قرأتُ بشغفٍ باكورة أعمال الشّاعر جان يونان الشِّعريّة، مراثي شولغي، وعبَّرَ في مراثيه كم كان الجرح غائراً برحيل شولغي ابن الأحد عشر عاماً، وبعد إحدى عشرة سنةً من رحيله، أصدر هذه المراثي، وكأنّه أرادَ أن يقولَ لقرَّائه: عشتُ حزناً ممتدّاً على مساحاتِ عمر شولغي. كتبَ مراثيه بألمٍ دفين، مستشهِداً في استهلال كلِّ مرثية ببيتٍ شعريٍّ رثائيّ، انتقاها من أحقابٍ شعريّة مختلفة، فجاءت هذه الأبيات في بداية كل قصيدة من قصائده الرّثائيَّة استهلالاً ومدخلاً مناسباً لفضاءات مراثيه. تميّزَتْ قصائده بالبساطة والوضوح والعمق في معانيها، محبوكةً بمشاعرِ الأنينِ والفقدانِ، متطرِّقاً عبر مرثيّته الأولى إلى شخصيّة جلجامش، وهو يبحثُ عن نبتةِ الخلود، وكأنّه يريد أن يقولَ لنا: أنَّ لا خلود في الحياة؛ فكلُّ البشر عاجلاً أم آجلاً سيرحلون، صغاراً وكباراً، واستخدمَ صوراً شعريّة موغلة في الأسى والأنين حيث يقول:
غيابُكَ يا ولدي حبلُ نارٍ بلا نهاية،
وكرةُ لهيبٍ دائمةُ الإشعاع .. .
ويستمرُّ الحزنُ مهيمناً على كيانِ الشّاعر، فيتراءى طيف شولغي في يومه وليله، ويظهر له كأنّه في سطوعِ القناديل وفي زخّاتِ المطر، ويراوده أنّه يختبِئُ بينَ الأشجارِ والحقولِ وبينَ صفوفِ الطّلّابِ، لا يستطيعُ الفكاكَ من حضورِهِ الطّاغي عليهِ، فتزدادُ أوجاعُهُ وأحزانُه تفاقماً، فيهمسُ مسترسلاً لذاتِهِ الحزينة:
أراهُ في رسوماتِ الأطفالِ،
أراهُ مع ندى الصّباحِ
معَ نسيمِ الغسقِ
أراهُ في أدمعِ الأمّهاتِ
وفي لمعانِ الكريستالِ ..
جان يونان يمتلكُ حساسيَّة شعريَّة وفكريَّة وثقافيَّة عالية، يبحثُ عبر مراثيه عن ابنه الرَّاحل، ويستحضره في كلِّ موقف وذكرى وحالة يراها تتعلَّق به، وكأنّه يعيشُ معه وبين ظهرانيهم، لكنّه يرى في النّهاية وكأنَّ الحياة أشبه ما تكون نسمة عابرة أو بخاراً يتلاشى، وقد استهلَّ مرثيته الثّالثة بما يلي:
"مهلاً! فأنتم لا تعرفون ماذا يحدث غداً، وما هي حياتكم؟ إنّها بخار يظهر فترة قصيرة ثمَّ يتلاشى". (يعقوب 4: 14).
شبّه الشّاعر الحياة كأنَّها بخار يظهر ويتلاشى سريعاً، ولا يتركُ خلفه إلّا ذكرى، ويتطرَّق إلى وصف الأيَّام الجميلة الَّتي عاشها ابنه الرَّاحل معهم كأنَّه يسمعُ صوته، فيرنُّ صوته في أذنه، يستحضرُ ذكراه؛ فيتراءى له عبر ذكريات محفورة في الذَّاكرة، فنراه يرسمُ بغصَّةٍ تماهيه في هذه الفضاءات، حيث يقول:
وما زالت معلِّمةُ الصَّف تطلبُ منكَ
عن أسئلتها الإجابة
وصوتُكَ ما يزال يلعلعُ في ممرَّات الدِّراسة
بلا رقيب ولا رقابة
ورسوماتك تزيِّنُ الجدارن
بمنتهى الرَّتابة.
