آلان دريعي
أكتبُ في الآونةِ الأخيرةِ وأقرأُ طوالَ الوقتِ، أعيشُ حالةَ انغماسٍ في هذهِ العوالمِ، كمَنْ ترهْبَنَ للقراءَةِ والكتابةِ. الحياةُ شهقةٌ عابرةٌ فوقَ خُدودِ الأرضِ، حياتُنا رحلةٌ مُتتاليةٌ مِنَ المفاجآتِ، لا ندري أينَ سينتهي بِنا المَطافُ؟! أنْ تفكِّرَ، أنْ تقرأَ، أنْ تكتبَ ما يجولُ في خاطرِكَ مِنْ مشاعرَ وهواجسَ وأفكارٍ ورؤىً، وتكونَ شغوفاً للغايةِ، إلى درجةِ الإدمانِ على الكتابةِ والبحثِ عَنْ فضاءٍ جَديدٍ في عَالمِ الكتابةِ وانبعاثِ الحَرفِ، يعني أنَّكَ في حالةِ تجدُّدٍ وعَطاءٍ دائِمَينِ في فضاءِ التَّجلِّي. الكتابةُ رحلةُ بحثٍ عَنْ أعماقِ الذَّاتِ، لغةٌ مجدولةٌ بأشهى الأحلامِ! أراني مُنذُ عُقودٍ مِنَ الزَّمنِ، في حَالةٍ انْهماكٍ مَعَ عوالمِ كتاباتي وقراءَاتي. أصبحَتِ الكتابةُ شُغليَ الشَّاغلَ، تمنَحُنِي الكتابةُ مُتعةً ما بعدَها مُتعةٌ، تجدِّدُ حياتي ويومي وكياني، وتفتحُ آفاقي عميقاً في مَرامي الحرفِ، كأنِّي وُلِدْتُ منذوراً لأكتبَ وأكتبَ إلى آخرِ يومٍ في حياتي. وتَبعَتْها مراجعةُ كتاباتي، وصياغتُها وإخراجُها، بهدوءٍ كبيرٍ، وإعدادُ الكتبِ الجديدةِ لإدراجِها للنشرِ ككتبٍ الكترونيّةٍ أولاً، ثمَّ نشرِها ككتبٍ ورقيّةٍ ثانياً. كلُّ هذا الانغماسِ في عالم ِالكتابةِ، جعلَ لحياتي معنىً بهيجاً، بديعاً، ومُنعِشاً للغايةِ.
الحياةُ مِنْ دونِ أنْ يقدِّمَ المرءُ فيها أثراً رصيناً مُهمّاً، ورؤيةً تنويريَّةً خلّاقةً، لا تعني شيئاً، وتُصبِحُ حياةً هَشّةً مُمِلَّةً لا معنى لها، وفارغةً مِنْ مَضمونِها الحقيقي ومِنْ جوهرِ وجودِنا في الحَياةِ، لهذا أشتغلُ بتركيزٍ كبيرٍ على كتابةِ أكبرِ قَدْرٍ مِمّا يراودُني مِنْ أفكارٍ ورؤىً كي أصوغَها في فضاءِ الشِّعرِ، والقصصِ، والرِّواياتِ، والنُّصوصِ، والمَقالاتِ والحِوارِ مَعَ الذَّاتِ، ومَعَ الآخرينَ، وأُهَدهِدُ اللَّونَ وهوَ في أوجِ تراقُصاتِهِ فوقَ بياضِ القُماشِ، كي أشعرَ أنَّني عُشتُ الحياةَ كما يجبُ قبلَ أنْ أحُلَّ في ضيافةِ السَّماءِ، لأنَّ ما يبقى على وجنةِ الحياةِ هو الحرفُ، الأثرُ، الكتابةُ بمختلفِ صنوفِها وأجناسِها ومناراتِ الفنونِ بكلِّ تجلِّياتِ ألوانِها وأنغامِها، فهذهِ العطاءَاتُ الخلَّاقةُ هي أثرُنا الباقي مِنْ بعدِ رَحيلِنا، وما أجملَ هذا الأثرَ الباقي على مرِّ الأجيالِ!
