أنا والله أصلح للمعالـــــي **** وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
أمكن عاشقي من صحن خدي *** وأمنح قبلتي من يشتهيه
هكذا نحن نتذوق الجمال والرقة والإنسانية ، ونمثل تراث أمتنا الخالد ، ولغتنا الجميلة ، لا من تآمر عليها مع الأعداء بلغة السيف والقتل والنهب والاغتصاب ، وإننا لبرمصاد !!
أمّا بعد : سنأخذ متنبي هذا العصر - كما يقال - الجواهري وغزله الفاضح ، وتهتكه الواضح ، ومجونه المازح ،ولم أرَ شاعراً بلغ قمة الصراحة قي تهتكه مثل هذا الرجل الفاضح !!
الحقيقة الجواهري عاصر العالم والثائر والشاعر السيد محمد سعيد الحبوبي خمس عشرة سنة من ولادة الجواهري نفسه (26 تموز 1899م) حتى وفاة السيد الحبوبي في ( 22 تشرين الثاني 1914م) ، وفي هذه السنوات كانت النجف تعجّ وتمجُّ بالانتفاضات والثورات والتحرر الفكري ، فالجدال محتدم ما بين المشروطة والمستبدة ، والأنكليز على أبواب البصرة ، ودخل ( مودهم) بغداد ، والطليان هجموا على ليبيا ، وثار الثوار الليبيون ، وعلماء النجف أفتوا بمناصرتهم والوقوف إلى جانب ثورتهم ، والروس هجموا على إيران ، وأفتى ملا كاظم الخراساني بمحاربتهم ، وتهيأ للسفر شخصياً ، فمات بشكل غامض ليلة السفر (1911م) ، وأتُهِم الروس بتسميمه ، فشرع شاعرنا يتشرب نسغ التمرد ، والخروج على السالف السائد ، ولاسيما سيدنا الحبوبي الذي أخذ شعره - وشعرعشرته المبشرة ، وهو من ضمنهم ، والشيخ عبد الحسين الجواهري والد جواهرينا منهم - يطفح بالغزل العذري الرقيق ، والتشبيب الصارخ العميق ، وحتى بالكأس الفارغة كالعقيق ، اقرأ كيف يتغزل الحبوبي :
ياغزال الكرخ واوجدي عليك
كاد ســــــري فيـك أن يُنتَهكا
هذه الصهبآء والكـأسُ لديك
وغرامي في هــــواك إحتَنكا
فآسقني كأساً وخُذْ كأساً اليك
فلذيذ ُ العـيش أن نشــــــتركا
إترع الأقــــــداح راحـاً قرقفاً
فلمُاك العذبُ أحلـــى مرشفــا
وُحميا الكــــاس لمّــا صفقَتْ
أخذتْ تجــلى عروســاً بيـدَيه
خلتها فـــي ثغره قَــــد عُتـقتْ
زمناً واعتُصرتْ مـــن وجنتيه
السيد الحبوبي مع كل هذا الغزل ، ووصفه للخمر أدق وصف ، وأحسن من شاربيه ، ولما سئل ؟ أجاب والله ما ذقتها !! جزماً لم يذقها ، ولكنها إيحاءات شاعر شاعر ، وفوق كل ذلك كان الحبوبي مقداماً جريئاً، وزعيماً دينياً ، ومناضلاً عنيداً ضد الاحتلالين (العثماني والإنكليزي) حتى مات شهيداً على محراب صلاته في (معركة الشعيبه).
كان الحبوبي مثلاً أعلى للجواهري ، وكذلك تأثر بغزل السيد جعفر الحلي وصهبائه ، (توفي 1897 م قبل ولادة الجواهري بعامين ) وغزله الرهيب ، وصهبائه والعجيب ، كل ذلك تأثر به الجواهري ، ولكن خلي في بالك قول الحبوبي : (كاد ســــــري فيك أن يُنتَهكا ) !! هو ماذا بقى يرحم والديك ؟!! وصف الخمر أكثر ممن شربها من السكارى الماجنين ، وحاشا السيد الجليل ، هذا هو الشعر ، وإلهام الشعراء ، ويلومون كاتب هذه السطور كيف يكتب عن الولّادة وعشيقها ابن زيدون !! ، انتظروا رجاءً للأفظع من الشيخ الجواهري إبان منتصف عشرينات القرن الفائت ، عندما كانت المرأة تلبس ثلاث عباءات !! ، وأكرر القول يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره ، لأن الخيال يمتزج بالواقع ، ولا يوجد خيط رفيع للاتهام والبرهان ، فبأي آلاء ربّكما تكذبان !!
