لا فكرة في الإسلام يطالها الانتقاد من المناوئين مثل ما يطال أحكام الميراث الشرعية، وبعيدا عن كل تلك الذهنيات العدائية والانتقادات، فإن ما يدعو إلى التفكير مليا من بين كل تلك الأحكام التي تحفل كتب الفقه بتفصيلاتها، حق المرأة العاملة في ميراث زوجها؛ كيف يمكن أن يكون؟ وما هو نصيبها؟
بالنظر أولا إلى موضوع الارتباط الشرعي بين الرجل والمرأة ضمن علاقة الزواج، والحقوق التي أوجبها الإسلام للمرأة، فإنه قد يبدو مفهوما منطقيا لماذا كانت نسبة حق الزوجة في الميراث متراوحة بين الثُّمُن والرُّبُع، فبعد وفاة زوجها سيكون لها الربع إن لم تنجب، بمعنى أنها أخذت نصيبا جيدا من الميراث، وسيكون نصيبها هذا مُعيناً لها على الحياة والنفقة إن لم تتزوج، وربما كان هذا المال الذي حصلت عليه دافعا لأن تتزوج من أحدهم. يبدو أن هذا الأمر منطقي جدا، مع أنه لا يجوز تفسير الأحكام الشعرية الخالية من الحكمة عقليا أو إخضاعها للصحة العقلية البشرية التي تتفاوت من شخص لآخر بفعل محددات ومواضعات كثيرة.
وفي الحالة الأخرى إذا ما كان لها أبناء، فإنها ستحصل على الثُّمُن، وإذا ما تم ربط الأحكام الشرعية ذات العلاقة معا بنظرية متكاملة كما يريد الإسلام، فإن هذه الأرملة، لها أولاد هم أصلا حسب قوانين الإنفاق الشرعية يجب أن يتكفلوا بمصاريفها وألا تضطرها الحاجة للعمل لتعيل نفسها أو حتى الإنفاق على نفسها من متطلبات الحياة اليومية من مأكل وملبس وتطبيب، إذاً ما ستحصل عليه من ميراث سيكون لها خاصا تتصرف فيه بحرية مطلقة، تنفقه كما شاءت وبأي طريقة تريد، مع احتمالية أن تتزوج مرة أخرى أيضا، وإن كانت فرصة زواجها في مثل هذه الحالة أقل من الحالة الأولى لأسباب موضوعية كثيرة، لكن الإسلام جعل هذا الباب متاحا ومفتوحا ويحث عليه أيضاً.
هاتان هما الحالتان التقليديتان اللتان جاءتا فيهما المرأة زوجة، وأصبحت أرملة، علما أن قوانين الإسلام لا تجبر المرأة أن تنفق على نفسها ولو كانت ثرية، بل نفقتها على زوجها حتما لازما، ويجب ألا يضطرها زوجها أو الظروف للعمل من أجل أن تعيل ذاتها، ناهيك عن إعالة زوجها والأبناء، ويحق للزوجة ضمن النظام الاجتماعي أن تشكو زوجها إلى القاضي إن لم يؤدِ واجبه تجاهها في الإنفاق عليها "بالمعروف". هذا هو واقع النساء تاريخيا في المجتمعات الإسلامية، لكن اختلاف الواقع أصبح يفرض التفكير جديا باختلاف الأحكام الشرعية، فإذا تغير الواقع فإن الأحكام الشرعية ستتغير حتماً كما يقول علماء الأصول. فما هو واقع المرأة الجديد اليوم؟
في ظل خروج المرأة للعمل، مضطرة أو شبه مضطرة أو حتى راضية تمام الرضا، ومشاركتها للزوج في كل شيء، بل إن هناك حالات لا تعرف المرأة عن مالها أو عن راتبها شيئاً، تسلم أمرها كله لزوجها قبضا وصرفا، وليس لها من مالها إلا ما للزوجات الأخريات غير العاملات من مال أزواجهنّ، سواء أقامت بهذا الأمر أيضاً مجبرة أم راضية فالمآل واحد، هو أن المرأة صارت شريكا كاملا في الإنتاج والإنفاق، وتغير دورها الأصليّ، بل احتفظت بدورها الأصلي كونها زوجة وربة بيت وأضيف إلى هذا الدور "التقليدي" مهام اقتصادية أخرى ليست لها، أو لم تكن لها، فأجبرتها الظروف على أن تشارك فيها.