الموسيقى لغةُ الرُّوحِ المِمْراحةُ فوقَ مَدارجِ الحياةِ، تُبلسِمُ صباحاتِنا ونهارَنا وأماسينا بالفرحِ والغِبطةِ، كأنَّها بلسمُ الوجودِ، وأرقى ما في رحيقِ العُمرِ، تصفِّي كينونتَنا مِنْ شوائبِ الحياةِ وترسُّباتِ الغُبارِ، في زمَنِ تَهافُتِ الكثيرِ مِنْ علاقاتِ البشرِ عَبرَ صيرورةِ الحياةِ، فهي أصفى شهيقٍ نستنشقُهُ في مَحطَّاتِ العبورِ في رِحابِ الزَّمنِ، وتَمنحُنا الموسيقى راحةً واسترخاءً بَهيجاً ومُنعِشاً، وتجدِّدُ شغفَنا في رحلاتِنا المتتاليةِ فوقَ طينِ الحياةِ.
نهضْتُ مِنْ نومي صبيحةَ يومِ (14. 11. 2023)، وأنا غارقٌ بأفكارٍ لا تُحصى للكتابةِ، وإذْ بي أستقبلُ عبرَ موبايلي أغنيةَ (Te Hemêz kim) للفنّانِ السُّوري الكوردي آلان دريعي على صفحتي في الفيس بوك، ضمنَ منشوراتِ "اخترنا لك". عادةً أستمعُ في مِثلِ هذهِ الحَالاتِ إلى استهلالِ الأغنيةِ، فلو استهوتْني، أتابعُ الاستماعَ إليها، استهوتْني جدّاً هذهِ الأغنيةُ، فاستمَعْتُ إليها ثلاثَ مرّاتٍ وأنا ما أزالُ في السَّريرِ، أيقظَتِ الأغنيةُ بي، مِنْ خلالِ انسيابيّةِ أدائِها الرَّهيفِ، حنيناً عميقاً إلى ذاتي، إلى نفسي المعتّقةِ بانكساراتِ الحنينِ إلى مُروجِ الرُّوح، وكنوزِ الشَّمالِ المتربِّعةِ في أشهى هِلالاتِ الخيالِ، وأيقظَتْ ذكرياتي المفروشةَ على مِساحاتِ غُربتي المفتوحةِ على شَهقاتِ الكونِ، أنا المولعُ بالأغنيةِ الكورديّةِ، عندما تنبعثُ بهذهِ الأنغامِ الرَّخيمةِ والأداءِ المُبهرِ برهافةِ اللَّحنِ الجميلِ، واستمَعْتُ إليها بعدَ نهوضي مرّاتٍ ومرّاتٍ، وفي كلِّ مَرّةٍ كنْتُ أشعرُ وكأنَّها ملحَّنةٌ لي، أجلْ لي أنا المُتهاطلُ فوقَ مَنابعِ الكلمةِ الخلّاقةِ، المُعَمَّدُ على إيقاعِ حنينِ الموسيقى المُنسابةِ مِنْ أعماقِ الرُّوحِ، المترعرعُ في كنَفِ إشراقاتِ بوحِ القصيدةِ، وأغاني الشَّمالِ السُّوري بمُختلفِ أنواعِها، الماردليّةِ والسّريانيّةِ والكُورديّةِ والعربيّةِ والتُّركيّةِ والهنديّةِ أيضاً، يجرفُني الحنينُ إلى الأغاني الهنديّةِ، أيّامَ كُنَّا نحضرُ الأفلامَ الهنديّةَ ونستمعُ بكلِّ شغفٍ إلى الأغاني الهنديّةِ الموغلةِ في الرُّومانسيّةِ.
