كان مشهد القمة السنوية الرابعة والعشرين لرابطة آسيان، التي بدأت في 27 أكتوبر المنصرم برئاسة بروناي في مدينة "بندر سيري بيغاوان" عبر تقنية الفيديو بسبب وباء فيروس كورونا المستمر، مختلفا هذا العام. فلأول مرة منذ تأسيس الرابطة في بانكوك عام 1967 يُستبعد عضو من أعضائها العشرة ولا يسمح لزعيمه بالحضور. والدول المعنية هنا هي ميانمار التي قرر وزراء خارجية الرابطة في اجتماع سابق لهم حرمانها من المشاركة تعبيرا عن سخط دولهم مما يجري من قمع ممهنج ضد شعب ميانمار على يد العسكر الذين استولي على السلطة في مطلع فبراير 2021.
جاء هذا القرار من بعد طول صمت ولا مبالاة حيال المشهد الميانماري المأساوي، فيما كانت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واستراليا وأقطار أخرى تدين وتستنكر وتهدد بفرض عقوبات على العسكر المغتصبين للسلطة. فما الذي حدث حقيقة كي تغير آسيان مواقفها بهذا الشكل من بعد أشهر طويلة كانت فيها تبرر صمتها حيال أحداث ميانمار بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأعضائها، استنادا إلى دستور وأحكام الرابطة؟
الأسباب، في الواقع، كثيرة. أولها أن آسيان تعرضت لضغوط دولية مكثفة لفعل شيء من أجل اجبار جنرالات ميانمار على وقف العنف الذي خلف حتى الآن أكثر من 1100 قتيل مدني، وإطلاق سراح العشرات من الشخصيات السياسية، وفي مقدمتها الزعيمة المدنية المخلوعة مستشارة الدولة "أونغ سان سو كي". وثانيها الحرج الشديد الذي وقعت فيه الرابطة من صمتها وهي ترى الإدانات المتتالية من منظمات دولية ودول بعيدة للقمع والعنف المستفحل في بلد من أعضائها. وثالثها المظاهرات التي اندلعت في شوارع يانغون ضد صمتها، وقيام المتظاهرين بحرق علمها تنديدا بموقفها السلبي. ورابعها توصلها إلى قناعة مفادها أن استمرار القمع في ميانمار له تبعات خطيرة على أمن دول الرابطة. وخامسها عدم تجاوب عسكر ميانمار الانقلابيين مع مبادرة أطلقتها دول الرابطة في الرابع من أغسطس الماضي لتعيين وزير خارجية بروناي "ايروان يوسف" كوسيط في الشان الميانماري وتفويضه صلاحية التوسط بين العسكر وقوى الديمقراطية المدنية لحل الأزمة المتفاقمة وإطلاق حوار وتسهيل وصول المساعدات الانسانية، حيث ألغى الوسيط المذكور زيارة كان يعتزم القيام بها إلى ميانمار، بعد أن رفض قادة الأخيرة طلبه بلقاء السيدة سو كي المعتقلة منذ فبراير الماضي، مع رفضهم التنسيق حول إيصال المساعدات المقدمة من آسيان لمواجهة تداعيات وباء كورونا.
على أن أهم العوامل، ربما كان ورود أنباء استخباراتية مؤكدة للمسؤولين في الدول الإقليمية الشريكة لميانمار من أن جيش الأخيرة يعتزم القيام بعمل ضخم عنيف لسحق ما يعرف بقوات الدفاع الشعبي، وأنه ينتظر فقط أن تجف الأراضي المبللة بأمطار الرياح الموسمية في مطلع نوفمبر كي ينشر عناصره (من قوات النخبة الخاصة البالغ تعدادها ما بين 30 ــ 100 ألف) وكتائبه ومدافعه وآلياته ومدرعاته وطائراته العمودية وسفن دورياته البحرية والنهرية عبر قوس استراتيجي عريض من الأراضي التي يتجمع فيها قوات الدفاع الشعبي، التي تتحدى السلطة العسكرية في غرب البلاد وشرقها مدعومة سياسيا من قبل حكومة الوحدة الوطنية المطاح بها، علما بأن هذه القوات بدأت منذ سبتمبر الماضي حرب دفاع شعبية لجأت فيها إلى التمرد الكامل والقيام بأعمال قتل وتفجيرات بعد أن فشلت كل جهودها السلمية. وهو ما استفز، على الأرجح، حكام ميانمار الجدد ودفعهم إلى التصلب في مواقفهم.
والمعروف ان الجيش البورمي، الذي صار يعرف اليوم بجيش ميانمار، له سجلات حافلة في القتال بوحشية وبلا توقف منذ استقلال البلاد في عام 1948، تارة ضد الأقليات العرقية المتمردة وتارة أخرى ضد العصابات الشيوعية. ولعل هذا ما دفع دول آسيان للتحرك لوقف ما قد يصبح مجزرة دموية مرعبة، خصوصا بعد أن آلت عملية التخطيط والاشراف لهذه العملية المرتقبة إلى إثنين من كبار الجنرالات المتشددين كبديل للجنرال "فيو ثانت" الذي اعتقل ووضع في الإقامة الجبرية في أوائل أكتوبر المنصرم وسط شائعات بعدم الولاء والإخفاق في قمع قوات الدفاع الشعبي كما يجب.
ولعل من الأمور التي عززت شكوك دول رابطة آسيان في قرب تنفيذ جنرالات ميانمار القمعيين لعمليات دموية واسعة النطاق، قيام حكومة يانغون العسكرية في سبتمبر المنصرم بإغلاق شبكات الانترنت لمنع التواصل الاجتماعي، بل قيامها أيضا بقطع خطوط الهاتف عن نحو 25 بلدة واقعة في نطاق عمليات الجيش المتوقعة، وذلك بهدف تعقيد وتخريب عمليات التنسيق والاتصال بين فصائل قوات الدفاع الشعبي، ناهيك عن منع وسائل الاعلام من نشر أخبار التطورات.
نخالة القول أن آسيان تخلت لأول مرة، منذ تأسيسها، عن مبدأ من مبادئها الأساسية وهو عدم التدخل في شأن من شؤون أعضائها الداخلية. وهذا ما كان ليحدث لولا نفاذ صبر قادة الرابطة من حماقات الطغمة العسكرية الميانمارية الحاكمة ورعونتها وعدم احترامها لما وعدت به خلال لقاء زعيمها الجنرال "مين أونغ هلاينغ" بالرئيس الإندونيسي "جوكو ويدودو" في جاكرتا (مقر الرابطة) في 24 أبريل المنصرم.
وإن كان لأحد أعضاء آسيان فضل في هذا التحول فهو لأندونيسيا (الدولة الديمقراطية الوحيدة ضمن آسيان)، حيث أصرت على عدم مشاركة ميانمار في قمم آسيان إلا بعد استعادتها لديمقراطيتها من خلال عملية شاملة. وكان لماليزيا فضل أيضا من خلال تهديد حكومتها بفتح حوار مع قادة المعارضة المدنية مالم يتعاون عسكر ميانمار بشكل كامل مع مطالب دول آسيان، وإنْ كان الموقف الماليزي أملته مخاوف من أن تؤدي حالة الإضطراب وعدم الإستقرار في ميانمار إلى نشوء طوفان جديد من اللاجئين باتجاه حدودها.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: نوفمبر 2021م
0 comments:
إرسال تعليق