يبدو أن المشهد العام في أفغانستان المنكوبة بالحروب الأهلية والإنقسامات الجهوية والمذهبية منذ سقوط نظامها الملكي في مطلع سبعينات القرن الماضي يتجه نحو مزيد من التدهور. أما السبب فهو ضعف الحكومة الحالية، التي لم تستطع أن تبسط نفوذها على كامل التراب الأفغاني رغم كل ما تلقاه من دعم دولي، إضافة إلى سبب آخر هو إستمرار التدخلات الإقليمية في شئونها الداخلية.
والتطور الجديد الذي طرأ على المشهد، ويـُتوقع له أنْ يلهب سعير الإقتتال الداخلي، لا يتمثل فقط في الضربات الموجعة التي توجهها ميليشيات حركة طالبان من حين إلى آخر إلى القوات النظامية والمنشآت الحكومية والمصالح الأجنبية، وإنما يتمثل أيضا في الصراع المتنامي بين هذه الميليشيات وتنظيم داعش الإرهابي الذي استغل مؤخرا الفوضى السائدة في هذه البلاد لتجنيد الأفغان من أجل القتال لصالحه في المناطق المضطربة مثل سوريا والعراق وليبيا، خصوصا وأن الأفغان لا يحتاجون إلى تدريب أو تأهيل لأنهم متمرسون على القتال في الظروف الصعبة، وجاهزون للإلتحاق بساحات القتال، بل ويسهل اقناعهم بالشعارات "الإسلامية" التي يرفعها الدواعش.
ومثل هذه الأخبار ليست مجرد توقعات أو إحتمالات، إنما تؤكدها حكومة كابول التي باتت تراقب بعين القلق الوضع في المناطق الشرقية من البلاد، وخاصة إقليم هلمند حيث شوهد بعض "الجهاديين" المتمردين على طالبان وهم ينفقون الأموال من أجل تجنيد الشباب لصالح تنظيم داعش. والمفيد في هذا السياق الإستشهاد بتقرير ميداني نشرته مؤخرا صحيفة الإنديبيندنت البريطانية، وجاء فيه، على لسان أحد كبار القادة القبليين في شمال هلمند، أن الكثيرين من شباب وأطفال الإقليم ــ بما فيهم إبنه الجامعي ــ تم تجنيدهم، وأنّ أعلام داعش السوداء وصور زعيمه أبوبكر البغدادي منتشرة في كل مكان.
أما الأسوأ مما سبق قوله فهو الأنباء التي انتشرت حول قيام بعض جنود الجيش النظامي وقوات الشرطة الأفغانية بالالتحاق أيضا بصفوف داعش تحت إغراء المادة. والحقيقة أن ضعف الولاء وتدني المناقبية في الجيش النظامي الأفغاني المنهك وفي قوات الشرطة المحلية كان هو الثغرة التي إستغلتها حركة طالبان طويلا من أجل الحصول على المعلومات السرية الخاصة بخطط الجيش وقوات الأمن وأماكن تمركز جنودهما وسبل الوصول إلى قواعدهما ومهاجع عناصرهما، ناهيك عن إستمالة بعض أفرادهما الأميين الفقراء من خلال تحريك الوازع الديني والقبلي لديهم، ونشر قصص فساد قادتهم، إضافة إلى تحطيم معنوياتهم المحطمة أصلا بسبب تركهم أحيانا لمدد طويلة في المناطق المحفوفة بالمخاطر دون رواتب أو خطط الإجلاء السريع أو إمدادات كافية من الذخائر والمؤن الضرورية. ولعل من الأدلة التي يمكن سوقها حول نجاح طالبان في هذا الأمر هو ما حدث في أواخر ديسمبر الماضي في منطقة "سانجين" حينما ترك ثلاثة من قادة الجيش الأفغاني ومعهم ثلاثة وستين جنديا من جنودهم مواقعهم مع أسلحتهم وعرباتهم ومعداتهم من أجل الإنضمام لصفوف طالبان. والمعروف أن "سانجين" الواقعة في إقليم هلمند خسرتها القوات الحكومية المدعومة بالقوات الامريكية والبريطانية الخاصة لصالح الميليشيات الطالبانية في 21 ديسمبر 2015 من بعد قتال عنيف بين الجانبين استمر لمدة يومين. إلى ما سبق ولنفس الأسباب المشار إليها تم تسجيل الكثير من الحال التي تأخذ فيها عناصر من الجيش والشرطة إجازات قصيرة، فتذهب دون أن تعود إلى مواقع عملها، ليـُكتشف أنها انضمت إلى صفوف إحدى الميليشيات.
ويبدو أن تنظيم داعش يحاول الآن أستنساخ ما فعلته حركة طالبان على مدى السنوات الماضية منذ خروجها من السلطة، لجهة استغلال الثغرات التي أشرنا إليها. ولعل هذا هو ما جعل الجيش الأفغاني يسارع إلى دق ناقوس الخطر وإرسال كبار جنرالاته ( مثل الجنرال شحيم الذي يتولى اليوم منصب نائب وزير الداخلية) إلى إقليم هلمند وغيره من الأقاليم في بعثة لتقصي الحقائق.
