جاد الحاج سندباد الترحال والمنافي ـ وداعاً يا صديق الغربة الطويلة ـ/ شوقي مسلماني

 


الكثير ممّا قيل بالشاعر والقاصّ والروائي والكاتب والصحافي والناقد الراحل جاد الحاج بعدُ قليل. منذ تكوّنه الأوّل، منذ تفتّحه الأوّل، منذ يفاعته، منذ اندفاعته الأولى صوب الحياة، كلبناني ـ جنوبي ـ من بلدة أيتولى ـ جزّين ـ رأى إلى الحياة بوجوهها كافّة، وإن يغلب فيها جمال لبنان، بخضرته وجباله وحقوله وأنهاره وطيوره وزهوره وغنى مشارب أبنائه وثقافاتهم العميقة في التراث والتاريخ، رأى من ناحية ثانية كثرة فساد نظامه وارتهان أكثر قياداته أو زعاماته، ورأى تخلّفه الإداري، الصناعي والزراعي. ولد جاد الحاج والضياء في عينيه والحضور القوي بملامحه. أقبل على صهوة الأحلام وفي آن بالعتاب من واقع الحال الذي باعتقاده الراسخ من المحال أن يظلّ على حاله ولا بدّ من العمل إلى تسريع تغييره. 

كان "طعشيّاً"، وهذا مصطلح كان يطيب له أن يستخدمه ذاكراً الفتيان والفتيات الذين تتراوح أعمارهم بين أحد عشر عاماً وتسعة عشر عاماً، ذلك حين قال: "لا" بوجه الفوضى. وفي حواره ضمن برنامج "نقطة ـ فاصلة" مع الإعلامي الشاعر حبيب يونس، الذي أطلق عليه إسم "السندباد" لكثير ترحاله في أنواع الأدب والكتابة، قال أنّه حينها فجأة وجد ذاته موقوفاً من قبل أجهزة أمن الدولة التي تريده، كما تريد كلّ لبناني، أن يقول "نعم" فقط ـ كما في أغلب البلدان العالمثالثيّة، وبمشيئة مباشرة بفعل الإرتهان إلى بلدان المركز الإستعلائي الذي ابتنى على المواطنة والرفاه لشعوبه وحرّمها بالثلاث على أكثر شعوب الأرض، وما من شكّ أن حضور آل الحاج الثقافي ممثّلاً بثنائي الأستاذ لويس الحاج والشاعر أنسي الحاج، وكلاهما من أسرة جريدة النهار البيروتيّة، وجد له منفذاً أن لا يُهان وأن يُطلَق سراحُه ليدخل من فوره معترك الكتابة في صحافة لبنان ذلك العصر والأوان ولتبدأ رحلة "السندباد" وليكون ما قاله فيه الشاعر عقل العويط: جاد "شاعر الترحال والمنافي والحبّ والسخرية العابثة والمرارات والإنكسارات"، وفي غربته الأستراليّة ـ ثمانينات القرن الفائت ـ التقيته، كان دائب الحركة، قلقاً، وكانت سيدني بأجمل حلّتها ولا تزال، فيما الجالية العربيّة وعمودها الفقري الجالية اللبنانية هي كما في الأوطان الأمّ في دروب متعاكسة وأهواء متناقضة أو متنافرة وفي تنافخ فوق رمال متحرّكة. نظر إلى الصحافة العربيّة المهجريّة في سيدني، وعلى رغم تضحياتها وجرأتها وجد أنّها أكثر في النقل عن صحافة الأوطان الأمّ وأكثر في الإجتماعيّات وأخبار الأفراح والأتراح منها إلى الإعلام المحترف، ونظر إلى المؤسّسات الأدبيّة، ولا حاجة للتسمية، فإذا بها لا تزال في زمان التقليد والإحياء، ونظر إلى الشعراء والأدباء والفنانين عموماً فإذا هم على صورة مؤسّساتهم، حتى قال أخيراً: "لا عطاء إبداعيّاً ممّن لم يمرّ ببيروت"، قاصداً لا عطاء إبداعيّاً ممّن لم يغتني من حداثة بيروت وصحافتها المتألّقة وثقافتها المدينيّة المنفتحة والعميقة، ويومها قامت الدنيا عليه ولم تقعد، كما يُقال، والمحرِج أكثر أنّ من ردّ عليه كان واضحاً أنّه لم يفهمه، ليقول أنّه مرّ ببيروت يوم نزل إليها من قريته قاصداً مطار بيروت الدولي مهاجراً إلى أستراليا سنة كذا، وقال آخرون مثله، دليلاً قاطعاً على تجذّرهم البيروتي الحديث!. 

افتتح جاد مطعماً مع المسرحي نجم قزّي خرّيج المسرح اللبناني الحديث بريادة الفنّان القدير منير أبو دبس، وكان يعرض فيه إلى جانب الوجبات التقليديّة اسكتشات مسرحيّة ومسرحيّات منها "محاكمة بيّاع اللّوز"، "طار الحمام غطّ الحمام"، و"مهاجر برزبن"، والأخيرة هي للكاتب المعروف جورج شحادة، وقدّم قراءات شعريّة وكتباً جديدة، ولكن من دون أثر أراده، ليرجع إلى جولاته حول العالم، هو يوماً في اليونان وقد سبق وأسّس فيها سلسلة كتب الجيب "عبير" ودار نشر "سارق النار" مع صديقه الشاعر الراحل أيضاً سركون بولص، ويوماً في لندن كاتباً في جريدة الحياة، ويوماً في فرنسا حيث مهرجانات "كان" السينمائيّة، ويوماً في المغرب أو تركيا أو السويد أو الدانمارك.. ويوماً في لبنان ثمّ في أستراليا ودواليك. أخيراً أسلم الروح في الوطن لبنان ـ الرحم الأوّل والحضن الأوّل والحبّ الأوّل ـ كأنّي بها رغبته ـ تاركاً إرثاً في حقول أدبيّة وفنيّة متعدّدة من "قطار الصدفة" و"26 قصيدة" و"واحد من هؤلاء" إلى "الأخضر واليابس" و"ثلاثون حكاية" و"مهرجان" بالإضافة إلى مسرحيّات وكلمات أغنيات لحّنها كثر منهم وليد غلميّة وفؤاد حرّاقة وشربل روحانا وغنّتها عبير نعمة وآخرون، وله إبنتان رائعتان هما ربى ولورا وشقيقات هنّ إبنة فرقة محترف المسرح اللبناني عايدة الحاج ضاهر وإبنة العلوم الإجتماعيّة دلال الحاج السميلي والأستاذة الجامعيّة والإعلاميّة والكاتبة شادية الحاج حجّار،  على أمل أن يتكافلن مع أصدقاء، مثالاً لا حصراً: وديع سعادة، عبده وازن، رؤوف قبيسي، ماري القصيفي، كوليت مارشليان، لجمع إنتاجه الشعري والنثري في أعمال ورقيّة كاملة يُحتفى بها وبه كما يليق. يا صديق الغربة الطويلة أقول: وداعاً.      


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق