جامعة هلسنكي ـ
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها راضي بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (رتسون بن بنيميم بن شلح صدقة الصفري، ١٩٢٢-١٩٩٠) على ابنه الأمين الذي نقّحها، أعدّها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٣٠-١٢٣١، ١٥ شباط ٢٠١٧، ص. ٧١-٧٣.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى كالفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهنالك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى بلدان العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حُسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتسون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”أصل تحريم الخمر على المسلمين
قلائل هم الذين يعرفون سبب تحريم شرب المشروبات الروحية على المسلمين. إنّي أَقُصّ عليكم. بداية هذا الأمر كانت مع نبيّهم محمّد، مؤسّس الديانة الإسلامية. هو الذي أمر مؤمنيه بعدم شرب الخمر أو المُسْكر، هذا محرَّم تحريمًا تامّا. أصل ذلك يعود لحادث حصل لمحمّد نفسه، عندما كان في مكّة، المدينة المقدّسة لدى المسلمين في العربية السعودية.
تقع مكّة، كما تعلمون، في منطقة حارّة جدّا طَوال السنة. في شبابه نوى محمد شُرب المسكر، شرب حتّى سكِر فشعر بسوء. الحرارة الشديدة والخمر سبّبا له صُداعًا حادًّا والتهبت أمعاؤه. حين أحسّ مدى صعوبة تأثير المسكر في الجوّ الحارّ الفظيع في مكّة، أمر في الحال تحريمه على كل مناصريه، ومنذ ذلك الوقت رسخ هذا كتحريم جليّ يشمل كلّ مسلم. يجب التنويه إلى أنّه حتّى اليوم، كلّ من يُضبط في منطقة مكّة وهو يشرب الخمر يلقى عقابًا جسديًّا شديدًا جدًا، قد يصل في بعض الأحيان إلى الموت. هذا التحريم في الإسلام يوازي تحريم مزاولة القِمار وتحريم الزنا. كلّ من يخرُِق هذه التحريماتِ الثلاثةَ، حكمُه أن يكون منبوذًا من الإسلام.
هذا الموضوع يقودني إلى أيّام شبابي. كان لوالدي الأمين (بنياميم) معارف كُثر من مسلمي نابلس ومن خارجها. حِذقه الممتاز في التجارة قرّب إليه الكثيرين من الناس. كان يزاول تجارة الأقمشة، وفي شبابه كان يجول بصُحبة أبيه صالح (شلح) في القرى لبيع بضاعته. بمرور الوقت، ابتاع دكّانًا في السوق في نابلس، حيث يعمل ثمّة شقيقي سميح (سلوح) إلى اليوم، في نفس التجارة.
ساعدتُ أنا أيضًا والدي الأمين في بيع الأقمشة، وكنت أسافر من مدينة إلى أخرى، من بلدة لبلدة، من قرية لأختها، لإيصال طلبات القماش. هكذا عرفتني الناس ابنًا للتاجر ذي الصيت الحسن، الأمين السامري. كنت قد ذكرت لكم في مناسبة أخرى، بأنّ كلّ ما يمُتّ إلى احتساء الخمر أو العرق بصلة، فهذا ليس حقًّا لدى السامريين، بل واجبًا أيضًا، خاصًة في الأفراح والأعياد. اعتدنا على تحضير العرق والخمر لعيدي الفسح والمظال. في الأيّام السابقة لعيد المظالّ بشكل خاصّ، كان من الصعب المرور في الحيّ السامري، بدون الشعور بالدُّوار من أبخرة المسكر المتصاعدة من البيوت. لم يوبّخنا جيراننا المسلمون، لأنّ قسمًا منهم تمتّع سرًّا بالمشروب المُسْكر.
الحاجّ فتح الله سليم
في أحد أيّام الصيف، نفد الخمر من بيتنا. أمرني أبي بالسفر إلى منزل عمّي حسني (يفت) بن إبراهيم صدقة لجلب إنائي زجاج ضخمين مملوئين بالخمرة الجيّدة من صُنع عمّي حسني. لم أحتج لتكرار طلب أبي. فرحت في كلّ مناسبة سفر إلى يافا، إذ أنّ ابنة حسني كانت الفتاة التي انتقاها قلبي وأحبّتها نفسي. لم أفّوت أيّة فرصة لرؤيتها، حتى لو دُفعت لي أيّة ثروة في العالم. ”خُذ إنائي الزجاج من بيت ابن عمّي زكي (زكاي) صدقة في طولكرم“، قال لي أبي. خوفًا من أن يغيّر أبي رأيه ويُلغي الرحلة، أسرعت ودسست القليل من النقود في جيبي، وهرعت إلى محطّة سيّارات الأجرة في مركز نابلس.
