لِحكمةٍ إلهية تظلُّ دوائر السعادة البشرية ناقصة، كما السلاسل والعقود المفتقدة لحبتها الأخيرة. هكذا كان حال الشيخة بهية، سيدة القصر المنيف، وسيدة البلدة وما جاورها. تفكر في كيفية وقف تحرش القائممقام بها وابتزازها، كما بيأسها من علاج العقم.
تَدَعَّمَ جمالُها الأربعيني اليانع بقامة باسقة ممتلئة باعتدال، وبحصافة رأي وصلابة موقف، ما أهَّـلها لنيل ثقة مواطني بلدة "عين الزنزلخت" كناشطةٍ اجتماعية سموألية الوفاء لمواطنيها ولزوجها، حاتمية الجود منذ تفتق براعم صباها، تلك الميزات أسهمت في فوزها لفترتين متتاليتين بمنصب رئيس المجلس البلدي بالتزكية، وكذلك لترؤس اتحاد بلديات القضاء.
بينما كان بعلُها الشيخ نجيب يقرأ في كتاب، كان يتابع حركتها في القاعة الكبرى في الدور الثالث من القصر، تذرعها من مدخلها وحتى آخر مقعد عند الواجهة الزجاجية الكبيرة المُطلة على بوابة القصر والدرج الحجري الأثري. تتوقف هناك قليلا وهي تفرك راحتيها. رجَّح بأنها كالعادة تهجس بمشكلة العقم، ثم تستأنف عملية ذهابها وإيابها.
ثم ذهب الشيخ لتفسير آخر بأنها في ضيقٍ وحيرة من أمرها بخصوص وضع خزينة البلدية المفلسة المكسورة، والتي، لغاية في نفس يعقوب يُحمِّلها القائممقام الطامع بوصول الشيخة المسؤولية عنها، وفي وجوب تسديد المستحقات المتبقية لمقاولين من الباطن نفّـذوا مشاريع متنوعة، منها تدعيم حيطان وتجفيف مستنقعات على أطراف البلدة لصالح مقاول رئيسي من أزلام القائممقام، دفع لمقاولي الباطن الدفعة الأولى المقدرة بنسبة 10% واختفى تاركا الحمل على من هي في "بوز المدفع" كما يقولون. يضاف إلى ذلك كيفية استكمالها تقديم الدعم لأسَـر فقيرة بالدواء وبمساعدات مالية شهرية، دأبت عليها منذ سنوات.
الحلقة تضيق على الشيخة مع اقتراب موسم توزيع منح التعليم والقروض، والأهم من كل هذا احتمال سجنها وتغريمها كونها المسؤولة الأولى عن ديون البلدية.
في تلك الأثناء كانت سلفتها الشابة "مليحة" تتمشى في باحة القصر المجاور بتمهل مقصود، وبتهور صبية مراهقة تحمل للمرة الأولى، تستعرض وضعها كحامل في شهرها السادس لتكيد سلفتها، تتعمد بخبث وتستر مراقبة ردة فعل الشيخة بهية، تستشعر بطرف عينها وجود سلفتها الكبيرة، وتبالغ في تحسُّس بطنها المكور، وتبلغ موجة الكيد أوجها حين تشعر الشابة مليحة بأن الشيخة بهية وقفت عند الواجهة الزجاجية تنظر نحوها.
لو كانت الأقدار مكتوبة بأقلام البشر لَسَعَتِ الشيخةُ بكل ما أوتيت لمحو صفحة قاتمة سوداء اقتحمت حياتها كردة فعل متسرعة على ما سوف يحدث لها في الأيام القليلة القادمة، في يوم أسود قادم قاتم.
جاءها الحل المفترض بشكل الطعم المقدم للسمكة، تشبثت الشيخة به كتعلق الغريق بقشة لا خيار سواها، ودون أن تتساءل أو تدري عن الدافع، ذلك يوم تلقفت عرضا من سمسار قروض مصرفية دون فائدة وبتسديد ميسر، وهي تعلم بأن ذلك السمسار هو موظف لدى مصرف يملكه ويديره شقيق القائممقام.
صبيحة يوم توقيع العقد على استلام القرض جاءتها رسالة نصية من السمسار يعتذر فيها عن المجيء إلى القصر طبقاً لما كان عليه الاتفاق، يرجوها أن تذهب إلى البنك لاستكمال الإجراءات المطلوبة.
صعقها الرد ورمى بها في مستنقع من التساؤلات والهواجس، هي لم تعتد الذهاب إلى المصرف في البلدة المجاورة، حيث كان موظف البنك هو من يتولى كافة العمليات المصرفية في القصر بعد اطلاعها هي على مضمون المستندات وتوقيعها، ولكنها، في أزمتها الحالية الخانقة لم تكن في وضع من يضع الشروط.
جلست في صالة الإنتظار في المصرف برفقة زوجها، جاءها الموظف-السمسار ليخبرها بأنه من الأفضل إتمام الإجراءات في الفندق المجاور وليس في البنك، وذلك احتراماً وتقديرا لمكانتها.
في الفندق كانت المائدة جاهزة بما لذّ وطاب، حاولت الإعتذار عن الجلوس إلى المائدة، فقال لها الموظف بأن مدير البنك سوف يعتبر رفضها بمثابة إهانة له. مرة أخرى أذعنت على مضض وريبة. وما هي إلا دقائق حتى جاء مدير البنك برفقة القائممقام.
بعيد تناولها الرشفة الأولى من كأس العصير شعرت بطعم غريب، نظرةٌ متجهمة من القائممقام كانت كفيلة بِحضِّها على إفراغ الكأس جرعة واحدة في جوفها، فصارت المائدة تدور، حاولت إمساك يد زوجها فلم تجد لا اليد ولا الزوج. إذ كان القائممقام قد احتل مقعد الزوج فظلت بجانبه قسراً، وعلى شبكتي ناظريها سلفتها ببطنها المكور، وعقم الشيخ.
بدأ زوغانها بفعل العصير الملغوم يذكرها بما قرأته عن معول الحاجة الذي يهدم قيم البشر كي يتخلوا عما يتفاخرون به من كرامة وشرف. وبعد عودتها إلى قصرها كانت تثمل من دموع بمرارة شجر الزنزلخت، تبكي وتستعرض حلقات مسلسل ابتزاز لم تسعفها الظروف في لملمة زجاج كيانها المهشم.
عيحا في 31/07/2024
0 comments:
إرسال تعليق