عانقتْني أغنيةُ (Te Hemêz kim) "تا همّزْ كُمْ بـچَعْـڤا بْلَى قيامَةْ رابا" المُفعِمةُ بالأحاسيسِ، واستطاعَ الفنَّانُ "آلان دريعي" أنْ يستحوذَ على مَذاقِ حَرفي، أنا المجنّحُ نحوَ إيقاعِ هَدهداتِ الحرفِ الملظّى مِنْ جنونِ هذا الزَّمانِ، ووضَعَني في أزهى مَرامي السُّؤالِ، ما هذا اللَّحنُ الجَميلُ المُستنبتُ مِنْ شَهوةِ الرُّوحِ الغافيةِ في حنايا الحُلُمِ؟ لحنٌ طافحٌ بأهازيجِ الشَّوقِ إلى ربوعِ ديريكَ وبراري الشَّمَالِ، شَمالِ الرُّوحِ والقلبِ وأصفى تجلِّياتِ الخيالِ، يُهدهدُ بمهارةٍ عاليةٍ خصوبةَ الرُّوحِ، ويناجي سهولَ القلبِ، وكأنِّي أنا الَّذي لحَّنَ هذهِ الأغنيةَ في ليلةٍ مَكسوَّةٍ بأهازيجِ الشَّوقِ إلى كينونتي الغافيةِ هناكَ بينَ سهولِ القَمْحِ وكُرومِ ديريكَ في أوجِ انبعاثِ الأغاني في مواسمِ جَني الحَصادِ ولَمْلَمةِ سِلالِ العِنَبِ، وقَدْ جاءَ تلحينُها على مَزاجِ انبهاري وحنيني إلى خصوبةِ هذا النَّوع مِنَ الغِناءِ، وعلى مَقاسِ أشواقي المُشتعلةِ إلى الذَّاكرةِ البعيدةِ، إلى أصدقاءَ مُعبَّقينَ بأصفى دندناتِ زخّاتِ المَطرِ. أغنيةٌ مكثَّفةٌ بالمشاعرِ والأحاسيسِ المبهجةِ للروحِ المضطربةِ في زمَنِ تفاقُمِ الانكساراتِ. كَمْ نَحتاجُ إلى صَفاءِ الرُّوحِ والذِّهنِ والخيالِ. المُوسيقى تُطهِّرُ قلوبَنا مِنَ الغُبارِ المُتناثرِ في صباحِنا ونهارِنا وليلِنا، والغناءُ يُبلسمُ جراحَنا الغائرةَ مِنْ هولِ جُنونِ الصَّولجانِ، تُحاصرُنا صولجاناتٌ مجنّحةٌ نحوَ لهيبِ النَّارِ والقُبحِ والغدْرِ والانهيارِ، فتأتي الموسيقى بكلِّ شموخٍ تقفُ في وجهِ الصَّولجاناتِ، وتصدُّ لهيبَ النِّيرانِ المتاخمةِ لأجنحةِ أحلامِنا ووجودِنا وكينونتِنا، وتخفِّفُ علينا الكثيرَ مِنَ الأوجاعِ المُستفحلةِ فوقَ خُدودِ الأرضِ.
