أدت ثورة الإتصالات الحالية إلى ظهور نمط جديد من العلاقات وأسلوب حياة يرتكز على قيم غير معروفة ومسبوقة تعمل على تكريسها وفرضها عبر قوتها الناعمة واستغلال حاجة البشرية للتواصل.
عرف العالم منذ بدء التاريخ انماطاً مختلفة من الحياة والعلاقات بدءاً من جمع الغذاء واكتشاف النار ثم الرعي وبداية عصر الإستقرار البشري كانت عندما بدأ الإنسان زراعة الأرض واستمر العصر الزراعي لفترات طويلة حتى دخل الإنسان العصر الصناعي إلى أن كان الإنقلاب الكبير عند دخول الآلة التي تعمل على البخار والفحم الحجري الذي تراجع دوره أواخر القرن التاسع عشر لصالح الآلة التي تعمل على البترول الذي اكتشف بكميات تجارية ونقل البشرية في بضعة عقود من الزمن إلى مستويات انتاجية غير مسبوقة رافقتها سرعة التنقل ونقل البضائع.
دخل العالم عصر العولمة بفضل سهولة انتقال الرأسمال والتي تطورت بفضل الثورة الرقمية ودخول الإنترنت كعنصر رئيسي في حياة البشر رغم الفروقات الشاسعة للحصول على خدمات الإنترنت بين من يملكون ومن لا يملكون أي الأغنياء والفقراء، لكن ذلك لم يحل دون انتشار الإنترنت حيث ساهم في سرعة انتشارها الآلات الرقمية كالحاسوب والهاتف المحمول.
بفضل هذا الإنتشار للشبكة العنكبوتية استطاعت منصات التواصل الإجتماعي مثل واتس آب، تويتر، انستغرام وفيسبوك استطاعت شبك العالم حتى في اقاصي الكرة الأرضية خصوصاً منصة فيسبوك حيث أنها تستحوذ على أعلى نسبة مشتركين او مستعملين.
أمّنت وسائل التواصل الإجتماعي عبر منصاتها فرصاً لكل فرد للتعبير عن آرائه وشخصيته ومشاركة نشاطاته وتقاسمها والحوار مع الآخرين الأقربين والأبعدين.
جاءت جائحة كورونا لتكرس نمطاً جديداً من التعلم وهو التعلم عن بعد عبر الإنترنت (اون لاين) بالإضافة إلى ذلك أصبح منطق العالم الإفتراضي يتداخل ويفرض نفسه على القطاعات الإنتاجية، التجارية، الترفيهية، المعلوماتية والثقافية وكرس نمطاً جديداً من الإجتماع هو الإجتماع الإفتراضي الذي يشغل الحيزين الزماني والمكاني، الزماني بأبعاده الماضي والحاضر والمستقبل، والمكاني من خلال العزلة أو ما عرف في زمن الكورونا بالتباعد الإجتماعي والجسدي.
وعلى الضفة الأخرى اندفعت منصات التواصل في اتجاه احتواء استقلالية الأفراد والدول من خلال تحكّمها بتدفق المعلومات سلباُ كان او إيجاباً بما يتعارض ومصالح تلك الدول التي تصبح عرضة لمزاج موظف في تلك المنصات. ما ينطبق على الدول ينطبق على الأفراد وحرية التعبير بالمنع والسماح هذا بالإضافة إلى إمكانية تحريف الحقائق وتشويه الوقائع لصالح الأقوياء والأثرياء أصحاب النفوذ والمثال الأبرز ما حدث من منع نقل وجهة النظر الفلسطينية أثناء العدوان الأخير على غزة هذا العام.
إن الإنقلاب الذي تنفذه وتقوده منصات العالم الإفتراضي يشكل ثورة للتغير مجهولة النتائج، يرافقها عدم يقين إذا ما كانت هذه الثورة ومؤثراتها تتوافق مع النظام الإجتماعي أو تسعى لتكريس نظام إجتماعي آخر، وكيف سيعمل هذا النظام لتحقيق الشعور بالأمان مع تركيز القوة في يد من يمسك ويتحكم بتلك المنصات التي تستطيع وتساهم في تكوين الشخصية الإنسانية.
على الجانب السياسي يتبادر إلى الذهن السؤال: ماذا عن تأثير تلك المنصات على النظم السياسية الجمهورية، الملكية والإستبدادية؟
من المسلم به أن التطور هو سنة من سنن الحياة، لكن ماهية هذا التطور هي الأساس في الحكم على هذا التطور وما تعانيه البشرية اليوم من الإحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض التي نتجت من جشع الإنسان وعدوانيته ضد الطبيعة ومواردها وقد تجاوز هذا الإستغلال الفاحش تحت اسم التطور، إمكانية الإرض ومحيطها الخارجي للتعافي الذاتي كما كان يحصل قبل عصر الثورة الصناعية.
أنبياء العالم الإفتراضي أمثال مارك زوكربورغ الذين يبشّرون بمستقبل لا يحاكي الواقع وقد يكرس انعدام المساواة وتكافؤ الفرص واحتكار المعرفة، هؤلاء لديهم شهوة جامحة تجاه استبدادية رقمية تضعف الإداء الفكري والسياسي ومنظومة القيم الإنسانية والإجتماعية التي قال بها ابن خلدون في القرن الرابع عشر وأكد على ضرورة الإجتماع البشري لحياة الإنسان وهو ما أدى إلى وجود المجتمع.
أخيراً، تبقى الخشية المشروعة من تراجع القيم الإجتماعية والإنسانية أن تؤدي إلى دخول الإنسان تيه العالم الإفتراضي والسقوط المدوّي المتمثل بالإدمان الإلكتروني خصوصاً في جوانبه السلبية غير المنتجة ولدرجة معينة في الجوانب الإنتاجية والإدمان على العمل وعدم إمكانية فصل أوقات العمل عن أوقات الفراغ والترفيه ووقت للعائلة التي باتت تعاني من تفكك خطير وازدياد حالات الطلاق، يضاف إلى ذلك البعد الإجتماعي الذي يتّجه بسرعة لتبنّي العلاقات الإجتماعية للعالم الإفتراضي الجديد.
هذا ما سينتج الإنسان ذو البعد الواجد الذي عرّفه هربرت ماركوز بقوله: وما الإنسان ذي البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية.
يبقى أن نشير إلى أن أزمات العالم وحروب المستقبل تغيرت طبيعتها وخير دليل على ذلك الأزمة المالية العالمية عام 2008- 2009 والهجمات السيبرانية ومنها التهم بالتلاعب بنتائج الإنتخابات في البلدان الأخرى وغيرها…
إذن، أهلاً بكم في العالم الإفتراضي الجديد.
0 comments:
إرسال تعليق