برعت قيادات الحركة الصهيونية منذ نشأتها وتبنيها لمشروع اقامة "الوطن القومي لليهود" ببناء شبكات من العلاقات المتشعبة مع زعماء الدول ورؤساء الأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية والجهات المؤثرة في جميع ارجاء المعمورة. كتب التاريخ مملؤة بتفاصيل تلك العلاقات وكيف حاكتها قيادات الحركة وما زالت تحرص عليها وتحاول توسيع حلقاتها أو رتق ما تمزق منها أو ضعف. يهمني في هذه العجالة أن ألفت النظر إلى تداعيات هذه العلاقة مع رؤساء بعض الكنائس المسيحية الغربية ومواقفهم تجاه المشروع الاستعماري الصهيوني وتأثيراته على مصير الأراضي المقدسة وما فيها من كنائس ومواقع مسيحية تعتبر من أركان الايمان المسيحي والشواهد على عقائد جميع الطوائف وسردياتها، وفي طليعتها مكانة مدينة القدس.
ما يعيدني للتذكير بهذه المسألة في أيامنا العصيبة هو ما قرأته من أخبار حول معركتين صغيرتين، لكنهما لافتتين، دارتا في الدهاليز الخلفية لأروقة الدبلوماسية الاسرائيلية المدعومة بإعلام عالمي مأجور وموارب، وبمنظمات يهودية ومسيحية-صهيونية مجندة لدعم الموقف الاسرائيلي بصورة مطلقة في جميع الحالات. كانت الهجمة الأولى موجهة ضد قداسة البابا فرنسيس الذي يقف على رأس الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها في العالم مليار وثلث المليار انسان؛ أما الهجمة الثانية فكانت موجهة ضد نيافة رئيس أساقفة كنتربري، جاستن ويلبي، الذي يعتبر رئيس الكنيسة الأسقفية/ الانجليكانية في بريطانيا والعالم.
لم يُعرف جاستن ويلبي بدفاعه التاريخي عن فلسطين ولا عن حقوق شعبها؛ كما أنه لم يبرز بانتقاده الصارم لسياسات اسرائيل العنصرية ولا لممارساتها العدوانية الدموية داخل الاراضي المحتلة. لقد دفعت مواقفه الموالية لاسرائيل في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر تحديدا، وتغييبه لمعاناة الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وما يعانونه من أهوال الحرب المستمرة عليهم، دفعت الكنيسة الأسقفية في الاردن إلى توجيه رسالة احتجاج له جاء فيها: "نريد أن نذكركم بأن الصراع بين اسرائيل وفلسطين هو صراع وطني تودّ الأصوات المتطرفة في الجانب الاسرائيلي أن تنهيه بهزيمة أحلام الفلسطينيين في وطن قومي لشعبهم في الأرض المقدسة ". وكذلك فعلت الكنيسة الأسقفية الفلسطينية في رام الله وبير زيت من خلال رسالة انتقدت فيها تعقيباته في وسائل الاعلام البريطانية وجاء فيها "إننا لم نر بيانًا واحدا من كنيستنا يشير الى جرائم الاحتلال الاسرائيلي الموثقة باعتبارها جرائم شريرة وبشعة ولا حتى عندما تأثر منها أعضاء كنيستنا الأسقفية في غزة".
لم يستطع ويلبي، كما يبدو، الاستمرار بغض نظره عمّا يجري بحق الشعب الفلسطيني، بعد أن تمادت اسرائيل في جرائمها حتى لامست العبث؛ وبعد أن وقفت ضدها معظم دول العالم؛ وشهدت بريطانيا أكبر مسيرات الاحتجاجات المنددة بإسرائيل وبمن يدعم سياساتها - فقام في مطلع شهر أغسطس الماضي باصدار بيان لم يلجأ فيه كعادته إلى لغة الغمغمة، بل دعا فيه الى ضرورة انهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية مضيفا أنه "في الوقت الذي يشهد فيه العالم مزيدا من الانتهاكات للقانون الدولي، يجب على الحكومات في جميع أنحاء العالم أن تؤكد التزامها القوي بجميع القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية، لا سيما أن الالتزام بهذا القانون أصبح موضع تساؤل بالنسبة لبعض الدول". لا أعرف ماذا دفع برئيس الأساقفة إلى اشهار ندائه بهذه الصراحة، لكنني على يقين بأن لمثابرة بعض أباء الكنائس الأسقفية واللوثرية وغيرهم، ونداءات رعاياهم في الأردن وفي فلسطين كان دورا في حضه على تغيير مواقفه السلبية التقليديه، وقد نجد في بيانه مؤشرا على ذلك حين يقول: "بعد زيارتي الاخوة والاخوات المسيحيين في فلسطين عدة مرات في العقود الأخيرة اتضح أن النظام الذي فرضته الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة يقوم على تمييز ممنهج ؛ وقد عملت دولة اسرائيل على حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في الكرامة والحرية.. مما خلف على المسيحيين تبعات كبيرة وتهديدا لمستقبلهم ولامكانية بقائهم في فلسطين، لذلك فإن انهاء الاحتلال أصبح ضرورة قانونية واخلاقية". كلام جديد ومشجع أنهاه بالدعاء بأن تستجيب جميع الدول، من أجل منح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير.