الموسيقى لغةُ الأرضِ المتعانقةُ مَعَ بهاءِ السَّماءِ، لغةٌ مَشحونةٌ بطاقاتٍ فرحيَّةٍ مُضمّخةٍ بِبَلسمِ الحياةِ، تُحلِّقُ بأنغامِها نحوَ صَفاءِ الأعالي، ينبلجُ مِنْ ظِلالِ عطاياها أصفى حبورِ المسرّاتِ، تنبعثُ دندناتُها مِنْ رهافةِ الطَّبيعةِ، ومِنْ هديلِ اليمامِ المرفرفِ نحوَ آفاقِ الوئامِ، وتتماهى مَعَ تغاريدِ الطُّيورِ، وتتناغمُ مَعَ هُبوبِ الرِّيحِ وتلاطُماتِ أمواجِ البحرِ، وتنسابُ في آذانِنا مَثلَ انسيابِ زخَّاتِ المَطرِ في بدايةِ صباحاتِ الرّبيعِ ـ الموسيقى هبةٌ مِنَ الأعالي، لغةٌ ساحرةٌ في تجلِّياتِ حُبورِها وتناغماتِ انبعاثِها، تمنحُنا مُتعةً غامرةً، وتُغدِقُ علينا فرحاً عميقاً، وتُزيلُ عَنْ يومِنا الأحزانَ المتطايرةَ فوقَ صُدغِنا. تُريِّحُ أعصابَنا مِنْ تَعبِ الأيّامِ لِما فيها مِنْ تأثيرٍ مُبهِجٍ على آهاتِنا وعوالمِنا المكلَّلةِ بالأحزانِ. الموسيقى حاجةٌ حياتيّةٌ لا غنى عنها، تزرعُ في قلوبِنا بذورَ الهناءِ وأشهى حالاتِ الابتهالِ، وتَمحَقُ تَرسُّباتِ الجفاءِ والملَلِ الَّتي نصادفُها في مِعراجِ الحياةِ.
تمتَّعْتُ بأداءِ الفنّانِ آلان دريعي وهو يقدِّمُ لنا أجملَ الأغانيِ الكورديّة، يُغنِّي بإحساسٍ رهيفٍ وحنونٍ وكأنَّهُ يتلو علينا أشواقَهُ إلى أزاهيرِ الرَّبيعِ. استمتعتُ كثيراً بالإستماعِ إليهِ، ورُحتُ أبحثُ عَبرَ اليوتيوب عَنْ أغانيهِ، واستمعْتُ إلى بعضِ أغانيهِ والأغاني الَّتي كانَ يؤدّيها لفنانينَ آخرينَ، وامتازَ بأداءِ أغانيهم بأسلوبِهِ المُبهرِ، ولَمْ أجِدْ في أدائِهِ لغيرِهِ مُقلِّداً، بَلْ وجدْتُهُ وكأنَّ الأغنيةَ لَهُ وهوَ أوَّلُ مَنْ غنّاها، لِمَا كانَ مُتفاعِلاً ومُنغسماً في أداءِ الأغاني بكلِّ مَشاعرِهِ وأحاسيسِهِ المرهفةِ، فهو يَمتلكُ صوتاً حَنوناً عَذباً طَافحاً بالفرحِ، والتَّجلِّي والصَّفاءِ والعذوبةِ. يغنِّي برهافةٍ مُبهرةٍ، منصهراً مَعَ أنغامِ موسيقاهُ، كأنَّهُ الشّاعرُ الَّذي ألّفَ القصيدةَ، يعزفُ كمَنْ ينطقُ بهجةً وألقاً دافئاً بأبهى بزوغِ التَّجلّي، ينتقي القصيدةَ المعبِّرةَ الّتي تحملُ معانيَ عميقةً وكأنَّ فضاءَاتِ القصيدةِ مفصَّلةٌ ومُصاغةٌ على طبقاتِ وعوالمِ صوتِهِ، وقَدْ غنَّى أغنيةً للفنّانِ "هوزان برادر" (Dema Tu Dikenî) "عندما تضحكين"، أجادَها وكأنَّ الأغنيةَ أغنيتُهُ، فهو ينتقي الأغاني الّتي يغنِّيها بمهارةٍ عاليةٍ، وينغمسُ عميقاً في أدائِها وعزفِها إلى حدِّ الانبهارِ، وهو مِنَ المولعينَ بأغاني الفنَّان الرّاحل "آرام ديكران" هذا الأرمنيُّ البارعُ الَّذي غنَّى أغانيَهُ بالكورديَّةِ بتقنياتٍ بارعةٍ، وتأثَّر "آلان" بأسلوبِهِ وعوالمِهِ. لم أسمعْ أغنيةً مِنْ أغاني "آلان"، إلّا وشعرْتُ أنّني أمام فنّانٍ عميقِ الإحساسِ والآفاقِ في تطلُّعاتِهِ الفنِّيّةِ ومهاراتِهِ الصَّوتيّةِ والموسيقيّةِ.