إن نجاح داعش في سحب البساط من تحت أقدام حركة طالبان، وبالتالي خلق قاعدة له في أفغانستان سوف يجلب صداعا أقوى مما سبق لكل الدول المحيطة بالأخيرة، وخاصة باكستان(صاحبة النفوذ واليد الطولى في الشأن الأفغاني)، والهند(المنافسة التقليدية لباكستان في أفغانستان)، والصين(الملاصقة لإفغانستان من جهة إقليمها المسلم المضطرب المعروف باسم تركستان الشرقية)، وإيران(المعادية للدواعش بسبب الإختلافات المذهبية فقط)، إضافة إلى روسيا الإتحادية(القلقة من تسرب الدواعش إليها عبر جمهوريات آسيا الوسطى المحاذية لأفغانستان من الشمال كطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان التي ينشط "الجهاديون" فيها أصلا). فهذه الدول كلها سواء في نظر الدواعش، لجهة الكفر والمروق واستحلال ثرواتها ودماء أبنائها. وهاهو التنظيم قد بدأ فعلا مسلسله الدموي والتخريبي في أفغانستان في 13 يناير الماضي حينما أعلن مسئوليته عبر بيان لما يـُسمى بـ "تنظيم الدولة الإسلامية ـ ولاية خراسان" عن هجوم انتحاري ضد القنصلية الباكستانية، علما بأنه كان قد مهد لذلك بالسيطرة التدريجية على جلال آباد، كبرى مدن ولاية ننغرهار، وقطع رؤوس عدد من مواطنيها بوحشية وعرضها على الملأ ترهيبا وتخويفا، وسبي نسائها، وفرض الضرائب على سكانها.
قلنا أن روسيا من بين الدول القلقة من تنامي نفوذ الدواعش في أفغانستان، وقد تجلى ذلك في تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الروسية "ماريا زخاروفا" التي قالت بكل وضوح أن بلادها تفكر جديا في محاربة ميليشيات "الدولة الإسلامية" في أفغانستان، مضيفة أن موسكو تفكر في كل السيناريوهات الضرورية لمنع التهديد الداعشي القادم من أفغانستان. فهل يفعلها الروس ويتدخلون مجددا في هذه البلاد التي سبق لهم التدخل فيها في نهاية سبعينات القرن العشرين لأسباب مختلفة؟
د. عبدالله المدني
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2016
البريد الالكتروني: ELMADANI@BATELCO.COM.BH
عبارة الهامش:
هل ستعود موسكو الى أفغانستان لمقاتلة داعش بعدما ذهبت اليها في السبعينات لمحاربة الغرب؟
والتطور الجديد الذي طرأ على المشهد، ويـُتوقع له أنْ يلهب سعير الإقتتال الداخلي، لا يتمثل فقط في الضربات الموجعة التي توجهها ميليشيات حركة طالبان من حين إلى آخر إلى القوات النظامية والمنشآت الحكومية والمصالح الأجنبية، وإنما يتمثل أيضا في الصراع المتنامي بين هذه الميليشيات وتنظيم داعش الإرهابي الذي استغل مؤخرا الفوضى السائدة في هذه البلاد لتجنيد الأفغان من أجل القتال لصالحه في المناطق المضطربة مثل سوريا والعراق وليبيا، خصوصا وأن الأفغان لا يحتاجون إلى تدريب أو تأهيل لأنهم متمرسون على القتال في الظروف الصعبة، وجاهزون للإلتحاق بساحات القتال، بل ويسهل اقناعهم بالشعارات "الإسلامية" التي يرفعها الدواعش.
ومثل هذه الأخبار ليست مجرد توقعات أو إحتمالات، إنما تؤكدها حكومة كابول التي باتت تراقب بعين القلق الوضع في المناطق الشرقية من البلاد، وخاصة إقليم هلمند حيث شوهد بعض "الجهاديين" المتمردين على طالبان وهم ينفقون الأموال من أجل تجنيد الشباب لصالح تنظيم داعش. والمفيد في هذا السياق الإستشهاد بتقرير ميداني نشرته مؤخرا صحيفة الإنديبيندنت البريطانية، وجاء فيه، على لسان أحد كبار القادة القبليين في شمال هلمند، أن الكثيرين من شباب وأطفال الإقليم ــ بما فيهم إبنه الجامعي ــ تم تجنيدهم، وأنّ أعلام داعش السوداء وصور زعيمه أبوبكر البغدادي منتشرة في كل مكان.