هذا هو الواقع الجديد، هنا ينبغي النظر إلى المسألة نظرة أخرى، فلا يصح أن يتم تطبيق الحكم الشرعي الأصلي عليها فقط، بل لا بد من حكم شرعي جديد لأن واقعها اختلف، مع ضرورة التسليم أولا بأن حقها الأول حق لا غبار عليه وهو لها فيما يورثه زوجها من ماله الخاص حال توفي، إذا لا بد من أن يكون نصيبها الثُّمُن أو الرُّبُع حسب واقعها في الإنجاب أو عدمه، مضافا إليه حقها فيما دفعته خلال فترة هذا الزواج من مال، فيرجع فيه إلى الوثائق المعتمدة والمقررة في المصارف ليتم احتساب ما أنفقته لإرجاعه كله، فهو لها، أسوة بمتأخر صُداقها، فلا بد من دفعه أيضا كاملا، فهو دين في ذمة زوجها المتوفى.
وبعيدا عن، أو انطلاقا من- لا فرق- من فتوى الأزهر الشريف "حق الكد والسعاية"، فإنه يجب التفكير في الأمر تفكيرا جديا وعلى دوائر الافتاء أن تدرس الأمر دراسة اجتهادية تشريعية أصولية مبنية على أدلتها العامة والتفصيلية لإعطاء النساء حقوقهنّ، فهذا الأمر هو الأولى من كل الديباجات الإنشائية التي يتشدق بها المصلحون الاجتماعيون والمثقفون في مناسبات "يوم المرأة"، وأولى من منح الموظفين والموظفات يوم إجازة، فأقل درجات تكريم المرأة هو احترام تعبها، وإرجاع حقها، فهو لها حقا شرعيا.
إن اعتماد فتوى جديدة مضبوطة الأدلة النقلية والعقلية لهو واجب وليس ترفا فكريا تشريعيا، لأن ذلك يشعر النساء بالأمان والاطمئنان وأن حقهنّ محفوظ، ويوقف الرجال عند مسؤولياتهم، ويمنعهم من استغلالهن الاستغلال البشع، وأن يكون ذلك شرطا لازما بإجراءات تقررها الدولة عبر تشريعاتها القضائية بالبحث في هذا الجانب عند الشروع بإجراءات معاملات "حصر الإرث"، ومنعا لموضوع الخوف عند النساء من متابعة ذلك أو خجلهن من القيام به، فمن اللازم أن يجعل التشريع هذا الأمر واجبا ولا بد منه، لبيان حقها بالكامل، وتسليمها إياه، وحثها على ألا تتنازل عنه بحجج واهية، خجلا أو خوفاً، فلا بد من مناصرة النساء من خلال التشديد في مثل هذه الإجراءات، لتشعر المرأة أن الدولة تقف معها وتناصرها وهي عون لها على الحياة وليس ضدها بأي حال من الأحوال.
يجب أن يفكر صناع القرار والمشرعون وفقهاء القانون الشرعي والمدني بكيفية قانونية صارمة في التطبيق لجعل النساء أقوى ليتفادين الاستغلال والسيطرة والتحكم بأموالهن وغصبها، فليس من المعقول أن تظل النساء تحت رحمة ضمائر الرجال وحسب، بعيدا عن التأطير التشريعي المنضبط بقواعد عامة وتفصيلية وعقوبات.
بقي أن أقول: إن كل حالة تقدر بقدرها، وأن اعتماد آلية جديدة شرعية لحفظ حق المرأة؛ الزوجة العاملة، لا ينفي أن يظل الحكم الأول عاملاً على من ينطبق عليهن الحكم، وكما هو معلوم في الفقه فإن كل واقع له حكم، ولا بد من دراسة مناط الأحكام لمعرفة الحكم المناسب، وذلك في كل حالة من الحالات، فثمة أشياء مستجدة في الحياة لا يصح أبدا أن نظل نطبق عليها أحكاما ليست لها، لقد علّمنا الفقه وآليات الاجتهاد الشرعي أن لا تعارض بين المستجدات الحياتية وبين النصوص الشرعية، سواء أكانت نصوصا عامة أم تفصيلية في دلالتها على المسائل المبحوثة، لكن علينا أن نبذل الوسع والطاقة في الاجتهاد الشرعي للوصول إلى الحكم المناسب في كل حالة مستجدة، وألا نركن إلى "الكسل العقلي" الذي سيؤدي حتما إلى "خمول فقهي" ما يعني أننا جامدون على عكس الإسلام الذي تتيح له النصوص أن يظل متجددا ومتطورا ويواكب حياة المؤمنين في كل شأن من شؤون حياتهم.
0 comments:
إرسال تعليق