كانت الساعة العاشرة و55 دقيقة من ليل العاشر من نيسان/أبريل 1931.مات الرجل. كان ذلك في مستشفى سانت فنسنت في مدينة نيويورك؛ وكان الرجل جبران خليل جبران. كان عمره 48 عاماً. ومنذ ذلك الحين يرقد جبران بسلام في دير مار سركيس في بشري - لبنان، وتبقى ذكراه خالدة إلى الأبد. لقد عاش جبران خليل جبران القسم الاكبر من حياته في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن عقله وروحه لم يُبارحا يوماً وطنه الحبيب لبنان. كانت عيناه دائما شاخصتَين إلى بقعة أرض صغيرة معلّقة على صليب الجغرافيا بين البحر وسوريا وفلسطين. لقداختار أن يكون منزله الأبدي في مسقط رأسه بشري حيث أبصر النور وترعرع بين ربوعها؛ وأراد تحديداً أن يرقد في الارض على هضبة دير مار سركيس التي تطل على وادي قاديشا والجبال المحيطة به. في الحياة كما في الممات، حامت روحه دائماً وأبداً فوق ذلك الوادي وتلك التلال. وان زرته اليوم في دير مار سركيس، تجده صامتا، ولكنه يقول لك: "أنا حيٌّ مثلك، وأنا الآن إلى جانبك. أَغمِض عينَيك،وانظر حولك، فسوف تراني". نجتمع اليوم هنا لا لنتكلّم عن جبران الذي مات ، بل لنتكلم عن جبران الذي لا يزال حيّاً فينا. جبران الذي لا يزال يعيش معنا.
ولعلَّ أفضل كلامٍ يختصر مكانة جبران في ضمير العالم هو ما قاله سائق سيارة أجرة للكاتب بول غوردون شاندلر عندما علِم أنه يؤلّف كتاباً عن جبران. قال له: "جبران هو الجواب للأزمات التي تعصف بنا في هذا الزمن ". وبالفعل نحن بأمسّ الحاجة إليه وسط ما يسود عالمنا من سطحيةٍ وفراغ روحي. وما أحوجنا إليه في عالمنا الغارق في المظاهر الخارجية والسعي وراء المكاسب المادّية. تحدّثَ جبران مسهباً عن عالم الإنسان الداخلي. ما تراه العين من الإنسان، كما قال أنطوان دو سانت إكزوبيري أيضاً في كتابه، "الأمير الصغير"، ليس مهماً. المهم هو ذلك الجزء من الانسان الذي لا تراه ، حيث يكون هناك العقل والقلب والروح. هذا الجزء غير الظاهر من جبران والذي لا تراه العين، هو الذي يزال حياً يعيش بيننا اليوم.
إرثه في رسالته، ورسالته مدوية. صوته اليوم هو أعلى من أي وقت مضى. "لقد وضع الله في كل روحٍ رسولاً ليقودنا على الطريق المستنير؛ لكن كثراً يبحثون عن الحياة خارج ذواتهم، وهم لا يدركون أنها في داخلهم". يعيش معظم الناس "خارج ذواتهم". ويسعون جاهدين لكسب ثروة مادّية وتسلّق سلّم المكانة الاجتماعية؛ خطوةً تلو الأخرى للوصول إلى "القمة". إنما، ولسوء الحظ، فإن كثراً منهم، وفيما هم يصعدون السلّم، يدفعون الثمن من "داخل ذواتهم"، من نزاهتهم وكرامتهم ونبلهم وتقديرهم لذاتهم، وعندما يبلغون القمة، يكونوا قد باعوا كل الأشياء المهمّة التي يمتلكونها.عند ذاك يدركون أنهم خسروا ذواتهم. ويدركون أيضاً أن أحلامهم لم تكن سوى سراباً، وأن حياتهم كانت وهماً زائفاً، وأنهم عاشوها في حالة من التخبط النفسي. حالة من تشويه حقيقتهم.
يعتبر جبران أن السلّم والقمة هما في داخل الإنسان. في داخل ذواتنا، وليس في خارجها. إنها مسيرة في الداخل حسب رأيه، وليست مسيرة في الخارج؛ وهي أيضاً مسيرة في النضوج الروحي. في هذه المسيرة، تصعد درجات السلّم، درجة درجة ولكن هنا لا تخسر، بل تكسب. تكسب النزاهة، وتكسب النبل والسلام. وعندما تبلغ القمة هنا، تكون في سلام مع نفسك، وفي سلام مع الآخرين. القمة هنا حقيقية، وليست سراباً. القمة تُحقّق لك سلاماً داخلياً واعتزازاً بنفسكً. عند ذلك يكون لك فرح الحياة. أما أولئك الذين كانت مسيرتهم خارج ذواتهم على الدوام، لن يكون لهم أبداً فرح الحياة.
