسؤولية، ورغبةً في إنجاز المهمّة بشرفٍ، وأمانة حرصت عليها طيلة خدمتي، حتى استقالتي، فما أن يبزغ الفجر، حتى تراني مزروعة في محطة الحافلات المتوجّهة إلى البلدة ـ قبل أن يحمل عني زوجي الحبيب هذه المهمة، في إيصالي إلى المراكز الامتحانيّة، بقلقٍ أقلّ نوعاً...في وقت لاحقٍ، بعد اقتنائه سيارة، تفي بالغرض ـ
كنت على نار أترقّب الوقت، أنظر إلى ساعتي بين لحظةٍ، وأخرى، والسائق بدمٍ باردٍ يحتسي الشاي، ويطفئ سيجارة، ويشعل أخرى، منتظراً استكمال عدد الركاب، حتى لتكاد الحافلة تصرخ من اكتظاظها، فيشقّ حينها الدرب، قاطعاً شوارع دمشق المترفة، المستغرقة في النوم، كصبيّة مدلّلةٍ، ترخي جدائلها، على وسادة الأحلام...قاصداً الزبداني..ونحن نعبر القرى المؤدية إليها..نقرأ أسماءها، على الأوتستراد العريض: ( يعفور، الصبورة، سوق وادي بردى، التكيّة، برهليّة.ميسلون، الروضة..وغيرها..وغيرها..) في تقاطعات لوحاتٍ، على جانبي الشارع، تشير إليها، نطوي المسافات،..بسرعة جنونية، بينما صوت المسجّل يصدح عالياً: ناقلاً إلينا، حفلاً مسجّلاً، لأحد الأعراس المقامة في البلدة، والتي استهوت السائق..فانتشى طرباً، يردّد مع الكاسيت: ( هنودي..هنودي..هنودي..من كفر للعامودي..بو باسل الله معك..يارئيس البلدية)...والركاب بين نائمٍ، يهلع فجأة من مطبّ مفاجئٍ، مرفق بصوت (زمور) الحافلة، المارق كالسهم الضارب، وبين صاحٍ، شاردٍ..في تفاصيل يومه المشحون بالتعب...فمعظم الركاب من الكادحين، وأفراد العساكر البسطاء، المتوجهين إلى قطعاتهم، ملتحقين.
بينما كنت أدير في داخلي آلة تصويرٍ خفيّة، تلتقط الصور، بكلّ الحواس...أخزّن في عينيّ، ألوان البساط الأخضر المتماوج، لسهل الزبداني، الممتدّ عبر أفق النظر، على اتساعه، ترتمي في أحضانه، بيوتا ريفية بسيطة، ولكنها أنيقة، نوافذها مرحة، تعانق الشمس..// و قصور سياحية مترفة، باذخة الإكساء..وقد تدلّت على شرفاتها، شوادر زاهية الألوان، وتناثرت في زواياها، مقاعد وثيرة، منجّدة، هزّازة...تنبي عن سهرة جميلة، أمضاها أصحاب البيت هنا..بين الأشجار التي تحيط بالمكان من كل جانب، وأحواض الورد الزاهية بعبيرها، وألوانها، وكروم الدوالي المعرّشة على الجدران، والأسقف..وقد وجدت فيها الطيور ضمن أقفاصها، مسرحاً لغناءٍ لاينقطع..
أمرّ ببصري ..بمزارع الكرز، والأشجار المثمرة المتنوعة في أصنافها: المشمش، التفاح السكري، الدراق، الخوخ.....
وعلى الجانبين: تناثرت مطاعم وجبات الشواء الجاهزة، لمن يرغب بها زوادة على الطريق.
وتوزّعتْ الفنادق، و المقاهي، والمقاصف الشعبية، والسياحية ذات النجوم الخمس...على حدّ سواء...حسب رغبة الزبون، ومقدرته المالية...والإعلانات عنها تتسابق في جلب الزبائن، بعروض أسعارٍ منافسةٍ، وأطباق شهيّة لايُنسى طعمها..مثل: المندي، والأسماك الطازجة، وغيرها....
أكشاك البائعين، تعرض منتجاتهم السياحية، بكل الأصناف السورية المحبّبة...وخاصة ما أعدّ للمؤونة الريفية، بما عرف عنها من نظافة، و.. مهارة في التحضير...أصناف المربيات، المكدوس، والأجبان..و..,و ...كلها مرتبة ضمن برطماناتٍ، في مهرجان ألوان..يجاورها على الرصيف الخارجيّ، سلال الكرز الشهي، الملتمع بحبات الندى..وقد طغى على ما عرض إلى جانبه من مكونات أخرى.
والبيوت التي تغالب النعاس، مازالت تزيح عنها اللحاف الرطب الذي ألقى عليها ليل الزبداني برودته، فتئاءبتْ على استحياء..على صوت الديكة، والعنادل..بينما كانت سيارات النظافة تقوم بعملها بنشاط، تتبعها سيارات شطف الشوارع، لتغسل ماكنسته...
وصلتُ الموقف الأخير، في الساحة الرئيسة من البلدة، طالعتني مدينة صغيرة للألعاب، هي امتداد لمقصف مشهور، مازالت تنضح منه رائحة شواء، وأبخرة نراجيل .. عششت في زواياه، وإن انطفأتْ نار فحماتها.
وصوت صافرة القطار يعلن أنه في الطريق إلى محطته الأخيرة هنا.
..سألت بائعاً يصفّف صناديق الخضار على ناصية الشارع، واضعاً قلماً خلف أذنه، عن عنوان المدرسة التي أقصدها،... رحّب بي على عادة أهل الريف متفرّسأ، وعندما استدرت نحو الطريق حيث دلّني، راح يستكمل منهمكاً ، عملية البيع والشراء..ويثبت لائحة الأسعار.
ها أنا أقطع الشارع الفرعي المؤّدي إلى المركز...تصادفني وجوه غضّة، لنسوة أليفة القسمات، تردّ تحيتي بأجمل منها::
ــــــ :تفضّلي يا اختي...حَوْلي...
.وهنّ يرشقن الماء على بوابات الدار، يزحن عنها، عن المداخل.. الأتربة العالقة فيها.. بينما انصرفتْ العجائز منهن، إلى ملاطفة الأحفاد، وحلّ قضاياهم.البريئة، بفيض حنانٍ، يذيب برودة الإسفلت الرطب.، حيث أخطو ..
وصلت الآن......البناء المدرسيّ الضخم، يبرز عنوانه.../// عبد القاهر الجرجاني ///...نفس الاسم الذي تحمله مغلفاتٌ، أرادتْ أوراقها أن تعلن عن بدء طقوسها الامتحانية، بكثير من الجد...وبكثير كثير من الاستمتاع، بمواسم الجمال، مواسم الكرز.
إلى اللقاء في الجزء الثاني..
أديبة سورية
0 comments:
إرسال تعليق