اتّفق أنّ سيّارة أحد أصدقاء أبي المقرّبين، الحاجّ فتح الله سليم، كانت في أوّل الدور. سائق جيّد وقديم، يحترمه الجميع منذ أنّ ذهب لمكّة للحجّ وحظي باللقب الحاج، وعمل سائق سيّارة أجرة على خطّ نابلس يافا، لإعالة عائلته. سُررت بذلك، الحاجّ فتح الله كان مسلمًا مؤمنًا بكل ما في اللفظة من معنى. حرص على كلّ فرائض دينه. حين رآني، هشّ لي ودعاني للانضمام إلى سيّارته، أخبرته بأنّي متوجّه إلى تل أبيب، ولكن عليّ أوّلًا السفر إلى طولكرم، لآخذ شيئًا ما، ولم أُفصح عن ذلك سهوًا، والحاجّ فتح الله سليم لم يسأل. ”تعالَ لآخذك معي، إنّي مسافر في نفس الطريق“، قال الحاجّ سليم. نزلت في طولكرم عند بيت عمّي زكي صدقة، حملت إنائين ضخمين من الزجاج الأخضر، كلّ منهما موضوع في قرطلّة مناسبة، وكان من الواضح أنّهما وعاءا خمر. حمّلت القرطلّتين وما فيهما على ظهر السيّارة، ولسبب ما، لم يخرجِ السائق الحاجّ سليم لمساعدتي في ذلك. أحكمت ربطهما وعدت لآخذ مقعدي في السيّارة. بدا واضحًا أنّ مِزاج السائق قد انقلب فبدلًا من الوجه السمح، أخذ يتمتم بغضب بينه وبين نفسه ”لا حول ولا قوّة إلا بالله“، عبارة إسلامية وهي نسخة طِبْق الأصل تقريبًا للقول عندنا في الآرامية ”לית חיל דיקום אלא חילה“ أي ”لا قوّة قائمة إلّا قوّته“، هكذا كان يعود ويكرّر بامتعاض بينه وبين نفسه، طَوال الطريق من طولكرم إلى يافا. لم أجرؤ لأسأله عن معنى تصرّفه هذا.
عند وصولنا ليافا نزل الركّاب من السيّارة، وعندها سألته عن سبب غضبه وحنقه. قال لي: ”يا بنيّ، قل لي ماذا حمّلت على ظهر السيّارة، أليست آنية الخمر؟“، نعم صحيح، أجبت. ”إنّي أكنّ احترامًا كبيرًا لأبيك، عند رجوعك إلى نابلس تشاور معه وهو سيحكي لك كلّ ما تودّ سماعه“، قال لي الحاجّ سليم مجيبًا، وسار في طريقه إلى محطّة السيّارات العائدة إلى نابلس. قمت بما وصاني أبي، ملأت آنيتي الزجاج بخمر سرداب عمّي حسني. باتيه ابنته، بادلتني بعض النظرات المختلسة، بينما كان والدها يملأ الوعائين دون أن يلحظ ذلك (يشتلق). حملتهما بيديّ إلى محطّة السيارات، أدخلتهما إلى صندوق السيّارة/الباچاج الواقفة في رأس الدور.
الحاجّ الذي يُطبّق تحريم شرب الخمر
سُررت بأنّها كانت سيّارة الحاج فتح الله سليم من جديد. راقبني عند دخولي السيارة، قام فورًا من مقعده، وبوجه ينضح حزنًا اعتذر لأنّه لا يستطيع أن يأخذني، لأنه تذكّر بأنّ عليه القيام بأمر ما في المدينة، وعليه فهو غير مسافر إلى نابلس الآن بل لاحقًا. أخرجت الآنيتين من الصندوق ووضعتهما في صندوق السيارة الثانية في الدور. الحاجّ خرج بسيارته من رأس الدور، وغادر المكان. استغرب جدا باقي ركّاب السيارة أيضًا من تصرّفه، وانتقلوا معي إلى السيارة الأخرى. راكب ذكي خمّن أنّني بلحمي وعظمي السبب، وشرع يحقّق معي عمّا في الوعائين. تملّصت في البداية قائلًا بأنّهما مملوءان بزيت الزيتون من يافا. استغرب الركّاب جدًّا من ذلك، كيف أستورد زيت الزيتون من يافا ونابلس مدينة الزيت؟ لم”يحلّوا“ عنّي حتّى نطقتُ بالحقيقة، الوعاءان مملوءان خمرا. خشيت من أن يغضبوا منّي كما الحاجّ سليم، ولكن بدل ذلك انفجروا بقهقهة، وبين غرغرة وتجشؤ، شرحوا لي أنّهم لا يستغربون خروج الحاجّ سليم من السيّارة عند دخولي السيارة، إذ أنّه مسلم ورع، ولا يريد نقل شيء يتعارض مع دينه. ”إنّك محظوظ جدّا، لولا أنّ الحاج سليم احترم أباك الأمين لرفض أن يأخذك في طولكرم“ قالوا لي.
الحقيقة أنّني لم أعرف حتّى ذلك الحادث أنّ هذا الأمر يتعارض وروح القرآن. عندما وصلت نابلس، أتيت إلى أبي وأخبرته بما فعل الحاجّ سليم. في البداية ابتسم أبي، ثم أخبرني برصانة عن تحريم شُرب الخمر على المسلمين. ”حسنًا صنع الحاجّ سليم، لأنّه لم ينو مسّ شرفي ولذلك لم يُنزلك من سيّارته“، قال لي أبي وأضاف ”ثمة حُجّاج لا يشربون الخمرة أيضا“.
0 comments:
إرسال تعليق