الخميس 6/ 5/ 2021
أسعدت أوقاتاً.
على الرغم مما بيننا من جنون وقطيعة، يبدو أنها لن تكون وشيكة الانتهاء، إلا أنني أسلّي نفسي باستحضارك. لقد اشتقت لحديثكِ، ولحواراتك، ولأسئلتك، ثمة مفاجآت كانت تحملها لغتك ومعانيك التي كانت تأخذني بعيداً، وتلهمني كثيراً.
لا أخفيك سراً لو قلت لك إن ثمة ما يشوّش عقلي هذه الأيام. كتبت كثيراً، وشاركتُ في أنشطة متعددة، وانتظمت في الدوام اليومي، ولم يعد بإمكاني المشاركة في أمسية الخليل الشعرية التي ستقام- على الأرحج- يوم السبت القادم، بعد الإفطار. ثمة ما أفسد عليّ هذه المشاركة التي أخبرتك سابقاً أنني متحمّس لها كثيرا، لاسيما وأن الصديق حسن عبادي حاضرٌ فيها، فأنا أحب أن أراه كثيراً، ولا أملّ من صحبته. لكن الظروف قاهرة أحياناً.
لقد تخلصت-أخيراً- من سوأة التعليم عن بعد، يبدو لي أنه لم يكن ناجحاً؛ فالوزارة نفسها لا تثق بمخرجات هذا النوع من التعليم، فقد بدا واضحا من قراراتها المتضاربة والغامضة، وكأنها تقف على حرف. لقد كانت ترواغ باللغة، فلذلك كانت التعليمات مثيرة للأسئلة وغير عملية. الأهالي أيضاً لم يصلوا إلى مرحلة الثقة التامة بهذا النوع من التعليم، فانعكس على الطلاب الذين استغلوا الوقت بالعمل أو بالنوم. والمعلمون كانوا أقلّ أفراد المجتمع التعليمي ثقة، عدا مديري المدارس وكل الطاقم الإداري الذي كان متابعا لهذا النشاط. المخرجات هزيلة، والتعليم في تراجع. ولا شيء يقلل من سرعة التدهور نحو الهاوية.
أنا الآن أقل إرباكا وارتباكاً، فقد عدت للزيارات الإشرافية الوجاهية، ثمة شيء تغيّر في العلاقة بيننا وبين المعلمين، النظام التعليمي متأرجح ومأزوم وعلى شفير السقوط الأخير إن لم يتبادروه بخطة إسناد وطنية حقيقية. فالمعلمون يعلّمون وهم قلقون على كل شيء، فقد خلفت هذه المرحلة في النفوس الكثير من عدم القناعة، وانهارت مسلمات كثيرة.
ليس هذا هو الموضوع الأساسي الذي كنت أريد الكتابة لكِ فيه، وإنما أردت أن أثرثر في حضرتك حول موضوع اللغة- أي لغة-. لم أعد أقتنع بما تقوله الكتب، إنها تقول أشياء غير واقعية، قضية شغلتني منذ مدة طويلة وهي ظاهرة الأضداد اللغوية، فقد تعلمنا، ونعلّم في المدارس هذه الظاهرة لغويا وبلاغيا، ويبدو أنها مسلمات لا تنقض ولا تنتقد. وقد وجدت في كثير من المؤلفات القديمة والحديثة.
ببساطة أريد أن أقول لك أنه لا أضداد في معاني الألفاظ، كما أنه لا ترادف فيها، فالبَرّ ليس عكسه البحر، فالبحر فيه بر، بل ربما آل البر بحرا أو تحول البحر إلى بر، فلماذا تفترض عقول اللغويين أن البر ضده البحر؟ لا أجد جواباً. بالمنطق ذاته فيما يتعلق بالليل والنهار، لماذا الليل ضد النهار؟ وكيف؟ أتأمل الآية الآتية وأرجو أن تتأمليها معي: "والليلُ نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون". فالليل لا يتخلّق دفعة واحدة، بل تدريجيا، حتى يزول الضوء وتحل العتمة، عدا أن لليل عند العرب ساعات وكذلك النهار، ولكل تلك الساعاتِ؛ نهارا وليلا، أسماء، فهل يقع بينها التضاد أيضاً؟ ثمة مشكلة في الفهم. إنها سطحية، الليل والنهار يخرجان من بعضهما، فهما واحدٌ، أو كالبر والبحر- على أقل تقدير- متضمنان في ذات الشيء.