ثلاث سنوات قضاها الجواهري في البلاط نظم فيها عشر قصائد مديح أو أكثر في حق صاحب الجلالة الفيصل الأول ، وبقت ذكريات هذه السنوات عالقة في ذهنه حتى كلفته 180 صفحة من ( ذكرياتي ) ، الجزء الأول ، بل زادها مدحاً للملك حسين أواخر أيام حياته كضريبة حب وولاء للبيت الهاشمي.
جواهرينا طري القلب ،رقيق الطبع ، كئيب الوجه ، حلو العشرة ، سريع الغضب ، حاد المزاج ، علاقته مع النساء معقدة ، عندما تطلّ عليه الكاعب الحسناء ، يخرّ صريعاً من شدّة الإحساس ، وتوهج الغريزة الجنسية العمياء ، فيتوسم اللقاء ،ليمتع نفسه باللذات كما يشاء ، وعلى الدنيا العفاء ، وإذا عزّ اللقاء ، يتوسل بالرجاء !!:
جَرِّبِيني مِنْ قبل أنْ تَزْدَرِيني ***واذا ما ذَمَّمْتِيني فاهْجُريني
ويقيناً ستندمينَ عَلَى أنَّـ ***** ـــكِ مِنْ قبل كنتِ لمْ تعرفيِني
لاتَقِيسى عَلَى ملامحِ وجهِـــى****وتقاطيعِهِ جمـــيعَ شؤونِي
أنا لى في الحياةِ طبعٌ رقيقٌ**** يتنافَى ولونَ وجهِــيَ الحزينِ
أنا ضدُّ الجمهورِ في العيشِ والتَّفْـ ** ـكيرِ طُرّا وضدُّهُ في الدِّينِ
مَتِّعِيني قبلَ المماتِ فما يُــــدْ *****ـــريكُما بعدَهُ، وما يُدرينــي
اسمحي لي بقبلة تملكيني ****** ودعي لي الخيار في التعيين
قربيني من اللذاذة المسها ****** اريني بداعة التكويــــــــــــن
انزليني الي الحضيض اذا ما شئت ***** او فوق ربوة فضعيني
كل ما في الوجود من عقبات******* عن وصولي اليك لا يثنيني
إحمليني كالطفل بين ذراعيـ *******ــك احتضاناً ومثلــــه دلليني
وإذا ما سُئلت عني فقولــــــي******* ليــس بدعاً إغاثة المسكين
لست اُمّاً لكن بأمثال (هذا) ******* شـــاءت الأمهات أنْ تبتليـــني
(الطميني) إذا مجنت فعمداً *******أتحري المجـــــون كي تلطميني
العشق لا يأتي بالعافية والتوسل ، والرجاء ، والكلمات الحنونة ، هو لقاء نفسي متكامل ، يتبلور في لحظة ما عقبى نظرة ، ابتسامة ، كلمة ، لمسة ... ، وربما يأتي بالقسوة والرجولة ، العنف ،والملاحفة الجريئة حتى تستلهم المرأة معايير أخرى ،تلتفت إليها وتستكين لها ، وتستسلم تماماً لما خلقت إليه ، فيدرك الرجل ما مقدار عظمتها ، ودورها ، وقدسيتها ، فينهال عليها حناناً ، ورعاية ، وفداء ، ولكن قصيدة الجواهري عبثية ثعلبية ماكرة ، جاءت في عصر لا يمكن له أن يسلك معها إلا بلطم منها وتوسل إليها ، وحضن أم يحميه !!! ومن قبله العفريت أبو نؤاس طلب من جارية إغاثة المسكين !!
شاعرنا لم تكن لديه وظيفة صاحب قرار ، أو كلمة مسموعة في تسيير شؤون الدولة ، وإنما مجرد حاجب يستلم الكتب الواردة ، ويبعث بالصادرة ، أو يجمع الأخبار من الصحف التي تغمر البلاط ، ليقدمها لعلية القوم ، وصاحب الجلالة ، وكان سعيداً بهذا المنصب ، وغاية ما وصل إليه هو مبعوث من البلاط إلى رجال الدين في النجف ، وكانت أسرته الجواهرية لها منزلة دينية حوزوية رفيعة .