ما هذا الأداءُ المشحونُ بإحساسٍ مُرهفٍ للغايةِ يا عزيزي آلان؟ تغنِّي كمَنْ يُناجي مشاعرَنا المبلَّلةَ برحيقِ أزاهيرِ الحنينِ، إحساسُكَ المفعمُ بأرقى جُموحاتِ التَّجلِّي، يُشبِهُ أداءَ عاشقٍ مِنْ حيثُ الرُّغبةُ الكامنةُ في أعماقِكَ، هذهِ الرُّغبةُ المجبولةُ بالأغاني المَمْهورةِ برهافةِ الفَراشاتِ وهي تحلِّقُ قربَ نوافذِنا في صَباحِ العيدِ، في صَباحِ الفرحِ، في صَباحٍ مبلَّلٍ ببسْمةِ الأمَّهاتِ، وسهولِ القمحِ المُتعانقةِ مَعَ صباحاتِ غُربتي المفتوحةِ على مِساحاتِ عَطشِ الرُّوحِ للأزمنةِ المطرّزةِ بأبهى الأغاني؟ وأشعرُ وكأنّي أنا أعزفُ وأغنِّي لنفسي بأقصى مِساحاتِ الحنانِ، وقدْ تمكَّنْتَ أنْ تغوصَ في أعماقِ رغباتي الخفيَّةِ، وتُهدهدَ أشواقيَ العَطشى لهذا النّوعِ مِنَ الغناءِ الَّذي يلامسُ مُهجةَ الرُّوحِ، وهذا نادراً ما يحقِّقُهُ المُغنِّي، إلَّا إذا كانَ رهيفاً للغايةِ في أدائِهِ، فيتلقَّى المستمعُ هذهِ الرَّهافةَ بمُتعةٍ مُنقطعةِ النَّظيرِ، لِما في هذهِ الجموحاتِ الفنِّيَّةِ المبهرةِ مِنْ تجلِّياتٍ خلَّاقةٍ!
يسعى الفنّان "آلان دريعي" أنْ يقدِّمَ لنا موسيقى رهيفةً، متناغمةً مَعَ خريرِ السَّواقي المُفعمةِ بأسئلةٍ موشومةٍ بالجمالِ والهُدوءِ والفَرحِ والحَنينِ، مُلخِّصاً الكثيرَ مِمّا ينتابُهُ مِنْ مَشاعرَ وأفكارٍ في حَنايا الأغاني عبرَ ألحانٍ تُناجي القلوبَ بأداءٍ رخيمٍ مُبهجٍ للأذنِ والقلبِ ورفرفاتِ أجنحةِ الرُّوحِ، مُركّزاً على مُناجاةِ غربةِ الإنسانِ مَعَ أخيهِ الإنسانِ، منطلقاً مِنْ رؤيةٍ فنّيةٍ جديدةٍ، تصبُّ في فضاءَاتٍ رومانسيَّةٍ حنينيَّةٍ عِشقيَّةٍ كي يضيفَ للأغنيةِ الكورديّةِ مذاقاً حنوناً، لعلَّهُ ينعشُ صباحَنا ويومَنا المكثَّفَ بالجراحِ والآهاتِ، مِمَّا ينتابُنا في مَساراتِ دُروبِ الأيَّامِ، صوتٌ يُناجي القلبَ والرُّوحَ، ويحلِّقُ في فضاءَاتٍ شاهقةٍ، مُلَملِمَاً تشظِّياتِ الانشطارِ المُحدِقِ بنا مُنذُ زمنٍ بَعيدٍ، ويفجِّرُ بِنا حناناً عَميقاً إلى الزّمنِ الهَاربِ نَحوَ شهقاتِ الانكسارِ، ونحوَ ظِلالِ بيوتِنا العتيقةِ، المكتنزةِ بأسئلةٍ منبعثةٍ مِنْ أصفى وأبهى الأغاني.
