الأديبة والمترجمة والنّاقدة المغربيّة د. أسماء غريب
كتاباتُ الشَّاعرة والأديبة الخلَّاقة أسماء غريب، حرفٌ مندلقٌ من خاصرةِ نيزكٍ، مشبَّعٌ بإشراقةِ وهجِ الرُّوح، حرفٌ يستنهضُ أحلامًا غافية بين وهادِ النِّسيان، منتشِلًا إيَّاها نحو ظلالِ القصيدة البكر. تكتبُ نصَّها من وحي تراكمات مشارب ثقافيّة فكريّة أدبيّة حياتيّة غزيرة، كأنَّها في رحلةِ استكشافٍ حلميّة لاستشرافِ أنقى ما في تجاعيد الذَّاكرة، وتجسيدها في رحابِ خيالٍ فسيح متعانق مع تهاطلاتِ إشراقة الحرف على مرامي أسرارِ اللَّيل. حرفُها منبعث من طينِ المحبَّة، من مذاقِ قُبْلةِ الشَّمسِ لنسيمِ الصَّباح، من وهجِ عشقٍ معرَّشٍ في أدغالِ البساتين، من هدوءِ اللَّيلِ الهائم في عناقِ بهجةِ اندهاشِ القصائد!
تتدفَّقُ بانسيابيّة شفيفة بأفكارٍ ورؤى مجنّحة بأجنحةٍ مماثلة لطيورِ الجنَّة، تتناثرُ رؤاها على مسارِ بهاءِ الشِّعرِ، كأنّ عوالمها محبوكة بنغماتِ موسيقى متماهية مع تراقصاتِ خيالٍ متدفِّقٍ على إيقاعِ شلّالٍ منسابٍ مع شهقةِ الفرح. تداعبُ عرشَ الحروفِ، وتغوصُ في أعماقِ دهشةِ الاشتعالِ، ثمّ ترسمُ بانتعاشٍ عارم رغبات مكتنزة في ظلالِ الرُّوحِ منذُ أمدٍ بعيد. حرفُها مخضَّبٌ بأشجارِ الحنين، وينسابُ خيالها بين شغافِ الحروفِ كرذاذاتِ مطرٍ ناعم، فتولدُ انبعاثات وميض البوح من أعماقِ أحلامٍ متوارية في متاهاتِ الزّمن، فتنسجُ ألقًا شعريًّا متجدِّدًا فوقَ سموِّ الاِبتهال.
كيفَ تلملمُ هذه الدَّهشة فوقَ هلالاتِ الحروفِ؟ هل تشكَّلت مزاميرها من حليب السَّنابل، أم تبرعمت من مساحاتِ الخيال عبر انبلاجِ خيوطِ الشَّوقِ إلى هالاتِ قداسةِ الكلمة منذُ أن انبثقت من قبَّةِ السّماءِ فوقَ سديمِ البحارِ، وانسابت مسترخيةً فوقَ ينابيع منارةِ الرّوح؟! كيفَ تموسقُ منارةَ البوح معَ تيجانِ القصيدة، في أتونِ انشراخاتِ هذا الزَّمان؟! زمنٌ تائهٌ في مهبِّ الانحدارِ، تنجو القصيدة من شفير الانزلاقِ في شراهاتِ العبورِ في فخاخِ الشُّرورِ، وحدَها القصيدة تناغي أبهى ما في ثمارِ الرّوح.
أسمعُ هدهداتِ اليمامِ في حنايا حرفِها، تبتهلُ لحنينِ السّماءِ وتغدقُ أطيبَ الثِّمارِ فوقَ طراوةِ الأرضِ، تمتازُ بذاكرةٍ مشبوبةٍ بالصَّفاءِ كأنّها مصطفية من عذوبةِ البحرِ، فأرى شاعرة مشرئبّة برحيقِ حرفٍ مزدانٍ بأنوارِ شموعٍ حالمة بالضِّياء، شاعرة مفعمة بشذى بخورِ القناديل، تنثرُ بهاءَ القصيدِ على مساحاتِ حلمٍ مجدولٍ من ينابيعِ الرُّوحِ المبلَّلة بحبقِ الحياةِ. هل تستمدُّ بوحَها من إشراقةِ الشّمسِ على إيقاعِ رفرفاتِ أجنحةِ العصافير في صباحٍ مندَّى بهبوبِ النَّسيمِ، أم من تراقصاتِ موجاتِ البحرِ، أو من بسمةِ الأطفالِ وهم يغفونَ فوقَ أبهى مآقي الزُّهورِ؟!