بعد نشر البيان باشرت منظمات عديدة ، التي تطلق على نفسها في بريطانيا المسيحيين الصهيونيبن، بانتقاده بشدة واتهامه بالتحيز الأعمى ضد اسرائيل وبعدم استيعابه لمضار تطبيق قرار محكمة العدل الدولية عليها حيث سيتسبب بابعادها عن مدينة القدس وهي أقدس مدينة عند اليهود. توالت الانتقادات لجستين ويلبي وكان من ضمنها بيان نشره رئيس حاخامات جنوب أفريقيا في تاريخ 28/8 انتقد فيه تصريح رئيس الأساقفة وتصريحات لقداسة البابا فرنسيس متهمًا كليهما "بالفشل بالدفاع عن القيم الغربية والتوراتية وبالتنازل عن اسرائيل وافريقيا واوروبا للجهاديين". لقد كان مبرره في انتقاد البابا تصريحات كان قد دعا فيها الى وقف الحرب على غزة وأرفقه بدعاء ألّا تتوقف المفاوضات لوقف اطلاق النار وأن يعم السلام الأرض المقدسة ولتكن القدس مدينة يعيش فيها المسيحيون واليهود والمسلمون باحترام.
لم يبتعد البابا في خطبه منذ السابع من اكتوبر عن مواقفه المتوازنة المعروفة وعن لغته المستمدة من قواعد عقيدته المسيحية. بعض الفلسطينيين يعتقدون أن مواقف البابا لا ترتقي الى ما يتمنى أن يسمعه المواطن الفلسطيني، المسلم والمسيحي على حد سواء، بعد سنوات الاحتلال الطويلة وما قدمته فلسطين من ضحايا؛ هؤلاء كانوا يتوقون لتلقي دعمًا سياسيا بابويا أكثر نجاعة وتأثيرا في المحافل الدولية المختلفة.
يجب أن نعرف تاريخ علاقة الحركة الصهيونية وقادة اسرائيل بالكنيسة الأسقفية من جهة وبالفاتيكان وباباواته من جهة أخرى، كي نفهم لماذا يتحسسون في اسرائيل وحلفائها من كل نبرة "مختلفة" يطلقها رؤساء هاتين الكنيستين، لا تتوافق مع قواعد البروتوكول "المدجن" الذي ساد بينهم وبين زعماء الحركة الصهيونية منذ بدايات القرن العشرين حتى استقر بعد توقيع اتفاقيات اوسلو. فمع بداية انتشار المعلومات حول المشروع الصهيوني والتئام المؤتمر الصهيوني عام 1897 أعلن الفاتيكان مباشرة عدم استعداده للموافقة على اقامة دولة يهودية في الأرض المقدسة وعاصمتها القدس وأن تكون الأماكن المقدسة تحت سيادتها. حاول بنيامين زئيف هرتسيل الحصول على دعم البابا بيوس العاشر لفكرته، لكن البابا صدّه بحزم رافضا الفكرة لأسباب ثيولوجية. كذلك عارض الفاتيكان وعد بلفور عام 1917 لنفس الأسباب المبدئية، وبعدها تمسك بضرورة المحافظة على القدس ككيان منفرد ومدوّل وبضرورة حمايتها بضمانات دولية. لم يعترف الفاتيكان عام 1948 باسرائيل رغم محاولات حكامها المتكررة للحصول على اعترافه. بقيت العلاقات بين اسرائيل والفاتيكان ملتبسة ومتقلبة لغاية تسعينيات القرن الماضي وتحديدا بعد توقيع اتفاقية اوسلو التي بسببها حصل تغيير في موقف الفاتيكان تجاه اعترافه باسرائيل. ولكن تبقى مسالة علاقة الكنائس الكبرى باسرائيل خاضعة لعدة معطيات ومصالح واحيانا غير مستقرة.
لا نعرف كيف سيتصرف رئيس أساقفة كنتربيري بوجه الهجمة الصهيونية الحالية عليه ولا كيف سيطور مواقفه ازاء القضية الفلسطينية ، لكننا نتوقع ألا يتراجع عما جاء في بيانه، خاصة اذا عرف الفلسطينيون ايجاد السبل لتمتين العلاقات معه ومع كنيسته. بالمقابل، نحن نعرف أن موقف الفاتيكان تجاه المسألة الفلسطينية واضح، لا سيما ازاء القدس وسائر الأماكن المسيحية المقدسة، اذ ان مؤسساته تخشى قبول اخضاع المدينة لسيادة حكومة اسرائيلية تسعى لتقويض الوجود غير اليهودي في المدينة ولن يتردد مهووسوها بتدمير الأماكن المقدسة غير اليهودية، لأنهم يعتبرونها أمكنة لعبادة الشيطان.
اذا، ما يجري في هذه الايام داخل مؤسسات الكنيستين الكبريين في العالم هي أحداث لافتة ؛ واذا ما أضفنا إليها مخاضات واجهتها كنائس عالمية أخرى، مثل اللوثرية والاسكتلندية، وحسمت مواقفها بدعم القضية الفلسطينية، نرى أننا حيال مسألة كبرى تستدعي متابعة فلسطينية ممنهجة ومدروسة توكل إدارتها لعناوين وجهات مسؤولة وقادرة ومؤهلة.
لقد قلنا أن للصراع مع اسرائيل أبعادا عديدة، كان أهمها ويجب أن يبقى البعد القومي/ الوطني؛ لكنهم نجحوا عبر السنين بزجه في خانته الدينية وحسب، وقد قبلت فلسطين أو نصفها على الأقل بذلك؛ ولأنها قبلت فعليها أن لا تسقط ورقة الضغط المسيحية من يديها.
0 comments:
إرسال تعليق