زوال الجسد هو جفاف لمياه النبع التي جرت منه بسخاء وروت العقول والنفوس الظمأى طالما دفقتها حيويّة قوّة الإبداع والفيض والتجدد والتوق لضخّ الأمصال المنعشة. يُفتقد تلاشي صور الأعزّاء ورجال الفكر الأفذاذ المنطبعة في الأذهان النبيهة والمرهفة، لكن ذخر الميراث الطيّب والأريب ينبعث فوّاراً ليبثّ في الوجدان دغدغات محبّة وزخّات أفكار وأصداء مواقف. أهميّة الأدوار التي لعبها المميّزون خلال مسيرة حياتهم وعظمة المنجزات التي حقّقوها تنصب أطيافهم مردة عمالقة تزخر بذخيرتهم العقول والقلوب والوجدان. غسّان تويني علم من أعلام بلادي، أتاح له فكره، المتوقّد والمتوثّب والمفعم بالثقافة والمواهب والكفاءات والمهارات والحكمة والجرأة ودقّة الإستشعار وتمرّسه في الإعلام والمنتديات السياسية والأكاديمية، أن يلعب أدواراً محوريّة ورياديّة في الحياة الوطنيّة الدائمة الإضطرام وكان سفيراً مهيباً تنصت له الآذان صاغرة في المحافل الدوليّة.
تفانيه في خدمة وطنه وانتصاره للقضايا المحقّة ونضاله الدؤوب كرسوه قائداً مرموقاً أثار الإعجاب وأَلهمَ الطامحين. إنجازاته مدوّنة ومدوّية في محاضر المجالس النيابيّة والوزاريّة والمحافل الأمميّة وفي أروقة الجامعات وجريدة "النهار"، منارة الشرق ومنبر الرأي الحرّ المسؤول ومعهد الصحافة العريقة، كما هي مخزونة ذخيرة وضّاءة في وجدان المندهشين بذكائه.
كان شوكة تَخِزُ ضمير السياسيين التقليديين ونصيراً منحازاً لأهل بلده. تحمّل بصلابة جبّار آلام جراح موت زوجته ناديا وإبنه مكرم وفجيعة إستشهاد فقيد "ثورة الأرز" جبران التي كظمها بحلم الكبار غافراً وراذلاً الثأر. كوكبة أهل القلم التي هبّت لتعبّر عن اعتزازها بمعرفته وعميق تقديرها لمزايا شخصيّته الفذّة وعن حنين إفتقادها لصورته الحيّة هي عيّنة مصغّرة لكن بليغة عن مدى توغّل فكره.
هذه المحبّة العارمة وهذا التقدير البليغ هما وسام شرف رفيع يضاف إلى وسام "جوقة الشرف" الذي قلّده إيّاه "كلبناني كبير" الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قبل يوم من عودة جبران إلى لبنان حيث تنغّصت فرحة التكريم بصدمة إغتيال جبران النجم الذي هوى في الصباح التالي. مثلما كُرّم في حياته كُرّم في مماته إذ منحه فخامة رئيس الجمهوريّة ميشال سليمان ممثّلاً بدولة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي "وسام الأرز بوشاحه الأكبر" خلال مراسم الجنازة. تكريم أهل الأرض لنبوغ وعطاءات عميد النهضة الفكريّة والصحافيّة والسياسيّة والدبلوماسيّة،غسّان تويني، يُستكمل بتكريم علوّي لدى أبينا السماوي.
استذكار العظماء ليس مراسم بروتوكوليّة وإنّما هو حاجة ملحّة للإفراج عن مشاعر المحبّة والإعجاب لتتدفّق بفيض لجوج من العواطف والحنين.
* حميد عوّاد: مربوط ب"حبل السُّرّة" إلى الوطن ومنذور لمحبّته ورفع شأنه ومواظب على مواكبة مسيرة تعافيه
0 comments:
إرسال تعليق