نحن نعيش اليوم في عالمٍ تسوده الكراهية والعنف والحروب. الله يعلم كم نحن بحاجة إلى رسالة جبران عن السلام والمحبة. وانه لا يمكننا أن نصنع السلام إلا عندما نحقق السلام في عالم داخل ذواتنا. عند ذلك نحقق السلام ايضا خارج ذواتنا ونحقق ايضا المحبة للآخرين. المحبة هي القوة التي تجمعنا ثم ترفعنا الى فوق. الحقد يجعلك أصغر اما المحبة تجعلك أكبر وأعظم. لو قام جبران من موته ورأى ما حلّ بالمحبة، لعاد بسرعة إلى قبره متألماً. لقد دُمِّر الحب شرّ دمار، وبات يُختزَل بالجنس. الجنس بيولوجي وغريزي، إنه أدنى دركات الحب. الحب الحقيقي هو روحي وإلهي. الحب الحقيقي يُضفي معنىً على حياتك، ويجعلها أكثر غنى. قال إريك فروم، الطبيب النفسي المشهور: "المحبة غير الناضجة تقول: ’أحبك لأنني أحتاج إليك‘. أما المحبة الناضجة فتقول: ’أنا أحتاج إليك لأنني أحبك‘". هذا الحب الناضج هو الرسالة التي يدعو إليها جبران. ولعل الحب هو القوة الأعظم في حياتنا. إنه القوة التي تمنح حياتنا عمقاً، واتجاهاً. سُئلت في إحدى المقابلات التلفزيونية، ما هي أعظم قوة في العالم؟ بالطبع، كان السائل يتوقّع مني أن أجيب بأن المعرفة هي القوة الأعظم. فدهش عندما أجبته انّ المحبة هي القوة الاعظم في العالم.
المحبة تمنح أيضاً العمل قوةً ومعنى. عندما تروي عملك بالمحبة، ينمو هذا العمل ويجعل العالم أكثر جمالاً. عالمٌ من دون محبة هو عالمٌ يلفّه الظلام الشديد وتصعب فيه الحياة. كان جبران يرسمَ أجساداً عارية لأنه أراد الذهاب الى أبعد من المظاهر الخارجية، الى ابعد مما تراه العين . أراد أن يغوص في أعماق ما هو حقيقي وأصيل، في أعماق الروح البشرية. الموضوع الأساسي في لوحاته وصوره كانت المحبة. المحبة فيها شيء من الالوهة ، انها أكبر بكثير من المحبة التي نعرفها في العادة. بالطبع، هناك ألوانٌ عديدة من المحبة. فهناك حب الأم لولدها. وحب الأخ لأخيه. وحب الابن لوالده. وحب الرجل للمرأة، ولكن جميع هذه الالوان للمحبة جميلة.
كان جبران ثائراً متمرّداً. تمرّدَ على العقائد المتحجّرة، وعلى الدين الممنهَج، وعلى كنيسته. رأى في التمرّد الطريق إلى الحقيقة والله. لم تكن الحقيقة يوماً بالنسبة إليه هدفا تصله بسهولة. لقد قال: "من رأى الحقيقة هابِطة من السماء؟" وكان التمرّد أيضاً الطريق نحو نضوجه على الصعيد الشخصي والروحي. من "المجنون" إلى "المصطفى"، مشى جبران خليل جبران مسيرة طويلة من النضوج في المعرفة والحكمة.
لقدتعلّمتُ شخصياً من خبرتي في الأبحاث العلمية أنه إذا لم يتحلَّ المرء بالشجاعة والتمرّد على العقائد التي فُرِضت عليه، لن يتقدّم قيد أنملة. التمرّد هومظهر من مظاهر الحياة الحية، ومظاهر الفكر الناشط والمبدع. قبول العقائد والأشياء كما هي مظهر من مظاهر "الموت الفكري" والفكر الخانع. ولكنني أودّ أن أشدّد على أن أرقى انواع الثورة والتمرد هو عندما يتمرد الإنسان على ذاته، بحيث يصبح في الغد شخصاً أفضل مما هو عليه اليوم.
ثورة جبران الكبرى كانت ضد الظلم، لا سيما الظلم اللاحق بالضعفاء والفقراء. لقد تمرّد على جميع القوى التي تحطّ من قدر الإنسان وتقلّل من شأنه. كان رسولاً للإنسان أكثر منه رسولاً لله. اهم إنجاز للإنسان هو الوصول الى قلب الله.