هذه القصيدة الـ ( جربيني ) ، التي نظمها عام 1929م ، وكان المجتمع العراقي حاله حال ، ولا سيما الجواهري كان معمماً ، و من عائلة دينية كبيره ،ووالده وأعمامه من أقطابها ، بل من أقطاب النجف الأشرف ، أ ثارت القصيدة ضجة كبيرة ، وأثار الملك مَن أثار ، فبعث عليه وعاتبه عتاباً شديداً ، فاستقال الجواهري من منصبه ،وغادر البلاط قاسماً بالطارق والنجم الثاقب، ان يعود، ويضحي بألف ألف وظيفة في سبيل أن يعود، وقد عاد بعد ذلك عَوْداً بما لا يقل إن لم يزد على جربيني ، فكانت النزغةعام 1930 م ( راجع ذكرياتي ج 1 216) ، وفي ( نزغته) ، لا تجد جربيني ، وإغاثة المسكيني ، والطميني ، وبمثل هذا حضن الأمهات تبتليني ، بل هجوماً وتهتكاً ،وإصراراً وتحدياً، لا يطيل المساومة حتى يصل اللذة والانغماسة ، ، وعلى اسم الشيطان يأتي على نصيب غنيمته وانتهازه وافتراسه :
لم أُطل سومها وكنت متى****** يعجبني الشيء لا أطيل مكاسه
ثم كانت دعابة.. فمجون ********* فارتخاء.. فلذة.. فانغماسه
وعلي اسم الشيطان دست عضوضاً * ناتيْ الجنبتين، حلو المداسه
لبداً.. تنهل اللبانة مــــــنه *****لا بحزن ضرس.. ولا ذي دهاسه
وكان العبير في ضرم اللـــــذة ********يذكــــــــي بنفحةٍ أنفاسه
كأن الثقل المؤرجح بين الصدر****** والصدر.. يستطيب مراسه
وكأن (البديع) في روعة الأسلوب****** يملي(طباقه) و(جناسـه)
لك في هذه الحياة نصيـــــــــــبٌ ****** أغنمية انتهازه وافتراسه
تارة صاحبي يصفق كأســــــــي ****** وأنا تـــــــارة أصفق كاسه
لا (الحسين الخليع) يبلغ شأونا *****ولا (مسلم) ولا ذو (النواسه)
قال لي صاحبي الظريف وفي ** الكف ارتعاش وفي اللسان انحباسه
أين غادرت (عِمّةً) واحتفاظاً ***** قلت : إني طرحتها في الكُناسه
لا تعليق !! وإذا تريد أنت تعلّق علّق ، أنا لا أمسكك ، وما لي شغل !!
ثم ماذا ؟!! هذه الدنيا ، وهذه سنة الله في خلقه ، والتكامل ضرورة حياتية لاستمرارية البقاء ، والملهم في لحظات ما قد يخترق الحواجز ليصل إلى الحقيقة ، ولو أن الناس تراه ضرباً من الجنون ، وهو قال ذلك تصريحاً لا تلميحاً :
ما أشد احتياجة الشاعر الحسّاس يوما لساعة من جنونِ
ماذا تريد من بعد هذا التهتك والغزل المفضوح ، والمجون والجنون !! بقت لدينا (عريانته ) التي نظمها في سنة 1932 م وتتضمن تصويراً حسياً رهيباً لجسد المرأة ومفاتنها من الصدر حتى الكعاب ، كأنما يريد أن يطغي على ابن مدينته الشاعر العربي الشهيرأحمد الصافي النجفي القائل :
يا ليتني برغوثةٌ *** أدخل في ثيابها
ألثمها من رأسها *** لمنتهى كعابها
لكن هذه العموميات لا تشبع غريزة شيخنا الجواهري ، انتظراً رجاءً ، جاءت على ذهني فكرة !! معقول هؤلاء الشعراء عاصرونا ، أو منهم من عاش وعاصر آباءنا وأجدادنا الصلبيين المعاصرين ، كم كانوا يعشقون الإنسان ويقدرونه ، ويسمون به للسماء حتى وضعوا هذه الخرائد والروائع في حقّه ، كم تأملوا في خلق الله ، وحسن صنعته ، وتمام خلقه هذا هو الإنسان نفسه الذي نقتله اليوم برصاصة طائشة ، أو نقطع رأسه بسيف رخيص ، أو نغتصب عرضة فعلاً في لحظة هوسٍ وجنون ، وننتهب كد عمره ، وعرق جبينه في يوم لعين مجرم !!