يكتبُ الشَّاعر بحرقةٍ موجعة مرثيَّاته، كأنّ الكتابة تخلق له حالة توازن بينه وبين أحزانه، وتخفِّفُ من أنينِ جراجه الموجعة، ويرى ابنه شولغي في كلِّ ما يحيطُ به، يرافقه في كلِّ صغيرة وكبيرة، ويتعانقُ مع الطَّبيعة الجميلة والحياة بكلِّ دقائقها، وهذا ما ساعده في تخفيفِ حدَّةِ الأوجاعِ الّتي رافقته، حيثُ يقول:
لم يكتبْ هذه المراثي قلمي أنا بالذَّات،
بل كتبتْها الأشجارُ الباكيات
ومرابع اللّعب الحزينات
كتبتْها مقاعدُ الدِّراسة
وكراريس الكتابة
كتبتْها حفلات أعياد الميلاد
وخيمات الحداد. ...
في مرثيته السّادسة يناجي الشّاعر نجمة الصّباح، أن ترعى شولغي في رحابِ السّماء، بين ضياءِ النّجوم، يريد أن تحتفي به النّجوم السّاطعة، كما كان شمعةً ساطعة على الأرض، فهو باقٍ في كنه تجلِّيات بوحه وحرفه وشعره وحلمه، قائلاً:
وها هو شولغي
قد أضحى
أخاكِ
وأخاً للقمر.
وفي مرثيته السَّابعة، يتطرَّق الشّاعر بقلبٍ منكسر إلى عيد ميلاد شولغي الثّامن عشر، يكتبُ حرفه وقلبه يتلظّى من أنينِ الجراحِ، ويتذكَّر السّنين السَّعيدة الّتي عاشها في كنفهم، وكم شعرَ بمرارة الفقدان وهو بعيد عنهم عندما بلغ الثّامنة عشرة، متسائلاً نفسه الجريحة:
... وأتى، عيد ميلادك الثّامن عشر ....
لا احتفال، لا شموع، لا تهاني
وهو ما هزَّ كياني ..
يتأمَّل الشّاعرُ أغوارَ ما آلت إليه أحزانُ الفقْدِ؛ فيرى أنَّ أحزان الدُّنيا بلا نهاية، ففي كلِّ يومٍ جديدٍ يولدُ فرحٌ جديدٌ، وحزنٌ جديدٌ أيضاً، الحياةُ واحةٌ فسيحةٌ لأحزانٍ تتوالدُ تباعاً، فلا مفرَّ من أحزانِ وهمومِ الدُّنيا، وهي الحياة بعينها بكلِّ تلاوينها المفرحة والمحزنة، وتبقى أحزاننا ساطعة أبد الدُّهور، حيثُ يستهلُّ مرثيته ببيت شعري "لأبي البقاء الرّندي"، قائلاً:
تلك المصيبة أنسَت ما قبلها وما لها مع طولِ الدّهرِ نسيان
وأمَّا الشّاعر، فيقف متأمِّلاً ذاته الموغلة في الحزن، فيجدُ المصيبة كبيرة أثناء وقوعها، ولا تصغر كما يخيّل للبعض، فهو يرى عكس ما يقوله الآخرون في مثلِ هذه الأحوال: أنَّ المصائب تولدُ كبيرة وتصغرُ رويداً رويداً إلى أن تتلاشى، بينما في حالته يرى ما يخالفُ هذه المقولة؛ لأنّ المصيبة تولدُ كبيرة وتبقى كبيرة متغلغلة في أعماقنا ولا تفنى:
نعم، .. فالمصيبة كبيرة عندَ الولادة ..
ولكنّها لا .. لن تصغرَ
تقفُ عندَ حدِّ الأفقِ ..
وتلتصقُ حتّى العدم ..
حزن المصائب لا يفنى ..
ويستمرُّ الشّاعرُ في مرثيَّاته، متوقِّفاً ومستهلِّاً مقولة لجبران خليل جبران: "الحبُّ كالموتِ يغيِّرُ كلَّ شيءٍ"، منطلقاً ممَّا قاله جبران بأنَّ كلّ شيء يتغيَّرُ، ولا شيء يبقى على حاله، فلا الحبُّ يبقى كما هو ولا الموت، وقد كان الشّاعر صائباً فيما قاله جبران في هذا السِّياق، "الحبُّ كالموت يغيِّرُ كلَّ شيء". ويبقى الشَّاعر في حالةِ حنينٍ جارف إلى شولغي قائلاً:
وها أنا بعد أحوالٍ سبعة
مرّت عجافاً
أهديكَ قبلةً دافئة
ملفّحة بياسمين
بلدي الجريح
وفي مرثيته العاشرة يتوقّف الشّاعر عندَ البكاء، عند طفوحِ الدَّمع، مستهلَّاً ببيت شعري للشاعر محمّد مهدي الجواهري، حيث يلخِّص الجواهري جوهر الفكرة الّتي توخّاها الشّاعر:
"بكيتُ حتَّى بكى من ليسَ يعرفني وُنحْتُ حتّى حكاني طائرٌ غرِدُ".