وأكثر ما يثير التساؤل لديّ فيما يتصل بمشكلة التضاد ويلغيها تماماً مسألة الألوان، فقالوا إن الأبيض ضد الأسود، لماذا ليس الأحمر أو الأصفر؟ اللون الأبيض في حقيقته هو مزيج من عدة ألوان كما علمونا، فكيف يكون مضادا للون الأسود. الأبيض أيضاً دليل العدم، ومؤشر على الفراغ. فهل الأبيض ضد لكل الألوان؟ وهل يناقض مكوناته أم لا؟ فكل الألوان المكونة للأبيض، جزء منها مكونة لغيره من الألوان التي تسمى مركبة، ويتم الحصول عليها بالامتزاج. هل الألوان صفات للأشياء؟ أظن أنها ليست كذلك. اللون وجد في الطبيعة لا يحتاج إلى غيره ليوجد، ولا غيره محتاج إليه ليكون. فكل شيء، من ناحية منطقية، يمكن أن يكون له أي لون. أرأيت كيف أن المسألة مربكة في الألوان؟ إنها جدا غير منطقية عندما نجرها إلى مربع التضاد.
ما رأيك بالصفات، كالقصير والصغير والطيب وأشباهها؟ هل يمكن أن تكون أضداداً؟ أعتقد أن حالة نشوء الليل والنهار وانسلاخ أحدهما من الآخر ينطبق على تلك الصفات، فكل قصيرٍ، ربما كان طويلا يوما ما، أو يمكن أن يكون طويلا في قابل أيامه، فلماذا كل قصير هو مضاد لكل طويل؟ وكذلك الكبير والصغير، فالصغير سيكبر، فكيف سيكون ضد نفسه، وعند أي درجة من الكبر أو من الصغر سيحدث هذا التضاد المزعوم؟
فاجأتني الفكرة هذه من جديد هذا اليوم، عندما شرح أحد المعلمين لفظ "الكهولة"، وجعل ضدها حداثة السن. الكهل ضد الحدَث. هكذا ببساطة يتم الاختزال والتبسيط. أعتقد أن المسألة خاطئة تماما من ناحية منطقية، فمراحل عمر الإنسان التي تبدأ بالطفولة وتنتهي بالشيخوخة، لا يضاد إحداها الأخرى، إنها في حقيقتها تشبه انسلاخ الليل من النهار. وكذلك ينطبق أيضا على أحوال الإنسان في الصحة والمرض والحزن والسعادة مما اعتاد الطلاب أن يدرسوه على أنه من الأضداد.
ليس المعلم مسؤولا عن هذا الخطأ المنطقي بطبيعة الحال، وإنما العقل التربوي السطحي الذي أقنعه، وأقنع أجيالاً لا تعد ولا تحصى: أن هذه أضداد، وبنى عليها نظريات في الفكر والبلاغة والاعتقاد والفلسفة.
تعاليْ معي أخيراً للنبش في الناس والحيوانات والحجر والشجر والملائكة والجن والكواكب والنجوم، فكيف يقولون إن الذكر ضد الأنثى؟ ما المبرر؟ ألأن أعضاءهما التناسلية مختلفة، وأن وظيفتهما في الحياة مختلفة؟ نظرية الخلق الدينية التي تحدثت عن خلق الإنسان ترى أن الأنثى مُستلّة من الذكر، فهي بعضه، تماما كما هي العلاقة بين الليل والنهار، وهل تلد المرأة ضدها عندما تنجب ذكراً؟ وهل الجن ضد الملائكة أم أنهم ضد البشر؟ هل الحيوانات ضد البشر أم ضد الملائكة أم ضد الجن؟ هل الأحياء ضد للجمادات؟ وهل الجمادات خالية من الحياة؟ القرآن يقول إن كل الموجودات فيها حياة "وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم". تؤكد الآية مبدأ الحياة في كل الموجودات، ما ينفي-منطقيّاً- فكرة التضاد.
أرأيت- أيتها الحبيبة- كيف أننا دخلنا في متاهة من المعاني المتوالدة؟ ولو جريت وراء شهوة الأسئلة لطرحت مئات الأسئلة، واستحضرت مئات الأمثلة مما هو داخل عند الناس وأعرافهم اللغوية في أنها أضداد، وما هي بأضداد. أظن لو أنك تعمقت في القرآن ودراسته لرأيتِ أن القرآن لم يتحدث عن الأشياء والصفات بأضدادها، وإنما هم المفسرون الذين فعلوها وأخضعوا النص للتفسير السطحي، وأعظم دليل على ذلك ما هو معروف بصفات الله وأسمائه الحسنى، فهل يناقض بعضها بعضاً، فهل الرحيم والرحمن يضادان في المعنى الجبار والمتكبر والمهيمن وشديد العقاب؟
ما رأيك بكل هذا؟ أرجو أن يدفعك إلى البحث والتأمل، فالأمر كما أراه يستحق أن يبحث، وأن نسائل قناعاتنا. ولعلك تسألينني: وما فائدة كل هذا، فسواء وجدت الأضداد أم لم توجد؟ ربما أشّر اقتناعنا بفكرة الثنائيات إلى ما هو أخطر في تعاملاتنا البشرية، فمبدأ البيض والسود- مثلاً- في التمييز العنصري سببها هذه الثنائيات اللغوية المتوهمة في الضدية والأفضلية، فكل ضدين يحملان طرفين أحدهما أفضل من الآخر غالبا، والاختلاف على هذه الأفضلية هو أساس الصراع، عدا أن هذه الثنائيات البائسة ستجر البشرية أيضا إلى التصنيفات العقدية بين مؤمن وكافر، وما يجره هذا التصنيف من كره وحقد واقتتال، لأنه يحمل في داخله أفضلية ما، هذه الأفضلية المتحكمة في الاختيارات الاجتماعية أيضاً، وحتى في الأشكال الأدبية المتعددةفي واقع الحال يتم اختزالها في متضادين: الشعر والنثر، فثمة من يجعلهما ضدين متصارعين، لكل منهما منطقة خاصة في عرفهم، فالنثر عقلي والشعر قلبيّ، وكأن القلب ضد العقل.
ربما صرت على قناعة أن فكرة الأضداد هي السبب في انتفاء مبدأ التعددية البشرية والكونية، فنحن البسر لا نؤمن بالتعدد في واقع الأمر، وصرنا نبحث عن الضد لكل شيء، ولم نعد نؤمن بأننا كلنا مختلفون، وبالتالي لسنا أضدادا، فاختلافنا يعطي للحياة معنى التكامل والحيوية، والثنائية الضدية تعني الحرب والاقتتال والدم، فهذا التفكير اللغوي غير المنطقي هو الذي جعلنا ندرس البشر والأشياء واللغة والأدب وعلاقاتها بحدية قاتلة؛ إما مع، وإما ضد، وبفعلها ينقسم العالم إلى فريقين ومعسكرين، وينعدم أهم أساس قامت عليه الحياة، فمآل الحياة واحد، كما قال الرسول الكريم: "كلكم لآدم وآدم من تراب"، فإذا كنا من أصل واحد فمن أين أتت تلك الثنائيات السقيمة ذات الأثر المدمر؟ ولأنه لا يوجد شيء اسمه أضداد، فإن النص القرآني مزج العقلي بالقلبي والشعريّ بالنثري، وحقق نصاً مفتوحا على متعدد، ولا تحكمه الثنائية النصية ولا اللفظية المعنوية، تلك التي قتلت إبداع العربي أو حصرته في نوعين لا ثالث لهما: الشعر والنثر. فهل تعتقدين أن قصيدة النثر كانت أكثر وعياً عندما هدمت سور الثنائيات لتنطلق في أفاق التعدد غير المحدودة. أعتقد ذلك جازماً.
ها هي الساعة أوشكت على الثانية صباحاً، أرجو أن تثير هذه الأسئلة فيك شهوة الحديث والكتابة إليّ. أتمنى ذلك مع أنني على يقين أنك لن تحفلي بي وبرسائلي كما كنت تفعلين. على أي حال ليس مهما، يكفي أن أكون متحدثا وكاتبا وحضرتك صامتة قارئة، متجنباً الوقوع في الضدية، فأنا كتبت صامتا، وأنت ربما قرأت وأنت تحدثين نفسك، فالفكرة من ذاتها والمنطق هو هو.
دمت بخير، ولعلي أراك قريباً من يدري؟ فليس بيننا إلا حاجز لغوي ليس أكثر! ولذلك فهذا الخصام ليس منطقيّا كذلك.
المحبّ لك دائماً، والمشتاق أبداً.
0 comments:
إرسال تعليق