دعنا - رحمك الله - لنبقى مع الجواهري العظيم ، وهذه القصيدة العاهرة التي أخذت كل تلابيب عقله ، ولحظات عبقريته ، ومشاعر إنسانيته ، وأحاسيس غريزته ، ليرسم جسد امرأة وأنوثتها في لحظات ملهمة ، ويجعل منها تحفة جمال سرمد ، وصورة خيال مخلّد ، كما خلد من قبل العبقري الخالد ابن الرومي وحيدة المغنية ، فإليك - ما تيسر - إياها ، والله ما أحلاها :
أنتِ تدرين أنني ذو لُبانَهْ الهوى يستثيرُ فيَّ المَجانَهْ
وقوافيَّ مثلَ حُسنك لمــــا تَتَعرَّينَ حـــــــرّةٌ عُريانة
وإذا الحبُّ ثار فيَّ فلا تَمْنَــــعُ أيُّ احتشـــامة ثوَرَانه
فلماذا تُحاولين بأنْ أعلــنَ ما يُنـــكِرُ الـورى إعــلانه
ولماذا تُهيِّجِين من الشاعِر أغفـــى إحساسُهُ ، بركانه
لا تقولي تجهُّمٌ وانقباضٌ بُغَّضا منــــه وجهَــه ولسانه
فهما ثورةٌ على الدهر منّي كجَواد لا يرتضي مَيــــدانه
أنا في مجلسٍ يضمُّكِ نشوانُ ســـــروراً كأنني في حانه
رجفة لا تمسُّ ما بين رفْغَيْكِ وتُبقي الصدرَالجميلَ مكانه
والذراعَينَ كلُّ ريانةٍ فعمــــاءَ تَلْــــقى في فَعمةٍ رَيّــــــانه
والثُدِيَّيْنِ كلُّ رُمانة فرعــــــاءَ تَهـــــــــزا بأُختِها الرُمّانه
عاريا ظهرُك الرشيقُ تحبُ العيـــــــنُ منه اتساقَهُ واتزانه
ما به من نحافةٍ يُستَشَفُّ العظمُ منهــــــا ولا به من سَمانه
وتراه يجيء بين ظُهور الخُرَّدِ الغـــــــيدِ سابقاً أقرانــــــــه
عندما تبسمين فينا فتفترُّ الشـــــــفاهُ اللطــافُ عن أقحُوانه
إذ يحار الراؤون في حُسنك الفتّـــــــانِ بـل في ثيابك الفَتّانه
رُب جسمٍ تُطرى الملاحةُ فيــــــــــه ثم تَعدوه مُطرياً فُستانه
ليت شعري ما السرُّفي إن بدت للعَين جَهراً أعضاؤُكِ الحُسّانه
واختفى عضْوُك الذي مازَه الله عـــــــــلى كل ما لديك وزانه
الذي نال حُظوةً حُرِم الانســـــــــــــــانُ منها خُصَّت الإنسانه
وتمنّى على الطبيعة شَكلا هو مـــــــــــن خير ما يكونُ فكانه
جسمُك الغضُ مَنطقٌ يدحَض الحجّة لو لـــــم تُسَتِّري بُرهانه
ملءَ عيني رأيت منكِ مع الأخـــــــــرى غرامَ البَناتِ يا فتّانه
رشفةٌ قد حُرمْتُها منك باتت عند غـــــيري رخيصةً مُستَهانه
معها " بعتِ " خفةً ومُجونا ومعي " بِعتِ " عفّـــةً ورزَانه
لو كإتيان هذه لك آتي رجـــــــــــــــــــــــــــلاً لم تحبِّذي إتيانه
أتُريدين أن أقولَ لمن لـــــــــــــــــــــم يدر ما بينكُنَّ من إدمانه
فتيات الهوى استبحن مـــــــــــــــــن اللذات ما لم يُبِحنَه فتيانه
أعروسان في مكان وعِرِّيســــــــــــــــانِ كلٌ منهم يُخَلَّى وشانه
اللهم أنت جميل تحب الجمال ، وهذا خلقك ، وهذه سنتك ، فمن لا يتلمس الجمال ويقدّسه ، لا يفقه الإنسان ومعجزة إبداعه ، ولا يتفهم معنى الإنسانية ويقدسها ، وبالتالي لا يقدّس الله ، وكافر بنعمته ، اللهم أشهد !!!!
0 comments:
إرسال تعليق