مساهمته الكبرى لعالمنا والسبب الذي يجعلنا نفتقده اليوم أكثر من أي وقت مضى، هو رؤيته الجوهرية وفلسفته الدينية. إنها رؤية وجودية تحتضن كل الأديان والبشر. لقدكان "المصطفى" مزيجاً من يسوع المسيح والنبي محمد والعلماء الصوفيين: " أنا لست مسيحياًولست يهوديا ولست مسلما، ولا أنا شرقي ولا أنا غربي. لقد وضعتُ الازدواجية جانباً؛ لقد رأيتُ العالمَين عالماً واحداً". ان ديانته تسمو فوق كل الأديان التقليدية التي نعرفها. إن دينه يحتضن كل البشر، ويجعل البشرية جمعاء أسرةً واحدة تجمع بين أفرادها أواصر المحبة. ان الله واحد، وهو للجميع. ليس هناك إله للمسيحين، وإله للمسلمين، وإله لليهود. هناك إله واحد. إنه الإله نفسه. والدين في رؤية جبران، هو علاقة إلهية ديناميكية بين الإنسان والله. وليس هناك حاجة إلى أن تمرّ هذه العلاقة بالمؤسسات الدينية التقليدية. لا بل إن جبران اعتبر أن هذه المؤسسات قد تمنع المرء من الوصول إلى قلب الله. بالنسبة إلى جبران، الدين هو مسيرة داخل الإنسان الذي يمشي نحو نور الله. الكنيسة، في نظره، هي مسيرةٌ خارج ذواتنا. أما المسيرة التي يدعو جبران لهاتحدث داخل ذواتنا. يمكنك اختصار رؤيته بجملة واحدة. الله واحد. الإنسان واحد. والمحبة هي القوة التي تربطنا بالله وتربطنا ببعضنا البعض وتربطنا بالآخرين. ان مفهومه للإنسان انه واحد،تدعمه الابحاث العلمية. فقدأظهرت الدراسات عن الحمض النووي أن الفارق الأكبر بين إنسان وآخر هو أقل من 0.1 في المئة. المحبة، في نظره، هي أساس كل شيء، بما في ذلك العمل. "وكل عمل خَواء، إلاّ إذا امتزج بالمحبة،فإذا امتزج عملك بالمحبة فقد وصلتَ نفسَك بنفسِك، وبالناس وبالله".
إنني كطبيب وباحث متخصص بالأمراض السرطانية منذ خمسين عاماً، أؤمن برؤيته وأتبنّاها. فعيادتي هي كنيستي؛ وعملي هو صلاتي. يجب أن يسمو العمل ويرتقي فوق كل الأديان والفلسفات. الحياة والمحبةتختزلان كل شيء.
نعيش في زمن النزاعات والحروب، والحلّ هو في فكر جبران. ينزلق العالم نحو السطحية والتمسّك بالمادّيات، والحل هو فكر جبران. لقد تسبّبت التكنولوجيا بانهيار القيم الإنسانية، والحل في فكر جبران. لبنان، وطنه الحبيب، هو الآن رهينةلحروب ونزاعات ذات منطلقات دينية. اليهود ضد المسلمين والمسيحيين في فلسطين. والمسلمون السنّة والشيعة في مواجهة بعضهم البعض في العالم العربي. لقد أصبح التطرف الديني تهديداً كبيراً للحضارة الإنسانية. يُستخدَم الدين أداةً للحرب بدلاً من أن يكون أداةً للمحبةوالتفاهم. لا يزال لبنان حيّاً، على الرغم من أربعين عاماً من الحروب. إنه يرفض ان يموت. ويبقى لبنان البلد الوحيد في الشرق الذي يرمز إلى التعدّدية الحضارية. والتعدّدية الحضارية لا تعني حصراً أن أدياناً مختلفة تعيش معاً بسلامٍ ووئام، بل تعني أيضاً أن حضارات مختلفة تحتضن بعضها بعضاً. فلربما تستطيع إسرائيل أن تزعم أنها تتمتع بالحرية والديموقراطية، الا انه لا يمكنها أن تزعم على الإطلاق بأنها تنعم بالتعددية الحضارية.لقداحتضن لبنان التعددية الحضارية دون أن يشهد "صدام الحضارات". لقد صمدت التعددية الحضارية على الرغم من كل الفظائع والحروب في لبنان. لهذا السبب قال البابا يوحنا بولس الثاني عنه إنه "أكثر من وطن... إنه رسالة". وإذا كان لبنان فعلاً رسالة، فجبران، ابن لبنان، هو أبُ تلك الرسالة. لقد عبّر عن هذه الرسالة بكامل عظمة اللغة وجلالها. كما عبّر عنها بكامل عظمة المحبة وجلالها.
* ألقيت هذه الكلمة في افتتاح مؤتمر عن جبران خليل جبران، من تنظيم الجامعة اللبنانية الأميركية(LAU) - في نيويورك، في 24 أيار (مايو) 2018. وترجمتها من اللغة الانكليزية الى العربية نسرين ناضر.
0 comments:
إرسال تعليق