نصُّها يشبه طفلة مسكونة بعصافير النَّعيم، كأنّه متجذِّرٌ بأشجارٍ باسقة مخضلَّة بشهوةِ الاخضرار، وشامخة شموخَ جبالٍ مسروجة بحنينِ البحارِ. يبدو نصُّها في بعضِ تجلِّياته كأنّه طنين نحلة تحومُ حول بهاءِ فراشاتٍ مسترخية فوقَ بتلاتِ زهرةٍ مكسوَّة بزغبِ القصيدِ. تلتقطُ صورًا هاربة من واحاتِ الخيال، مندهشة من قدرةِ الحرفِ على عبورِ أهازيجِ الرُّؤى المتناثرة فوق تيجانِ العمرِ. تموجُ حروفُها في ثنايا البوحِ فرحًا متماهيًا معَ بهجةِ الطّبيعةِ، وتهمسُ لروحِها بكلِّ انتعاشٍ، نِعمةُ النِّعَمِ أن نعانقَ روعةَ الغاباتِ، ونتمتّعَ بجمالِ الكونِ، ونستوحي عبيرَ الحرفِ من خميرةِ الحياةِ.
عندما أقرَؤُها؛ أشعرُ وكأنَّ طاقة فرحٍ تغمر صباحي، تنعشُ ليلي الغافي على وشوشات البحر. شِعرُها مصحوبٌ بتغريدِ الأملِ، مزدانٌ بتلاوين سموِّ الرّوحِ، وحرفُها رسالةٌ ممهورةٌ بحفاوةِ العشقِ. هل تستلهمُ حرفَها من بخورِ الوفاء، من نورِ القداساتِ، من ابتهالاتِ شموخِ القلبِ؟! هل تكتبُ القصيدة من وحي تجلِّياتِ الرّوحِ وهي تحلِّقُ بين هلالاتِ زرقةِ السّماءِ، أم أنَّها تستلهمُ حرفَها من تلألؤاتِ النُّجوم الغافية بين منعرجاتِ أحلامِ الطُّفولة؟! .. طموحُها جانحٌ نحوَ الأعالي، مسربلٌ بهلالاتِ غيمة تهطلُ بهاءً فوقَ قبابِ سديمِ الرّوحِ؛ بحثًا عن نورانيّة قداسةِ الحرفِ، كأنَّها شاعرة مجبولة بأسرارِ الطّينِ الأوَّل، جانحة نحوَ خصوبةِ الرّوحِ المخضلَّة بيراعِ الاخضرارِ، تنقشُ هواجس الحنين فوقَ نضارةِ مويجات البحر، مستلهمةً من شهوةِ الغابات، مساراتِ العبورِ إلى مذاقِ الحروفِ ودهشةِ الانبهارِ. تسرجُ حفاوةَ الحرفِ من نكهةِ التّينِ المتدلّى فوقَ عناقيدِ العنبِ، بحثًا عن مساحاتِ بوحٍ شعري متآلف مع آفاقِ الخيالِ، ورغبةً في العبورِ في مرامي أحلامِها المجدولة بأريجِ أبهى الأزاهير.
تستنهضُ مخيّلتها طاقاتٍ دفينة، تستعيدُها من الأغوارِ السَّحيقة، وتفرشها فوقَ أوجاعِ الأمّهاتِ الهاربات من ضجرِ اللَّيلِ الطَّويل. تبلسمُ حروفُها الجراحَ النّازفة من شراهةِ نيرانِ الحروبِ المندلقة من رؤى بليدة، غارقة في الانشراخ. تمتلكُ وئامًا بهيًّا معَ قلقِ الرُّوحِ، وتزرعُ حرفَها فوقَ قلوبٍ عطشى للمطر، يتهادى حرفها مثلَ نوارسِ البحرِ فوقَ رشقةِ الأمواجِ، راسمًا فوقَ أجنحةِ النَّوارسِ صفاءَ البحرِ وشوقَ القصيدة إلى أشجارِ البيتِ العتيق، تطفحُ عيناها ألقًا إلى كتابةِ نصٍّ من خصوباتِ دهشةِ الانبهار! ..
حرفُها مكتنزٌ بثمارٍ شهيّة، تتهاطلُ رفرفاتُه من أجنحةِ قلبٍ معرَّشٍ بنسغِ المحبّة، فتنقشعُ خلال انبعاثات شهوة الحرفِ، كلّ الأحزانِ والمراراتِ العالقة في سراديبِ الرُّوح، وتصفو الرُّوح من الشَّوائب العالقة في هلالاتها على مدى هبوب الغبارِ على وجه الدُّنيا. تسمو روحُها الشَّفيفة عاليةً متطهّرة من أدرانِ الحياةِ؛ شوقًا إلى معانقة سموِّ السَّماءِ في ليلةٍ مكلَّلةٍ بأغصانِ الزَّيتونِ على خفقةِ رفرفاتِ حمائم السَّلام، محلِّقةً فوقَ مآقي المدائن، قاصدةً ملاذ الرّوح في عرشِ الأزل؛ كي تنعمَ في مروجِ النَّعيمِ على مدى بهجاتِ الانبعاث، وتهفو إلى عناقِ حرفٍ مصفّى كالماءِ الزُّلال! .. بهجةٌ غامرة تسربلُني كلّما توغَّلتُ في تجاويفِ الخيال المنساب من حبورِ بوحِها المنبلج من لجينِ الأفكارِ المنسوجةِ من شراعِ الأفراحِ المرفرفةِ فوقَ مآقي الحنينِ إلى شموخِ تيجانِ المدائن.