وقدّ ذكّرني مشهد البكاء وانسياب الدَّمعة، بمقطع شعري قصير دوّنته في محطّات غربتي الطّويلة، ونشرته في ديوان "روحي شراعٌ مسافرٌ" أقول فيه: "البكاء/ مهنةٌ ملائمة/ لهذا الزّمان". حيث مررْتُ أنا الآخر بحالة مشابهة لما قاله الجواهري، ووما أكَّده الشّاعر جان يونان في مرثياته الفاجعة، حيث يقول:
سنديانتي
اجتاحتها رياحٌ عاتية
وجرَّدتها من أوراقها الخضراء
فانتظرنا
كسوة الأغصان
دون جدوى
وكم كان الشّاعرُ دقيقاً ورهيفاً في اختيار بيت ابن الرّومي؛ كي يستهلّ مرثيته الحادية عشرة بهذا البيت الّذي عبّر عن حالته أحسن تعبير:
"توخّى حِمامُ الموتِ أوسطَ صبيتي فللَّه كيف اختارَ واسطةَ العقدِ".
وأمّا الشَّاعر فقد جسّد حالة الانكسار الّتي رافقته عبر رحيل ابنه، مشبّهاً أولاده بشجرة وارفة الأغصان، فهبّت عليها عواصف وغدر هذا الزّمان، وكسرت إحدى أغصانها الخضراء، قائلاً:
.... وكان هناك شجرة
لها أربعةُ أغصان
هبَّتْ رياحٌ باغية
كسرَتِ الثَّالثَ منهم ..
توغَّلَ الشّاعر في مرثياته، وكأنّه يعيشُ ويعايشُ ابنه الرّاحل، حتّى بعد رحيله، فظلَّ الرّاحل في قلبِ الأب، غافياً في رحاب روحه، وبقي أنيسه في جلساته، من خلال تواصله مع روحِ الفقيدِ وذكرياته الطّيَّبة، فظلَّ ملازماً لشهيقه وزفيره كأنّه شهيق الحياة، حيث يقول:
كيف تهجرني
وحبُّكَ استوطنَ شراييني
وجرى في مجرى دمائي
باتَ مقروناً بأنفاسي
فكيفَ أحطّمُ شراييني!
وكيف أكتمُ أنفاسي؟! ..
يغوص الشّاعر في ذكريات ما خلّفه شولغي، حيث يراه مثل وردةٍ تذبل، لكن عبقها يبقى في الحياة، مستهلّاً ما قاله إيليا أبو ماضي:
تذوي الورود ويبقى بعدها العبقُ حتّى لمن قطفوا منها ومن سرقوا
ونظراً لتعلّق الشّاعر الشّديد بابنه الرّاحل؛ كتبَ مرثيته الثّالثة عشرة بكلِّ جوارحه كأنّه في حالة ابتهال لروح شولغي، فجاء نبض حرفه منبعثاً من جوارحه الرَّهيفة، وشوقه العميق إلى كينونة ابنه الّذي خبّأه بين جوانِحِهِ وروحِهِ؛ فظلَّ معرّشاً في أعماقِهِ حيثُ يقولُ:
أغارُ من الوردِ
كلَّلَ مثواكَ
وجذورهُ دفّأَتْ ثراكَ
وغُرتُ من التُّرابِ الّذي أحياكَ
وبعدَ حينٍ حواكَ
وأفرشُ أهدابي سندساً
مضاءً
بنجماتِ الحنين
قناديلَ معلّقة
إلى جبلِ الصّمتِ الحزين
إن مراثي شولغي كتبها الشّاعر بألوانِ روحهِ ومشاعره العميقة الّتي أصبحت تهدهد قلبه وتمنحه بعض الهدوء والسّكينة، فلا يجد أمامه غير حرفه يناغي فيه شولغي الّذي ظلَّ مجذّراً في ذاكرته حيث يقول:
وبقايا من أدمعٍ مسفوحةٍ
على أديمِ الثَّرى
سالت لمن هوانا ونهوى
طافَ بكَ عطرُ الوردِ
يا ذكرى
لابدَّ من تلكَ الزِّيارة
زيارة تلو زيارة
توقدُ ما قبلَ الذّكرى
وتوقدُ ما بعدَ الذِّكرى
ويختتمُ الشَّاعر مرثياته بسورةِ الرّحمن: "كل مَنْ عليها فان"، مؤكّداً أنَّ نهاية الإنسان هي الرّحيل عاجلاً أم آجلاً، معتبراً الإنسان ضيفاً على هذه الحياة، فكانت مرثيته الأخيرة خير اختتام؛ حيثُ يقول:
