"أعتقد أنّ صمت الشّعر والعجز عن كتابته ومأزق الورقة البيضاء هي جميعها جزء من الشّعر نفسه. إنّها النّاحية الخفيّة من الكتابة الشّعريّة. إنّها ما يمكن تسميته ما وراء الشّعر أو ذاكرته الغائبة". (عبده وازن)
صمت الشّاعر الفرنسيّ بول فاليري قرابة الخمسة عشر عاماً قبل أن يكتب قصيدته الطّويلة الرّائعة "بارك الشّابة". ولعلّه صمت قسريّ يخشاه جميع الشّعراء ويشكّل هاجساً حقيقيّاً في حياتهم. ولعلّه شبح العجز الّذي يتراءى لهم كلّما تأكّد أنّ الشّاعر لا يكتب متى يشاء بل ينتظر لحظة وحيٍ تزلزل كيانه وتضرم فيه نار الشّعر فيكتب. قد تكون الفترة الزّمنيّة بين نصّ شعريّ وآخر سنوات، أو أيّاماً أو حتّى ساعات، فهل هو الوحي الّذي يصمت، أم إنّه الشّاعر الّذي ما عاد ينفتح على هذا النّور الموحى به؟ فمن العسير القول إنّ الوحي ينقطع، وذلك لأنّه خيوط نور تتجدّد كالخلق فيكون الإبداع. ومن العسير استحضار النّور عنوةً بهدف كتابة الشّعر. والشّاعر الّذي يصارع ورقته البيضاء لينتصر عليها أتى بنصّ فارغ هشّ فاقد للحياة.
قد يكون مأزق الورقة البيضاء كما يسمّيها الشّاعر الفرنسي مالارميه، هاجس جميع الشّعراء، لكنّه في الحقيقة ليس مأزقاً بقدر ما هو لحظة اتّحاد الوحي بالشّاعر ليكون الاثنان واحداً. فيستحيل الشّاعر هو القصيدة. ولئن كان الشّاعر يتعامل مع هذا الصّمت الشّعريّ كمأزق يضطرب ويخاف من فقدان القدرة على الكتابة الشّعريّة في حين أنّ الشّعر هو الّذي يكتبه وليس العكس. لا بدّ من صمت يفرض نفسه، إنْ على مستوى الوحي أو على مستوى الشّاعر ليتاح للّغة الجديدة أن تولد وتتفجّر من أعماق الشّاعر. فيكون صمت الوحي المتّحد بصمت الشّاعر ذروة الولوج في الشّعر لا أحد يتكلّم ولا أحد يسمع. لحظة تأمّل وارتقاء خالصين إمّا يدخلان الشّاعر في الصّمت النّهائي، وإمّا تولد قصيدة تُنسي ما قبلها ليتجلّى الإبداع خلقاً متجدّداً.
الشّاعر الحقيقيّ لا يكتب ذاته الّتي لا يعرفها يقينيّاً بل ينتفتح على نور الوحي يقطف ومضاته ليكتشف قدراته ويصغي إلى صوته الدّاخليّ، ويتعرّف على ذاته من خلال هذا الوحي. وكلّما تقدّم بالمعرفة ازداد التّأمّل والإصغاء وقد يبلغ هذا الصّمت الكبير الّذي يعتبره مأزقاً في حين أنّه القصيدة الأمّ، القصيدة الحقيقة الّتي هي الشّعر عينه. ومتى استحال الشّاعر لغةً بلغ منتهى العالم الشّعريّ وما عاد بحاجة إلى ورقة بيضاء يسكب فيها ذاته بل احتاج إلى كون أرحب يجسّد فيه هذه اللّغة/ القصيدة.
0 comments:
إرسال تعليق