أما الأسوأ مما سبق قوله فهو الأنباء التي انتشرت حول قيام بعض جنود الجيش النظامي وقوات الشرطة الأفغانية بالالتحاق أيضا بصفوف داعش تحت إغراء المادة. والحقيقة أن ضعف الولاء وتدني المناقبية في الجيش النظامي الأفغاني المنهك وفي قوات الشرطة المحلية كان هو الثغرة التي إستغلتها حركة طالبان طويلا من أجل الحصول على المعلومات السرية الخاصة بخطط الجيش وقوات الأمن وأماكن تمركز جنودهما وسبل الوصول إلى قواعدهما ومهاجع عناصرهما، ناهيك عن إستمالة بعض أفرادهما الأميين الفقراء من خلال تحريك الوازع الديني والقبلي لديهم، ونشر قصص فساد قادتهم، إضافة إلى تحطيم معنوياتهم المحطمة أصلا بسبب تركهم أحيانا لمدد طويلة في المناطق المحفوفة بالمخاطر دون رواتب أو خطط الإجلاء السريع أو إمدادات كافية من الذخائر والمؤن الضرورية. ولعل من الأدلة التي يمكن سوقها حول نجاح طالبان في هذا الأمر هو ما حدث في أواخر ديسمبر الماضي في منطقة "سانجين" حينما ترك ثلاثة من قادة الجيش الأفغاني ومعهم ثلاثة وستين جنديا من جنودهم مواقعهم مع أسلحتهم وعرباتهم ومعداتهم من أجل الإنضمام لصفوف طالبان. والمعروف أن "سانجين" الواقعة في إقليم هلمند خسرتها القوات الحكومية المدعومة بالقوات الامريكية والبريطانية الخاصة لصالح الميليشيات الطالبانية في 21 ديسمبر 2015 من بعد قتال عنيف بين الجانبين استمر لمدة يومين. إلى ما سبق ولنفس الأسباب المشار إليها تم تسجيل الكثير من الحال التي تأخذ فيها عناصر من الجيش والشرطة إجازات قصيرة، فتذهب دون أن تعود إلى مواقع عملها، ليـُكتشف أنها انضمت إلى صفوف إحدى الميليشيات.
ويبدو أن تنظيم داعش يحاول الآن أستنساخ ما فعلته حركة طالبان على مدى السنوات الماضية منذ خروجها من السلطة، لجهة استغلال الثغرات التي أشرنا إليها. ولعل هذا هو ما جعل الجيش الأفغاني يسارع إلى دق ناقوس الخطر وإرسال كبار جنرالاته ( مثل الجنرال شحيم الذي يتولى اليوم منصب نائب وزير الداخلية) إلى إقليم هلمند وغيره من الأقاليم في بعثة لتقصي الحقائق.
إن نجاح داعش في سحب البساط من تحت أقدام حركة طالبان، وبالتالي خلق قاعدة له في أفغانستان سوف يجلب صداعا أقوى مما سبق لكل الدول المحيطة بالأخيرة، وخاصة باكستان(صاحبة النفوذ واليد الطولى في الشأن الأفغاني)، والهند(المنافسة التقليدية لباكستان في أفغانستان)، والصين(الملاصقة لإفغانستان من جهة إقليمها المسلم المضطرب المعروف باسم تركستان الشرقية)، وإيران(المعادية للدواعش بسبب الإختلافات المذهبية فقط)، إضافة إلى روسيا الإتحادية(القلقة من تسرب الدواعش إليها عبر جمهوريات آسيا الوسطى المحاذية لأفغانستان من الشمال كطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان التي ينشط "الجهاديون" فيها أصلا). فهذه الدول كلها سواء في نظر الدواعش، لجهة الكفر والمروق واستحلال ثرواتها ودماء أبنائها. وهاهو التنظيم قد بدأ فعلا مسلسله الدموي والتخريبي في أفغانستان في 13 يناير الماضي حينما أعلن مسئوليته عبر بيان لما يـُسمى بـ "تنظيم الدولة الإسلامية ـ ولاية خراسان" عن هجوم انتحاري ضد القنصلية الباكستانية، علما بأنه كان قد مهد لذلك بالسيطرة التدريجية على جلال آباد، كبرى مدن ولاية ننغرهار، وقطع رؤوس عدد من مواطنيها بوحشية وعرضها على الملأ ترهيبا وتخويفا، وسبي نسائها، وفرض الضرائب على سكانها.
قلنا أن روسيا من بين الدول القلقة من تنامي نفوذ الدواعش في أفغانستان، وقد تجلى ذلك في تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الروسية "ماريا زخاروفا" التي قالت بكل وضوح أن بلادها تفكر جديا في محاربة ميليشيات "الدولة الإسلامية" في أفغانستان، مضيفة أن موسكو تفكر في كل السيناريوهات الضرورية لمنع التهديد الداعشي القادم من أفغانستان. فهل يفعلها الروس ويتدخلون مجددا في هذه البلاد التي سبق لهم التدخل فيها في نهاية سبعينات القرن العشرين لأسباب مختلفة؟
د. عبدالله المدني
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2016
البريد الالكتروني: ELMADANI@BATELCO.COM.BH
عبارة الهامش:
هل ستعود موسكو الى أفغانستان لمقاتلة داعش بعدما ذهبت اليها في السبعينات لمحاربة الغرب؟
0 comments:
إرسال تعليق