كل مَنْ عليها
يهرعُ مهرولاً
راجلاً كانَ أو فارساً
سائقاً أو راكباً
أو طائراً فوقَ الأثيرِ
سارحاً دونَ ميعادٍ
إلى حفرةِ النّفسِ الأخيرِ
أمسكَ المهندس جان يونان قلمه، وكتبَ لنا شعراً طافحاً بالأسى والأنين، مهدهداً روحه المشتعلة شوقاً إلى شولغي، فلمَ يرَ أجدى من القصيدة؛ كي يلملم شولغي في محرابها، مخلّداً زهرته اليانعة الّتي اختطفها الموت غفلةً عن الزّمن؛ كي ترفرفَ في أحضانِ السّماء، فجاءت المراثي محبوكةً بالأوجاع والأحزانِ، وتمكّنَ الشّاعر أن يخفِّف من ضراوةِ الأحزان المتفاقمة فوقَ صدره، عبر الكلمة، حيث وجدَ عبر فضاءِ الشِّعرِ متنفّسه وبوحه الَّذي قادَهُ إلى رحابِ شولغي؛ لأنَّ الكلمة هي الفعل الخلّاَق، وهي الّتي توصلنا إلى ما يموجُ في كينونتنا، والقصيدة هي محرابنا إلى أحلامنا المتلاطمة في دنيا من حجر!
تمكَّن الشَّاعر من ترجمةِ مشاعرِه الحزينة برهافةٍ منسابة، وعبَّر عنها بعمق؛ لفقدانه ابنه، وأحياناً يشعرُ أحدنا أنَّ اللُّغة عاجزة عن ترجمة ما ينتابنا من مشاعر؛ لأنَّ المشاعر هي حالة انبعاثيَّة فيَّاضة، تتهاطلُ علينا عبر المخيّلة، وعبر وقائع حياتنا، فلا نستطيعُ الإمساك بما يجيشُ في دواخلنا؛ لهذا قرأتُ ما جاء بينَ السُّطور، فالقارئ اللّبيب يقرأ ما وراء السّطور وما بين السُّطور. وقد جاءت المراثي سلسة، بلغة رشيقة هادئة طيّعة وسهلة، رغم الحزن المنساب في فضاءاتها، كنتُ أشعر وأنا أقرأ المراثي وكأنَّ هناك مقاطع واستكمالات للمراثي، لكنّ الشّاعر لم يدوِّنْها، كأنّه تركَها للقارئ؛ كي يحلِّقَ بخياله بما جاء بين السّطور!
وهكذا مثلما بدأ الشَّاعر في مقدِّمته يتحدَّثُ لنا عن سرِّ الخلود الّذي بحثَ عنهُ جلجامش، اختتمَ مراثيه بشعور جلجامش نفسه، عندما وجد الأفعى تلتهمُ عشبة الخلود الَّتي عثر عليها بعد جهدٍ طويل، وأراد أن يحتفظَ بها؛ كي يبقى خالداً، إلَّا أنّه لا خلودَ على الأرض، واختتمَ الشّاعر آخر مرثية له، مؤكِّداً أنّ لا خلاص ولا مفرَّ من الموت؛ فهو الحتميَّة الّتي تنتظرُ البشر؛ كلَّ البشر، ولو نظرنا إلى غلاف الدِّيوان؛ لوجدنا صورةً لشولغي وهو يركضُ وينظر إلى السّماء، كأنّه يتوجّه نحو قدره المحتوم، وقد تمَّ التقاط هذه الصُّورة قبل يوم من وفاته، فجاءَ الغلاف الّذي صمَّمه الشَّاعر بنفسه معبِّراً لمراثي شولغي، حيث يقول:
لا هروب أو مفر
إنْ حانَ موعده اليوم الأخير
كما مكتوب علينا
لا بأيدينا ذياك المصير
فكل المسائل والأحاجي
ممكن حلّها بعد درس
بعد القراءة والتَّفكير
وكل سر قابل التّمكين
للآن ومن بدء التَّكوين
إلَّا السِّر الموسوم
سر الموت المحتوم.
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
رئيس تحرير مجلّة السَّلام الدَّوليّة
0 comments:
إرسال تعليق