أُلامسُ زغبَ حرفِها، فيبدو في الكثير من وهادِهِ، كأنّه مجبول من رعشةِ طيرٍ يلهو معَ نسائم الصَّباح، يمنحنُي حرفُها أجنحةً وارفة بألقِ السُّموِّ، فأشعرُ أنّي أحلِّقُ عاليًا وأداعبُ ضياءَ القمر. تضيءُ القصيدةُ معالمَ الطَّريقِ، وتخفِّفُ من سماكاتِ السَّديمِ فوقَ أحداقِ العيونِ.
لا تكتبُ أسماء غريب القصيدةَ كلمةً كلمةً، تغمرُها الرُّؤى كشلَّالِ فرحٍ منبعثٍ من إشراقةِ الشّمسِ، وتسربلُها حتَّى الامتلاء خلال توهُّجات شهقة العبور في حنايا تجلِّيات خصوبة الإبداع!
أسماء غريب قامة أدبيّة باسقة، شاعرة مخضلَّة بتوهّجاتِ حرفٍ مكوَّرٍ بألقِ الانبهار، مشبّعة بينابيع شعريّة صافية كنسيمِ اللَّيلِ العليلِ. تسعى منذ أن غاصت في أسرارِ الحرفِ أن تغدقَ ألقَ الانبعاث نحوَ أقصى مساراتِ وهجِ الاشتعال؛ كي تطهِّرَ الرّوحَ من شوائبِ الحياة، عبرَ ابتهالاتِ بوحِ القصيدة.
كلَّما عبرتُ معالمَ حرفها؛ رأيته مبلَّلًا بأعشابِ الطُّفولة؛ لما فيه من أصالةٍ مترعرعةٍ في أنساغِ حنينها إلى البيوت العتيقة العالقة في أخاديدِ الذَّاكرة، متوجِّهةً نحو التِّلالِ البعيدة، بحثًا عن أسرابِ الحمامِ؛ كي تنسجَ قصيدتها على أنغامِ هديلها الطَّافح بالوئامِ بين شهيقِ الكائنات.
شاعرة منشرحة القلب، تسمو عاليًا على إيقاعِ خيالٍ جانحٍ نحو قِبابِ الوئامِ، تهفو أن تزرعَ هدهدات بهجة الرّوح في لجينِ السَّديمِ المتناثرِ فوقَ مآقي الغمام. تنسجُ أحلامَها الوارفة فوقَ جبينِ الصَّباح، مسترسلة في حفاوةِ عناقٍ متدفِّقٍ مع حبّاتِ المطرِ، راسمة بسمة الحرف بطراوةٍ منعشةٍ فوقَ مسارِ تجلِّياتِ الخيال، مستلهمةً من وهجِ الشَّمسِ جموحَ شهوةِ الانبعاث!
الشّاعرة أسماء غريب، حالة شعريّة نقديّة ثقافيّة فريدة في تمايزها في بناءِ رحابةِ شعرها وقصصها وحوارها، وانفراجِ مسارات نقدها، ودقّة غوصها في معالم النُّصوص الَّتي تعكفُ على ترجماتها؛ حيث تتوغَّل في فضاءاتِ الشَّاعر والأديب وتقرأ بشغفٍ عميق مسارات شاهقة من تجربته، وكأنّها إزاء بحثٍ تحليلي عميق عن أسرارِ بهاء الحرفِ، إلى أن تبني صورة عميقة عن إبداع الشّاعر والأديب الَّذي تنوي ترجمة نصوصه، ثمَّ تبدأ بترجمة قصائد الشّاعر، فيسهل عليها العبور عميقًا في الظِّلال الخفيّة للشاعر، ولهذا عندما أقرأُ نصوصها الَّتي ترجمتْها شعرًا أو نثرًا، تبدو لي وكأنّني أقرأ نصًّا أصيلًا وليس مترجَمًا؛ فهي تمتلكُ مهارات وتقنيات نقل الوهج الشِّعري والألق الأدبي عبر الصُّورة المماثلة للغة المنقولة إليها بهاءات النُّصوص المترجَمة، وكلّ هذه الرُّؤى السَّديدة، أسهمت في تعميق تجلِّيات آفاقها الشِّعريّة والأديبة وترجماتها عندما تسبغ فوق حرفها خيوطَ تجلِّيات وهج الانبعاث!
ستوكهولم: (2016) صياغة أولى.
(2018) صياغة أخيرة.
صبري يوسف
أديب وتشيكلي سوري مقيم في ستوكهولم
0 comments:
إرسال تعليق