تُشبِهُ أغانيهِ حبقَ القصيدةِ، حبورَ الحبِّ، زقزقاتِ العصافيرِ فوقَ الأفنانِ، وأزهى لقاءَاتِ العُمرِ في حفلات الأعيادِ والأفراحِ وزغاريدِ الزِّفافِ. يتجلّى في الغناءِ، مبدِّداً غُربةَ ما يعترينا في هذا الزَّمانِ. أغانيهِ منبعثةٌ مِنْ رِضابِ الحبِّ، ومِنْ نداوةِ النَّسيمِ، ترحِّبُ بها بكلِّ اعتزازٍ أذواقُ الأجيالِ، وهي باذخةٌ في روعةِ الألحانِ، مضمّخةٌ بجموحاتِ حُلُمِ متناثرٍ فوقَ حنينِ الصَّباحِ. كَمْ أشعرُ بالفرحِ وشغفِ التَّواصلِ مَعَ أصدقاءَ مِنْ نكهةِ الحِنطةِ وأنا أستمعُ إلى هذا الصَّوتِ الغارقِ في ابتهالاتِ الحنينِ. كم أسعدَتْني هذه الأغاني واستنهضَتْ مِنْ أعماقي أشواقاً مُفعمةً بالحبورِ ومنبلجةً مِنِ اخْضرارِ الحقولِ. الموسيقى غذاءُ الرُّوحِ العطشى لمرامي القصيدةِ، الغناءُ صوتُ السَّماءِ المتهاطلُ فوقَ أحلامِ الصَّباحِ، الكتابةُ ترجمةُ آهاتِ الشَّوقِ إلى دُنيا من بُكاءٍ. أشعرُ أنّني بحاجةٍ ماسَّةٍ للبكاءِ، للفرحِ، للغناءِ، للعناقِ، للكتابةِ، لجمالِ الوجودِ، وللتواصلِ مَعَ كينونةِ الكونِ.
الموسيقى تبهجُ حرفي وبوحي وآفاقَ جموحي، والكتابةُ تترجمُ تجلِّياتِ الموسيقى والغناءِ على مَدى أشواقِ الحنينِ إلى محطَّاتِ العمرِ الَّتي طواها الزّمنُ، وظلَّتْ معشّشةً بينَ تجاعيدِ الحُلُمِ. فرحٌ يسطعُ في سماءِ روحي. حرفي صديقُ يومي وليلي، شهيقُ ورودٍ مُتعانقةٍ فوقَ مُروجِ الجبالِ، حرفي أغنيةُ عِشقٍ مَمْهورةٌ بأصفى جموحِ البوحِ. أكتبُ حرفيَ لأنغامِ أغانٍ مُنسابةٍ مِنْ شهوةِ الحُلُمِ، مِنْ ألحانِ شِعرٍ مُندلقٍ مِنْ خاصرةِ السَّماءِ. كِمْ أبهجتني أغاني الفنَّان الرَّهيفِ آلان دريعي، وكَمْ أنعشتْني موسيقاه. تستهويني الموسيقى الخلَّاقةُ ويبهرُني الغناءُ الَّذي يناجي القلبَ والرُّوحَ. تحرِّضُني هذهِ العوالمُ الفنّيَّةُ على الكتابةِ وعلى الرَّقصِ في أغلبِ الأحيانِ، مِراراً رقصْتُ على إيقاعِ أرقى الأغاني وأنا في ذروةِ انتعاشي. الموسيقى صديقةُ يومي وبوحي وحرفي، والكتابةُ صديقةُ عُمري الأشهى في الحياةِ! ..
ستوكهولم: 14. 11. 2023 صياغة أولى
نيسان (أبريل) 2024 صياغة نهائيّة
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مُقيم في ستوكهولم
آلان صوت إيقاع السَّماء بكل تجلياتها
ردحذف