قصة قصيرة
سمعتُ صوتًا لم يكن غريبًا. إنه أحد المعتقلين، فيه بحة قوية. عندما اقترب، استرقتُ السمعَ من نافذتي، علمتُ بأنه حسام الدين. منذ الصباح، كانت الزنازين تعج بالصراخ والجراح وتصدح بالألم. الأصوات عبر الممر تجري كالرّيح في آخر الرواق إلى غرفة السّجان. كان يقف كالصنديد في وجه المحتل. من ذا الذي يستمع إلى نداءات قلبه ويقاسمه الهموم التي تجثم على صدره كالبركان الذي لم ينفجر؟ منذ عرفته، وأنا أتودد إليه.
أحضروه إلينا في وقت متأخر، عارٍ، جردوه من الثياب. جسده مرصع بآثار الحقد والانتقام التي رسمت خطوطًا كأنها عروق النباتات في كل مكان. بقي مدة ثلاثة أيام لم ينطق ببنت شفة حتى استيقظ من هول الصدمة. كان صعب المراس، قوي الشكيمة. لم يتمكن الاحتلال أن يأخذ منه كلمة واحدة، فلجأوا إلى التعذيب والقهر.
قال لي ذات مرة: "هذه الأرض هي أنيس روحي، وهي عائلتي وبيتي الأخير."
لقد قتل الاحتلال عروسه في يوم الزفاف وخضبوا ثوبها الأبيض بدمائها الزكية. كانت غاية في الجمال، حفرت صورتها في ذاكرته، لم تمحَ. أصبحت الحياة مجرد قطار يعبر به إلى الجانب الآخر. كما أنهم قتلوا كل عائلته في إحدى الغارات الصهيونية على مخيمات الضفة التي أرقت عيونهم. انتقم أشد انتقام، فقتل ثلاثة جنود صهاينة، اعتقل على الفور وقاموا بتعذيبه وقهره، ظنًا منهم أنه نفذ العملية مع مجموعة من الفدائيين. لكنه قام بها كصقر منفرد، لأنه يعتبرها معركته الخاصة ليمنح روحه بعض السكينة بعد استشهاد عروسه ملك وباقي أهله.
لم يعد كسابق عهده، أصبح جبينه كالرعد ورأسه يتوهج باللهب. ذات مرة قال لي: "يريدون أن يطفئوا نور قلوبنا ويغمروها بمياه حقدهم." مضت أكثر من ساعة على غيابه، صوته مختفٍ، مغمى عليه أو لا يستطيع الصراخ. تجلد يا صديقي. شعرت بالضيق لبرهة حتى بدأت أركل جدار الزنزانة المشترك بيننا، حتى همهم بصوت مذبوح ثم اختفى كأنه يقطع شارعًا فارغًا.
لا يسمحون لأحد بزيارته ولا التقرب منه. كنا نتقرب منه خلسة ونستمع لحديثه عن مقارعة الاحتلال ومغامراته وعن كسره ليد أحد الجنود الذين قادوه إلى الزنزانة. صوته الأجش شكّل رعبًا لهم، وبنيته القوية التي أرادوا أن يسلبوها منه حالت بينهم وبينه، إلا أنهم استمروا في تعذيبه بشكل يومي لكسر إرادته وتحطيم شخصيته القوية. كنت أسترق السمع بعد أن عادوا به كجثة هامدة، ألقوه على الأرض كجذع نخلة شطرها البرق.
كان يقف في أقصى الزاوية في الزنزانة، ينظر للحائط الملطخ بالعبارات، الموشح بالشعارات الوطنية. كل من مروا من هنا وضعوا بصماتهم على هذا الجدار. كان مليئًا بالرسومات وعلم فلسطين يرفرف فوق مدرسة الأطفال في زاويته اليسرى، وأشجار القرية تحاكي فلسطين. كان يحدق وعيناه تشخصان للأعلى، كأنهما يعملان بجهاز تحكم. ما أن ينظر إلى النافذة الصغيرة، حتى يسيل الدمع من عينيه كنهرٍ من الحزن. يقف شامخًا يؤدي التحية، تشعر أنه يقف في رتل عسكري أو في استعراض مهيب، ينزل يده كأنه يصفع وجه أحدهم. يستمر بذلك إلى أن يحل الظلام، ونستيقظ على قعقة الخطى في آخر الممر.
كانت ملك بمثابة جذوة أمل، حلم لم يتحقق، أمانٍ بقيت حبيسة الزنازين. لطالما حلم بها، لطالما وقفت تفرد شعرها على جدران الزنزانة. ضحكتها لا تغيب، صوتها الرقيق يداوي جروحه المقترحة، يداها تمسحان الخوف والرعب عن عينيه. غابت ملك وغاب معها حلم الحياة. أفاق على وطن ينتظر عودة أبنائه.
0 comments:
إرسال تعليق